خطب ومحاضرات
الورع
الحلقة مفرغة
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, في هذا الدرس سنتحدث عن موضوع من الموضوعات التي يكثر فيها اللبس لدى بعض المنتسبين طلاب العلم وغيرهم, ليكون طالب العلم والمتعبد على بصيرة من أمره, وهذا الأمر هو موضوع "الورع".
المقصود من الورع
يقول أهل العلم في تعريف الورع: الورع هو: ترك ما قد يضر في الدار الآخرة.
ولذلك ينبغى أن ندرك الفرق بينه وبين الزهد, فإن الزهد هو: ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، يعني: وإن كان لا يضر، فتركه ما دام أنه لا ينفع من الزهد, فإذا كان أمراً من الأمور لا ينفعك في الآخرة نفعاً مباشراً, ولا غير مباشر مثل كونه عوناً لك على فعل مستحب، أو على فعل واجب, فتركه من الورع.
أما إن كان ينفعك، فلا شك أن فعله أولى من تركه, سواء نفعك بصورة مباشرة كفعلك بعض السنن والمستحبات وغيرها, أو نفعك بصفة غير مباشرة كأن يكون عوناً لك على أمر آخر، فبعض الناس يعرف من نفسه أنه يستعين ببعض المباحات على فعل بعض السنن أو بعض الواجبات:
مثلاً: إنسان يريد أن يصوم يوم الإثنين أو الخميس, وهذه سنة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعرف أنه إذا تعشى في تلك الليلة بعشاء يغنيه ويشبعه، فإنه يكون عوناً له على أن يصوم, بخلاف ما لو تعشى بعشاء يسير، فربما أجهد من الصيام، وتعب، وفوت بالصيام مصالح أخرى, فمثل هذا العشاء الذي يعينه على أداء السنة ليس من الزهد.
فليس من الزهد أن تترك ما فيه منفعة لك في الدار الآخرة، أو ما يكون سبباً غير مباشر للمنفعة، إنما المباحات التي ليس فيها منفعة, مثل التوسع في المطاعم والمشارب والملابس وغيرها, فترك ذلك من الزهد.
الورع في المشتبهات
لهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير لما ذكر الحلال والحرام: {إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس} والاشتباه ليس مطلقاً دائماً، أحياناً قد يكون مشتبهاً بالنسبة إليك، ولكن عند غيرك ظاهر الحرمة، أو ظاهر الحل, لكن ما دمت أنت قد وقع عندك شبهة قوية، فالورع في حقك أن تتركه.
ولذلك قال: {لا يعلمهن كثير من الناس -ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم- فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه} استبرأ لدينه أن يقع في الشبهة فتجره هذه الشبهة إلى الحرام, وقد يكون هذا المشتبه في واقع الأمر محرماً, واستبرأ لعرضه في الوقيعة فيه وكلام الناس فيه: {ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام -كان هذا سبباً وسبيلاً إلى تجرئه على الحرام- كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه} .
فأولاً: ما هو تعريف الورع؟ وما المقصود من الورع؟
يقول أهل العلم في تعريف الورع: الورع هو: ترك ما قد يضر في الدار الآخرة.
ولذلك ينبغى أن ندرك الفرق بينه وبين الزهد, فإن الزهد هو: ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، يعني: وإن كان لا يضر، فتركه ما دام أنه لا ينفع من الزهد, فإذا كان أمراً من الأمور لا ينفعك في الآخرة نفعاً مباشراً, ولا غير مباشر مثل كونه عوناً لك على فعل مستحب، أو على فعل واجب, فتركه من الورع.
أما إن كان ينفعك، فلا شك أن فعله أولى من تركه, سواء نفعك بصورة مباشرة كفعلك بعض السنن والمستحبات وغيرها, أو نفعك بصفة غير مباشرة كأن يكون عوناً لك على أمر آخر، فبعض الناس يعرف من نفسه أنه يستعين ببعض المباحات على فعل بعض السنن أو بعض الواجبات:
مثلاً: إنسان يريد أن يصوم يوم الإثنين أو الخميس, وهذه سنة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعرف أنه إذا تعشى في تلك الليلة بعشاء يغنيه ويشبعه، فإنه يكون عوناً له على أن يصوم, بخلاف ما لو تعشى بعشاء يسير، فربما أجهد من الصيام، وتعب، وفوت بالصيام مصالح أخرى, فمثل هذا العشاء الذي يعينه على أداء السنة ليس من الزهد.
فليس من الزهد أن تترك ما فيه منفعة لك في الدار الآخرة، أو ما يكون سبباً غير مباشر للمنفعة، إنما المباحات التي ليس فيها منفعة, مثل التوسع في المطاعم والمشارب والملابس وغيرها, فترك ذلك من الزهد.
أما الورع فهو -كما ذكرت- ترك ما قد يضر, مثل المحرمات والمكروهات هذه شأنها ظاهر, لكن بعض الأمور قد تشتبه بالمحرمات، مثلاً: لنفترض أنك دخلت في مسابقة من المسابقات، أو في مساهمة من المساهمات، فحصلت على مال كجائزة أو كربح لهذه المسابقة, وحصل عندك شبهة قوية في هذا المال, أنه قد يكون محرماً؛ لأنه ربما يكون عن طريق قمار أو شبه قمار، فشككت في ذلك أو في مصدر هذا المال، أو كونه جاء عن طريق الربا، أو ما أشبه ذلك فصار عندك شبهة في هذا المال أنه محرم، أو شبهة في أنه مكروه, فتتركه حينئذٍ فهذا مشروع.
لهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير لما ذكر الحلال والحرام: {إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس} والاشتباه ليس مطلقاً دائماً، أحياناً قد يكون مشتبهاً بالنسبة إليك، ولكن عند غيرك ظاهر الحرمة، أو ظاهر الحل, لكن ما دمت أنت قد وقع عندك شبهة قوية، فالورع في حقك أن تتركه.
ولذلك قال: {لا يعلمهن كثير من الناس -ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم- فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه} استبرأ لدينه أن يقع في الشبهة فتجره هذه الشبهة إلى الحرام, وقد يكون هذا المشتبه في واقع الأمر محرماً, واستبرأ لعرضه في الوقيعة فيه وكلام الناس فيه: {ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام -كان هذا سبباً وسبيلاً إلى تجرئه على الحرام- كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه} .
إن الورع يقع فيه لبس لدى كثير من طلاب العلم، ولكن كيف يقع فيه اللبس؟
يقع اللبس في صور عديدة:
الورع بفعل المشتبه بالواجب أو المستحب
وأريد أن أسألكم: أرأيتم لو أن إنساناً وقع عنده شبهة في مال, فشك أنَّ هذا المال قد يكون محرماً, أليس من الورع أن يتركه؟!! بلى, أو اشتبه في فعل قد يكون هذا الفعل مكروهاً, أليس من الورع أن يترك هذا الفعل؟! بلى.
سؤال آخر: إنسان شك في أمر أنه قد يكون واجباً، أليس من الورع أن يفعله؟! بلى، من الورع أن تفعل ما يشتبه بالواجب، وإن اشتبه عليك أمر يمكن أن يكون مستحباً, أليس من الورع أن تفعله؟! بلى, فكما أنك تترك ما قد يضر في الدار الآخرة على سبيل الورع, فإنك تفعل ما قد ينفعك في الدار الآخرة على سبيل الورع أيضاً.
تحصيل المصالح وتفعيل المفاسد
بمعنى: أن أمامك أمر يشتبه أن يكون محرماً ويشتبه أن يكون واجباً, وربما يكون وجوبه أقوى من تحريمه -على سبيل المثال- لو فرضنا أن رجلاً على أبيه المتوفى ديون ثقيلة، وحصل لهذا الرجل أموال طائلة, ووقع عنده شبهة يسيرة: أنه قد يكون هذا المال مصدره غير سليم.
مثلاً: وقع عنده شبهه أن يكون الشخص الذي أعطاه هذا المال قد حصل عليه بطريق الشر, فهذه الشبهة جعلت في المتورع شعور أنه ينبغي أن يترك هذا المال وأن يتخلص منه, على سبيل الورع, لكن ماذا وقع بالمقابل؟
وقع في أمر يشتبه أن يكون واجباً, بل هو واجب, فقضاء دينه أو دين أبيه المتوفى إذا أمكنه ذلك واجب عليه, وهذا المال الذي في يد، إن تركه على سبيل التورع, يكون قد تورع من جهة، لكن وقع في ضعف الورع من جهة ثانية، وهي: قضاء الذي عليه في ذمة أبيه المتوفى, ففي هذه الحالة ينبغي للإنسان أن يرجع إلى قضية مهمة -سبق الكلام عليها مراراً- وهي قضية المصلحة والمفسدة ومراعاتهما في الشريعة, وأن الإسلام جاء بتحصيل المصالح وتكميلها, وتقليل المفاسد وتعطيلها.
ولذلك قال الإمام ابن تيمية في الجزء العاشر من الفتاوى في (ص:511) يقول كلمة مهمة في هذا الباب: (وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين, ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها, وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية؛ فقد يدع واجبات ويفعل المحرمات، ويرى ذلك من الورع).
نعم من لم يدرك قضية المصلحة والمفسدة قد يدع واجباً، وهو يتصور أن هذا من الورع, وقد يفعل محرماً وهو يتصور أن هذا من الورع, كما في المثال السابق.
ومثال آخر، وهو: قضية من يترك الجهاد مع أئمة الجور, لماذا ترك الجهاد معهم؟! لأنه تورع لجورهم وظلمهم وفسادهم, لكنه وقع في أمر أقل ما يقال فيه أنه مستحب، وقد يكون واجباً وهو الجهاد, فهو فر من أمر، ووقع في أعظم منه!
فمن الالتباس الذي يقع لنا -أحياناً- في الورع هو: أن الإنسان ينسى أن الورع كما يكون بترك المشتبه بالحرام أو بالمكروه, يكون أيضاً بفعل المشتبه بالواجب أو المستحب.
وأريد أن أسألكم: أرأيتم لو أن إنساناً وقع عنده شبهة في مال, فشك أنَّ هذا المال قد يكون محرماً, أليس من الورع أن يتركه؟!! بلى, أو اشتبه في فعل قد يكون هذا الفعل مكروهاً, أليس من الورع أن يترك هذا الفعل؟! بلى.
سؤال آخر: إنسان شك في أمر أنه قد يكون واجباً، أليس من الورع أن يفعله؟! بلى، من الورع أن تفعل ما يشتبه بالواجب، وإن اشتبه عليك أمر يمكن أن يكون مستحباً, أليس من الورع أن تفعله؟! بلى, فكما أنك تترك ما قد يضر في الدار الآخرة على سبيل الورع, فإنك تفعل ما قد ينفعك في الدار الآخرة على سبيل الورع أيضاً.
كثير من الناس يفهمون الشق الأول ويغفلون عن الشق الثاني, يفهمون ترك المشتبه بالمحرم أو بالمكروه, لكن يغفلون عن فعل المشتبه بالواجب أو المشتبه بالمستحب, وأحياناً يكون في المسألة جانبان: إما هذا وإما هذا.
بمعنى: أن أمامك أمر يشتبه أن يكون محرماً ويشتبه أن يكون واجباً, وربما يكون وجوبه أقوى من تحريمه -على سبيل المثال- لو فرضنا أن رجلاً على أبيه المتوفى ديون ثقيلة، وحصل لهذا الرجل أموال طائلة, ووقع عنده شبهة يسيرة: أنه قد يكون هذا المال مصدره غير سليم.
مثلاً: وقع عنده شبهه أن يكون الشخص الذي أعطاه هذا المال قد حصل عليه بطريق الشر, فهذه الشبهة جعلت في المتورع شعور أنه ينبغي أن يترك هذا المال وأن يتخلص منه, على سبيل الورع, لكن ماذا وقع بالمقابل؟
وقع في أمر يشتبه أن يكون واجباً, بل هو واجب, فقضاء دينه أو دين أبيه المتوفى إذا أمكنه ذلك واجب عليه, وهذا المال الذي في يد، إن تركه على سبيل التورع, يكون قد تورع من جهة، لكن وقع في ضعف الورع من جهة ثانية، وهي: قضاء الذي عليه في ذمة أبيه المتوفى, ففي هذه الحالة ينبغي للإنسان أن يرجع إلى قضية مهمة -سبق الكلام عليها مراراً- وهي قضية المصلحة والمفسدة ومراعاتهما في الشريعة, وأن الإسلام جاء بتحصيل المصالح وتكميلها, وتقليل المفاسد وتعطيلها.
ولذلك قال الإمام ابن تيمية في الجزء العاشر من الفتاوى في (ص:511) يقول كلمة مهمة في هذا الباب: (وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين, ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها, وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية؛ فقد يدع واجبات ويفعل المحرمات، ويرى ذلك من الورع).
نعم من لم يدرك قضية المصلحة والمفسدة قد يدع واجباً، وهو يتصور أن هذا من الورع, وقد يفعل محرماً وهو يتصور أن هذا من الورع, كما في المثال السابق.
ومثال آخر، وهو: قضية من يترك الجهاد مع أئمة الجور, لماذا ترك الجهاد معهم؟! لأنه تورع لجورهم وظلمهم وفسادهم, لكنه وقع في أمر أقل ما يقال فيه أنه مستحب، وقد يكون واجباً وهو الجهاد, فهو فر من أمر، ووقع في أعظم منه!
ولو أردنا أن ننظر في واقع الناس لوجدنا أنهم يخلون بالورع في ثلاثة أشياء:
الأمر الأول: المصلحة والمفسدة متكافئتان
لكن ينبغي أن تنتبهوا إلى أنه يمكن أن يترك الإنسان هذا على سبيل الزهد؛ لأن الزهد لا يلزم منه كراهية الشيء, أما الورع فتركه فيه نوع من الكراهة لهذا الشيء, فترك ما مصلحته ومفسدته متكافئتان على سبيل الورع غير صحيح، لكن على سبيل الزهد قد يتركه الإنسان.
الأمر الثاني : المصلحة راجحة على المفسدة
الأمر الثالث : المصلحة محضة
فقد يتورع بعضهم عن أمر، مصلحته ومفسدته متكافئتان, وذلك كالمباح المحض، فإن المصلحة والمفسدة فيه متكافئتان لا تزيد إحداهما على الأخرى, فهل من الورع أن يترك الإنسان هذا؟! فإذا كانت المصلحة والمفسدة متكافئتان تماماً, فليس من الورع الترك, بل قال ابن تيمية رحمه الله: إن ترك هذا على سبيل الورع ضلالة.
لكن ينبغي أن تنتبهوا إلى أنه يمكن أن يترك الإنسان هذا على سبيل الزهد؛ لأن الزهد لا يلزم منه كراهية الشيء, أما الورع فتركه فيه نوع من الكراهة لهذا الشيء, فترك ما مصلحته ومفسدته متكافئتان على سبيل الورع غير صحيح، لكن على سبيل الزهد قد يتركه الإنسان.
قد يترك على سبيل الورع ما مصلحته راجحة ومفسدته مرجوحة؛ لأن المصالح والمفاسد متداخلة في كثير من الأمور, قلّ أمر من الأمور تجد فيه مصلحة محضة, خاصة في هذا الزمان، فلا تجد أمراً إلا وفيه مصلحة ومفسدة, لكن إذا وجدت أن المصلحة مترجحة فافعل, وإذا وجدت أن المفسدة مترجحة فاترك, فترك ما مصلحته راجحة على سبيل الورع ليس مشروعاً.
ترك ما مصلحته محضة على سبيل الورع وذلك في الواجب, فإنه لا يترك ورعاً أبداً.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5155 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |