شرح متن الورقات [17]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة السلام على رسول الله، أما بعد:

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم، ونسخ الحكم وبقاء الرسم، والنسخ إلى بدل وإلى غير بدل، وإلى ما هو أغلظ وإلى ما هو أخف. ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب، ونسخ السنة بالكتاب، ونسخ السنة بالسنة. ويجوز نسخ المتواتر بالمتواتر منها، ونسخ الآحاد بالآحاد، ولا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد].

ذكر المؤلف رحمه الله هنا أقسام النسخ، والنسخ ينقسم إلى عدة أقسام باعتبارات مختلفة:

أقسام النسخ باعتبار وقته

الاعتبار الأول: باعتبار وقته، فينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: بعد التمكن من الفعل، وهذا كثير، وسيأتي في الأمثلة.

والقسم الثاني: قبل التمكن من الفعل، وهذا موضع خلاف بين الأصوليين، وجمهور أهل العلم على أن هذا صحيح، وأنه ثابت، ويدل لذلك قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإن الله عز وجل أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبح ابنه، وبعد ذلك نسخ ذلك الحكم قبل أن يفعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ أي: قبل أن يذبح ابنه.

وأيضاً العلماء رحمهم الله استدلوا على ذلك (بأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الأهلية، فقال رجل: أو نغسلها يا رسول الله؟! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اغسلوها )، فبهذا نسخ بالغسل قبل التمكن من الفعل، وهذا قول جمهور الأصوليين وهذا هو الصحيح.

أقسام النسخ باعتبار المنسوخ

القسم الثاني: باعتبار المنسوخ، فنقول: باعتبار المنسوخ هذا ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: إلى بدل، والقسم الثاني: إلى غير بدل.

أما النسخ إلى بدل فمن أمثلته ما تقدم في آية المصابرة؛ فأولاً كان الواجب أن يصابر عشرة ثم نسخ إلى أن يصابر اثنين، وكذلك أيضاً استقبال البيت؛ كان أولاً يجب عليه أن يستقبل بيت المقدس، ثم نسخ ذلك إلى استقبال الكعبة.

أما النسخ إلى غير بدل فجمهور الأصوليين أنه جائز، واستدلوا على ذلك بما تقدم في قول الله عز وجل في تقديم الصدقة بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12] إلى أن قال الله عز وجل: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [المجادلة:13]، فهنا قالوا: بأنه نسخ إلى غير بدل.

لكن ابن القيم رحمه الله في هذا يقول: بأن الله عز وجل لا يأمر بالشيء ثم يبطله رأساً! بل لا بد أن يبقى بعضه أو بدله، وهذا أيضاً هو رأي الشنقيطي رحمه الله حيث اختار كلام ابن القيم .

واستدل ابن القيم أن الله عز وجل أمر إبراهيم أن يذبح ابنه ثم نسخ ذلك بالفداء: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107]، فهذا الفداء بقي شريعة؛ فشرع الآن في هذه الأمة ذبح الأضاحي.

وأجاب ابن القيم عن النسخ الذي حصل لآية التصدق بين يدي مناجاة الرسول: بأن الصدقة لا تزال باقية وهي مستحبة، فالاستحباب لا يزال باقياً، فيستحب أن الإنسان إذا أراد أن يناجي الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقدم صدقةً وإن كان الوجوب نسخ، لكن لا نقول: بأنه إلى غير بدل.

وكذلك أيضاً قال: بأن الصلوات كانت أولاً خمسين ثم نسخت إلى خمس، فالبدل لا يزال باقياً، واستدلوا أيضاً على ذلك بقول الله عز وجل: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]، فالله عز وجل قال: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106].

إذاً: قلنا: بأن النسخ بالنسبة للمنسوخ ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: إلى بدل.

والقسم الثاني: إلى غير بدل.

وتكلمنا عن النسخ إلى بدل، وأن هذا لا إشكال فيه، لكن النسخ إلى غير بدل هذا موضع خلاف بين الأصوليين، وذكرنا أن جمهور الأصوليين أنه جائز. وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني: أنه غير جائز وذهب إليه بعض الأصوليين، وهو مذهب ابن القيم رحمه الله، وأيضاً اختيار الشنقيطي رحمه الله تعالى.

أقسام النسخ باعتبار التغليظ والتخفيف

القسم الثالث: أقسام النسخ باعتبار التغليظ والتخفيف.

نقول: ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: نسخ إلى ما هو أخف كما في قول الله عز وجل في آية المصابرة: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال:65]، نسخ ذلك في قول الله عز وجل: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:66]، فهنا النسخ إلى أخف.

وأيضاً مثاله كما تقدم: تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول حيث كانت واجبة ثم نسخ ذلك إلى الإباحة، أو كما قال ابن القيم : إلى الاستحباب.

القسم الثاني: نسخ إلى أغلظ، وهذا مثاله كما تقدم لنا: الصيام، قال الله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184] ثم نسخ ذلك بقول الله عز وجل: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].

القسم الثالث: أن يكون ذلك إلى مساوٍ، وهذا كما تقدم في نسخ القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام.

أقسام النسخ باعتبار بقاء الحكم واللفظ

القسم الرابع من أقسام النسخ: باعتبار بقاء الحكم واللفظ، وهذا أيضاً ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: نسخ الحكم وبقاء اللفظ، وهذا كثير، مثل: آية المصابرة؛ نسخ الحكم وبقي اللفظ، ومثل: الصيام، ومثل: تقديم الصدقة فهنا نسخ الحكم وبقي اللفظ.

والحكمة من كونه ينسخ الحكم ويبقى اللفظ؛ تكثير الأجر بقراءة اللفظ. وأيضاً من الحكم: تذكر نعمة الله عز وجل، فالعبد إذا قرأ هذه الآية يتذكر نعمة الله عز وجل عليه، خاصة إذا كان النسخ للتخفيف.

القسم الثاني عكس الأول، وهو: نسخ اللفظ وبقاء الحكم، وهذا مثاله: آية الرجم كما ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه: ( أنه كان فيما أنزل آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها, ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده )، وآية الرجم الآن هذه ليست موجودة لفظاً.

والحكمة في نسخ اللفظ وبقاء الحكم؛ تميز هذه الأمة عن الأمم السابقة كاليهود, فإن هذه الأمة تميزت بتطبيق الشرع حتى وإن لم يكن موجوداً في القرآن، ما دام قد جاء به النبي عليه الصلاة والسلام حتى ولو كان منسوخ اللفظ، بخلاف اليهود الذين أرادوا أن يخفوا آية الرجم!

القسم الثالث: نسخ الحكم واللفظ جميعاً: وهذا من أمثلته ما ثبت في صحيح مسلم : ( أنه كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات، ثم نسخن من ذلك بخمس معلومات )، هذا كله غير موجود في القرآن، نقول: التحريم لعشر رضعات اللفظ غير موجود والحكم غير موجود، كله منسوخ.

أقسام النسخ باعتبار الدليل

القسم الخامس من أقسام النسخ: باعتبار الدليل: وهذا ينقسم إلى أربعة أقسام: نسخ القرآن بالقرآن، ونسخ السنة بالقرآن، ونسخ القرآن بالسنة، ونسخ السنة بالسنة.

القسم الأول: نسخ القرآن بالقرآن: وهذا بالاتفاق بين الأصوليين، وهذا أدلته كما تقدم آية المصابرة وآية تحريم الصدقة، والصيام، وأيضاً إباحة الخمر ثم تحريمه تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67].

القسم الثاني: نسخ السنة بالقرآن: وهذا أيضاً جمهور أهل العلم رحمهم الله على أنه جائز، وعند الشافعي أن السنة لا ينسخها إلا سنة، مثال ذلك كما تقدم: استقبال بيت المقدس نسخه الله عز وجل بقوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].

القسم الثالث: نسخ القرآن بالسنة، وهذا أيضاً جائز عند جمهور الأصوليين، وعند أحمد وقال به الشافعي: إن هذا غير جائز، والصحيح أن نسخ القرآن بالسنة جائز، لكنه ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن تكون السنة متواترة، وهذا جمهور أهل العلم على أن السنة تنسخ القرآن.

والقسم الثاني: أن تكون السنة آحادية، فهل تنسخ القرآن أو لا تنسخ القرآن؟ جمهور الأصوليين على أن الآحاد لا ينسخ القرآن، وهو الذي ذكره المؤلف رحمه الله. وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني: أن السنة الآحادية تنسخ القرآن لأمرين:

الأمر الأول: أن النسخ بيان، والسنة تبين القرآن.

والأمر الثاني: أن محل النسخ هو الحكم وليس اللفظ، والحكم لا يشترط في ثبوته التواتر.

إذاً: نقول: الأمر الأول: أن النسخ بيان، والآحاد يبين المتواتر، كما أنه يبين المجمل فكذلك أيضاً يبين الناسخ.

والثاني: أن محل النسخ هو الحكم، والحكم يثبت بالآحاد فلا يشترط التواتر لإثبات الحكم.

مثال نسخ السنة المتواترة للقرآن: قالوا: ( كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات ) ثم نسخ من ذلك بخمس, فالعشر الرضعات هذه في القرآن ثم نسخت بخمس في السنة كما ثبت في صحيح مسلم.

أما نسخ القرآن بالسنة الآحادية فمثاله: قول الله عز وجل: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180]، فقال: (الوصية للوالدين والأقربين)، ثم نسخ ذلك بقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا وصية لوارث )، مع أن بعض العلماء أصلاً ينازع في أصل الاستدلال في هذا! ويقول: أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، وهنا الجمع غير متعذر، فنقول: بالنسبة للآية فهي على ما هي عليه ليست منسوخة، ويكون (كتب عليكم) الكتب لا يزال باقياً بأن يوصي الإنسان لأقاربه، والوارث هذا يكون خارجاً، وليس هذا من باب النسخ.

القسم الرابع: نسخ السنة بالسنة: ونسخ السنة بالسنة أقسام: فنسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة بالاتفاق، ونسخ السنة الآحادية بالسنة الآحادية هذا أيضاً بالاتفاق، ونسخ السنة الآحادية بالسنة المتواترة بالاتفاق، لكن يبقى نسخ المتواتر بالآحاد، وهذا موضع الخلاف، فجمهور الأصوليين لا يجوزون ذلك، والصحيح أن هذا جائز لأمرين:

الأمر الأول: أن النسخ بيان، والآحاد يبين المتواتر.

والأمر الثاني: أن محل النسخ هو الحكم، والحكم لا يشترط فيه التواتر، فالحكم يثبت بالآحاد ولا يشترط فيه التواتر.

ومن أمثلة نسخ السنة بالسنة: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ) فهنا السنة نسخت السنة.

الزيادة على النص

من المسائل المهمة في مسائل النسخ: الزيادة على النص، وهذه مسألة مهمة؛ لأن هذه من أصول الحنفية؛ فهم يرتبون عليها فروعاً كثيرة، وهذه القاعدة -التي قعدها الحنفية- في الحقيقة أدت إلى طرح كثير من السنة الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام، فتجد أنهم يقولون: هذه زيادة على النص! والزيادة على النص نسخ، والآحاد لا ينسخ المتواتر، هذه قاعدة عند كثير من الحنفية، ولكنهم خالفوا بها كثيراً من السنة الصحيحة، وأنت إذا قرأت في كتبهم التفريعية تجد مثل هذه العبارات عندهم.

فنقول: الزيادة على النص تنقسم إلى أقسام:

القسم الأول: زيادة مستقلة عن المزيد، ولا تتعلق به، سواء كانت من جنسه أو كانت من غير جنسه.

مثال الزيادة من جنسه: زيادة الصلاة على الصلوات الخمس، فهذا ليس نسخاً بالاتفاق، لكن عند الحنفية الصلوات المفروضة خمس، والوتر أيضاً يرون وجوبها، وهذا بالاتفاق ليس نسخاً.

كذلك عند الحنفية صلاة العيدين فرض عين، فهنا فيه زيادة صلاة على الصلوات الخمس فهذا بالاتفاق أنه ليس نسخاً؛ لأن الزيادة هنا مستقلة عن المزيد ولا تتعلق به وإن كانت من جنسه.

وكذا من غير جنسه أيضاً بالاتفاق على أنه ليس نسخاً، مثلاً: وجبت الصلاة، ثم بعد ذلك أوجب الله الصيام، فإيجاب الصيام ليس نسخاً للصلاة!

فالقسم الأول: إذا كانت الزيادة مستقلةً عن المزيد ولا تتعلق به فهذا لا يكون نسخاً سواء كان ذلك من الجنس كما في إيجاب صلاة على الصلوات الخمس، أو كان ذلك من غير جنس كإيجاب الصيام بعد الصلاة.

القسم الثاني: زيادة غير مستقلة عن المزيد وتتعلق به تعلق الجزء بالكل؛ أي أن هذه الزيادة أصبحت جزءاً من المزيد، فهذا اختلف فيه الأصوليون: هل هو نسخ أو ليس بنسخ؟ فالجمهور أنه ليس نسخاً، وعند الحنفية أنه نسخ! وحقيقة النسخ: رفع الحكم بالخطاب المتقدم بخطاب متأخر، فهنا لا يوجد رفع! لكن الحنفية يقولون: فيه رفع! قالوا: إن المزيد الأصل أنه يجزئ، ويصح الاقتصار عليه، فلما جاءت الزيادة قالوا: لا يصح الاقتصار عليه، فأصبح هذا رفع لصحة الاقتصار عليه!

ويتضح رأيهم بالمثال: فالله عز وجل قال في حد الزنا: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، فحد الزاني الجلد مائة جلدة، فجاءت السنة في حديث عبادة بن الصامت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد والرجم )، فهنا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (جلد مائة وتغريب عام) فزادت السنة (تغريب عام)، فالحنفية لا يقولون بالتغريب وقد ثبت في السنة في صحيح مسلم! قالوا: لأن الزيادة على النص نسخ، والآحاد لا ينسخ المتواتر، فلا نقول بهذا، وعلى هذا فقس، والجمهور يقولون: هذا ليس بنسخ؛ لأن النسخ رفع الحكم, وهنا لا يوجد رفع للحكم! إنما جاءت السنة فقط بزيادة عقوبة. لكن الحنفية يقولون: بلى! هذا رفع، ما هو الرفع؟ قالوا: الرفع أن الأصل كان يجوز أن تقتصر على الجلد مائة، فلما جاءت السنة بهذه الزيادة لم يجز لك أن تقتصر على جلد مائة فقط، بل لا بد أن تضيف مع الجلد التغريب وإلا ما أقمت الحد! هذا تعليلهم.

القسم الثالث: هو قريب من الأول، ويفرع عليه الحنفية كثيراً من التفريعات: أن تكون الزيادة غير مستقلة عن المزيد ويتعلق به تعلق الشرط بالمشروط، أيضاً الجمهور ليس نسخاً، والحنفية يقولون: هو نسخ! وهذا له أمثلة كثيرة؛ كقول الله عز وجل: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، فأمر الله عز وجل بالطواف، لكن هل تشترط له الطهارة أو لا تشترط؟ فالحنفية يقولون: لا تشترط! فعندهم لو قلنا باشتراط الطهارة صارت زيادة على النص، والزيادة على النص عندهم نسخ، وهنا الزيادة تتعلق بالمزيد تعلق الشرط بالمشروط، وهم بهذا يخالفون جمهور أهل العلم فلا يرون أن الطهارة شرط للطواف.

وجمهور أهل العلم يرون أن الطهارة شرط، لكنهم أيضاً قالوا: الطواف صحيح! حتى لو طاف وهو محدثٌ حدثاً أكبر فطوافه صحيح، لكنه ما دام باقياً في مكة يفضلون أنه يعيد وإن خرج عليه دم. فقاعدة الحنفية هذه أدت إلى رد كثير من السنة؛ لأنهم يرون أن الزيادة على النص نسخ، والآحاد لا ينسخ المتواتر! وبهذا ردوا كثيراً من السنة الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام.

طرق معرفة الناسخ والمنسوخ

من مباحث النسخ: طرق معرفة الناسخ والمنسوخ، نقول: هذه الطرق نأخذها بإجمال:

الطريق الأولى: ورود النسخ في النص، كما تقدم في قوله تعالى: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا [الأنفال:66]، وأيضاً ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ).

الطريق الثاني: ذكر التاريخ، فحين يذكر التاريخ في النص مع وجود التنافي بين الحكمين فهذا يدل على النسخ.

الطريق الثالث: تقدُّم إسلام الصحابي؛ أي: أن يكون الصحابي صحب النبي عليه الصلاة والسلام أولاً ثم انقطع عنه، وهذا يمثل له الأصوليون بحديث طلق بن علي أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام: ( الرجل يمس ذكره في الصلاة فهل عليه وضوء؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما هو بضعة منك )، فقالوا: بأن هذا منسوخ بحديث بسرة ؛ لأن طلق بن علي جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو بالمسجد، وهو كذلك منسوخ بحديث أبي هريرة : ( من مس فرجه فليتوضأ )، ولفظ حديث بسرة : ( من مس ذكره فليتوضأ )، فقالوا أنه متأخر، لكن هذا فيه نظر؛ لأن في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنما هو بضعة منك ) هذا الكلام لا يمكن أن يُنسخ؛ لأنه خبر والنسخ لا يعتبر في الأخبار، لكن هكذا مثل له الأصوليون!

الطريق الرابع: الإجماع: أي: إجماع الصحابة وإجماع الأمة على أن المنسوخ كذا وكذا وأن الناسخ له كذا وكذا؛ فالأمة لا يمكن أن تجمع على خلاف الحق.

الطريق الخامس: وأيضاً من الطرق إخبار الراوي: بأن يقول الراوي: كنا نفعل كذا، أو رخص لنا كذا، مثل المتعة: ( رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتعة، ثم لم يخرج حتى نهانا عنها )، فهذا يدل على النسخ.

الطريق السادس: أيضاً مما اختلف فيه العلماء رحمهم الله قول الصحابي: إذا قال الصحابي: هذا منسوخ، فهل يقبل قوله؟ جمهور الأصوليين أنه غير مقبول، ولا يحصل النسخ بذلك. والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.