شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [10]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [القاعدة الخامسة والأربعون: عقود الأمانات هل تنفسخ بمجرد التعدي فيها أم لا؟ المذهب أن الأمانة المحضة تبطل بالتعدي، والأمانة المتضمنة لأمر آخر لا تبطل على الصحيح].

سلف لنا جملة من قواعد هذا الكتاب، فمن القواعد التي طرقناها: ما يتعلق بإخراج الواجبات وأدائها إلى ملاكها، ومتى يكون على سبيل الفور؟ ومتى يجوز التراخي؟

وكذلك أيضاً: ذكرنا وذكر المؤلف رحمه الله جملة من القواعد المتعلقة بالأمناء، وذكرنا تعريف الأمين، ومن القواعد المتعلقة بالأمين: هل يضمن بالتلف أو لا يضمن؟ وهل يقبل قوله في نفي التعدي والتفريط؟ وهل يقبل قوله في الرد؟

وذكرنا أن المؤلف رحمه الله تعالى قسم الأمين إلى ثلاثة أقسام، وذكرنا حكم كل قسم من هذه الأقسام.

كذلك أيضاً من القواعد التي طرقناها: ما يتعلق بتوارد العقود بعضها على بعض.. إلى آخر ما تقدم.

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: (القاعدة الخامسة والأربعون، عقود الأمانات، هل تنفسخ بمجرد التعدي فيها أم لا؟ المذهب أن الأمانة المحضة تبطل بالتعدي، والأمانة المتضمنة لأمر آخر لا تبطل على الصحيح).

معنى هذه القاعدة هو: زوال الائتمان من الأمين بالتعدي.

أقسام الأمانة

ذكر المؤلف رحمه الله تعالى أن الأمانة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أمانة محضة.

والقسم الثاني: أمانة غير محضة.

الأمانة المحضة: هي التي قبضت لنفع مالكها فقط، مثل: الوديعة، قبضها المودع لمصلحة المالك المودع.

والأمانة غير المحضة: هي التي قبضها الأمين لمصلحته هو، مثل: العارية، والصحيح أن العارية هي أمانة، والصواب أنها غير مضمونة، فالعارية قبضها المستعير لمصلحته هو.

أما مال المضاربة فقبضه الأمين المضارب لمصلحتهما جميعاً؛ لمصلحة المالك ومصلحة المضارب.

فيقول المؤلف رحمه الله: (الأمانة المحضة تبطل بالتعدي)، مثال ذلك: رجلٌ أُودِع وديعة كسيارة، والأصل في الوديعة أن يحفظها في حرز مثلها وأن لا يتصرف فيها.

فالمودع تعدّى؛ أخذ هذه السيارة وجعل يستعملها للغير لا لمصلحته. حينئذٍ نقول: ائتمانه قد بطل لما تعدى، لكن هل يعود ائتمانه بإعادة الوديعة إلى حرزها أو أنه لا بد من عقد جديد؟

فذكر المؤلف رحمه الله أنه لا بد من عقدٍ جديد؛ فهذا الرجل لما تعدى في الوديعة زال ائتمانه، وحينئذ لكي يكون أميناً، ولا يضمن إذا تلفت هذه الوديعة، عليه أن يذهب إلى المودع ويجدد معه عقد الوديعة مرة أخرى. وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني في المسألة: أنه إذا تاب وأعادها إلى حرزها وترك التعدي فإن ائتمانه يعود.

ومن الأمثلة على ذلك أيضاً: الوكيل؛ فأنت إذا وكلته أن يبيع سيارة، فأخذ السيارة وجعل يستعملها والأصل أنه لا يستعمل السيارة، لكنه هنا تعدى، فنقول بأن ائتمانه قد زال، أما تصرفه فهو نافذ، فإذا باع السيارة فإن التصرف نافذ لوجود الإذن، لكن إذا تلفت السيارة فإنه يضمن بسبب تعديه.

ولكي يعود ائتمانه لابد من عقد جديد، حتى لو ترك التعدي فإنه يضمن؛ لأن ائتمانه قد زال.

وعلى هذا لو تلفت السيارة تحت يده -سواء تعدى أو لم يتعد، فرط أو لم يفرط- يضمن بكل حال، بخلاف ما إذا لم يتعد ثم تلفت تحت يده، فلا ضمانة عليه؛ لأن السيارة تحت يد الوكيل حكمها حكم الأمانة، ولا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط.

ومثل ذلك أيضاً: الشريك إذا تعدى في أموال الشركة، واستخدم أموال الشركة في غير مصلحة الشركة، نقول: زال ائتمانه، وإذا تلف هذا المال تحت يده يضمن، لكن لو ترك التعدي فنقول: بحسب الخلاف.

الخلاصة في هذه القاعدة: أن الأمين إذا تعدى في الأمانة كأن يستعملها لغير مصلحتها زال ائتمانه، ويكون ضامناً بكل حال، لكن لو ترك التعدي، هل نقول بأن ائتمانه يعود، أو لا بد أن يجدد العقد مرة لكي يعود ائتمانه؟

هذا على حسب الخلاف، والذي يظهر والله أعلم أنه إذا ترك التعدي وأرجع الأمانة إلى حرزها فإن ائتمانه يعود، كما هو قول مالك رحمه الله تعالى.

ذكر المؤلف رحمه الله تعالى أن الأمانة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أمانة محضة.

والقسم الثاني: أمانة غير محضة.

الأمانة المحضة: هي التي قبضت لنفع مالكها فقط، مثل: الوديعة، قبضها المودع لمصلحة المالك المودع.

والأمانة غير المحضة: هي التي قبضها الأمين لمصلحته هو، مثل: العارية، والصحيح أن العارية هي أمانة، والصواب أنها غير مضمونة، فالعارية قبضها المستعير لمصلحته هو.

أما مال المضاربة فقبضه الأمين المضارب لمصلحتهما جميعاً؛ لمصلحة المالك ومصلحة المضارب.

فيقول المؤلف رحمه الله: (الأمانة المحضة تبطل بالتعدي)، مثال ذلك: رجلٌ أُودِع وديعة كسيارة، والأصل في الوديعة أن يحفظها في حرز مثلها وأن لا يتصرف فيها.

فالمودع تعدّى؛ أخذ هذه السيارة وجعل يستعملها للغير لا لمصلحته. حينئذٍ نقول: ائتمانه قد بطل لما تعدى، لكن هل يعود ائتمانه بإعادة الوديعة إلى حرزها أو أنه لا بد من عقد جديد؟

فذكر المؤلف رحمه الله أنه لا بد من عقدٍ جديد؛ فهذا الرجل لما تعدى في الوديعة زال ائتمانه، وحينئذ لكي يكون أميناً، ولا يضمن إذا تلفت هذه الوديعة، عليه أن يذهب إلى المودع ويجدد معه عقد الوديعة مرة أخرى. وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني في المسألة: أنه إذا تاب وأعادها إلى حرزها وترك التعدي فإن ائتمانه يعود.

ومن الأمثلة على ذلك أيضاً: الوكيل؛ فأنت إذا وكلته أن يبيع سيارة، فأخذ السيارة وجعل يستعملها والأصل أنه لا يستعمل السيارة، لكنه هنا تعدى، فنقول بأن ائتمانه قد زال، أما تصرفه فهو نافذ، فإذا باع السيارة فإن التصرف نافذ لوجود الإذن، لكن إذا تلفت السيارة فإنه يضمن بسبب تعديه.

ولكي يعود ائتمانه لابد من عقد جديد، حتى لو ترك التعدي فإنه يضمن؛ لأن ائتمانه قد زال.

وعلى هذا لو تلفت السيارة تحت يده -سواء تعدى أو لم يتعد، فرط أو لم يفرط- يضمن بكل حال، بخلاف ما إذا لم يتعد ثم تلفت تحت يده، فلا ضمانة عليه؛ لأن السيارة تحت يد الوكيل حكمها حكم الأمانة، ولا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط.

ومثل ذلك أيضاً: الشريك إذا تعدى في أموال الشركة، واستخدم أموال الشركة في غير مصلحة الشركة، نقول: زال ائتمانه، وإذا تلف هذا المال تحت يده يضمن، لكن لو ترك التعدي فنقول: بحسب الخلاف.

الخلاصة في هذه القاعدة: أن الأمين إذا تعدى في الأمانة كأن يستعملها لغير مصلحتها زال ائتمانه، ويكون ضامناً بكل حال، لكن لو ترك التعدي، هل نقول بأن ائتمانه يعود، أو لا بد أن يجدد العقد مرة لكي يعود ائتمانه؟

هذا على حسب الخلاف، والذي يظهر والله أعلم أنه إذا ترك التعدي وأرجع الأمانة إلى حرزها فإن ائتمانه يعود، كما هو قول مالك رحمه الله تعالى.

قال المؤلف رحمه الله: [القاعدة السادسة والأربعون: في العقود الفاسدة، هل هي منعقدة أو لا؟ وهي نوعان:

أحدهما: العقود الجائزة، كالشركة والمضاربة والوكالة.

وقد ذكرنا آنفاً أن إفسادها لا يمنع نفوذ التصرف فيها بالإذن، لكن خصائصها تزول بفسادها، فلا يصدق عليها أسماء العقود الصحيحة إلا مقيدة بالفساد.

والنوع الثاني: العقود اللازمة؛ فما كان منها لا يتمكن العبد من الخروج منه بقوله -كالإحرام- فهو منعقد؛ لأنه لا سبيل إلى التخلص منه إلا بإتمامه أو الإحصار عنه, وما كان العبد متمكناً من الخروج منه بقوله فهو منقسم إلى قسمين:

أحدهما: ما يترتب عليه حكم مبني على التغليب والسراية والنفوذ فهو منعقد، وهو النكاح والكتابة يترتب عليهما الطلاق والعتق، فلقوتهما ونفوذهما انعقد العقد المختص بهما ونفذا فيه، وتبعهما أحكام كثيرة من أحكام العقد، ففي النكاح يجب المهر بالعقد، حتى لو طلقها قبل الدخول لزمه نصف المهر على وجه، ويستقر بالخلوة، وتعتد فيه من حين الفرقة لا من حين الوطء، وتعتد للوفاة فيه قبل الطلاق، وفي الكتابة تستتبع الأولاد والأكساب.

والثاني: ما لا يترتب عليه ذلك، كالبيع والإجارة، فالمعروف من المذهب أنه غير منعقد ويترتب عليه أحكام الغصب].

هذه القاعدة في العقود الفاسدة.

والفرق بين هذه القاعدة والقاعدة التي قبلها: أن القاعدة التي قبلها العقد صحيح لكنه تعدى فيه، لكن هنا العقد من أصله غير صحيح، فما حكم التصرف مع أن العقد غير صحيح؟

قال المؤلف رحمه الله: (العقود الفاسدة).

العقد الفاسد: هو الذي اختل شرط من شروط صحته.

هل هذه العقود الفاسدة منعقدة بحيث يصح التصرف فيها أم نقول بأن هذه العقود الفاسدة غير منعقدة بحيث أنه لا يصح التصرف فيها؟

نقول: لكي نعرف هل يترتب على هذه العقود الفاسدة ما يترب على العقود الصحيحة فلابد أن نعرف بأن هذا العقد الفاسد ينقسم إلى أقسام:

العلماء رحمهم الله يقسمون العقود إلى ثلاثة أقسام: عقودٌ جائزة، وعقودٌ لازمة، وعقودٌ لازمة من أحد الطرفين.

فالعقود الجائزة: هي التي يتمكن كلٌ من العاقدين من الفسخ.

والعقود اللازمة: هي التي لا يتمكن أحد المتعاقدين من الفسخ.

والعقود اللازمة من طرف وجائزة من طرف آخر: هي التي يتمكن أحد العاقدين من الفسخ، ولا يتمكن العاقد الآخر من الفسخ.

فنقول: العقود الجائزة، مثل: عقد الوكالة، وعقد المضاربة، وعقد الشركة، وعقد المساقات والمزارعة على قول، فبعض العلماء يرى أنها عقود لازمة.

والعقود اللازمة: مثل عقد البيع، عقد الإجارة.

والعقود اللازمة من طرف والجائزة من طرف، مثل: عقد الرهن، فعقد الرهن هذا لازم من جهة الراهن، أي: ليس له أن يفك هذا العقد، وجائز من جهة المرتهن، فالمرتهن له أن يبطل العقد؛ لأن حق التوثق له، فله أن يبطل العقد.

العقد الجائز الفاسد

قال المؤلف رحمه الله: (كالشركة، والمضاربة، والوكالة. وقد ذكرنا أن إفسادها لا يمنع نفوذ التصرف فيها بالإذن، لكن خصائصها تزول بفسادها).

فنقول: العقود الجائزة -هذه المسألة الأولى- إذا كانت فاسدة، مثل: عقد الوكالة إذا كان عقداً فاسداً، وعقد المضاربة إذا كان عقداً فاسداً، وعقد الشركة إذا كان عقداً فاسداً كأن يكون رأس مال الشركة مجهولاً، أو يكون الربح -مثلاً- في الشركة مجهولاً، أو الربح في المضاربة مجهولاً، أو الجُعل للوكيل مجهولاً، فالشركة هنا فاسدة؛ لأنه اختل شرطٌ من شروط صحتها.

فما حكم التصرفات في هذه العقود الفاسدة؟ ما حكم تصرف الوكيل، وتصرف المضارب، وتصرف الشريك؟ هل نقول بأن التصرفات فاسدة، أو نقول بأن التصرفات صحيحة؟

قال المؤلف رحمه الله: العقود الجائزة إذا كانت فاسدة، فإن هذا الفساد لا يمنع صحة التصرف.

عندنا وكالة فاسدة، ما حكم تصرفات الوكيل لو باع مثلاً؟

نقول: تصرفاته صحيحة؛ لأنه ملك التصرف بالإذن لا بمقتضى العقد؛ لأن العقد فاسد.

أيضاً المضارب، فالربح في شركة المضاربة مجهول، هذا عقد فاسد، أو معين مثلاً، كأن يقول: لك ربح كل شهر ألف دينار، فلا يصح أن يعين؛ لأن الربح لا بد أن يكون جزءاً مشاعاً معلوماً نصيب كل منهما، فلو عين الربح نقول: عقد المضاربة هنا فاسد، لكن ما حكم تصرفات المضارب كأن يبيع أو يشتري.. إلى آخره؟ نقول: تصرفاته هذه صحيحة.

فعندنا العقود الجائزة قال المؤلف رحمه الله: (إن إفسادها لا يمنع نفوذ التصرف فيها بالإذن)، أي أن التصرف الآن حصل بإذن لا بمقتضى العقد؛ لأن العقد فاسد.

المسألة الثانية: (لكن خصائصها تزول بفسادها، فلا يصدق عليها أسماء العقود إلا مقيدة بالفساد).

خصائص هذه العقود، هل هي صحيحة أو ليست صحيحة؟

يقول المؤلف رحمه الله: الخصائص هذه تزول، غير صحيحة، فمثلاً: عندك الآن في شركة المضاربة اتفقا على الربح، مثلاً: في شركة المضاربة قال: لك كل شهر ألف دينار، هذا عقد معين لا يصح.

فإذا زالت هذه الخصائص فما نصيب العامل؟ أو بماذا نحكم له؟

الجواب: المشهور من المذهب أن المضارب له أجرة المثل مقابل عمله، نقول بأن لك أجرة المثل، يقولون: الربح يكون لرب المال، وأما المضارب فله أجرة المثل، هذا المشهور من المذهب.

وشيخ الإسلام يقول: لا، العامل له سهم المثل؛ لأنه ما دخل على أنه مستأجر، إنما دخل على أنه مضارب، فننظر، هو الآن لما جُعل له ألف دينار بالشهر قلنا: هذا لا يصح، بل له سهم المثل، مثل هذا الشخص إذا عمل مضاربة بهذا المال، كم يأخذ من الربح؟ فقالوا: يأخذ عُشر الربح فنعطيه عشر الربح، أو يأخذ ثلث الربح فنعطيه ثلث الربح، وهذا القول هو الصواب.

فلو قلنا: أجرة المثل كما هو المشهور من المذهب، فربما تكون أجرة المثل ألف دينار، والربح كله ألف دينار، لكن كوننا نعطيه سهم المثل كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو الصواب.

ومثل ذلك قل في المساقاة وفي المزارعة، إذا قلنا بأن المساقاة والمزارعة عقود جائزة -كما في المذهب- فإذا فسدت المساقاة، وفسدت المزارعة زالت عنها خصائصها.

فمثلاً في المزارعة قال: لك ألف صاع من البر ولي الباقي، نقول: لا يصح هذا، وفي المساقاة قال: لك ألف صاع من التمر ولي الباقي، أو لك هذا الزرع ولي هذا الزرع، أو لك الشعير وأنا لي البر، لك التمر ولي البرتقال، نقول: هذا لا يصح.

لكن ماذا للمساقي وماذا للمزارع في هذه الحالة؟ نقول: الخلاف السابق، وذكرنا أن الصواب كما قال شيخ الإسلام يكون له سهم المثل، أي: مثل هذا العامل إذا اشتغل في هذه المعاملة كم له؟ قالوا: له الربع -ربع الثمرة، أو ربع الزرع- فنعطيه الربع، وعلى هذا فقس.

الخلاصة في القسم الأول -العقود الجائزة- أن التصرف صحيح، لكن بقية الأحكام نقول بأنها زالت، وذكرنا الخلاف بعد زوال هذه الأحكام، هل نقول: له أجرة المثل -كما هو المذهب في المضاربة والشركة والمساقاة والمزارعة- أو نقول: له سهم المثل؟ وقل مثل ذلك أيضاً في الجعالة؛ لأن الجعالة أيضاً من العقود الجائزة.

هذا القسم الأول في العقود الفاسدة.

العقد اللازم الفاسد

قال المؤلف: (والنوع الثاني: العقود اللازمة، فما كان منها لا يتمكن العبد من الخروج منه بقوله -كالإحرام- فهو منعقد؛ لأنه لا سبيل له إلى التخلص منه إلا بإتمامه، أو الإحصار عنه).

القسم الأول: العقد اللازم الذي لا يتمكن العبد من الخروج منه بقوله

أن يكون عقداً لازماً لا يتمكن العبد من الخروج منه بقوله، وهذا مَثَله: الإحرام، رجل أحرم بالعمرة وهو يجامع زوجته! أو أحرم بالحج وهو يجامع زوجته! فعقد الإحرام انعقد فاسداً كما قال المؤلف، لكن ما الحكم في هذا العقد الفاسد؟

نقول بأنه يمضي في هذا الحج، وتصرّفه في هذا العقد الفاسد صحيح، ويجب عليه كما ورد عن الصحابة أن يمضي في هذا الحج الفاسد، لكن يجب عليه أن يقضيه من قابل.

قال المؤلف: (لأنه لا سبيل للتخلص منه إلا بإتمامه أو الإحصار عنه).

يعني من خصائص الحج والعمرة أنه لا يمكن الخروج من الحج والعمرة إلا بواحد من أمور ثلاثة:

الأمر الأول: إتمام الحج والعمرة، وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، والله عز وجل جعل الحج والعمرة بمنزلة النذر، فقال: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، والنذر يجب الوفاء به.

الأمر الثاني: الإحصار، فإذا أحصر فإنه يتحلل.

الأمر الثالث: بالردة، نسأل الله السلامة.

القسم الثاني: العقد اللازم الذي يتمكن العبد من الخروج منه بقوله

ثم قال المؤلف رحمه الله: (وما كان العبد متمكناً من الخروج منه بقوله فهو منقسم إلى قسمين).

فعقد النكاح مبني على التغليب والسراية، فلو قال مثلاً لزوجته: يدك طالق؛ سرى هذا إلى كل بدنها، هذا هي السرايه.

والتغليب كما لو قال: زوجتي طالق، فمن تَطْلُق من زوجاته؟ تطلق جميع زوجاته؛ لأن المفرد المضاف يعم، فما دام أنه ما خصص بالشرط أو بالنية تطلق جميع زوجاته، فهذا يدلك على أن النكاح مبني على التغليب والسراية.

ومثله أيضاً: عقد الكتابة؛ لأن العتق مبني على التغليب والسراية، فلو قال لرقيقه: يدك حرة؛ سرى ذلك إلى كل يده، ولو قال أيضاً: رقيقي حر؛ يعتق جميع أرقائه ما لم يكن هنالك نية أو شرط، أو مثلاً أعتق نصيبه المشترك بينه وبين شخص آخر؛ فإنه يسري عليه إذا كان موسراً، وإن كان معسراً من أهل العلم من قال إنه يبقى مبعّضاً، ومنهم من قال: بأنه يستسعى كما جاء في الحديث: ( يستسعى العبد غير مشقوق عليه ).

فإذا كان عقداً لازماً مبنياً على السراية والتغليب وانعقد فاسداً، كأن عقد على امرأة بلا ولي! فالعقد هنا عقد فاسد، أو عقد على رقيق بثمن مجهول، أو كاتب عبده بثمن مجهول، فالعقد فاسد، لكن ماذا يترتب عليه؟

قال المؤلف رحمه الله: (فهو منعقد).

ثم قال: (يترتب عليهما الطلاق والعتق، فلقوتهما ونفوذهما انعقد العقد المختص بهما ونفذ فيه، وتبعهما أحكام كثيرة من أحكام العقد، ففي النكاح).

نقول: عقد النكاح إذا كان فاسداً يترتب عليه:

أولاً: أنه عقدٌ منعقد.

ثانياً: الطلاق؛ يصح الطلاق في العقد الفاسد، بل العلماء يقولون: يجب على صاحب العقد الفاسد أن يطلق! مثلاً: إذا تزوج امرأة بلا ولي أو بلا شهود، فيجب عليه أن يطلق؛ لأن من أهل العلم من يرى صحة العقد، مثل: أبي حنيفة، فإنه يرى صحة عقد النكاح بلا ولي! فيقولون: يجب عليه أن يطلق.

ثالثاً: (يجب المهر بالعقد حتى لو طلقها قبل الدخول لزمه نصف المهر على وجه)، لو طلقها قبل الدخول يجب نصف المهر.

قال المؤلف رحمه الله: (على وجه)، والرأي الثاني: أنه لا يلزمه شيء؛ لأن العقد فاسد، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

رابعاً: قال: (ويستقر بالخلوة)، يعني يستقر المهر بالخلوة أو الدخول، فلو دخل بها في العقد الفاسد يجب المهر؛ لحديث عائشة ( بما استحل من فرجها)، أو خلا بها، يقول المؤلف رحمه الله أنه يجب المهر كذلك.

والصحيح: أنه يجب المهر بالدخول دون خلوة؛ لأن هذا ليس عقداً صحيحاً نرتب عليه جميع أحكام الصحيح.

خامساً: قال: (وتعتد)، لو توفي في العقد الفاسد، يقول المؤلف رحمه الله تعالى بأنها تعتد، هذا المشهور من المذهب، قال: (تعتد من حين الفرقة لا من حين الوطء وتعتد للوفاة فيه قبل الطلاق)، يعني قبل أن يطلقها؛ لأنه يجب عليه أن يطلقها.

فهذه خمسة أحكام مترتبة على النكاح الفاسد:

هل هو منعقد أو ليس منعقداً؟ نقول: منعقد، ويقع فيه الطلاق، بل يقول العلماء: يجب الطلاق.

والحكم الثالث بالنسبة للمهر، فإذا طلق قبل الدخول أو الخلوة فلها نصف المهر، وإذا طلق بعد الدخول أو الخلوة وجب المهر كاملاً واستقر.

والصحيح بالنسبة للمهر أنه لا يجب إلا إذا وطأها، يعني لا نرتب عليه كل أحكام النكاح الصحيح، نقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة : (لها المهر بما استحل من فرجها).

ومن الأحكام أيضاً: ما يتعلق بعدة الوفاة، فقال المؤلف: (وتعتد للوفاة فيه قبل الطلاق) يعني: إذا توفي الزوج في النكاح الفاسد يجب عليها أن تعتد للوفاة، والصحيح أنه لا يجب في هذا، لكن هذا على المذهب.

قال: (وفي الكتابة تستتبع الأولاد والأكساب)، يعني: أصل الكتابة إذا كان فاسداً فإن الكسب يكون للمكاتب، لا نقول بأنه لسيده، والأولاد يكونون للمكاتب كذلك لسيدهم، فإذا عتق أصبحوا أحراراً، أما إذا لم يعتق وعجز عن الكتابة فإنه يرجع لسيده ومعه أكسابه وأولاده.

ثم قال: (ما لا يترتب عليه ذلك كالبيع والإجارة، والمعروف من المذهب أنه غير منعقد، ويترتب عليه أحكام الغصب).

هذا القسم الثاني: أن يكون العقد لازماً، لكن العبد متمكن من الخروج منه بقوله، قال المؤلف: (كالبيع والإجارة)، فهذا غير منعقد والسلعة المقبوضة فيه حكمها حكم الغصب، فإذا عقد بثمن مجهول أو باع بثمن مجهول فالبيع غير منعقد، فإذا قبض المشتري هذه السلعة فيده كيد الغاصب، فيجب عليه أن يبادر بردها، وإن تلفت تحت يده فإنه ضامن.

وكذا الإجارة أيضاً، فلو أجر البيت بعقد فاسد -مثلاً بأجرة مجهولة- فالعقد لا ينعقد، ويد المستأجر على البيت أو على السيارة المستأجرة كيد الغصب، يجب عليه أن يبادر بالرد، وإن تلفت فإنه ضامن لها.

قال المؤلف رحمه الله: (كالشركة، والمضاربة، والوكالة. وقد ذكرنا أن إفسادها لا يمنع نفوذ التصرف فيها بالإذن، لكن خصائصها تزول بفسادها).

فنقول: العقود الجائزة -هذه المسألة الأولى- إذا كانت فاسدة، مثل: عقد الوكالة إذا كان عقداً فاسداً، وعقد المضاربة إذا كان عقداً فاسداً، وعقد الشركة إذا كان عقداً فاسداً كأن يكون رأس مال الشركة مجهولاً، أو يكون الربح -مثلاً- في الشركة مجهولاً، أو الربح في المضاربة مجهولاً، أو الجُعل للوكيل مجهولاً، فالشركة هنا فاسدة؛ لأنه اختل شرطٌ من شروط صحتها.

فما حكم التصرفات في هذه العقود الفاسدة؟ ما حكم تصرف الوكيل، وتصرف المضارب، وتصرف الشريك؟ هل نقول بأن التصرفات فاسدة، أو نقول بأن التصرفات صحيحة؟

قال المؤلف رحمه الله: العقود الجائزة إذا كانت فاسدة، فإن هذا الفساد لا يمنع صحة التصرف.

عندنا وكالة فاسدة، ما حكم تصرفات الوكيل لو باع مثلاً؟

نقول: تصرفاته صحيحة؛ لأنه ملك التصرف بالإذن لا بمقتضى العقد؛ لأن العقد فاسد.

أيضاً المضارب، فالربح في شركة المضاربة مجهول، هذا عقد فاسد، أو معين مثلاً، كأن يقول: لك ربح كل شهر ألف دينار، فلا يصح أن يعين؛ لأن الربح لا بد أن يكون جزءاً مشاعاً معلوماً نصيب كل منهما، فلو عين الربح نقول: عقد المضاربة هنا فاسد، لكن ما حكم تصرفات المضارب كأن يبيع أو يشتري.. إلى آخره؟ نقول: تصرفاته هذه صحيحة.

فعندنا العقود الجائزة قال المؤلف رحمه الله: (إن إفسادها لا يمنع نفوذ التصرف فيها بالإذن)، أي أن التصرف الآن حصل بإذن لا بمقتضى العقد؛ لأن العقد فاسد.

المسألة الثانية: (لكن خصائصها تزول بفسادها، فلا يصدق عليها أسماء العقود إلا مقيدة بالفساد).

خصائص هذه العقود، هل هي صحيحة أو ليست صحيحة؟

يقول المؤلف رحمه الله: الخصائص هذه تزول، غير صحيحة، فمثلاً: عندك الآن في شركة المضاربة اتفقا على الربح، مثلاً: في شركة المضاربة قال: لك كل شهر ألف دينار، هذا عقد معين لا يصح.

فإذا زالت هذه الخصائص فما نصيب العامل؟ أو بماذا نحكم له؟

الجواب: المشهور من المذهب أن المضارب له أجرة المثل مقابل عمله، نقول بأن لك أجرة المثل، يقولون: الربح يكون لرب المال، وأما المضارب فله أجرة المثل، هذا المشهور من المذهب.

وشيخ الإسلام يقول: لا، العامل له سهم المثل؛ لأنه ما دخل على أنه مستأجر، إنما دخل على أنه مضارب، فننظر، هو الآن لما جُعل له ألف دينار بالشهر قلنا: هذا لا يصح، بل له سهم المثل، مثل هذا الشخص إذا عمل مضاربة بهذا المال، كم يأخذ من الربح؟ فقالوا: يأخذ عُشر الربح فنعطيه عشر الربح، أو يأخذ ثلث الربح فنعطيه ثلث الربح، وهذا القول هو الصواب.

فلو قلنا: أجرة المثل كما هو المشهور من المذهب، فربما تكون أجرة المثل ألف دينار، والربح كله ألف دينار، لكن كوننا نعطيه سهم المثل كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو الصواب.

ومثل ذلك قل في المساقاة وفي المزارعة، إذا قلنا بأن المساقاة والمزارعة عقود جائزة -كما في المذهب- فإذا فسدت المساقاة، وفسدت المزارعة زالت عنها خصائصها.

فمثلاً في المزارعة قال: لك ألف صاع من البر ولي الباقي، نقول: لا يصح هذا، وفي المساقاة قال: لك ألف صاع من التمر ولي الباقي، أو لك هذا الزرع ولي هذا الزرع، أو لك الشعير وأنا لي البر، لك التمر ولي البرتقال، نقول: هذا لا يصح.

لكن ماذا للمساقي وماذا للمزارع في هذه الحالة؟ نقول: الخلاف السابق، وذكرنا أن الصواب كما قال شيخ الإسلام يكون له سهم المثل، أي: مثل هذا العامل إذا اشتغل في هذه المعاملة كم له؟ قالوا: له الربع -ربع الثمرة، أو ربع الزرع- فنعطيه الربع، وعلى هذا فقس.

الخلاصة في القسم الأول -العقود الجائزة- أن التصرف صحيح، لكن بقية الأحكام نقول بأنها زالت، وذكرنا الخلاف بعد زوال هذه الأحكام، هل نقول: له أجرة المثل -كما هو المذهب في المضاربة والشركة والمساقاة والمزارعة- أو نقول: له سهم المثل؟ وقل مثل ذلك أيضاً في الجعالة؛ لأن الجعالة أيضاً من العقود الجائزة.

هذا القسم الأول في العقود الفاسدة.

قال المؤلف: (والنوع الثاني: العقود اللازمة، فما كان منها لا يتمكن العبد من الخروج منه بقوله -كالإحرام- فهو منعقد؛ لأنه لا سبيل له إلى التخلص منه إلا بإتمامه، أو الإحصار عنه).




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [13] 2631 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [1] 2267 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [15] 2090 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [7] 2082 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [19] 2051 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [12] 2007 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [8] 2003 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [14] 1930 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [11] 1907 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [17] 1872 استماع