الغزو الفضائي [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا شبيه، ولا مثيل ولا نظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله! اتقوا لله تعالى حق التقوى، فلا نجاة ولا سعادة، ولا فوز ولا فلاح إلا بها: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33].

أيها الأحبة في الله! كثيراً ما يشكو بعضُنا إلى بعض في المجالس والمناسبات المتعددة ما نشكو مصائب مفجعة، وحوادث مؤلمة في مجتمعاتنا، ونتفق بلا خلاف أننا في خطر، ولا نتنازع في وجوب الاهتمام والعناية؛ ولكن يبقى شيء واحد قل ما نتطرق له، ألا وهو الحديث بدقة وجُرأة وصراحة عن الأسباب بوضوح والعلاج: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

ولو أردنا أن نتحدث بصراحة عن سبب من أسباب الدمار في المجتمعات المعاصرة اليوم، لقلنا: إن مجتمعاتنا الصغيرة، ومجتمعاتنا الكبيرة التي غزتها رياح التغريب والانحلال، وتعاودها أعاصير الإباحية، وزلازل التخريب والفساد، فتُحدث بين الفينة والأخرى، براكين مسعورة تقذف بحممها على بعض الأسر والبيوت.

كل ذلك من نافذة لا نستطيع إغلاقها، ومن سقف لا نستطيع له سداً، إنها الحرب القادمة من الفضاء، حرب القنوات الفضائية التي هي أشد تنكيلاً، وأشد تخريباً، وأشد إفساداً من حرب الدبابات والطائرات.

إنها الحرب التي تمنح طوائف ممن تقبلوها قبولاً حسناً، تمنحهم جنسية أعدائهم، وهوية من يودون عنَتهم، ولا يألونهم خبالاً، تصيرهم عبيداً لغير خالقهم، وأتباعاً لغير قادتهم، ومنتمين لغير مناهجهم وأفكارهم وأوطانهم، الكل ينادي ويصيح: الفضاء مملوء بالصور والكلمات، والعالم أصبح قرية صغيرة، وانتقال الأفكار والسلوك والعادات والمناهج أصبح أسرع من الريح، ويقابل كل ذلك الشر الوافد من تلك القنوات تهافت عند طائفة من الذين يتسابقون أيهم يجعل من عقله وذاكرته، ويجعل من عقول أبنائه وبناته وذاكرتهم، أيهم يجعل من هذه العقول مسرحاً ومرتعاً لذلك الإعلام الوافد، والخراب القادم.

فترى بعضهم يباهي ويفاخر بعدد القنوات التي يستقبلها ذلك الجهاز والطبق دون تأمل وتبصر فيما تجنيه تلك القنوات على نفسه وزوجه وأولاده أولاً، وعلى المجتمع من حوله ثانياً من دمار وبلاء.

إن السكوت على ضرر هذه الأطباق، أو ما تُسمى بالدشوش، وإن السكوت عن نصيحة المسلمين في شرها وخطرها، ربما عُد من الخيانة، والله -عزَّ وجلَّ- يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].

أيها الأحبة! قد نستثني طائفة ممن تعنيهم وتهمهم بعض أمور تبثها بعض تلك القنوات؛ لاعتبارات أعمالهم ومهماتهم، وهم نزر يسير، ومع ذلك فهم محاسَبون عما يسمعون ويشاهدون في حدود ما تتطلبه مسئولياتهم؛ ولكن هل نرى كل من حولنا، من هؤلاء الذين ركَّبوا هذه الأطباق التي تفتح أحضانها لغزو الشهوات والشبهات القادم من الفضاء، هل كلهم من أصحاب تلك الاهتمامات، وتلك المواقع؟

الجواب الذي لا ينازع فيه منازع: أن لا، بل السواد الأعظم ممن ركَّبوا هذه الأطباق من الذين يقول فيهم القائل:

ويقضى الأمر حين تغيـب تَيْمٌ     ولا يُستشهدون وهم شهودُ

أيها الأحبة! ليس الموضوع هجوماً سافراً، أو تنديداً فاضحاً بالذين ركَّبوا هذه الأطباق أو المستقبلات، إنما هو حديث: (الدين النصيحة) وإنما هو حديث من القلب إلى القلب: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ:46].

تعالوا إلى كلمة سواء، مستحضرين كافة قوى العقل والتدبر والاعتبار، مستبعدين كل الأهواء، ودوافع الشهوات؛ لنتساءل، ولنتواصى، ولينصح بعضنا بعضاً، فإن الدين النصيحة، وليأمر بعضُنا بعضاً بالمعروف، وينهى بعضُنا بعضاً عن المنكر، فتلك صفات المؤمنين: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71].

يا قومنا! يا أصحاب الأطباق! إما أن تقولوا أو نكون أول من يسأل: لماذا ركَّبتم هذه الأطباق؟

سيجيب طائفة كبيرة منهم قائلين: جعلناها في بيوتنا لمعرفة الأخبار لا غير.

وتلك حجة داحضة، دخل الشيطان بها على كثير ممن وضعوا هذه الأجهزة في بيوتهم، فما وجدوا من أوقاتهم لتلك الأخبار إلا قليلاً، أما بقية ما يُعرض في هذه القنوات من أفلام ماجنة، ومسلسلات خليعة، وأغانٍ تعلم الشباب التخلف، وتعلم النساء الترجل والرذيلة، بقية العرض من تلك الأفلام أصبح من نصيب الزوجة والأولاد.

فيا عارف الأخبار! فيا مهتماً بالأخبار! هل أغنت تلك الأخبار عنك من شيء؟ وهل أغنيت عن أحوال أهل تلك الأخبار من شيء؟ وهب أنك تابعت كل خبر، وكل شاردة وواردة، فهل استطعت أن تقدم أو تؤخر شيئاً؟ وحينما استطعت، هل فعلت شيئاً؟

أيها الأحبة! إن كثيراً ممن وضعوا هذه الصحون المستقبلة للبث ما كان حجتهم يوم أن وضعوها سوى قضية الأخبار، مع العزم والإصرار على حجب الأولاد والأسرة عن مشاهدة تلك القنوات، ولكن ما لبث الأمر أن تفلت من يد صاحبه، فما عاد صاحب الطبق الذي أدخل بيته يجد وقتاً للأخبار، وربما أصبح يبحث عن غير الأخبار، ولن أسمي قنوات جديدة فاضحة ضجت منها البيوت، وشكت منها النساء إلى الله خراب أزواجهن، وفساد أبنائهم، ومصيبة بناتهم فيها، انتقلت العدوى إلى البنين والبنات، خاصة المراهقين والمراهقات، فتسللوا لواذاً، واسترقوا النظرات، وتأججت غريزة حب الاستطلاع على هذا الجهاز الذي أسره والدهم في مجلسه أو حجرته إلى أن طغى الماء على الجارية، وتدفق الشر إلى أهل البيت؛ لأن بعض الذين أدخلوا هذه الأطباق إلى بيوتهم يقول أحدهم: إنما الجهاز في حجرتي، أو إنما الجهاز في مجلس معين، ولا يوجد في بقية المجالس، وحاله مع حال أولاده، وهو يدافعهم عن هذا الجهاز الذي أدخله، كقول القائل:

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال لـه     إياك إياك أن تبتل بالماءِ

يقـول الله عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].

ويقول صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته).

فيا أيها المسلم الكريم! إني على يقين مع وجود هذا الطبق وجهاز الاستقبال في بيتك، إني على يقين أنك لا تزال غيوراً على محارمك، محباً لخالقك، ونبيك، ودينك، ولا يسرك أن ترى أولادك أو بناتك يقلدون ما يرون في هذه القنوات، أو يتفرجون على مشاهد مخزية، أو صور خليعة؛ ولكن تبقى الشهوات والغفلة تقلبك بين التساهل بالأمر والتسويف في التخلص منه. لماذا لا تتخلص من هذا الجهاز، وأنت أدرى بحقيقة حاجتك إليه: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14].

والله إن هذا الجهاز ليس بشراب تشربه حتى تهلك من الظمأ إن عُدم من بيتك، وليس بطعام تأكله حتى تموت من الجوع لو أُزيل من بيتك، وليس بدواء فيه الشفاء حتى تموت من المرض لو أُخرج من بيتك.

أيها الأخ المحب! لعلك ترى وتلحظ كثيراً من المراهقين في مجتمعنا أصبحوا في سلوكهم، وتصرفاتهم، بل وفي زيهم برهاناً ودليلاً قاطعاً على نجاح التغريب، أتدرون ما هو التغريب؟

أن تتعلق النفوس والقلوب والأفكار بالغرب وما فيه، وبما أنتجه، وبما صدَّره، وبكل رذيلة وفاسدة، مع بقاء هذه الأجسام حتى لو لبست زيها، أو تقلدت سمتها، إن هذا لأكبر دليل على نجاح التغريب عبر القنوات الفضائية، وإلا فبِمَ تفسرون ظاهرة تقليد الكثير من المراهقين وغيرهم لغالب ما يرون من الشاشة؟

فكم رأيتم وعُدوا وأحصوا في تجوالكم وفي أيامكم، في ذهابكم وإيابكم، في تجوالكم وتطوافكم، كم رأيتم من شاب من المراهقين خرج على غير عادة أهله، وسمت مجتمعه في سروال إلى ركبته، وقد لبس قميصه، يحمل من الشعارات والعبارات ما يفقه وما لا يفقه، ولا تنسَ تلك القبعة المضحكة، التي أصبحت اليوم تقليداً لبسه أغلب المراهقين، ولو لُبست بالأمس قبل أن يراها المراهقون على تلك الشاشات والقنوات لضحكوا على من لبسها، لكنها الآن لا تجد طفلاً صغيراً أو مراهقاً أو شاباً بالغاً إلا وقد لبسها إلا القليل، فيا سبحان الله! كيف يُصبح أولياء المهزوم والمذبوح والقتيل مغرمين بتقليد السفاح والمتسلط في هيئته، ولبسه وزيه؟ لو أن أحداً قتل قريباً من أقاربه، أو آذى ولداً من أبنائه، أو آذى أحداً من أقاربه لكرهت زيه وهيئته وما كان من خصوصياته، لو أن شخصاً بينك وبينه عداوة، لوجدت أن أبغض ما لديك أن تقلده أو تحاكيه فيما هو من خصائص شخصيته، فَلِمَ يقلد بعض شبابنا اليوم أعداءهم الذين يحتقرونهم ويبغضونهم، ولا يكفون عن تدبير المؤامرات لسلب ثرواتهم، وإضعاف شوكتهم؟!

إن إيقاظ جذوة العداء النفسي عند المسلمين تجاه أعدائهم، من الأمور التي تحفظ على الأبناء تميزهم، واستقلال شخصياتهم.

إن تبسيط مفاهيم الولاء والبراء لدى هؤلاء الناشئة، في المدارس وعبر الإعلام وغير ذلك، وغرسها في قلوبهم من أهم ما يحفظ على الأمة استقلال شخصيات أبنائها.

إن إيحاء وتصريح المعلمين إلى الطلاب في تلك المراحل بأن أعداء الإسلام وإن ضحكوا أو هادنوا إلا أن الأحقاد الكامنة تبدو في فلتات الألسنة، وتقلبات المواقف.

قد ينبت المرعى على دمن الثرى     وتبقى حزازات النفوس كما هِيَ

نحن لا نريد أن نضخم أعداءنا فنعطيهم أكبر وأكثر مما يستحقون من واقعهم وقدرهم؛ ولكن لا يجوز أن يُنسينا لين ملامس الأفعى عما في جوفها من السم الزعاف.

إن الأفاعي وإن لانت ملامسها     عند التقلب في أنيابها العطبُ

هذا واحد من أخطار الغزو القادم عبر السماء في قوالب الصور والكلمات، ومن أخطاره المدمرة: إفساده للأسرة، فكم تلقينا، وكم قرأنا، وكم سمعنا، عديداً وعدداً من الشكاوى التي تحكي أسرة كانت آمنة مطمئنة، فلما دخل المشئوم عليها جعل عاليها سافلها، وبدل شكر نعمة الله فيها كفراً، وأحل أهلها الشقاق والطلاق؟!

هذه امرأة غيور تبكي وتستنجد، من ينقذ زوجها من هذه العزلة التي اختارها لنفسه، أو اختارها مع شلته أمام ما يُسمى بـ(الدش) حتى الهزيع الأخير من الليل، والزوجة الحرَّى تطاول ليلها، واحلولك ظلامه، وزوجها مشغول عنها وعن أطفالها الذين قد ناموا، مشغول بتلك القنوات الجديدة، وبتلك القنوات القديمة، وعبر ما يُسمى بـ(الريموت كنترول) يتنقل من قناة إلى قناة، ومن وجه إلى وجه, ومن صدر إلى صدر، ومن ساق إلى ساق، ومن صورة ماجنة إلى حالة عارية، فما المخرج والبديل لتلك المرأة الحرَّى، التي تطاول ليلها، واحلولك ظلامه؟!

إن كانت صالحة: جاهدت نفسها بذكر الله وطاعته، والتهجد، وقراءة القرآن، تدعو الله عزَّ وجلَّ في ليلها الذي غفل فيه زوجها، تدعو الله أن يرد زوجها إليها رداً جميلاً.

وإن كانت امرأة غير صالحة: أشغلت نفسها بمثل ما أشغل به زوجُها نفسه، وربما بما هو أسوأ من ذلك "ودقة بدقة، وإن زدت زاد السقا" "وكما تدين تُدان" فهل ترون في حياة كهذه سعادة أو حبوراً؟!

لا أشك لو أن بين أيدينا إحصائيات دقيقة لرأينا تزايد نسب الطلاق، والفشل في الدراسة، والإخفاق في الوظيفة، وتوالي الأحداث، وأنواع الجرائم من السرقات والخطف والسطو، قد تزيد طرداً مع تزايد انتشار تلك الأطباق المستقبِلة للبث.

نعم .. لا يخلو مجتمع من جريمة قلَّت أو كثرت؛ لكن الخط البياني للجريمة يرتفع ويعكس زيادة الجرائم كماً ونوعاً وكيفاً، بازدياد انتشار قنوات البث، وأجهزة استقبالها، فهل يبقى نزاع أو شك في أن تلك الأجهزة التي تستقبل البث قد جلبت إلى المجتمع أخطاراً متعددة؟

وهل يليق بعاقل أن يقبل ما يُفرزه وجود تلك الأجهزة من أخطار وأضرار أمام مصلحة أو فائدة يسيرة اسمها: أخبار، أو أسعار العملات والأسهم؟

وهل عُدمت أسباب الاطلاع على تلك الأمور أو الأخبار أو أسعار الأسهم والعملات إلا بطريق تخرب معها البيوت، وتُهدم الأسر، وذلك بهذه الأطباق؟!

أيها الأحبة! ليس غريباً ولا عجيباً من رجل ولو في بيته جهاز الاستقبال وآلته أن يغضب وأن ينـزعج، ولا يرضى حينما يرى غريباً يكلم أولاده وبناته حتى لو كان ظاهره الصلاح، حتى يعلم ولي البيت الذي في بيته الطبق ماذا يقول هذا الغريب لأولاده، وما نوع الحديث الذي يدور؟ وما مداه؟ وإلى أي قضية يتطرق؟ لكن العجيب المدهش أن ترى هذا الغيور على أهله وبيته يسمح للداخلين بغير استئذان، وهم ضيوف الشاشة من ممثلين ومطربين، وعارضات وراقصات، يسمح لهم بالخلوة مع أولاده الساعات الطوال، بل وفي كل عُصَير ومساء، فهلا تحركت تلك الغيرة لتطرد هؤلاء اللصوص بإبعاد هذا الطبق، أو هذا الدش عن البيوت؟!

لقد نادى بعض الغربيين الذين لا يتمسكون بدين صحيح بإبعاد هذا الجهاز، وكتبوا، وحاضروا، وناظروا، مثبتين خطر تلك المستقبلات على عقول الناشئة، ومن ثم على الأسر والمجتمعات.

لقد صرَّحت منظمة اليونسكو ، وهي منظمة غربية بأن البث المباشر أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية كرَّسها الزمن، ولا يريدون أن يقولوا بصريح العبارة: إن البث المباشر قد أفسد على المسلمين دينهم وعبادتهم.

يقول أحد المفكرين: لقد خرج الاستعمار الفرنسي من شوارع تونس عام: (1956م) لكنه عاد إليها عام (1989م) إن هذا الاستعمار الفرنسي الجديد لم يرجع إلى الأسواق فقط، بل رجع ليشارك الناسَ في بيوتهم، وأسرة نومهم، ورجع ليقضي على الدين والأخلاق. كان المستعمر يقيم بين أهل تونس بغيضاً مكروهاً؛ لكنه رجع ليُستقبل بالحب والترحاب، كانوا ينظرون إلى المستعمر يمشي في شوارعهم، فيمقتونه، أما الآن فيتلذذون بمشاهدته وبالجلوس معه، إنه الاستعمار الجديد، استعمار القلوب، وليس استعمار الأرض، إنه يهدد الأجيال الحاضرة والقادمة، والبنين والصغار.

ويقول الدكتور العبدان، أمين المجلس الأعلى للإعلام في هذه البلاد المباركة حماها الله وحرسها: إن البرامج الموجهة للصغار هي أكثر البرامج خطورة؛ لأن الطفل أكثر تعلقاً، وأسرع تأثراً، وأقل تمييزاً لِمَا يُقَدَّم من خلالها؛ لأن تأثيراتها السلبية قد يؤثر على سلامة العقيدة والسلوك.

ويقول الدكتور حمود البدر عضو مجلس الشورى: إن الأبحاث والدراسات أثبتت أن بعض التلاميذ في البلاد العربية عندما يتخرج من الثانوية العامة يكون قد أمضى أمام التلفاز خمسة عشر ألف ساعة، بينما لم يقضِ في حجرات الدراسة أكثر من عشرة آلاف وثمانمائة ساعة على أقصى تقدير، إذا لم يتغيب درساً أو حصة واحدة.

أيها الأحبة! ولو ذهبنا نسرد وننقل لكم ما قاله الغيورون، وما قاله المفكرون، وماذا قاله أهل الاختصاص عن خطر هذه الأطباق لطال بنا المقام؛ ولكن تبقى كلمة واحدة:

من يستجيب، ومن يبلغه النداء إلى قلبه، فيبادر بجوارحه لإخراج هذا الطبق.

أيها الأخ الحبيب! لا تتستر عن جيرانك برفع السور، أو وضع الطبق أقصى السطوح فإن الله يراك، وما يضرك وما عليك إذا رضي الله وسخط جيرانك؟ وما ينفعك لو رضي جيرانك وسخطَ الله؟

يا أيها الأخ الحبيب! لا تتوار عن القوم، وأنت تعلم أنك تدخل سماً زُعافاً إلى بيتك وإلى أولادك وأهلك، ولا تخادع نفسك.

يا أيها الأخ الحبيب! بادِر بإخراجه قبل أن يكون تركةً تورَث بعدك، فيقال: مات فلان، وخلف دُشَّين أو طبقين.

إن من المضحكات المبكيات، وما سمعناه، وما تأكدنا منه: أن رجلاً قد ملأ بيته بسبعة دشوش، بسبعة أطباق، كل واحد منها يجلب ألواناً وأنواعاً من هذه القنوات، فلما ضاقت السطوح بهذه الدشوش، طلب من جيرانه أن يسعفوه، بأن يُسْلِفوه سطحهم أو يؤجروه، لماذا؟ لكي يضع فيه مزيداً من الأطباق.

يا خيبة هذه العقول! ويا خسارة عقول هؤلاء الذين لا يجدون فيها مجالاً أو مسرحاً أو ميداناً، إلا وترتع فيه هذه القنوات بسُمِّها، وفسادها، وخرابها، ومن ثم ينتقل إلى أولادهم.

إننا لتدمى قلوبنا، وتتقرح أكبادنا حينما نسمع أن فلاناً بن فلان مات، وترك في بيته ثلاثة أطباق أو أربعة أطباق، هلك هالك عن زوجة وأولاد، وماذا ترك لهم؟ ترك دُشَّين أو ثلاثة، وترك مستقبِلات، وترك أسهماً وأموالاً، ذلك أمر مخزٍ أن تموت وقد تركتَ هذا.

وخير لك أن تموت، وقد حجبت هذا الطبق عن بيتك ليُقال: هلك فلان عن ولد صالح، وصدقة جارية، وعلم يُنتفع به، هذا خير ما تموت عنه.

أيها الأحبة! وثمة أخطار! وثمة أضرار بهذه المستقبِلات! وهذه الأطباق في الجوانب الأمنية، وفي الجوانب الاجتماعية، وفي الجوانب التربوية، وفي الجوانب التعليمية، تكون موضوعاً لخطبة الجمعة القادمة.

أسأل الله عزَّ وجلَّ بمنه وكرمه أن يهدي من وضعها لإخراجها عاجلاً غير آجل.

اللهم اهدِ من وضعها، واشرح قلوبهم، وافتح على أفئدتهم بأن يتبصروا عِظَم الخطر الذي يوجد في منازلهم ليخرجوها عاجلاً غير آجل.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.

أيها الأحبة في الله! انظروا أنفسكم وناصحوا جيرانكم وأقاربكم، وبينوا لهم خطر هذا الأمر، خطره في الدين، وخطره في الدنيا، خطره على الزوجات، وخطره على الأولاد والبنات، خطره في كل جانب، وفي كل مجال وميدان، وما ضر الناس إذا غابت هذه الأجهزة عن بيوتهم؟! بل كثير من الناس لا يوجد في بيوتهم تلفاز أيضاً، ومع ذلك يأكلون ويمشون في الأسواق، وأولادهم يدرسون ويتخرجون وينافسون وينالون أعلى الأوسمة والدرجات والشهادات، لا كما يظنه البعض أن بيتاً لا يوجد فيه طبق فإن أهله يبقون متخلفين، تلك كلمة أو مصيبة أصبح البعض ينهزم أمامها لما يقوله بعض من ينتسبون إلى الثقافة، فيقول: إن بيتاً ليس فيه آلة، أو ليس فيه جهاز يطلع أهل البيت على واقع العالم من حوله يبقى بيتاً متخلفاً، وتبقى شخصيات أهله ناقصة. وهل هذا البيت سيحكم العالم؟

وهل هذا البيت سيربط العلاقات الخارجية والسياسات الدولية؟

وهل هذا البيت سوف يعقد اتفاقيات الجات؟ وهل هذا البيت سوف يعقد صفقات عالمية؟ أو يدخل في ترسيم حدود حتى يضطر إلى مثل هذه الأجهزة؟

لا والله؛ لكنها دعاوى؛ لكنها مداخل يدخل فيها الشيطان على كثير من الناس، حتى يتزين بها في بعض المجالس، فيقول: رأيتُ في القناة الفلانية ذلك البرنامج الذي قيل فيه، ورأيتُ البرنامج الفلاني في القناة الفلانية ذلك البرنامج الذي يقال فيه، وخير لك أن تقول: غضضتُ بصري عن كل شر، وحميت سمعي عن كل لفظ، وأسلمتُ قلبي لله رب العالمين، لا شريك له.