شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [1]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقوى والعفاف والغنى، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وعملاً صالحاً متقبلاً، ولساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً.

أيها الأحبة! الكتاب الذي بين أيدينا اسمه: (تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد وأصول ابن رجب )، وهذا الكتاب يعتبر من مختصرات قواعد ابن رجب رحمه الله تعالى، وهذا الكتاب الذي اختصره وجرد قواعد ابن رجب فيه هو فضيلة العلَّامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، المولود سنة سبع وثلاثمائة وألف للهجرة بمحافظة عنيزة في منطقة القصيم، والمتوفى سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، والشيخ عبد الرحمن رحمه الله جرد قواعد ابن رجب ولخصها في هذا المختصر الذي بين أيدينا سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، قبل أن يتوفى بما يقرب من واحد وأربعين عاماً.

والذي يقرأ في مؤلفات الشيخ رحمه الله تعالى يجد السهولة واليسر، سواء كانت في العقيدة، أو كانت في الفقه، أو في أصول الفقه، ويجد أن معانيها واضحة، وأن ألفاظها وعباراتها سهلة في متناول الجميع، حتى في متناول الطالب المبتدئ، وهذا المنهج هو الذي سار عليه الشيخ رحمه الله، فإذا قرأت في حياة الشيخ رحمه الله تعالى، وقرأت في ترجمته تجد اليسر والسهولة في حياته. هذا المنهج أثر في الشيخ رحمه الله فعمد إلى اختصار قواعد ابن رجب رحمه الله؛ لأنها قد لا تتهيأ لطالب العلم المبتدئ، ولا يتمكن من القراءة فيها.

والذي يقرأ في قواعد ابن رجب رحمه الله تعالى يجد أنه أمام عالم كبير عاصر الفقه وألم بفروعه.

وقواعد ابن رجب رحمه الله تعالى تسمى: قواعد، أو أشبه ما تكون في كثير منها بضوابط للفقه الحنبلي، فتجد أنه رحمه الله تعالى يذكر ضابطاً أو قاعدةً -إذا تساهلنا بالعبارة- ويفرع عليها تفريعات كثيرة من أول الفقه إلى آخره، مع أن الفروع مختلفة ومتنوعة، مما يدل على أن ابن رجب رحمه الله تعالى فقيه كبير، وأنه ألم بجملة فروع مذهب الحنابلة رحمهم الله تعالى؛ ولهذا ذكر ابن رجب رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه القواعد أن هذه القواعد تضبط أصول المذهب الحنبلي، والحقيقة أن هذه ضوابط وقواعد تضبط فروع الحنابلة رحمهم الله تعالى.

منهجية السعدي في مختصره لقواعد ابن رجب

الشيخ عبد الرحمن لخص قواعد ابن رجب في هذا الكتاب الذي بين أيدينا، واسمه: (تحفة أهل الطلب)، وطريقة تلخيص الشيخ عبد الرحمن : أولاً: أنه يعمد إلى رأس القاعدة، وأحياناً يذكر شيئاً من التفاريع التي ذكرها ابن رجب رحمه الله تعالى تحت هذه القاعدة، وتارةً يجمل ذلك ويقول: ويندرج تحت هذه القاعدة مسائل أو صور. فهو يقوم باقتباس القاعدة التي ذكرها ابن رجب رحمه الله تعالى.

ثانياً: أحياناً يذكر شيئاً من التفاريع تحت هذه القاعدة، وأحياناً لا يذكر شيئاً من ذلك، وإنما يجمل؛ ولعل الإجمال هذا راجع إلى أن هذه التفاريع قد تكون متصورة في ذهن القارئ.

ثالثاً: ابن رجب رحمه الله أحياناً يذكر تقسيمات وأنواعاً تحت القاعدة التي يذكرها، فالشيخ عبد الرحمن رحمه الله لا يقوم بذكر هذه التقسيمات والأنواع، وهذا من منهج الشيخ عبد الرحمن رحمه الله، وله رسالة اسمها: الفروق والتقاسيم النافعة، ذكر فيها الفروق بين المتشابهات الفقهية، وذكر فيها أيضاً تقاسيم المسائل. فطريقة الشيخ عبد الرحمن أنه يعمد إلى رأس قاعدة فيقوم بذكر هذه القاعدة، وقد يذكر عليها أمثلةً، وقد لا يذكر أمثلةً مما فرعه ابن رجب رحمه الله تعالى على هذه القاعدة.

كذلك أيضاً مما يتعلق بتقسيمات القواعد، وما ذكره الحافظ ابن رجب رحمه الله تحت هذه القاعدة من أنواع، يقوم الشيخ رحمه الله بتلخيص هذه الأنواع، فالذي يقرأ ما كتبه الشيخ عبد الرحمن يجد أن الشيخ في الغالب ألم بجملة هذه القواعد.

وابن رجب رحمه الله بنى كتابه على ستين ومائة قاعدة، وذكر في آخر كتابه فوائد، وهذه الفوائد كالقواعد أيضاً، لكنها مسائل مشهورة حصل فيها النزاع في المذهب الحنبلي، وهي ما يقرب من واحد وعشرين فائدة، وهذه القواعد كلها لخصها الشيخ عبد الرحمن رحمه الله ولم يغفل شيئاً منها.

مختصرات قواعد ابن رجب

هذا الكتاب الذي بين أيدينا هو اختصار لقواعد ابن رجب ، وقواعد ابن رجب رحمه الله سبق وأن اختصر، فقد سبق الشيخ عبد الرحمن في اختصار قواعد ابن رجب ، وهناك عدة مختصرات، ومن المختصرات لقواعد ابن رجب : مختصر الشيخ عبد الرزاق الحنبلي المتوفى سنة تسع عشرة وثمانمائة للهجرة، ومختصر للشيخ يوسف بن عبد الرحمن الحنبلي المتوفى سنة تسعمائة للهجرة، ومختصر ابن نصر الله رحمه الله تعالى المتوفى سنة ثمانمائة وأربع وأربعين للهجرة، ومختصر الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله، وهذا الكتاب.

ومن المختصرات -إن سميناه مختصراً- مختصر شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى، والشيخ رحمه الله عمد إلى عمل شيء كالفهرس لقواعد ابن رجب رحمه الله تعالى، أي أن دراسة مثل هذا الكتاب مهم جداً للفقيه.

فوائد دراسة القواعد الفقهية

وعموماً دراسة كتب القواعد مهمة جداً؛ لأن القواعد تجمع الفروع المتناثرة تحت قاعدة واحدة.

ومن فوائدها: أنها تسهل معرفة هذه الفروع، إذا ضبطت القاعدة عرفت ما يندرج تحتها من فروع، وإن لم تقم بحفظ هذه الفروع.

ومن فوائدها: أنها تقرب العلم وتسهله، وأيضاً بحفظك لهذه القاعدة وضبطك لها تكون قد ضبطت وحفظت فروعاً كثيرة من فروع الفقه.

وأما دراسة مثل هذه القواعد المتخصصة فهي -كما ذكر ابن رجب رحمه الله في مقدمة كتابه- تضبط أصول المذهب عند الحنابلة، وهذا سيتضح إن شاء الله من خلال دراسة مثل هذه القواعد.

الفرق بين الضوابط والقواعد

ما كتبه ابن رجب رحمه الله تعالى أقرب إلى الضوابط منه إلى القواعد، هذا من حيث الاصطلاح؛ لأن العلماء رحمهم الله حينما يتكلمون عن القاعدة والفرق بينها وبين الضابط يذكرون فرقين:

الفرق الأول: أن القاعدة تكون كلية في الجملة، بخلاف الضابط، فالضابط قد يكون في باب، وقد يكون في بابين، لكن القاعدة تكون في سائر أبواب الفقه في الجملة، فمثلاً: قاعدة الأمور بمقاصدها، تجدها في العبادات وفي المعاملات، والأنكحة، والحدود والقصاص، لكن قولهم: كل شيء صح بيعه صح رهنه، فهذا ضابط، وقولهم: كل شيء صح بيعه صح قرضه، هذا ضابط، وأيضاً قولهم: من لا فرقة بيده لا أثر لنيته في نكاح التحليل، هذا ضابط.

الفرق الثاني: أن القاعدة متفق عليها عند سائر الفقهاء في الجملة، لكن الضابط لا يتفق عليه الفقهاء رحمهم الله، بل قد يختلف فيه فقهاء المذهب الواحد، فمثلاً: نجد عند الحنفية أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى له ضوابط، وصاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله لهم ضوابط أخرى؛ ولهذا ذكرت بأن هذه القواعد التي ذكرها ابن رجب رحمه الله في أغلبها أشبه ما تكون بالضوابط التي تضبط فروع مذهب الحنابلة رحمهم الله تعالى، لكن إن سميناها بالقواعد فهذا من باب التساهل في العبارة.

ونحن هنا إن شاء الله سوف نشرح ستين قاعدة أو ثمانين قاعدة، سنجعل شرح الكتاب على مرحلتين؛ لأن هذه القواعد تحتاج إلى شيء من التأني في الشرح وضرب كثير من الأمثلة؛ لأنها قد تعسر على بعض من كان مبتدئاً في طلب العلم، أو لم يكن عنده إلمام كثير بفروع الفقه.

الشيخ عبد الرحمن لخص قواعد ابن رجب في هذا الكتاب الذي بين أيدينا، واسمه: (تحفة أهل الطلب)، وطريقة تلخيص الشيخ عبد الرحمن : أولاً: أنه يعمد إلى رأس القاعدة، وأحياناً يذكر شيئاً من التفاريع التي ذكرها ابن رجب رحمه الله تعالى تحت هذه القاعدة، وتارةً يجمل ذلك ويقول: ويندرج تحت هذه القاعدة مسائل أو صور. فهو يقوم باقتباس القاعدة التي ذكرها ابن رجب رحمه الله تعالى.

ثانياً: أحياناً يذكر شيئاً من التفاريع تحت هذه القاعدة، وأحياناً لا يذكر شيئاً من ذلك، وإنما يجمل؛ ولعل الإجمال هذا راجع إلى أن هذه التفاريع قد تكون متصورة في ذهن القارئ.

ثالثاً: ابن رجب رحمه الله أحياناً يذكر تقسيمات وأنواعاً تحت القاعدة التي يذكرها، فالشيخ عبد الرحمن رحمه الله لا يقوم بذكر هذه التقسيمات والأنواع، وهذا من منهج الشيخ عبد الرحمن رحمه الله، وله رسالة اسمها: الفروق والتقاسيم النافعة، ذكر فيها الفروق بين المتشابهات الفقهية، وذكر فيها أيضاً تقاسيم المسائل. فطريقة الشيخ عبد الرحمن أنه يعمد إلى رأس قاعدة فيقوم بذكر هذه القاعدة، وقد يذكر عليها أمثلةً، وقد لا يذكر أمثلةً مما فرعه ابن رجب رحمه الله تعالى على هذه القاعدة.

كذلك أيضاً مما يتعلق بتقسيمات القواعد، وما ذكره الحافظ ابن رجب رحمه الله تحت هذه القاعدة من أنواع، يقوم الشيخ رحمه الله بتلخيص هذه الأنواع، فالذي يقرأ ما كتبه الشيخ عبد الرحمن يجد أن الشيخ في الغالب ألم بجملة هذه القواعد.

وابن رجب رحمه الله بنى كتابه على ستين ومائة قاعدة، وذكر في آخر كتابه فوائد، وهذه الفوائد كالقواعد أيضاً، لكنها مسائل مشهورة حصل فيها النزاع في المذهب الحنبلي، وهي ما يقرب من واحد وعشرين فائدة، وهذه القواعد كلها لخصها الشيخ عبد الرحمن رحمه الله ولم يغفل شيئاً منها.

هذا الكتاب الذي بين أيدينا هو اختصار لقواعد ابن رجب ، وقواعد ابن رجب رحمه الله سبق وأن اختصر، فقد سبق الشيخ عبد الرحمن في اختصار قواعد ابن رجب ، وهناك عدة مختصرات، ومن المختصرات لقواعد ابن رجب : مختصر الشيخ عبد الرزاق الحنبلي المتوفى سنة تسع عشرة وثمانمائة للهجرة، ومختصر للشيخ يوسف بن عبد الرحمن الحنبلي المتوفى سنة تسعمائة للهجرة، ومختصر ابن نصر الله رحمه الله تعالى المتوفى سنة ثمانمائة وأربع وأربعين للهجرة، ومختصر الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله، وهذا الكتاب.

ومن المختصرات -إن سميناه مختصراً- مختصر شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى، والشيخ رحمه الله عمد إلى عمل شيء كالفهرس لقواعد ابن رجب رحمه الله تعالى، أي أن دراسة مثل هذا الكتاب مهم جداً للفقيه.

وعموماً دراسة كتب القواعد مهمة جداً؛ لأن القواعد تجمع الفروع المتناثرة تحت قاعدة واحدة.

ومن فوائدها: أنها تسهل معرفة هذه الفروع، إذا ضبطت القاعدة عرفت ما يندرج تحتها من فروع، وإن لم تقم بحفظ هذه الفروع.

ومن فوائدها: أنها تقرب العلم وتسهله، وأيضاً بحفظك لهذه القاعدة وضبطك لها تكون قد ضبطت وحفظت فروعاً كثيرة من فروع الفقه.

وأما دراسة مثل هذه القواعد المتخصصة فهي -كما ذكر ابن رجب رحمه الله في مقدمة كتابه- تضبط أصول المذهب عند الحنابلة، وهذا سيتضح إن شاء الله من خلال دراسة مثل هذه القواعد.

ما كتبه ابن رجب رحمه الله تعالى أقرب إلى الضوابط منه إلى القواعد، هذا من حيث الاصطلاح؛ لأن العلماء رحمهم الله حينما يتكلمون عن القاعدة والفرق بينها وبين الضابط يذكرون فرقين:

الفرق الأول: أن القاعدة تكون كلية في الجملة، بخلاف الضابط، فالضابط قد يكون في باب، وقد يكون في بابين، لكن القاعدة تكون في سائر أبواب الفقه في الجملة، فمثلاً: قاعدة الأمور بمقاصدها، تجدها في العبادات وفي المعاملات، والأنكحة، والحدود والقصاص، لكن قولهم: كل شيء صح بيعه صح رهنه، فهذا ضابط، وقولهم: كل شيء صح بيعه صح قرضه، هذا ضابط، وأيضاً قولهم: من لا فرقة بيده لا أثر لنيته في نكاح التحليل، هذا ضابط.

الفرق الثاني: أن القاعدة متفق عليها عند سائر الفقهاء في الجملة، لكن الضابط لا يتفق عليه الفقهاء رحمهم الله، بل قد يختلف فيه فقهاء المذهب الواحد، فمثلاً: نجد عند الحنفية أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى له ضوابط، وصاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله لهم ضوابط أخرى؛ ولهذا ذكرت بأن هذه القواعد التي ذكرها ابن رجب رحمه الله في أغلبها أشبه ما تكون بالضوابط التي تضبط فروع مذهب الحنابلة رحمهم الله تعالى، لكن إن سميناها بالقواعد فهذا من باب التساهل في العبارة.

ونحن هنا إن شاء الله سوف نشرح ستين قاعدة أو ثمانين قاعدة، سنجعل شرح الكتاب على مرحلتين؛ لأن هذه القواعد تحتاج إلى شيء من التأني في الشرح وضرب كثير من الأمثلة؛ لأنها قد تعسر على بعض من كان مبتدئاً في طلب العلم، أو لم يكن عنده إلمام كثير بفروع الفقه.

قول المؤلف رحمه الله: القاعدة الأولى: [الماء الجاري هل هو كالراكد أو كل جرية منه لها حكم الماء المنفرد؟ فيه خلاف في المذهب، ينبني عليه مسائل].

الماء الجاري: هو الذي يمر بالشيء ويتجاوزه كالأنهار والسواقي وغير ذلك، والراكد: هو الماء المستقر.

والفقهاء رحمهم الله تعالى يقسمون الماء لعدة اعتبارات، فمن حيث الركود والجري يقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ماء راكد.

والقسم الثاني: ماء جارٍ.

وهذا التقسيم له ارتباط بمسألة أخرى، وهو تقسيم الماء إلى قسمين: ماء كثير، وماء قليل، والقليل ما كان دون القلتين، والكثير ما كان قلتين فأكثر، والماء الراكد إن كان قليلاً ينجس بمجرد الملاقاة، فلو غمس فيه نائم نوم ليل ناقض للوضوء، فبمجرد أن غمس يده أصبح نجساً، وإن كان كثيراً فلا ينجس إلا بالتغير، ولا يضره إذا غمست فيه يد قائم من نوم الليل الناقض للوضوء. كذلك أيضاً لو استعمل في طهارة واجبة، فإنه إذا كان كثيراً فلا يضره إلا بالتغير، وإن كان قليلاً فإنه يضره.

وأما الماء الجاري: فقال المؤلف رحمه الله تعالى: (فيه خلاف في المذهب)، وهذا الخلاف كما يلي:

الرأي الأول في المذهب أن الجاري حكمه حكم الراكد، وعلى هذا إذا كان الماء الذي يجري كثيراً -قلتين فأكثر- فإنه لا ينجس بمجرد الملاقاة لو وقعت فيه نجاسة، أو غمس فيه من قام من نوم الليل الناقض للوضوء يده، وكذلك لو استعمل في طهارة واجبة، كإنسان عليه حدث أكبر وانغمس فيه، ثم انفصل عنه، فإن هذا لا يضر ما دام أنه قلتان فأكثر، وإن كان أقل من قلتين فإنه ينجس بمجرد الملاقاة والضابط في الكثير أن يكون قلتين فأكثر.

الرأي الثاني في المذهب: ما أشار إليه المؤلف رحمه الله بقوله: (أو كل جرية منه لها حكم الماء المنفرد).

فعلى الرأي الثاني: لا ننظر إلى مجموع الماء ونجعله كالراكد، بل نجعل كل جربة كالراكد، أي تأخذ حكم الراكد.

وضابط الجرية: هي ما أحاط بالشيء من فوق، ومن تحت، ومن يمين، ومن يسار، ولو خالفته النجاسة لغيرته، لو خالفته في اللون أو الطعم أو الرائحة لغيرته، وعلى هذا ننظر إلى عظم النجاسة وقلتها، فلو كان عندنا نقطة بول، فإن كانت تغير ماءً كثيراً يبلغ القلتين فهذه الجرية تكون في حكم الماء الكثير، وإن كانت لا تغير ماءً كثيراً يبلغ القلتين، فهي تأخذ حكم الماء القليل.

ولكن كيف نعرف أن هذه الجرية قليلة بحيث أنها تنجس بمجرد الملاقاة؟ وكيف نعرف أنها قليلة أو كثيرة؟ نقول: لو فرض أن النجاسة هذه تغير قلتين أصبح كثيراً، ولو فرض أنها لا تغير إلا أقل من قلتين فهو ماء قليل، فإذا كانت النجاسة قليلة بحيث كانت نقطة، فإن الماء يكون قليلاً في حكم الماء القليل.

أما لو عظمت النجاسة وأصبحت تغير قلتين فأكثر، فإن هذه الجرية تكون في حكم الماء الكثير الذي لا يتأثر بالنجاسة، ولا يتأثر بشيء يقلبه إلى ماء طاهر.

فالخلاصة في هذه القاعدة: أن الماء الجاري كالراكد فيما يتعلق بأحكامه قلة وكثرة، وأما الرأي الثاني فلا ينظر إلى مجموع الماء، وإنما ينظر إلى كل جرية بحسبها، وننظر إلى كبر النجاسة وصغرها، فإذا كانت النجاسة يسيرة بحيث إنها لا تغير إلا أقل من قلتين، فيأخذ حكم الماء القليل، وإن كانت كثيرة -مثل وقوع كلب فيه- بحيث إنه يغير قلتين فأكثر، فهذا يكون في حكم الماء الكثير.