شرح متن الورقات [22]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [القياس. وأما القياس: فهو رد الفرع إلى الأصل بعلة تجمعهما في الحكم، وينقسم إلى ثلاثة أقسام: إلى قياس علة، وقياس دلالة، وقياس شبه].

القياس هو الدليل الرابع من الأدلة المتفق عليها، والأدلة المتفق عليها أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

والقياس هذا من الأدلة المتفق عليها وخالف في ذلك الظاهرية.

حجية القياس

اختلف الظاهرية مع جمهور أهل العلم من جماهير الأئمة الأربعة وأتباعهم على إثبات القياس, هل هو ثابت وحجة شرعاً، أو ليس بحجة شرعاً؟ على رأيين:

الرأي الأول: رأي جمهور أهل العلم رحمهم الله، فجمهور العلماء رحمهم الله على أن القياس حجة؛ واستدلوا على ذلك بأدلة، ومن أدلتهم: قول الله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25]، والميزان: ما توزن به الأمور ويقايس بينها.

وأيضاً من أدلة القياس: قول الله عز وجل: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، فأمر الله عز وجل بالاعتبار، والاعتبار: هو تمثيل الشيء بغيره، فهذا الاعتبار هو القياس.

وكذلك أيضاً استدلوا بقول الله عز وجل في قتل الصيد: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95] ، فهنا إثبات المثل.

والقياس كما سيأتينا إن شاء الله في تعريفه في الاصطلاح: أنه إثبات مثل لمثل في حكم لعلة، وفي هذا قول الله عز وجل: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95] وفيه عن أنس إثبات المثل من النعم.

ومن أدلة السنة مما استدل به الجمهور, وهو حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( أن رجلاً جاء للنبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود -يعرض بامرأته- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم، قال: فأنى ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق، قال: فابنك هذا لعله نزعه عرق )، فقاس كما أن الإبل جاءها التغير في اللون لعله نزعه عرق, فكذلك أيضاً ابنك هذا جاءه التغير في اللون هذا لعله نزعه عرق.

وكذلك استدلوا بإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على إثبات القياس والعمل به، وقد ورد عنهم في وقائع كثيرة أنهم أثبتوا القياس، ومن هذا اتفاقهم على إمامة أبي بكر رضي الله تعالى عنه, والإمامة الكبرى قياساً على تقديم النبي عليه الصلاة والسلام له في الإمامة الصغرى، وقالوا: رضيه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا.

وكذلك أيضاً من الوقائع: واقعة المشركة لما قضى بها عمر رضي الله تعالى عنه، لما قال الإخوة الأشقاء لـعمر رضي الله تعالى عنه: هب أن أبانا حجر ملقى في اليم؛ لأن الإخوة لأم أصحاب فرض فيقدمون، وفي المشركة يقدم الإخوة لأم ويأخذون فرضهم، ويبقى الإخوة الأشقاء يسقطون وليس لهم شيء لاستغراق المسألة للفروض، فالمسألة استغرقت فروضاً، فالإخوة لأم يأخذون فرضهم، ويبقى الإخوة الأشقاء ليس لهم شيء، فقالوا: عمر تارةً قسم على أنهم لا يرثون الإخوة الأشقاء ويسقطون، ويرث الإخوة لأم تقديماً لأهل الفرض، وقسم عمر رضي الله تعالى عنه بالتشريك بين الإخوة الأشقاء والإخوة لأم، لما قالوا له: هب أن أبانا كان حجراً ملقى في اليم، فقاس عمر رضي الله تعالى عنه الإخوة الأشقاء في الميراث على الإخوة لأم، وألغى الأب فشرك بينهم.

وكذلك أيضاً من الوقائع التي وقعت والتي قاس فيها الصحابة رضي الله تعالى عنهم: قول علي رضي الله تعالى عنه: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد ألا يبعن، أما الآن فقد رأيت بيعهن، فرأي عمر وعلي أولاً اجتمعوا على أن أمهات الأولاد لا يبعن إلحاقاً لهن بالحرائر، ثم بعد ذلك قال علي رضي الله تعالى عنه: أما الآن فقد رأيت أن يبعن، وهذا إلحاق لهن بالإيماء، وهناك وقائع كثيرة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم عملوا فيها بالقياس.

ومن أقوال الصحابة في العمل بالقياس: قول عمر لـأبي موسى رضي الله تعالى عنهما لما بعثه قاضياً: ثم الفهم الفهم مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور, واعرف الأمثال، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق.

وكذلك أيضاً استدل الجمهور على إثبات القياس بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله اليهود, حرمت عليهم شحوم الميتة، فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها )، فالمحرم هو الشحوم، ثم بعد ذلك قيس على هذه الشحوم أثمانها، فالله عز وجل حرم عليهم الشحوم، ثم بعد ذلك لعنوا بأنهم تحيلوا بأكل الثمن، فالأصل أنه محرم عليهم الشحم ثم بعد ذلك لما تحيلوا على ذلك بأكل الثمن لعنهم الله فقالوا في ذلك: قياس الثمن على الشحم.

وبالنسبة للرأي الثاني: عدم إثبات القياس وهو المشهور عن الظاهرية، وأن القياس ليس حجةً شرعية، واستدلوا بأدلة من هذه الأدلة قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، فقالوا: إن العمل بالقياس تقدم بين يدي الله ورسوله؛ لأن النص من الله ومن الرسول صلى الله عليه وسلم، فكونك تلحق به ما كان مثيلاً له فهذا تقدم بين يدي الله ورسوله، فلا يجوز.

وأيضاً استدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] ، وأيضاً قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64] ، وكذلك أيضاً قول الله عز وجل: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] .

فهذه الأدلة دلت على أن الكتاب مبين لكل شيء، فكل الأحكام جاءت في الكتاب وفي السنة، والله عز وجل ما فرط في الكتاب من شيء، فما جاء حكمه مبيناً في الكتاب فهذا حسب ما بين، وما لم يرد حكمه فهو مما سكت الله عنه، وما سكت الله عنه فهو عفو.

وكذلك أيضاً استدلوا بقول الله عز وجل: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59].

والجواب عن هذه الأدلة سهل، فنقول: بأن الأدلة الشرعية جاءت بالقياس كما تقدم، فلا يكون في هذا تقدم بين يدي الله ورسوله، فالإنسان لم يتقدم بين يدي الله ورسوله، بل عمل بمقتضى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك أيضاً قولهم واستدلالهم بقول الله عز وجل: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] ، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، فنقول: الكتاب ما فرط في شيء، والكتاب تبيان لكل شيء؛ إما عن طريق النص وإما عن طريق الإلحاق، فالله عز وجل لم ينص على كل شيء، وإنما نص على بعض الأشياء, وأمر بإلحاق نظائرها بها، والشريعة الحكيمة لا تفرق بين المتماثلات؛ لأنها كلها من لدن حكيم عليم.

وكذلك أيضاً استدلوا فقالوا: بأنه في الشرع ورد التفريق بين المتماثلات، فمن أمثلة ذلك: أن الصغير إذا كان ذكراً يرش من بوله رشاً، وأما إن كانت أنثى فإنه لا بد من الغسل، ففرق الشارع مع أن كل منهما بول صغير، ولكن هذا أمر بالغسل، وهذا أمر بالرش.

وكذلك أيضاً قالوا: بأن الشارع أوجب قطع يد السارق، فأوجب قطع يده في الشيء القليل وهو ربع دينار، ولكن الغاصب الذي يغصب الشيء الكثير فهذا لم يوجب الشارع قطع يده، ففرق الشارع.

وكذلك أيضاً قالوا في عدة الموت وعدة الطلاق: ففي العدة بالموت فرق الشارع بينها وبين عدة الطلاق، فجعل في عدة الموت أربعة أشهر وعشراً، وفي عدة الطلاق ثلاثة قروء؛ لأن استبراء الرحم يحصل بما تحصل به عدة الطلاق، ففرق الشارع بينهما.

وقالوا أيضاً: بالنسبة للقاتل يقتل بشاهدين، وبالنسبة للزاني لا يرجم إلا بأربعة شهداء، إلى آخر الأمثلة التي ذكروها.

وهذه الأشياء التي ذكروها في ظاهرها أنها من المتماثلات، وفي باطنها أن بينها فروقاً بين هذه الفروع، فلم يلحق الشارع أحد هذه الفروع بالآخر، ففرق بين الذكر والأنثى بالنسبة للبول، وفرق أيضاً بين السرقة التي تكون على وجه الخفية، وبين أخذ المال مجاهرةً. وفرق أيضاً بين الزنا وإثباته, وما فيه من التعدي على الأعراض وبين القتل، وكذلك أيضاً فرق بين العدة في الطلاق وفي الموت، فعدة الموت تختلف عن عدة الطلاق، فهذه الأشياء فرق بينها.

وابن القيم رحمه الله في تبيين أسرار الشريعة وحكمها وتفريقها بين الأحكام تكلم في ذلك كلاماً جيداً نفيساً في كتابه إعلام الموقعين.

فالصحيح في ذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله.

تعريف القياس

القياس يطلق في اللغة على معنيين:

المعنى الأول: التقدير، تقول: قست الثوب بالذراع إذا قدرته به.

والمعنى الثاني: المساواة، فلان لا يقاس بفلان، أي: لا يساوى به.

وأما في الاصطلاح فعرفه المؤلف رحمه الله فقال: (رد الفرع إلى الأصل بعلة تجمعهما في الحكم)، فقوله: (رد الفرع) أي: حمل الفرع على الأصل بعلة تجمعهما في الحكم.

وهناك تعريف أحسن من هذا، فنقول في تعريف القياس: بأنه إثبات مثل حكم أصل لفرع لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت، فقولنا: (إثبات)، هذا جنس يشمل كل إثبات، فيشمل إثبات قياس العكس، ويشمل قياس إثبات المساواة.

وإثبات حكم الأصل للفرع لعلة تجمع بينهما يسمى: قياس المساواة، وقولنا: (مثل) فهذا يشمل قياس المساواة، لكنه يخرج قياس العكس؛ لأن قياس العكس ليس إثبات مثل وإنما إثبات نقيض حكم الأصل لحكم الفرع، فإثبات قياس العكس هو: إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لافتراقهما في علة الحكم؛ يعني أن العكس خلاف المساواة.

ومن أمثلة قياس المساواة: ما جاء في الحديث, وفيه قول الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام: ( يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قال: نعم، فقال: فكذلك إذا وضعها في الحلال )، فهنا العلة مفترقة حرام وحلال، فالإنسان إذا وطئ زوجته يؤجر بدليل قولهم: ( أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: نعم )، فهذا أجر، فالآن النبي عليه الصلاة والسلام أثبت الأجر نقيض الوزر، والعلة هي كونه حراماً؛ لأنهما يفترقان في العلة، فكما أنه إذا زنى يأثم, فكذلك أيضاً إذا وطئ زوجته فإنه يؤجر، فهنا نقيض حكم الأصل بلا إشكال، فهذا يسمى قياس العكس.

فالزنا محرم ويأثم عليه الإنسان، فقاس الشارع على ذلك الوطء الحلال فإنه يؤجر عليه الإنسان، فالحكم هنا في الفرع الذي ثبت نقيض حكم الأصل, فإن في الأصل الإثم، وفي الفرع الأجر لافتراقهما في العلة؛ أن هذا وطء حرام وهذا وطء حلال، وهذا نسميه قياس العكس.

وأما المساواة: فهي إثبات مثل؛ لأن الإثبات جنس يشمل قياس المساواة ويشمل قياس العكس، فقولنا: (مثل) هذا الآن أثبت المساواة: وأخرج العكس، فإن العكس إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لافتراقهما في العلة، وأما المساواة فهي إثبات مثل حكم الأصل في الفرع لاتفاقهما في العلة.

وقولنا: (حكم) أيضاً هذا جنس يشمل الأحكام الشرعية والأحكام اللغوية والأحكام العقلية، والمراد بذلك الأحكام الشرعية، أما بالنسبة للأحكام العقلية فهي ليست داخلة، والأحكام اللغوية ليست داخلة اللهم إلا إذا كانت وسيلة لإثبات الأحكام الشرعية.

وقولنا: (مثل حكم أصل لفرع)، فالأصل هو المقيس عليه؛ وهي الحادثة التي ورد النص أو الإجماع بحكمها، والفرع المقيس وهي الحادثة التي لم يرد الشرع بحكمها.

وقولنا: (لاشتراكهما في علة الحكم)، فالعلة: هي الجامع بين الفرع والأصل وتسمى مناط الحكم.

أقسام القياس باعتبار القوة والضعف

القياس ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: باعتبار قوته وضعفه، فباعتبار قوته وضعفه ينقسم إلى قياس جلي وقياس خفي.

أما القياس الجلي: فهو ما قطع فيه بنفي الفارق المؤثر، أو كانت العلة منصوصاً عليها أو مجمعاً عليها، فنقول: (ما قطع فيه بنفي الفارق المؤثر)؛ يعني: أنك تقطع أنه ليس هناك فرق بين الأصل والفرع، (أو كانت العلة منصوصاً عليها، أو كانت مجمعاً عليها)، فهذا يسمى بالقياس الجلي، مثاله قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، فالله عز وجل هنا حرم الأكل، أما بالنسبة لإحراق مال اليتيم أو إتلافه فإنه يقاس على هذا من باب أولى.

وأيضاً من أمثلته قول الله عز وجل: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23] فيقاس عليه بالضرب من باب أولى، وهذا يسمى قياساً جلياً.

أما القياس الخفي: فهو ما لم يقطع بنفي الفارق، ولم تكن العلة منصوصاً أو مجمعاً عليها، مثال ذلك: قياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد في وجوب القصاص، فهنا لا بد من التعرض لبيان العلة؛ ما هي العلة؟

نقول: في القسم الأول الجلي لا نحتاج إلى بيان العلة بل الأمر ظاهر، فلا نقول مثلاً: يحرم إحراق مال اليتيم قياساً على أكله بعلة كذا وكذا، لا نحتاج إلى بيان العلة؛ لأنه جلي، أما في القياس الخفي الذي لم نقطع بنفي الفارق ولم تكن العلة منصوصاً أو مجمع عليها فهذا يحتاج إلى أن نبين علته.

وهذا كما في القتل بمحدد هل يقاس عليه القتل بمثقل؟ فالقتل بمحدد ورد الشارع بإيجاب القصاص فيه، هل يقاس عليه القتل بالمثقل في وجوب القصاص أو لا يقاس عليه؟ فهنا نحتاج إلى مقدمتين:

المقدمة الأولى: بيان العلة في الأصل.

المقدمة الثانية: وجود العلة في الفرع؛ لكي نلحق الحكم.

فمثلاً الخمر العلة فيه الإسكار.

وهنا نقول: هل هذه العلة موجودة في الفرع وهو النبيذ أو ليست بموجودة؟ فلا بد من بيان العلة.

ومثل ذلك أيضاً الأرز، فالشارع في حديث عبادة قال: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل سواء بسواء ) فالشارع نص على هذه الأشياء، فقوله: (البر بالبر) هل نلحق الأرز به أو لا نلحق؟ وهل نلحق الذرة أو لا نلحق الذرة؟ نحتاج إلى مقدمتين: بيان العلة في الأصل، وهل العلة موجودة في الفرع أو ليست موجودة في الفرع؛ لكي نلحق الحكم؟ فهنا لا نقطع بنفي الفارق، فقد يكون هناك فارق بين البر والذرة, وبين البر والأرز، والقياس هنا كان خفياً، والعلة في البر الكيل مثلاً على رأي الإمام أحمد وهي موجودة في الذرة فنلحق الحكم وهو جريان العلة.

أقسام القياس باعتبار العلة

القسم الثاني: ينقسم القياس إلى أقسام باعتبار علته، وهنا ذكر المؤلف رحمه الله ثلاثة أقسام:

القسم الأول: قياس العلة فقال: [ما كانت العلة فيه موجبة للحكم] بمعنى: أن العلة توجب وجود الحكم في الفرع، كما أنها موجودة في الأصل؛ أي أن العلة مقتضية للحكم في الفرع، ولا تتخلف عنه، فكما أنها توجد في الأصل أيضاً يقتضي ذلك وجودها في الفرع، فهذا كما سبق تمثيله من قول الله عز وجل: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] فالعلة هي الإيذاء، والعلة هذه بالنسبة للضرب هل تقتضيه أو لا تقتضيه؟ تقتضيه؛ يعني أنه يحرم الضرب فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] ، فالتأفيف لا يجوز؛ لوجود العلة؛ وهي الإيذاء، والإيذاء موجود في الضرب.

لهذا قال في تعريف قياس العلة: (ما كانت العلة فيه موجبة للحكم)، يعني: مقتضية للحكم لا يحسن تخلفها، فهي مقتضية بإيجاد الحكم في الفرع، ولا تتخلف عن الحكم في الفرع، وهذا مثل ما ذكر المؤلف رحمه الله.

القسم الثاني: [قياس الدلالة: وقياس الدلالة هو الاستدلال -كما ذكر- المؤلف بأحد النظيرين على الآخر، وهو أن تكون العلة دالة على الحكم ولا تكون موجبة للحكم].

فنقول: بأن العلة توجب وجود الحكم في الفرع، وتكون العلة دالة على وجود الحكم في الفرع، وهذا ما يسمى بقياس الدلالة، وأيضاً هو قياس المساواة، وهذا مثل حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة مثلاً بمثل )، فهنا العلة في الذهب قيل: بأنها الوزن، لكن هل علة الوزن هل موجبة للحكم في الفرع وهي الحديد؟ فنقول: يجري الربا في الحديد لكونه موزوناً؛ لأن الذهب موزون, أو ليست موجبة؟ فنقول هنا: ليست موجبة؛ لأنه لو تخلفت يحسن تخلفها، بخلاف العلة في قياس العلة فلا يحسن تخلفها.

فمثلاً: الضرب، العلة في ضرب الوالد الإيذاء، فلو قلنا: بأن العلة ليست الإيذاء فلا يحسن ذلك، لكن بالنسبة للحديد لو قلنا: في الربا, هنا ليست العلة هي الوزن، فهنا يحسن التخلف؛ لأن العلة لا توجب، فقد تكون هناك علة أخرى، فهذا قياس الدلالة وهو الاستدلال بأحد النظيرين على الآخر، وهو أن تكون العلة دالة على الحكم ولا تكون موجبة للحكم، وقياس الدلالة هذا كثير في الفقه, وأكثر منه قياس الشبه.

وقياس الدلالة إذا توفرت شروط القياس فيه فهو حجة، أما بالنسبة لقياس العلة فهذا ظاهر أنه حجة؛ لأنه قياس قطعي, فالعلة موجبة، فقياس الدلالة الصحيح أنه حجة إذا توفرت فيه شروط القياس, أما قياس الشبه فهو ضعيف، وهو كثير جداً؛ يعني لو قرأت المغني الشرح الكبير تجد فيه كثيراً قياس الشبه وهو أن يلحق حكماً بحكم لوجود التشابه بينهما في بعض الأمور، فهذا يسميه العلماء رحمهم الله قياس الشبه وهو ما ذكره المؤلف رحمه الله بقوله: (وقياس الشبه: هو الفرغ المتردد بين أصلين).

القسم الثالث: قياس الشبه:

يقول المؤلف رحمه الله: [وقياس الشبه: هو الفرع المتردد بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبهاً، ولا يصار إليه مع إمكان ما قبله].

قوله: (الفرع المتردد بين أصلين)، لو رجعت إلى كتابي المغني والمجموع لوجدته فيهما كثيراً، ولهذا اختلف فيه العلماء رحمهم الله، فالشافعية والحنابلة يرون أنه حجة ويحتجون به كثيراً، ولو رجعت لكتاب الكافي لـابن قدامة رحمه الله وجدت أنه يكثر من قياس الشبه فقط؛ لكونهما يتشابهان في بعض الأمور فيقوم يقيس عليه، ويثبت الحكم.

وعند الحنفية قياس الشبه هذا ليس حجة، فلا تجده في كتب الحنفية اللهم إلا نادراً، وعند المحققين من الحنفية يرون أنه ليس حجةً، وعند الشافعية والحنابلة يرون أنه حجة, ولذلك تجده كثيراً في كتب الحنابلة، وأمثلته: هل يملك الرقيق بالتمليك؟ وهل إذا قتل فيه الدية أو القيمة؟ فهذا متردد بين أصلين:

الأصل الأول: الحر، فهو يشبه الحر من جهة كونه إنساناً ومكلفاً بالعبادات وغير ذلك؛ يعني فيه أحكام سارية كما هي سارية في الحر، فهو بالغ عاقل مكلف تجب عليه العبادات ويتزوج ويطلق ويظاهر ويولي... إلى آخره، ومن هذا الباب قالوا: بما أنه يشبه الحر في هذه الأمور، فنقول: إنه يملك بالتمليك، كما أن الحر يملك بالتمليك، ونقول: بأنه إذا قتل ففيه الدية.

الأصل الثاني: أنه بما أنه مال يباع ويشترى فهو يشبه من هذا الأصل بقية الأموال، فهو يباع ويوهب ويوصى به ويرهن، ويورث وغير ذلك، فهو الآن ما دامت هذه الأحكام فيه فهنا يشبه المال، فلا تجب فيه الدية، وإنما تجب القيمة، ولا يملك بالتمليك؛ لأنه يشبه المال، فهو متردد بين هذين الأصلين، أو كما قال المؤلف رحمه الله: [يلحق بأكثرهما شبهاً], لكونه متردداً بين الأصلين، لكن قياس الشبه في الحقيقة ضعيف، وكثيراً ما يقيس الفقهاء رحمهم الله ويثبتون قياس الشبه.

أقسام القياس باعتبار الطرد والعكس

وينقسم القياس باعتبار الطرد والعكس فيه إلى قسمين:

القسم الأول: قياس الطرد.

والقسم الثاني: قياس العكس.

فقياس الطرد هو القياس المعروف، يعني: إثبات مثل حكم الأصل, أو مثل حكم أصل لفرع لعلة تجمع بينهما عند المثبت، فهذا يسمى قياس الطرد.

أما قياس العكس فتقدم لنا تعريفه وهو: إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لافتراقهما في العلة.

أقسام القياس باعتبار محله

القسم الرابع من أقسام القياس: باعتبار محله، أي: باعتبار محل القياس.

فنقول: بالنسبة لاعتبار محل القياس فينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: في التوحيد والعقائد، فباتفاق أهل السنة والجماعة أن القياس لا يجري في التوحيد، وذلك إن أدى إلى البدعة أو تعطيل الأسماء والصفات؛ كتشبيه الخالق بالمخلوق، وإنما يصح القياس في التوحيد والعقائد إذا استدل به على معرفة الخالق وتوحيده، ويستخدم في ذلك قياس الأولى؛ لئلا يدخل الخالق والمخلوق تحت قضية كلية يستوي أفرادها، فمثلاً: يجب أن يعلم أن كل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت لمخلوق فالخالق من باب أولى، والعكس بالعكس، كل نقص ينزه عنه المخلوق فالخالق من باب أولى.

إذاً: بالنسبة للتوحيد والعقائد فهذا لا يجري فيه القياس، لكن في الأحكام الشرعية العملية فهذا يجري فيه القياس، مثل: أحكام البيوع، وما يتعلق بأحكام البيوع وأحكام التبرعات، وأحكام الأنكحة وغير ذلك، وهناك أشياء اختلف العلماء رحمهم الله في إثبات القياس فيها، فمثلاً: العقوبات في الحدود والكفارات, هل يجوز إثبات القياس فيها أو لا يجوز إثبات القياس فيها؟ فجمهور أهل العلم على إثبات القياس في العقوبات، مثلاً قالوا: النباش الذي يقوم بنبش القبور تقطع يده قياساً على السارق الذي يقوم بالسرقة، وقالوا: اللائط يرجم قياساً على الزاني... إلى آخره.

وعند الحنفية أنه لا يجري القياس في الكفارات والحدود، وهذا القول أقرب، اللهم إلا إذا ثبتت العلة؛ يعني إذا أثبتنا العلة فيها بحيث أنه يقال: بأنه ثابت عند حكم الأصل، يعني بالعموم، ثابت تحت حكم الأصل بحيث أننا نسميه مرتكباً لهذا الحد، أما إذا لم يكن مخالفاً لحكم الأصل مثل اللائط، فهل نقول: بأنه يقاس على الزاني فإن كان بكراً يجلد ويغرب، وإن كان غير بكر فإنه يرجم إذا كان محصناً، فالصحيح أنه لا قياس في ذلك.

وكذلك أيضاً قالوا: من جامع في نهار رمضان تلزمه الكفارة، وذهب بعض العلماء إلى أنه من أفطر بالأكل والشرب تلزمه أيضاً الكفارة قياساً على الجماع، والصحيح أنه لا يقاس، فهذا بالنسبة للحدود والكفارات.

أيضاً المقدرات هل يقاس عليها أو لا يقاس عليها؟ هذه يختلف فيها، فمثلاً: جاء الشارع بتقدير نصاب السرقة بثلاثة دراهم، هل يقاس على المقدر هذا أو لا يقاس؟ والمسافر إذا قلنا: يترخص أربعة أيام كما ذهب إليه طائفة من أهل العلم، فهل يقاس على هذه الأربعة أو لا يقاس عليها؟ والزاني إذا كان بكراً يجلد مائة, ويغرب عام, فهل يقاس على هذا العدد أو لا يقاس؟ فالجمهور يقولون: يقاس في الجملة، قالوا: إنهم يختلفون في بعض المواضع، ولكن من حيث الجملة يقيسون، وعند الحنفية أنه لا قياس.

فمثلاً يقال: يكفي المسح في الرأس ثلاثة أصابع قياساً على أن القطع في السرقة بثلاث دراهم في العدد، ولكن هذا رأي جمهور أهل العلم من حيث الجملة، والصحيح في ذلك أنه لا قياس في هذا.

أيضاً القياس في العبادات، هل يجري القياس في العبادات أو لا يجري؟

جمهور أهل العلم أنه يجري القياس في العبادات. وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني منسوب لـأبي حنيفة رحمه الله: أن القياس في العبادات لا يجري؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف، فكيف نقول بالقياس فيها، فالأصل فيها الحظر والمنع؛ يعني أن القياس في العبادات يحتاج إلى ضابط؛ يعني: ما يمنع بإطلاق أو نقول: أنه يمنع؛ لأنها مبنية على التوقيف، ولكن إذا علمنا أن الشارع لا يفرق بينهما بحيث أنه يكون داخلاً تحت عموم النص الأول فإنه في هذه الحالة يقال بإلحاق الفرع بالأصل.

أيضاً القياس في الرخص هل يقال بالقياس في الرخص أو لا يقال؟ فمثلاً المحصر، الله عز وجل قال: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] فقط، المتمتع ماذا يجب عليه؟ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] فهل يقاس هذا أو لا يقاس؟ وهل ينتقل المحصر إلى الصوم أو لا ينتقل؟ ومثل ذلك أيضاً جاء الشارع بالترخيص في الجمع في المطر، فهل نقيس عليه الجمع في الثلج أو لا نقيس عليه الجمع في الثلج؟ فهذا موضع خلاف، فجمهور أهل العلم رحمهم الله أنه يقاس، وعند الحنفية أنه لا يقاس.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.