شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [8]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ القاعدة الحادية والأربعون: إذا تعلق بعين حق تعلقاً لازماً فأتلفها من يلزمه الضمان فهل يعود الحق إلى البدل المأخوذ من غير عقد آخر؟ فيه خلاف, ويتخرج عليه مسائل.. إلى آخره].

معنى هذه القاعدة: أن العين إذا تعلق بها حق تعلق هذا الحق ببدلها دون عقد، والبدل له حكم المبدل منه دون عقد جديد. ويتضح هذا من الأمثلة التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى.

قال رحمه الله: [ منها: لو أتلف الرهن ].

يعني: عندنا سيارة رهناً، ثم جاء شخص وأتلف هذه السيارة وأخذنا قيمة السيارة، فلا حاجة أن نعقد عقداً جديداً على هذه القيمة لكي تكون رهناً, فبمجرد أن أخذنا القيمة فإن هذه القيمة تكون رهناً ولا حاجة إلى أن نجدد عقداً على أن تكون القيمة رهناً. فلو قال المؤلف رحمه الله: البدل له حكم المبدل منه، وفرع هذه التفريعات، وأيضاً فرع غيرها لكفى ذلك وكان أوضح.

وكذلك ذكر المؤلف أيضاً من الأمثلة: الوقف.

لو كان عندنا سيارة وقفاً، ثم جاء شخص وأتلفها وأخذنا قيمة السيارة وأصبحت الآن القيمة هي البدل، فلا حاجة أن نجدد الوقف, فنقول: بأن هذه القيمة نعقد عليها بأنها وقف، أو نقول: هذه وقف أو هذه لله، فبمجرد أخذنا للقيمة فإن القيمة هذه أصبحت وقفاً، ولا حاجة إلى أن نجدد عقداً جديداً, فنقول: بأنها وقف؛ لأنه لو قلنا: لا بد من عقد جديد، فقبل العقد ما أصبحت وقفاً، ولجاز التصرف فيها تصرفاً آخر، لكن بمجرد أن نأخذها فلا حاجة إلى العقد، فتصير وقفاً بمجرد أن نأخذها.

وكذلك أيضاً لو أتلف الأضحية, يعني اشترى شاة وعينها أنها أضحية فقال: هذه أضحية أو لله، ثم بعد ذلك جاء شخص وأتلف هذه الأضحية وأخذنا القيمة, فنقول: إن هذه القيمة تكون قيمة لأضحية, ولا حاجة إلى أن نجدد عقداً جديداً.

الخلاصة في هذه القاعدة أن نقول: بأن البدل له حكم المبدل منه.

ومن فروع هذه القاعدة أن البدل له حكم المبدل مثلاً: الأضحية بدلها يقوم مقامها، والوقف بدله يقوم مقامه، والرهن بدله يقوم مقامه، والموصى به بدله يقوم مقامه، سواء حصل ذلك عن طريق التلف أو حصل عن طريق غيره؛ ولهذا العلماء رحمهم الله يقولون: إذا احتجنا إلى أن نبيع الوقف ثم اشترينا بثمنه عقاراً - يعني: احتجنا أن نبيع عقار الوقف أو منقول الوقف ثم اشترينا بثمن الوقف الذي بيع عقاراً- أو منقولاً بمجرد الشراء فإنه وقف, ولا حاجة إلى عقد جديد.

ومثله هنا القيمة, فبمجرد عقد القيمة فإنها تكون رهناً أو تكون وقفاً.. إلى آخره.

قال المؤلف رحمه الله: [ القاعدة الثانية والأربعون: في أداء الواجبات المالية, وهي منقسمة إلى: دين وعين، فأما الدين فلا يجب أداؤه بدون مطالبة المستحق إذا كان آدمياً، وهذا ما لم يكن قد عين له وقتاً للوفاء، فأما إن عين وقتاً كيوم كذا فلا ينبغي أن يجوز تأخيره عنه؛ لأنه لا فائدة للتوقيت إلا وجوب الأداء فيه بدون مطالبة, فإن تعيين الوفاء فيه أولاً كالمطالبة به.. إلى آخره ].

هذه القاعدة طويلة، وسنجعلها على ثمانية أقسام, والحقيقة أنها قاعدة مهمة جداً.

ما معنى هذه القاعدة؟ معنى هذه القاعدة: إذا كان عندك حق مالي للغير فمتى يجب عليك أن تبادر بإخراجه؟ ومتى لا يجب عليك أن تبادر بإخراجه؟ يعني: عندك حق مالي للغير، سواء لله أو للآدميين، فمتى نقول: بادر بإخراجه؟ ومتى نقول: لا يجب عليك أن تبادر بإخراجه؟ هذا معنى هذه القاعدة.

قال المؤلف رحمه الله: الحقوق المالية إما أن تكون ديوناً، والدين هو: كل ما ثبت في الذمة، وإما أن تكون أعياناً غير ديون، مثلاً: عندك دراهم أو ذهب أو فضة أو أوراق نقدية أو سيارات، المهم أن عندك حقوقاً مالية للغير، فمتى نقول: عليك أن تبادر بإخراجها فوراً؟ ومتى نقول: لا يجب عليك أن تبادر بإخراجها؟ أي: لك أن تمسكها. هذا هو معنى هذه القاعدة.

وهذه القاعدة -كما ذكرنا- تحتها ثمانية أقسام، يعني: ما هي الأموال التي عليك أن تبادر بإخراجها؟ وما الأموال التي يرخص لك أن تمسكها؟ وهذه الحقوق المالية إما أن تكون ديوناً وكما عرفنا أن الدين هو: كل ما ثبت في الذمة من قرض أو ثمن مبيع أو قيمة مثله أو أرش جناية ونحو ذلك، أو أعياناً والعين خلاف الدين مثل الذهب ومثل الفضة ومثل الأوراق النقدية ومثل السيارة ومثل الكتاب ومثل الثوب.. إلى آخره.

القسم الأول: أداء الدين لآدمي لم يحدد زمن الوفاء

قوله رحمه الله: (فأما الدين فلا يجب أداؤه بدون مطالبة المستحق إذا كان آدمياً, وهذا ما لم يكن قد عين له وقتاً للوفاء).

نقول: القسم الأول: أن يكون الحق المالي ديناً لآدمي ولم يحدد زمن الوفاء، فهذا لا يجب عليك أن تعطيه إياه بدون طلبه، مثال ذلك: كثمن المبيع، يعني: رجل باع عليك سيارة، والسيارة هذه لها ثمن، وهذا الثمن دين، يعني: لم يقل: بهذا الثمن أو بهذه الدراهم، بل قال: بعت عليك السيارة بعشرة آلاف، فهذه العشرة دين؛ فإذا طلب منك العشرة آلاف فتبادر بإعطائه إياها، أما إذا لم يطلبها وأخرتها فنقول: هذا لا بأس.

أعيد المثال: إذا كان الحق المالي ديناً لآدمي ولم يحدد زمن الوفاء فهذا لا يجب عليك أن تعطيه إياه ما لم يطلبه، فإذا باع عليك السيارة بعشرة آلاف والثمن دين وما قال: بهذه العشرة بعت عليك، وإنما بعشرة موصوفة في الذمة، فكونك تعطيه الدراهم مباشرة هذا أفضل، لكن لو أنك أخرت فهذا جائز، ولكن لو طلب منك الدين فما دام أنه ما حدد بزمن فإنك تبادر أن تعطيه.

أيضاً لو أقرضك دراهم فهذا دين لآدمي؛ فإذا طالبك بالقرض فأعطه إياه مع أنه لم يحدد بزمن، وإذا لم يطالبك فلا يجب عليك أن تبادر بإخراج القرض له.

فهذا القسم الأول: أن يكون الدين لآدمي ولم يحدد زمن الوفاء, فهذا نقول: بأنه لا يجب عليك أن تدفعه إليه إلا إذا طلبه، فإذا طلبه فيجب عليك أن تبادر؛ ولهذا قال المؤلف: (فأما الدين فلا يجب أداؤه بدون مطالبة المستحق إذا كان آدمياً).

القسم الثاني: أداء الدين لآدمي حدد زمن الوفاء

ثم قال المؤلف رحمه الله: (فأما إن عين وقتاً كيوم كذا فلا ينبغي أن يجوز تأخيره؛ لأنه لا فائدة للتوقيت إلا وجوب الأداء فيه بدون مطالبة، فإن تعيين الوفاء فيه أولاً كالمطالبة به).

القسم الثاني: أن يكون الدين لآدمي وقد حدد زمن الوفاء، فيقول المؤلف: (لا ينبغي أن يجوز تأخيره)؛ لأنه حدد زمن الوفاء, مثاله: ثمن المبيع, باع عليك السيارة والثمن مؤجل لمدة شهر، فهذا دين آدمي حدد زمن الوفاء، فيقول المؤلف: لا ينبغي أن تؤخر؛ لأن التحديد بمنزلة المطالبة, يعني كأنه الآن يطالبك، فمادام أننا ضربنا لثمن هذا المبيع شهراً فإذا تم الشهر فأحضر المبلغ، ويقول المؤلف: (لا ينبغي أن يجوز) يعني: أن يقال بجواز التأخير؛ لأننا كوننا حددنا الوقت هذا كأنه الآن يطالبك، وهذا خلاف القسم الأول؛ فالقسم الأول لم يحدد وقتاً فلا توجد مطالبة؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: يجوز لك أن تؤخر ما لم يطالب المستحق، وهذا هو القسم الثاني.

القسم الثالث: أداء الديون المتعلقة بالله عز وجل

قال المؤلف رحمه الله: [ وأما إن كان الدين لله عز وجل، فالمذهب أنه يجب أداؤه على الفور؛ لتوجه الأمر بأدائه من الله عز وجل, ودخل في ذلك الزكاة والكفارات والنذور ].

القسم الثالث: أن تكون الديون لله عز وجل، فإذا كانت الديون لله عز وجل من زكوات وكفارات ونذور، فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: يجب أداؤها على الفور، فإذا كان عليك كفارة يمين فيجب أن تبادر بإخراجها، أو حق مالي لله عز وجل فيجب أن تبادر بإخراجه، أو عليك كفارة ظهار فيجب أن تبادر بإخراجها، أو عليك زكاة أو عليك نذر فيجب أن تبادر بإخراج هذه الواجبات لله عز وجل، وهذا ينبني على قاعدة عند جمهور الأصوليين, وهي: إن الأصل في أوامر الشارع المطلقة المجردة عن القرائن أنها تقتضي الفورية. فنقول: يجب عليك أن تبادر، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أمر الصحابة رضي الله تعالى عنهم في الحديبية أن يحلقوا وأن ينحروا، فلما تأخروا غضب النبي صلى الله عليه وسلم؛ مما يدل على أن أوامر الشارع يجب أن تؤدى على الفور, واللغة تقتضي ذلك.

القسم الرابع: أداء الأمانات الحاصلة في يد المؤتمن برضا صاحبها

قال المؤلف رحمه الله: [ وأما العين فمنها: الأمانات التي حصلت في يد المؤتمن برضا صاحبها فلا يجب أداؤها إلا بعد المطالبة, ودخل في ذلك الوديعة وكذلك أموال الشركة والمضاربة والوكالة.. إلخ].

القسم الرابع: الأمانات التي وضعها صاحبها برضاه في يد المؤتمن أو في يد الأمين، وأيضاً لابد أن نفهم الأمانة؛ لأن هذه القواعد كلها سيتكلم فيها المؤلف رحمه الله عن الأمانة والأمين.

والأمانات: جمع أمانة، وضابط الأمانة هي: كل مال قبض بإذن الشارع أو بإذن المالك، يعني: كل مال قبض بإذن الشارع أو بإذن المالك فهو أمانة. ومعنى أنه أمانة أي أنه لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط.

والتعدي هو: فعل ما لا يجوز، والتفريط هو: ترك ما يجب، فكما مثل المؤلف رحمه الله: الوديعة أمانة قبضت بإذن المالك، أي: قبضها المودع بإذن المالك فهي أمانة، فإذا تلفت عند المودع لا يضمنها إلا بالتعدي أو التفريط، فالوديعة أمانة، ومال الشركة أمانة، والعين المستأجرة عند المستأجر أمانة, فإذا تلفت لا يضمنها إلا إذا تعدى أو فرط، والعارية الصحيح أنها أمانة فلا يضمنها المستعير إلا بالتعدي أو التفريط وعلى هذا فقس.

فالقسم الثالث: الأمانات التي حصلت في يد المؤتمن برضا صاحبها فلا يجب أداؤها، فعندك الآن الوديعة -أداؤها- لا يجب عليك أنك تردها على صاحبها، فإذا أودعك السيارة أو أودعك المال فلا يجب عليك أن ترده على صاحبه مادام أنه لم يطالبك.

كذلك مال المضاربة والعقد لا يزال باقياً، يعني: أنت أعطيت شخصاً مائة ألف يضارب فيها لمدة سنة أو سنتين.. إلى آخره والعقد لا يزال باقياً فلا يجب عليه أن يردها عليك، وأيضاً مال وعقد الشركة لا يزال باقياً فلا يجب أن يرده عليك، وكذلك أيضاً الوكالة، فوكلت هذا الشخص ببيع السيارة وأعطيته السيارة، وحتى الآن لا زال عقد الوكالة باقياً ولم تفسخه، فنقول: لا يجب عليه أن يرد عليك المال، فهو أمين وأنت أعطيته دراهم يشتري بها سيارة أو يشتري أرضاً، فمادام أنه وكيل ولم يفسخ فلا يجب عليه أن يرد، فيقول المؤلف: حكم هذه الأمانات التي بيد الأمين برضا صاحبها لا يجب على الأمين أن يردها إلا بعد المطالبة من المالك. وعلى هذا لو تلفت عند الأمين يضمن أو لا يضمن؟ الجواب: لا يضمن، فلا نقول: إنه يجب عليك أن تردها، بل نقول: لا يجب عليك أن تردها، فلو قلنا: يجب أن يردها وتلفت عنده ضمن، لكن هنا نقول: بأنه لا يجب عليك أن تردها وحينئذ لا ضمان عليه، فنقول: بأنه لا يضمن في هذه الحالة، فمثلاً: لو أعطيته عشرة آلاف؛ لكي يشتري سيارة ثم بعد ذلك لم يحفظ هذه العشرة في حرزها وسرقت منه، هل يضمن أو لا يضمن؟ نقول: لا يضمن؛ لأننا لم نقل: يجب عليه أنه يردها الآن، فمادام أنه وكيل فهو الآن أمين، فلا يجب عليه ردها والعقد لم يفسخ، فلو فسخ المالك الوكالة وقال: رد الدرهم فلم يردها فنقول: بأنه يضمن في هذه الحالة، وهذا هو القسم الرابع.

القسم الخامس: أداء الأمانات الحاصلة في يد المؤتمن بغير رضا أصحابها

قال المؤلف رحمه الله: [ ومنها: الأمانات الحاصلة في يد غيره بغير رضا أصحابها, فتجب المبادرة إلى ردها مع العلم بمستحقها.. إلخ ].

القسم الخامس: الأمانة التي حصلت في يد الأمين بغير رضا صاحبها، فتقدم لنا في القسم الرابع أن الأمانات برضا صاحبها, أما هنا سنذكر الأمانات التي حصلت في يد الأمين بغير رضا صاحبها، فما حكم هذا؟

يقول المؤلف رحمه الله تعالى: يجب عليه أن يبادر بردها، ولا يجوز التأخير مع القدرة، ويدخل في ذلك اللقطة وقلنا: اللقطة: هي المال الذي أذن الشارع في أخذه، فالمالك لم يأذن لك أنك تلتقط، لكن الشارع أذن لك أنك تلتقط.

وقول المؤلف رحمه الله: (بغير رضا أصحابها) هذا فيه شيء؛ لأن صاحبها وإن كان لم يأذن لفظاً لكنه أذن عرفاً بالالتقاط؛ لأنه يريد أن تحفظ لقطته.

المهم على حسب تقسيم المؤلف رحمه الله أن القسم الخامس: الأمانات التي حصلت في يد المؤتمن أو يد الأمين بغير رضا صاحبها فهذه يجب عليك أن تبادر في ردها، ومن الأمثلة على ذلك اللقطة إذا علم صاحبها؛ فإذا علم صاحبها فإنه يجب عليه أن يبادر بردها، يعني: وجد لقطة ويعلم صاحبها فيجب عليه أن يبادر بردها، فإذا تأخر في الرد نقول: بأنه يضمن لو تلفت، إلا إذا تأخر في رد شيء يتسامح فيه عرفاً، لكن الأصل أنه يجب عليه أن يبادر بردها، فلو وجد كتاباً له قيمة وتأخر في رده حتى تلف الكتاب فنقول: يضمنه، وإلا يجب عليه أن يرده.

وأيضاً قال: [والوديعة والمضاربة والرهن ونحوها إذا مات المؤتمن وانتقلت إلى وارثه].

أيضاً مما يدخل تحت هذا القسم الوديعة، مثلاً: زيد أودع عند عمرو, ثم المودع مات وانتقلت الوديعة إلى الورثة, فيجب على المودع أن يرد الوديعة إلى الورثة؛ لأنه بالموت انتهى عقد الوديعة، والذي أودعك قد مات فانتفت عنه الأهلية، فيجب عليك أنك تبادر أن ترد الوديعة إلى أهلها، فلو تأخرت وتلفت فإنك تضمن.

ومثله أيضاً المضاربة، فيقول المؤلف رحمه الله: (المضاربة) يعني: مال المضاربة إذا مات المضارب، مثلاً: أعطى المالك زيداً مالاً لكي يضارب ثم بعد ذلك مات المالك وانتقل المال للورثة، فيجب على المضارب أن يرد المال للورثة؛ لأن عقد المضاربة انتهى بالموت.

ومثله أيضاً الرهن، فالمرتهن إذا كان عنده رهن فإنه يجب أن يرده، إذا أخذ من زيد رهناً مقابل أرض فيجب أن يرده, فيطالب بسداد الدين وأن يرد الرهن، فلو تأخر في ذلك فإنه يضمن.

قال رحمه الله: [ فإنه لا يجوز له الإمساك بدون إذن؛ لأن الملك لم يرض به، وكذا من أطارت الريح ثوباً إلى داره لغيره لا يجوز له الإمساك مع العلم بصاحبه ].

يعني: الريح أطارت ثوباً وأنت تعلم صاحب هذا الثوب فيجب عليك أنك تبادر برده إليه.

والخلاصة في القسم الخامس: أن الأمانات التي حصلت في يد الأمين بغير رضا صاحبها فيجب المبادرة بردها وإخراجها إلى أصحابها، فلو تأخر يضمن أو لا يضمن؟ نقول: بأنه يضمن, ودخل في ذلك اللقطة لمن يعلم صاحبها، ومن أطارت الريح ثوباً إلى بيته وهو يعلم صاحبه، وأما الرهن والمضاربة والوديعة إذا مات المودع أو مات المضارب أو مات الراهن فيجب أن ترد هذه الأموال إلى الورثة؛ لأن الورثة ما ائتمنوك وما رضوا ببقاء هذا المال تحت يدك, فيجب رده، وهذا القسم الخامس.

القسم السادس: ما يلزم المؤتمن عند فسخ المالك عقد الأمانة

قال المؤلف رحمه الله: [ وكذا حكم الأمانات إذا فسخها المالك كالوديعة والوكالة والشركة والمضاربة، يجب الرد على الفور ].

القسم السادس: إذا فسخ المالك عقد الأمانة فإنه يجب على المؤتمن أو الأمين أن يبادر بالرد، فإن تأخر في الرد حتى تلف فإنه يضمن، مثال ذلك: الوكيل، فالوكيل أمين؛ لأنه قبض المال بإذن صاحبه، مثلاً: أعطيته عشرة آلاف لكي يشتري سيارة، ثم اتصلت عليه وقلت: أنا استخرت الله, فأنا لا أريد سيارة، فيجب عليه أن يرد العشرة آلاف، فإذا لم يردها وبقيت عنده يوماً أو يومين حتى سرقت, فهل يضمن أو لا يضمن؟ نقول: يضمن؛ لأنه تعدى, فكان من الواجب عليه أن يرد الدراهم مباشرة، إلا عند الأشياء التي يتسامح فيها الناس عرفاً.

أيضاً إذا فسخ المالك عقد المضاربة؛ لأن عقد المضاربة عقد جائز، فإذا فسخه المالك نقول: المضارب العامل يجب عليه أن يرد المال، فلو تأخر ولم يرد المال نقول: بأنه يضمن إذا تلف.

ومثله أيضاً الوديعة، فلو قال: أودعك عشرة آلاف ريال، ثم قال: أعطني العشرة آلاف، يعني: أريد الدراهم، فتأخر المودع في الرد حتى تلفت فإنه يضمن.

القسم السابع: أداء الأعيان المملوكة بعقد قبل تقبيضها

قال المؤلف رحمه الله: [ وأما الأعيان المملوكة بالعقود قبل تقبيضها فالأظهر أنها من هذا القبيل؛ لأن المالك لم يرض بإبقائها في يد الآخر، فيجب التمكين من الأخذ ابتداء؛ بدليل أنه لا يجوز عندنا حبس المبيع على الثمن ].

القسم السابع: العين المملوكة بالعقد يجب عليك أن تبادر بإقباضها إلى من انتقلت إليه، مثال ذلك: رجل اشترى سيارة, فعندما اشترى السيارة بالعقد ملكها أو لم يملكها؟ ملكها، فيجب على البائع أن يسلمه السيارة وأن يبادر, إلا ما يستثنى وسيأتينا إن شاء الله، لكن في الجملة نقول: الأصل أن البائع يجب عليه أن يبادر بتسليمه السيارة، فإذا حبس السيارة فهل يجوز أو لا يجوز؟ لا يجوز، والعلماء يقولون: حكمه حكم الغاصب، ولا يجوز له ذلك، وعلى هذا لو تلفت هذه السيارة تكون من ضمان من؟ تكون من ضمان البائع، وحكمه حكم الغاصب بحيث أنه يضمن العين ويضمن المنفعة أيضاً.

وقول المؤلف رحمه الله: (بدليل أنه لا يجوز عندنا حبس المبيع على الثمن).

يعني: في هذه المسألة هل يجوز حبس المبيع على الثمن؟ يعني يقول لك: أنا لن أسلمك السيارة حتى تسلم الثمن، فأنت أعطني ثم أعطيك، فيقول المؤلف رحمه الله: لا يجوز هذا، فقول المشتري: أعطني, هذا هو الأصل، فالأصل أن البائع يبدأ أولاً بالتسليم ثم المشتري، فإذا قال البائع: أنا لن أسلم, فأنت سلم أولاً ثم أسلمك، وعرف الناس أن الذي يبدأ بالتسليم أولاً هو البائع؛ ولذلك الفقهاء يقولون: لا يجوز أن تحبس المبيع على ثمنه، يعني: تقول: أنا لن أسلمك هذه السيارة حتى تسلم أنت؛ لأن الأصل أن البائع يسلم أولاً، والصحيح في ذلك أنه يجوز إذا خشي أنه لن يسلم، يعني إذا خشي أنه لن يسلمه الدراهم يجوز أنه يحبس، وهذا الكلام سيأتينا إن شاء الله.

فالخلاصة في القسم السابع: أن العين المملوكة في العقد يجب المبادرة بتسليمها، سواء كان ذلك في عقود المعاوضات كالبيع، أو في عقود النكاح, يعني: إذا عقدت على امرأة فلك أن تتسلم هذه المرأة، فإذا كانت هذه المرأة ممن يوطأ مثلها وطلب الزوج أن تسلم فيجب على وليها أن يسلمها ولا يجوز له أن يؤخر، إلا إذا كان هناك عرف, فالمهم أن الأصل يجب أن تسلم، فيجب أن يخرجها إلى زوجها.

القسم الثامن: أداء الأعيان المضمونة

القسم الثامن والأخير قال المؤلف رحمه الله: [ الأعيان المضمونة، فتجب المبادرة إلى الرد بكل حال, وسواء كان حصولها بيده بفعل مباح أو محظور أو بغير فعله ].

لما تكلم المؤلف رحمه الله عن الأمانات وكيف ترد ومتى يجب أن ترد ومتى يجب ألا ترد, تكلم الآن عن الأموال المضمونة، يعني: التي دخلت على الشخص على سبيل الضمان، فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: يجب ردها إلى أصحابها.

والمال المضمون هو: الذي قبض بغير إذن, أو بالإذن ودخل القابض على أنه ضامن.

من أمثلة المؤلف رحمه الله للمال المضمون قال: [ كالعواري ].

العارية هذه مضمونة، والعارية على المشهور من المذهب أنها ليست أمانة وإنما هي مضمونة، والصواب أن العارية أمانة وأن حكمها حكم الأمانة؛ لأن المستعير قبضها بإذن المالك، وعلى كل حال هم يقولون: بأنها مضمونة, بمعنى: لو أنها تلفت عند المستعير فإنه يضمن مطلقاً سواء تعدى أو لم يتعد، وفرط أو لم يفرط, فيرون أنها مضمونة. والصواب أن حكمها حكم الوديعة كسائر الأمانات.

قال: [كالعواري يجب ردها إذا استوفى منها الغرض المستعار له, قاله الأصحاب، وكذا حكم المقبوض على وجه السوم ].

أيضاً المقبوض على وجه السوم يجب أن يرده؛ لأن حكم المقبوض في وجه السوم على المذهب له ثلاث صور:

الصورة الأولى: أن يقبض السلعة بعد قطع الثمن، مثلاً: أخذ الثوب وقال: سأريه أهلي, ثم قال: بكم؟ قال: بعشرة, قال: بل بتسعة, واتفقا على تسعة وقطعا الثمن، قال: لكن سأريه الأهل, فهذا يرون أنه مضمون بعد قطع الثمن.

الصورة الثانية: أن يأخذه على وجه السوم دون قطع الثمن، يعني: اختلفا, فهذا يقول: بتسعة، وهذا يقول: بعشرة, ولم يقطع الثمن, فهذا يرون أنه مضمون.

الصورة الثالثة: أن يأخذه دون المفاصلة في الثمن، فهذا يقولون: حكمه حكم الأمانة.

فعندنا في الصورتين الأوليين اللتين في حكم المال المضمون ماذا يجب هنا؟ يجب عليه أن يبادر برده، فالعواري يجب عليه أن يبادر بردها إذا استوفى الغرض منها، والمقبوض بسوم على وجه السوم سواء قطع الثمن أو لم يقطع الثمن مادام أنه ساومه فهذا مضمون، وإذا انتهى من الغرض وأراه أهله فيجب أن يرده، فإن أخره لمدة يوم أو يومين ثم تلف، هل يضمن أو لا يضمن؟ نقول: بأنه يضمن.

أيضاً قال المؤلف: [ ويستثنى من ذلك المبيع المضمون على بائعه، فلا يجب عليه سوى تمييزه وتمكين المشتري من قبضه؛ لأن نقله على المشتري دون البائع ].

المضمون أو السلعة متى تكون من ضمان البائع ومتى تكون من ضمان المشتري؟

يقولون: في ست صور السلعة تكون من ضمان البائع، وما عدا ذلك تكون من ضمان المشتري، والصور التي تكون فيها السلعة من ضمان البائع هي: ما بيع بكيل، وما بيع بوزن، وما بيع بعدٍّ، وما بيع بذرع، وما بيع بوصف، وما بيع برؤية متقدمة، ففي هذه الصور الست تكون السلعة من ضمان البائع.

أما ما بيع بجزاف، يعني: لم يبع بتقدير، مثلاً: بيعت السيارات جميعاً أو المواشي جميعاً أو الأطعمة جميعاً أو الأقمشة بدون تقدير، فهذا يكون من ضمان المشتري، أو إذا بيع برؤية حاضرة مقارنة فتشاهد السيارة وتشاهد الكتاب فهذا من ضمان المشتري، ففي الصور الست السابقة يقولون: من ضمان البائع، ومثله أيضاً الثمرة على الشجر فهي من ضمان البائع.

فإذا كان من ضمان البائع فما الذي يلزمه؟ قال المؤلف رحمه الله: (المبيع المضمون على بائعه)، ما هو المبيع المضمون على بائعه؟ كما قلنا: ما بيع بكيل أو بوزن أو بعد أو بذرع أو بوصف أو برؤية متقدمة، فيقول المؤلف: (فلا يجب عليه سوى تمييزه وتمكين المشتري من قبضه). ونقول: لا يجب على البائع أن يكيل المكيل مادام أنه بيع بكيل، يعني: كل صاع بريال، أو بوزن: كل كيلو بريال، أو بذرع: كل متر بريال .. أو بعد: كل حبة بريال .. بوصف .. برؤية سابقة.

ويجب على البائع أيضاً أن يمكن المشتري من قبضه؛ لأن النقل يكون على المشتري, فنقول: يمكن المشتري من قبضه, أما كونه يخرجه له وينقله له في محله فنقول: هذا لا يجب عليه.

قال: [ والثاني: كالمغصوب والمقبوض بعقد فاسد ].

المؤلف رحمه الله في القسم الثامن قسم الأعيان المضمونة إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: حصلت بيد الضامن بفعل مباح, مثل العواري ومثل المقبوض على وجه السوم.

القسم الثاني: حصلت بفعل محظور، مثل المغصوب، والمغصوب يجب أن يرده مباشرة.

ومثل المقبوض بعقد فاسد أيضاً فيقولون: المقبوض بعقد فاسد حكمه حكم المغصوب، فيجب عليك أن تبادر برده، مثلاً: اشتريت سيارة بثمن مجهول، فالمشتري قبض السيارة بعقد فاسد فيجب عليه أن يبادر بردها إلى البائع, فهذا فعل محظور؛ لأن المقبوض بعقد فاسد على المذهب يقولون: بأن حكمه حكم المغصوب، فيجب عليك أن ترده.

القسم الثالث: قال رحمه الله فيما حصل بغير فعله: [والثالث: كالزكاة، إذا قلنا: تجب في العين]، والمذهب أنها تجب في العين [فتجب المبادرة إلى الدفع إلى المستحق مع القدرة عليه من غير ضرر؛ لأنها من قبيل المضمونات عندنا، وكذلك الصيد إذا أحرم وهو في يده، أو حصل في يده بعد الإحرام بغير فعل منه].

الزكاة تقدم الكلام عليها في القسم الثالث: أن تكون الديون لله عز وجل، وأنه يجب عليه أن يبادر بإخراج الزكوات، لكن هنا قال: إذا أحرم الشخص وفي يده صيد، مثلاً: في يده غزالة أو في يده حمامة ثم أحرم وقال: لبيك عمرة لبيك! لبيك اللهم لبيك! فيجب عليه أنه يرسل هذا الصيد ولا يجوز له أن يبقيه معه، وهم يفرقون بين اليد المشاهدة واليد الحكمية, يعني: اليد المشاهدة أن يكون الصيد معك أثناء الإحرام فهذا يجب عليك أن تطلقه، واليد الحكمية أن يكون الصيد عندك في البيت أو في رحلك، فهذا يقولون: لا يجب عليك أن تطلقه.

فهنا يقولون: الصيد هذا مضمون عليك، يعني مادام أنك أحرمت فهو مضمون عليك, فيجب عليك أن ترسله أو تطلقه أو تخرجه.

قوله رحمه الله: (أو حصل في يده بعد الإحرام بغير فعل منه), كالميراث بغير بفعل منه، مثلاً أحرم ثم مات قريبه، وقريبه يملك غزالة أو يملك حماماً, فهو ورث هذا الحمام فيجب عليه أن يطلقه؛ لكن كما ذكرنا أنهم يفرقون بين اليد المشاهدة واليد الحكمية، فالذي في اليد المشاهدة هو الذي يجب عليه أن يطلقه، أما الذي في اليد الحكمية فإنه لا يجب عليه أن يطلقه.

والصواب في هذا: أنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً, يعني: الشارع نهى المحرم أن يصيد, فهنا الآن لم يصد المحرم، لكن على كلام المؤلف رحمه الله أنه هنا يجب عليه أن يخرج هذه الأموال.

فتلخص لنا: أن إخراج الحقوق المالية من ديون أو أعيان ينقسم إلى هذه الأقسام الثمانية، ذكرنا أنه يجب على الإنسان أن يبادر بإخراج هذه الأموال, وذكرنا متى يجوز له أن يتأخر إلى المطالبة.

قوله رحمه الله: (فأما الدين فلا يجب أداؤه بدون مطالبة المستحق إذا كان آدمياً, وهذا ما لم يكن قد عين له وقتاً للوفاء).

نقول: القسم الأول: أن يكون الحق المالي ديناً لآدمي ولم يحدد زمن الوفاء، فهذا لا يجب عليك أن تعطيه إياه بدون طلبه، مثال ذلك: كثمن المبيع، يعني: رجل باع عليك سيارة، والسيارة هذه لها ثمن، وهذا الثمن دين، يعني: لم يقل: بهذا الثمن أو بهذه الدراهم، بل قال: بعت عليك السيارة بعشرة آلاف، فهذه العشرة دين؛ فإذا طلب منك العشرة آلاف فتبادر بإعطائه إياها، أما إذا لم يطلبها وأخرتها فنقول: هذا لا بأس.

أعيد المثال: إذا كان الحق المالي ديناً لآدمي ولم يحدد زمن الوفاء فهذا لا يجب عليك أن تعطيه إياه ما لم يطلبه، فإذا باع عليك السيارة بعشرة آلاف والثمن دين وما قال: بهذه العشرة بعت عليك، وإنما بعشرة موصوفة في الذمة، فكونك تعطيه الدراهم مباشرة هذا أفضل، لكن لو أنك أخرت فهذا جائز، ولكن لو طلب منك الدين فما دام أنه ما حدد بزمن فإنك تبادر أن تعطيه.

أيضاً لو أقرضك دراهم فهذا دين لآدمي؛ فإذا طالبك بالقرض فأعطه إياه مع أنه لم يحدد بزمن، وإذا لم يطالبك فلا يجب عليك أن تبادر بإخراج القرض له.

فهذا القسم الأول: أن يكون الدين لآدمي ولم يحدد زمن الوفاء, فهذا نقول: بأنه لا يجب عليك أن تدفعه إليه إلا إذا طلبه، فإذا طلبه فيجب عليك أن تبادر؛ ولهذا قال المؤلف: (فأما الدين فلا يجب أداؤه بدون مطالبة المستحق إذا كان آدمياً).




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [13] 2631 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [1] 2267 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [15] 2090 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [7] 2081 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [19] 2049 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [12] 2007 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [14] 1930 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [11] 1906 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [17] 1872 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [18] 1856 استماع