شرح متن الورقات [7]


الحلقة مفرغة

تعريف الأمر في اللغة والاصطلاح

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

قال المؤلف رحمه الله: [والأمر: استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب].

المؤلف رحمه الله شرع فيما يتعلق بدلالات الألفاظ من الأمر والنهي والعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين، وابتدأ المؤلف رحمه الله بباب الأمر، ثم بعد ذلك أتبعه بباب النهي؛ إذ إن هذين البابين من أهم الأبواب في أصول الفقه، ووجه ذلك: أن مدار التكليف إنما يكون على الأوامر والنواهي؛ ولأنه لا يتم معرفة ولا تمييز الحرام من الحلال إلا بمعرفة الأمر والنهي.

وقوله: (والأمر: استدعاء الفعل), إلخ. هذا التعريف للأمر إنما هو تعريف له في اللغة والاصطلاح جميعاً بلا فرق؛ إذ المعنى الاصطلاحي لا يخرج عن المعنى اللغوي. فهذا تعريف له في اللغة والاصطلاح.

وقوله: (استدعاء) بمعنى: طلب.

وقوله: (الفعل) المراد بالفعل هنا: إيجاد العمل بحيث يكون شاملاً للقول وللفعل, فأما القول المأمور به فمثاله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث المسيء صلاته: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء, ثم استقبل القبلة فكبر )، فقوله: (فكبر) هذا قول مأمور به.

وأما الفعل المأمور به فمثل قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]. وأيضاً ما ذكرنا من حديث المسيء صلاته: ( فأسبغ الوضوء ) هذا أمر بالفعل، ( ثم استقبل القبلة ) وهذا أمر بالفعل أيضاً.

وقوله: (بالقول) يخرج الإشارة، فالإشارة وإن أفادت طلب الفعل فإنها لا تسمى قولاً.

وقوله: (ممن هو دونه) يخرج ممن هو فوقه أو من كان مساوياً له، فممن هو فوقه يسمى دعاء، وممن هو مساوياً له يسمى التماساً.

فالالتماس: استدعاء الفعل بالقول ممن هو مساوياً له. والدعاء: استدعاء الفعل بالقول ممن هو أعلى منه.

وقول المؤلف رحمه الله: (على سبيل الوجوب) أفاد بأن صيغة الأمر تقتضي الوجوب. وهذه قاعدة عند الأصوليين, أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب.

معاني الأمر في اللغة العربية

صيغة الأمر في اللغة العربية ترد لمعان عدة، منها:

التهديد، كقول الله عز وجل: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40].

ومنها: الإباحة, كقول الله عز وجل: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]. وأيضاً قول الله عز وجل: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222].

وتأتي أيضاً ويراد بها عدم الإلزام, كما في قول الله عز وجل: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33] فأمر الله عز وجل بمكاتبة الرقيق، ولكن هذا ليس بلازم.

وتأتي ويراد بها الإلزام, كقول الله عز وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]. وقول السيد لرقيقه: افعل كذا أو اشتر كذا فيراد به الإلزام.

معاني الأمر في الشرع

فصيغة الأمر في الشرع ترد لمعان منها ما يلي:

المعنى الأول: أن يأتي ما يدل على الوجوب، فهذا دلالته على الوجوب ظاهرة، كما في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. فقوله: (كتب) يدل على الوجوب.

المعنى الثاني: أن تأتي هذه الصيغة وهناك ما يدل على عدم الوجوب وعدم الإلزام, مثل قول الله عز وجل: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]. فقوله: فاصطادوا هذا أمر، لكن الأمر هنا للإباحة؛ لأنه أمر بعد حظر، والمشهور عند كثير من الأصوليين أن الأمر بعد الحظر إنما هو للإباحة، وسيأتينا إن شاء الله التعرض لهذه المسألة.

وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة: لمن شاء ). فقوله: (لمن شاء) دليل على أن الأمر بالصلاة قبل المغرب ليس على سبيل الوجوب.

المعنى الثالث: أن يكون الأمر مطلقاً، يعني: ليس هناك ما يدل على وجوبه، وليس هناك ما يدل على عدم الوجوب، وإنما جاءت الصيغة مجردة عن القرائن، فهذا باتفاق الأئمة رحمهم الله أن هذه الصيغة دالة على الوجوب.

ومن يقرأ في كتب الأئمة يجد هذا ظاهراً، فمن يقرأ في كتب الفقه الحنفي أو المالكي أو الشافعي أو الحنبلي يجدهم يقولون: هذا واجب، والدليل على ذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام بكذا وكذا، أو أمر الله عز وجل، وهذا مما يدل على اتفاق الأئمة على أن صيغة الأمر المطلقة المجردة من القرائن تقتضي الوجوب.

الأدلة على أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب

وقد دل على أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب عدة أدلة، منها:

الدليل الأول: قول الله عز وجل: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]. فالله عز وجل توعد المخالفين لأمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن تصيبهم فتنة. وقد فسر الإمام أحمد رحمه الله الفتنة: بأن يزيغ قلبه، أو بالعذاب الأليم، ولن يكون هذا الوعيد إلا على ترك واجب.

الدليل الثاني: ما ثبت في الصحيحين من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )، وفي رواية: ( عند كل وضوء )، فهذا يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب؛ لأن غير الواجب ليس فيه مشقة، وإنما المشقة تكون في الواجب، فدل ذلك على أن الأمر يقتضي الوجوب؛ إذ لا مشقة مع عدم الواجب.

الدليل الثالث: قول النبي عليه الصلاة والسلام لما أخر صلاة العشاء إلى قريب من نصف الليل، فخرج عليه الصلاة والسلام كما في حديث عمر وحديث عائشة , فقال عليه الصلاة والسلام: ( إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي ), يعني: النبي عليه الصلاة والسلام ترك الأمر بتأدية العشاء في ذلك خشية المشقة، فدل على أن الأمر فيه مشقة، وهذا لا يكون إلا إذا اقتضى الوجوب.

الدليل الرابع: وكذلك أيضاً من الأدلة على ذلك: قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]. فإذا كان الإنسان ليس مخيراً في أمره مع أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا يدل على تحتم أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم, وأنه واجب.

الدليل الخامس: إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على امتثال أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم دون السؤال عما عني بهذا الأمر، هل المراد به الوجوب أو المراد به الاستحباب؟ بل الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا إذا ورد عليهم الأمر امتثلوه.

الدليل السادس: مقتضى اللغة، فإن مقتضى إطلاق الأمر لغة يقتضي الوجوب، فإن السيد لو أمر رقيقه بأن يعمل عملاً فخالفه فإنه يحسن لومه، وغير الواجب لا يلام عليه، وإنما يلام على الأمر الواجب.

إذاً: عندنا قاعدة أصولية, وهي: أن الأمر يقتضي الوجوب. وعلى هذا فعليك أن تطبق هذه القاعدة الأصولية، فإذا وردت عليك أوامر الشرع - أوامر الكتاب وأوامر السنة- فالأصل فيها -ما دامت أنها مجردة عن القرائن- الوجوب. وعلى هذا فالأوامر في كتاب الطهارة، وفي كتاب الصلاة، وفي البيوع: الأصل في هذه الأوامر الوجوب. وهذه قاعدة أصولية، فأنت تستدل بها.

صيغ الأمر

قال المؤلف رحمه الله: [ وصيغته: افعل ] إلى آخره.

أفاد المؤلف رحمه الله أن للأمر صيغة، وهذا ما عليه جماهير الأصوليين, وهو مذهب أهل السنة والجماعة, أن الأمر له صيغة تدل بمجردها على الأمر وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني: ما ذهب إليه بعض المبتدعة كالذين ينكرون كلام الله عز وجل، وأن الله عز وجل لم يتكلم، فقالوا: بأنه لا صيغة للأمر. وهذه المسألة ينبغي للإنسان أن يتنبه لها، فقد تجد أن بعض الأصوليين يخالف في مثل هذه، وله منحى عقدي، فهو يقول: بأن الأمر ليس له صيغة، وهو يهدف من ذلك إلى منحى عقدي, وهو إنكار كلام الله عز وجل، وأن الله عز وجل لم يتكلم بحرف وصوت, فيقول: بأن الأمر ليس له صيغة، وإنما الكلام معنى قائم بالنفس مجرد عن الألفاظ والحروف، وقد يكون الأمر عندهم ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: لفظي، وهو اللفظ الذي تدل عليه صيغة افعل.

القسم الثاني: معنوي أو نفسي، وهو: اقتضاء الفعل لذلك الأمر القائم بالنفس المجرد عن الصيغة.

والصحيح أن إثبات المعنى القائم بالنفس باطل، وأن أهل السنة والجماعة والسلف متفقون على أنه لا بد للأمر من صيغة تدل عليه، أما المعنى النفسي المجرد عن الحروف والكلمات والألفاظ فهذا ليس أمراً، ويدل لذلك قول الله عز وجل عن زكريا: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41]. فقوله: (إِلَّا رَمْزًا) هذه إشارة، فدل ذلك على أن الإشارة لا تعتبر أمراً وإن أفادت الأمر.

وأيضاً يدل لذلك: ما ثبت في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم أو تعمل ). فدل على أن حديث النفس لا يسمى كلاماً. فالصحيح أن الأمر لا بد له من صيغة.

وصيغ الأمر أنواع:

النوع الأول: التصريح بلفظ الأمر, كقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]. وقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90].

النوع الثاني: لفظ الوجوب والفرض والكتب، كما في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. وأيضاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]. وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ). وحديث ابن عمر : ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان ).

النوع الثالث: المصدر النائب عن فعل الأمر، كما في قول الله عز وجل: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83]. وكما في قول الله عز وجل: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4].

النوع الرابع: اسم فعل الأمر, كما في قول المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح.

النوع الخامس: الفعل المضارع المقرون بلام الأمر، كما في قول الله عز وجل: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ [البقرة:282].

النوع السادس: وصف الفعل بأنه طاعة، أو أن يمدح فاعله، أو أن يذم تاركه، أو رتب على تركه العقاب، أو إحباط العمل، أو غير ذلك.

الأمر بعد الحظر

هنا مسألة وهي: الأمر بعد الحظر ماذا يقتضي؟

للأصوليين في ذلك رأيان:

الرأي الأول: أن الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة، واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]. فالأمر بالاصطياد هنا ليس واجباً.

وأيضاً قول الله عز وجل: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]. وإتيان المرأة بعد الطهر من الحيض هذا ليس واجباً، وإنما هو مباح.

والرأي الثاني: أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى ما كان عليه قبل الحظر. وهذا هو المعروف عند السلف، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأيضاً اختيار الشيخ الشنقيطي رحمه الله في مذكرة أصول الفقه، وأيضاً ابن كثير وغيرهم, وهو أن الأمر يرجع إلى ما كان عليه قبل الحظر، فإذا كان الأمر قبل الحظر واجباً فإنه يكون واجباً، وإذا كان سنة فإنه يكون سنة، وإذا كان مباحاً فإنه يكون مباحاً, ولكل مثال.

مثال الواجب: قول النبي عليه الصلاة والسلام للمستحاضة: ( فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي ).

فقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فاغسلي عنك الدم وصلي ) هنا الصلاة حظرت لما جاءت الحيضة، ولما ارتفعت الحيضة أمر بها النبي عليه الصلاة والسلام, فتكون الصلاة من الآن حكمها واجبة؛ لأنها قبل الحيضة واجبة.

ومثال المندوب: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور, ألا فزوروها ). هذا الأمر يدل على الاستحباب؛ لأن زيارة القبور قبل الحظر كانت مستحبة.

ومثال الإباحة: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222].

وهذا القول هو الصحيح؛ لأن الحظر كان لعارض، فإذا ارتفع هذا العارض عاد الأمر إلى ما كان عليه.

والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.

اقتضاء الأمر للتكرار

قال رحمه الله: [ ولا يقتضي التكرار على الصحيح, إلا ما دل الدليل على قصد التكرار ].

هذه قاعدة أصولية، وهي: هل الأمر يقتضي التكرار أو لا يقتضي التكرار؟

نقول: هذه المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يدل دليل على إرادة التكرار، كما في قول الله عز وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]. وقد دلت الأدلة على أن إقامة الصلاة لا بد منها في كل وقت، وكذلك إيتاء الزكاة قد دلَّ الدليل على أنه كلما حال الحول وجبت الزكاة. وقول الله عز وجل: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، فقد دل الدليل على أنه يقتضي التكرار كلما وجدت الجنابة.

القسم الثاني: أن يدل الدليل على عدم إرادة التكرار، وهذا كقول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]. وقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام: ( أكل عام؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم ).

القسم الثالث: وهو الذي وقع فيه الخلاف، إذا لم يكن هناك دليل يدل على التكرار أو عدم التكرار, يعني: الأمر مطلق على الدليل، فهل يقتضيه أو لا يقتضيه؟ فيه رأيان للأصوليين:

الرأي الأول: قالوا: بأنه لا يقتضي التكرار، بل يخرج من عهدة الأمر بمرة واحدة.

والدليل: أولاً: أن وجوب المرة مقطوع فيه، وما زاد على ذلك فهو مشكوك فيه، والأصل براءة الذمة.

وأيضاً: دليل من جهة اللغة، لو أن السيد قال لرقيقه: اشتر كذا وكذا فإنه لا يلزمه أن يشتري إلا مرة واحدة، أو قال الرئيس لمرؤوسه: اعمل كذا فإنه لغة لا يقتضي أن يفعل إلا مرة واحدة، أو قال المعلم لتلميذه أو الوالد لولده: اكتب كذا فإنه لا يقتضي أن يكتبه إلا مرة واحدة.

والرأي الثاني: قالوا: بأنه يقتضي التكرار. وهذا ما نصره ابن القيم رحمه الله، واستدل: بأن استقراء أدلة الشريعة وأوامر الشرع يدل على أنها تقتضي التكرار، كقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136]. وأيضاً قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208].

وأيضاً قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]. وطاعة الله عز وجل على التكرار، وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام على التكرار, فـ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136] هذه على التكرار, و وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43] هذه على التكرار, و وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] هذه على التكرار.

فقال: إن استقراء الأدلة الشرعية يدل على أن الأوامر في عرف الشرع يراد بها التكرار، كما في هذه الأدلة التي سبقت.

وأيضاً: دليل آخر لهذا القول، قالوا: بأن النهي يقتضي ترك المنهي عنه على الدوام، وأيضاً: الأمر يقتضي فعل المأمور به على الدوام.

لكن أجابوا عن هذا: بأن هناك فرقاً بين الأمر والنهي، فالنهي يمكن الانتهاء عن الفعل أبداً، وأما الأمر فالاشتغال به أبداً غير ممكن.

ومثل هذه المسائل - يعني: هل الأمر يقتضي التكرار أو لا يقتضي التكرار- يظهر في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن ). فالشارع أمر بإجابة المؤذن، فإذا سمع النداء مرة أخرى هل يجيب أو لا يجيب؟ فهو سمع النداء في المرة الأولى فأجاب, فإذا سمعه في المرة الثانية هل يجيب أو لا يجيب؟ فهذه مبنية على هل الأمر يقتضي التكرار أو لا يقتضي التكرار؟ فإذا قبلنا بكلام ابن القيم رحمه الله قلنا: بأن الأمر يقتضي التكرار، وإذا قلنا: بأنه لا يقتضي التكرار فنكتفي بالمرة الأولى، ولا يكون مأموراً في المرة الثانية.

اقتضاء الأمر للفورية

قال رحمه الله: [ ولا يقتضي الفور ].

وهذا مذهب الشافعية, والمؤلف شافعي رحمه الله. فالأمر هل يقتضي الفور أو لا يقتضي الفور؟ جمهور العلماء رحمهم الله على أن الأمر يقتضي الفورية، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها:

ما ورد من الأمر بالمبادرة إلى امتثال أمر الله، والثناء على من فعل ذلك، كما قال الله عز وجل: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]. فهذا أمر بالمبادرة.

وأيضاً: قول الله عز وجل: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133].

وأيضاً: من الأدلة على ذلك: حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها في قصة الحديبية لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة بالإحلال من إحرامهم، فتأخروا لعله ينزل شيء من الوحي، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا في صحيح البخاري .

ومثله أيضاً حديث عائشة في حجة الوداع: لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة بأن يفسخوا الإحرام, يعني: كل من لم ينسك الهدي أمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يفسخ إحرامه بالحج إلى عمرة، وأن يحل حلاً تاماً فتأخروا, فغضب النبي عليه الصلاة والسلام.

وكذلك أيضاً: من حيث اللغة, فإن السيد لو أمر رقيقه أو المعلم تلميذه أو الوالد ولده أو الرئيس مرؤوسه بأمر ثم تأخر ولم يبادر بفعل هذا الأمر فإنه يحسن لومه، ولو كان ذلك على سبيل التراخي لما حسن لومه.

والدليل الأخير: أن هذا أحوط وأبرأ للذمة، فكون الإنسان يبادر فهذا أحوط له وأبرأ للذمة؛ لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له.

الرأي الثاني: رأي الشافعية، فقالوا: بأن الأوامر على التراخي، وهذا له أثر، يعني: لو قرأت في كتب الشافعية تجد أثر هذه القاعدة في كتبهم، فمثلاً: تجد أن الشافعية يقولون: الحج على التراخي, فلا يجب؛ لأن القاعدة عندهم أن الأمر لا يقتضي الفورية. ولو رجعت إلى كتب الشافعية في قضاء الصلاة قالوا: بأنه يقضي الصلاة على التراخي، ولا يجب عليه أن يبادر بالقضاء، إلا أنهم استثنوا وقالوا: إذا ترك ذلك بغير عذر فإنه يبادر. مثل هذه القواعد لها أثر في كتب الفروع.

لكن لو رجعت إلى قول الجمهور الذين قالوا: بأن الأمر يقتضي الفورية تجد أن في كتب الحنابلة يقضتي فوراً؛ لأن الأمر عندهم يقتضي الفورية, وأيضاً يجب عليه أن يبادر في الحج في أول سني الإمكان، وأيضاً فيما يتعلق بإخراج الزكاة يجب عليه أن يبادر بالإخراج, وهكذا.

والشافعية استدلوا بأدلة، ومن أدلتهم: قالوا: ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عمران وحديث أبي هريرة وحديث أبي قتادة : لما نام النبي عليه الصلاة والسلام عن صلاة الفجر لم يقض الصلاة حتى خرج عليه الصلاة والسلام من الوادي، فتوضأ وصنع كما يصنع كل يوم. فقالوا: لو كان الأمر يقتضي الفورية لما أخر النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة حتى خرج من الوادي، فهذا يدل على أنه لا يقتضي الفورية وإنما هو على التراخي.

وأيضاً استدلوا: بأن الحج فرض في السنة السادسة، ولم يحج النبي عليه الصلاة والسلام إلا في السنة العاشرة. فهذا يدل على أنه لا يجب على الفور.

وأجاب العلماء رحمهم الله عن هذا، فقالوا: أما بالنسبة للدليل الأول: فكون النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل وأخر الصلاة لأن هذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن هذا واد حضر فيه الشيطان ). فلما خرج النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك الوادي، لم يؤخر.

وأما بالنسبة للحج فلا يسلم، أولاً: بأنه فرض في السنة السادسة, وإنما تأخر فرض الحج، فلو قلنا: بأنه مفروض في السنة السادسة لأدى ذلك إلى وجوب العمرة؛ لأنهم يقولون: إن الحج فرض في السنة السادسة؛ لقول الله عز وجل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]. وهذه في الحديبية, والحديبية في السنة السادسة. فلو قلنا بذلك لأدى ذلك إلى وجوب العمرة، والواقع خلاف ذلك, فإن العلماء رحمهم الله اختلفوا في العمرة هل هي واجبة أو ليست واجبة؟

والجواب الثاني: أن الحج على الصحيح إنما فرض في السنة التاسعة؛ لأن آية وجوب الحج وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] وردت في صدر سورة آل عمران، وصدر هذه السورة نزل في عام الوفود في السنة التاسعة عندما قدم وفد نصارى نجران. فالحج إذاً فرض في السنة التاسعة، ومع ذلك يبقى الإشكال؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام تأخر, ولم يحج إلا في السنة العاشرة.

فأجاب عنه العلماء رحمهم الله بأجوبة كثيرة, منها: أنه لما فتحت مكة في السنة الثامنة من الهجرة دخل الناس في دين الله أفواجاً، فاحتاج النبي عليه الصلاة والسلام أن يبقى في المدينة؛ لاستقبال الوفود، والعام التاسع سمي عام الوفود، وأقام أبا بكر رضي الله تعالى عنه أميراً على الحج؛ لإقامة الموسم.

والجواب الثاني: قالوا: لكي تتمحض الحجة للمسلمين؛ لأنه قبل ذلك كان يحج المشركون, وكانوا يحجون عراة؛ ولهذا أرسل أبا بكر وأردفه بـعلي ينادي: ( ألا لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك ).

فهذان الجوابان هما أقوى الأجوبة.

وهناك أجوبة أخرى, منها قول بعض العلماء: لخوف النبي عليه الصلاة والسلام على المدينة.

وقال بعضهم: لمرض النبي عليه الصلاة والسلام, فقد كان مريضاً.. إلخ.

لكن أقوى الأجوبة هما الجوابان السابقان.

والله أعلم, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.