خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
تفسير سورة المجادلة [14-22]
الحلقة مفرغة
قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المجادلة:14]. ((ما هم منكم)) يعني: ليسوا أهل دين فيكونوا من المسلمين، ((ولا منهم)) يعني: من اليهود، كقوله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143] وهذا شأن هؤلاء المنافقين في كل زمان ومكان، عندما يسارعون في موالاة الكفار يقولون: إذا تغلب هؤلاء نقول لهم: كنا معكم، وإذا تغلب هؤلاء ندلي إليهم بما كان من مودة من قبل، فهم لا يلتمسون رضا الله، وإنما يلتمسون هذا الأمر عند هؤلاء وعند هؤلاء، فكل من عمل عملاً لا يريد به وجه الله سبحانه وتعالى فإنه ينقلب عليه بعكس ما أراد ويعامله الله بنقيض قصده، فالذي يريد أن الكفار يرجعون أعزة لا يرجع إلا في ذل وهوان، فيقول الشاعر: جاء بالسخطتين فلا عشيرته رضيت عنه ولا أرضى عنه العدا يقول تعالى: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وذلك قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم (نشهد إنك رسول الله)، يحلفون ويستجنون بالأيمان فيجعلون الأيمان الكاذبة وقاية وجُنة تحميهم من العقاب الدنيوي. فهم في الحقيقة كاذبون غير مصدقين بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يحلفون أنهم يشهدون أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. ((وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) يعني: وهم يعلمون أن المحلوف عليه كذب بحت. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: قال بعض أهل العلم: معنى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) يعني: ألم ينته علمه إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم؟ فالرؤية هنا رؤية علمية. ولفظة: (( أَلَمْ تَرَ )) يزعم البعض أنها لا تعدى إلا بحرف الجر الذي هو إلى، لكن الراجح أنها في الغالب لم تأت في القرآن الكريم إلا متعدية بإلى، لكن تعديتها إلى المفعول بنفسها صحيح بدون حرف جر، وهذا يقع في اللغة العربية، ومن شواهد ذلك قول امرئ القيس : ألم ترياني كلما جئت طارقـاً وجدت بها طيباً وإن لم تطيب والمراد إنكار الله على المنافقين توليهم القوم الذين غضب الله عليهم وهم اليهود والكفار، وهذا الإنكار يدل على شدة منع ذلك التولي، وأن هذا الشيء من كبائر المحرمات، وقد صرح الله بالنهي عن ذلك في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الممتحنة:13]، ((مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ))، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون المنافقين ليسوا من المؤمنين ولا من القوم الذين تولوهم وهم الذين غضب الله عليهم من اليهود، جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقول الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:142-143].
قال تعالى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المجادلة:15-16]، ((جنة)) أي: وقاية وعصمة لأنفسهم، فهم يستجنون بالأيمان يعني: يتخذونها جنة ووقاية يحتمون وراءها حتى لا يعاقبوا، ((فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: فحالوا بأيمانهم عن حكم الله في أمثالهم وهو القتل، إراحة للمؤمنين من فسادهم. هذا أحد التفسيرين. يعني: عطلوا حكم الله في قتلهم إراحة للمؤمنين من شرهم بسبب الاستجنان وراء الأيمان الكاذبة، أو ((فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) صدوا الناس في خلال أمنهم وسلامتهم عن الإيمان ((فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)) أي: مذل لهم في الآخرة. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله عز وجل هنا: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [المجادلة:16]: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المنافقين اتخذوا أيمانهم جنة، والأيمان جمع يمين، وهي الحلف، والجنة: هي الترس الذي يتقي به المقاتل وقع السلاح، والمعنى: أنهم جعلوا الأيمان الكاذبة وهي حلفهم للمسلمين أنهم معهم وأنهم مخلصون في باطن الأمر، ترساً لهم يتقون به الشر الذي ينزل بهم لو صرحوا بكفرهم. وقوله تعالى: (( فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ))، الظاهر أنه من (صد) المتعدية؛ وأن المفعول محذوف أي: فصدوا غيرهم ممن أطاعهم؛ لأن صدودهم في أنفسهم دل عليه قوله: (( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ))، والحمل على التأسيس أولى من الحمل على التوكيد كما أوضحناه مراراً. وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة وهما: كون المنافقين يحلفون الأيمان الكاذبة لتكون لهم جنة، وأنهم يصدون غيرهم عن سبيل الله، جاءا موضحين في آيات أخر من كتاب الله. أما أيمانهم الكاذبة فقد بينها الله جل وعلا في آيات كثيرة، كقوله هنا في هذه السورة: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المجادلة:14] يعني: أنهم كاذبون، وقال تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ [التوبة:62]، وقال تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ [التوبة:95]، وقال تعالى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:42] . وقال تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المنافقون:2] . وأما صدهم من أطاعهم عن سبيل الله فقد بينه الله في آيات من كتابه، كقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ .. [الأحزاب:18-19] إلى آخره. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156]، وقال تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168]، وقال تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النساء:72] إلى آخرها. وقوله هنا في هذه الآية: ((فلهم عذاب مهين))؛ لأجل نفافقهم، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145].
يقول الله عز وجل: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:17-19]. لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أي: من عذابه شيئاً ما، كما كانوا يفسدون بذلك في الدنيا. أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ، كما يحلفون لكم في الدنيا كاذبين مبطلين، فهذا الحلف الكاذب مرنوا عليه، أي: صار عادة لازمة لهم، حتى إنهم يوم القيامة أيضاً يحلفون بالله كاذبين، كما قال تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]. فقوله تعالى: ((يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)) يعني: السبب هنا الكذب في الحلف سواء في الدنيا أو في الآخرة: ((كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ))، في الدنيا كاذبين مبطلين؛ إشارة إلى مرونهم على النفاق ورسوخهم فيه حتى لدى من لا تخفى عليه خافية. قد يروج كذبهم على الناس في الدنيا بأن الناس لا يصلون إلا إلى الظواهر، أما البواطن فالله وحده يعلمها، وفي الآخرة مع أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما في قلوبهم لكنهم أيضاً يستجنون بالأيمان الكاذبة. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ يعني: من النفع أو من الحق، (( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ )) فيما يحلفون عليه في الدارين. اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ أي: استولى عليهم حتى صار الكذب والفساد ملكة لهم، فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ، أي: بتصوير اللذات الحسية والشهوات البدنية لهم، وتزيين الدنيا وزخرفها في أعينهم: وأسند إنساء ذكر الله إلى الشيطان كما قال: وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68]، وقال تعالى: فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [يوسف:42]، وقال أيضاً في الكهف: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:63]، فكذلك هؤلاء المنافقون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أي: أتباعه في الفساد والإفساد، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ أي: الخسارة في الدارين. والأحزاب في الإسلام نوعان: حزب الله وأحزاب الشيطان، فأحزاب الشيطان يجمعها دعوة واحدة، أما حزب الله فسوف يأتي ذكر وضعهم في آخر هذه السورة الكريمة، وكل من لم يرفع بالإسلام رأسه فهو من حزب الشيطان.
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:20-21]. إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ يعني: في أهل الذلة؛ لأن الغلبة لله ولرسوله، كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ . فقوله: (فِي الأَذَلِّينَ) لا يعني فقط الذين فيهم وصف الأذلين، وإنما ينسب إليهم أنهم أعظم الناس ذلاً. والأذلون: جمع الأذل أي: الذين هم أعظم الناس ذلاً، والذل: هو الصغار والهوان والحقارة. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الذين يحادون الله ورسوله هم أذل خلق الله ذكره تعالى وبينه في غير هذا الموضع، وذلك بذكره أنواع عقوبتهم المفضية إلى الذل والخزي والهوان، كقوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة:63]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة:5]، وقال تعالى: وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:3-4]، وقال تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ [الأنفال:13-14]. ((لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي))، المفعول مقدر، أي: لأغلبن أنا ورسلي حزب الشيطان المحادين. ((إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ))، أي: قوي على إهلاك من حاده ورسله، عزيز فلا يغلب في قضائه تبارك وتعالى. وقد دلت هذه الآية الكريمة كما يقول الشنقيطي رحمه الله على أن رسل الله غالبون لكل من غالبهم. وقوله: (( أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ ))، تحمل نفس المعنى الوارد في جملة من الأحاديث، كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري).
قال تعالى: (( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ))، فالرسل غالبون لكل من غالبهم، والغلبة نوعان: غلبة بالحجة والبيان وهي ثابتة لجميع الرسل، وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لمن أمر بالقتال منهم دون من لم يؤمر بها. وقد دلت هذه الآية الكريمة وأمثالها كقوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173]، على أنه لم يقتل نبي في جهاد قط على الإطلاق؛ لأن المقتول ليس بغالب، فالقتل في جانب والغلبة في جانب آخر، بدليل قوله تعالى: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ [النساء:74]، هي واحدة من الاثنتين فقط: إما أن يقتل وإما أن يغلب، فدل على أن القتل غلبة. وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، وقد نفى الله عن الشخص المنصور أن يكون مغلوباً نفياً باتاً في قوله تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، وبهذا تعلم أن الرسل الذين جاء في القرآن أنهم قتلوا كقوله تعالى: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87] وقوله تعالى: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183] لم يقتلوا في جهاد، وإنما قتلوا صبراً كما حصل لزكريا وغيره من الأنبياء الذين قتلتهم بنو إسرائيل. وقد بين العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى هذا المعنى بصورة مفصلة في أثناء تفسير سورة آل عمران عند تفسير قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]. يقول: هذه الآية الكريمة على قراءة من قرأ (قُتل) للمفعول: (( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ ))، لا تدل على أن النبي قد يقتل، لكن على قراءة أخرى يحتمل ذلك، فالآية: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146]. فعلى قراءة من قرأ: (قتل معه) بالبناء للمفعول يحتمل أن نائب الفاعل يكون لفظة: (ربيون)، يعني: قتل ربيون معه، وعليه فليس في (قتل) ضمير أصلاً؛ لأن نائب الفاعل اسم ظاهر. وهناك احتمال آخر: أن يكون نائب الفاعل ضميراً عائداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتل)، وفي هذه الحالة تعرب جملة: (( مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ )) بأن (ربيون) مبتدأ مؤخر مرفوع بالواو، و( معه ) : شبه جملة في محل رفع خبر مقدم. أما بالنسبة للفعل: (قتل)، فنائب الفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) يعود إلى النبي. يقول: ويحتمل أن يكون نائب الفاعل ضميراً عائداً إلى النبي، وعليه فمعه خبر مقدم، و(ربيون) : مبتدأ مؤخر سوغ الابتداء به اعتماده على الظرف قبله ووصله بما بعده، والجملة حالية والرابط الضمير، وسوغ إتيان الحال من النكرة التي هي نبي وصفه بالقتل ظلماً، وهذا هو أجود الأعاريب المذكورة في الآية على هذا القول. يقول: وبهذين الاحتمالين في نائب الفاعل المذكور يظهر أن في الآية إجمالاً، والآيات القرآنية مبينة أن النبي المقاتل غير مغلوب بل هو غالب، كما صرح تعالى بذلك في قوله: (( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ))، وقال قبل ذلك: (( أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ ))، ثم قال: (( إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ )) . وأغلب معاني الغلبة في القرآن: الغلبة بالسيف والسنان، كقوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال:65]، وقال تعالى بعدها: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الأنفال:66]، وقال تعالى: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:1-4]، وهذه الغلبة بالسيف والسنان في القتال، وقال تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249] أي: بالسيف والسنان، وقال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمران:12]، إلى غير ذلك من الآيات. يقول: وبين تعالى: أن المقتول ليس بغالب بل هو قسم مقابل للغالب بقوله: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ [النساء:74] ، فاتضح من هذه الآيات أن القتل ليس واقعاً على النبي المقاتل؛ لأن الله كتب وقضى له في أجله أنه غالب، وصرح بأن المقتول غير غالب. وقد حقق العلماء أن غلبة الأنبياء على قسمين: غلبة بالحجة والبيان، وهي ثابتة لجميعهم. وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لخصوص الذين أمروا منهم بالقتال في سبيل الله. قال: وتصريحه تعالى بأنه كتب أن رسله غالبون شامل لغلبتهم لمن غالبهم بالسيف، كما بين أن ذلك معنى الغلبة في القرآن، وشامل أيضاً لغلبتهم بالحجة والبيان، فهو مبين أن نصر الرسل المذكور في قوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51] وقوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ [الصافات:171-172]، نصر غلبة بالسيف والسنان للذين أمروا منهم بالجهاد؛ لأن الغلبة التي بين أنه كتبها لهم أخص من مطلق النصر؛ لأنها نصر خاص، والغلبة لغة الثقل، والنصر لغة إعانة المظلوم، فيجب بيان هذا الأعم بذلك الأخص. وبهذا تعلم أن ما قاله الإمام الكبير الحافظ ابن جرير رحمه الله تعالى ومن تبعه في تفسير قوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا .. [غافر:51] إلى آخره، من أنه لا مانع من قتل الرسول المأمور بالجهاد، وأن نصرة المنصوص في الآية حينئذ يحمل على أحد أمرين: أحدهما: أن الله ينصره بعد الموت، بأن يسلط على من قتله من ينتقم منه، كما فعل بالذين قتلوا يحيى وزكريا وشعيبا من تسليط بختنصر عليهم ونحو ذلك. إما أن يسلط الله على من قتل النبي في الجهاد بأن يقتل وينكل به انتقاماً. الثاني: حمل الرسل في قوله تعالى: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا))، على خصوص نبينا صلى الله عليه وسلم. لا يجوز حمل القرآن عليه لأمرين: أحدهما: أنه خروج بكتاب الله عن ظاهره المتبادر منه بغير دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع، والحكم بأن المقتول من المتقاتلين هو المنصور بعيد جداً غير معروف في لسان العرب، فحمل القرآن عليه بلا دليل غلط ظاهر، وكذلك حمل الرسل على نبينا وحده صلى الله عليه وسلم بعيد جداً أيضا، والآيات الدالة على عموم الوعد بالنصر لجميع الرسل كثيرة لا نزاع فيها. أيضاًً الله سبحانه وتعالى لم يقتصر في كتابه على مطلق النصر الذي هو في اللغة: إعانة المظلوم؛ لأن النصر كما قلنا في اللغة: هو إعانة المظلوم، أما الغلبة لغة فهي القهر. فالله سبحانه وتعالى لم يقتصر على مطلق النصر الذي هو في اللغة: إعانة المظلوم بل صرح بأن ذلك النصر المذكور هو للرسل هو نصر غلبة وقهر، وليس النصر بمعنى إعانة المظلوم؛ لأن الله قال: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)) ، فلابد أن يحمل النصر على هذه الغلبة والقهر كما ذكرنا. يقول: (وقد رأيت معنى الغلبة في القرآن، ومر عليك أن الله جعل المقتول قسماً مقابلاً للغالب في قوله: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ [النساء:74]، وصرح تعالى: بأن ما وعد به رسله لا يمكن تبديله بقوله جل وعلا: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34]، ((وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)) ومن كلمات الله الكونية القدرية: أن الرسول لا يمكن أن يقتل في الجهاد أبداً، ولا شك أن قوله تعالى: (( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي )) من كلماته التي صرح بأنها لا مبدل لها، وقد نفى الله جل وعلا عن المنصور أن يكون مغلوباً نفياً باتاً بقوله: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160] . وذكر مقاتل : أن سبب نزول قوله تعالى: (( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي )): أن بعض الناس قال: أيظن محمداً وأصحابه أن يغلبوا الروم وفارس كما غلبوا العرب، زاعماً أن الروم وفارس لا يغلبهم النبي صلى الله عليه وسلم لكثرتهم وقوتهم فأنزل الله الآية، وهو يدل على أن الغلبة المذكورة فيها غلبة بالسيف والسنان؛ لأن صورة السبب لا يمكن إخراجها). وسبب النزول يكون دخولاً في حكم الآية قطعياً، ويدل له قوله قبله: (( أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ ))، وقوله بعده: (( إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ )) . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: (أضواء البيان) أننا نستشهد للبيان بالقراءة السبعية بقراءة شاذة فيشهد للبيان الذي بينا به أن نائب الفاعل: ( ربي
قال الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22] إلى آخره. ((مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، أي: شاقهما وخالف أمرهما، يعني: لا تجد قوماً جامعين بين الإيمان بالله واليوم الآخر وبين مودة أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والمراد بنفي الوجدان نفي الموادة على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك، وحقه أن يمتنع، ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته، والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراز من مخالطتهم ومعاشرتهم. يعني: ((لا تجد قوماً)) أسلوب خبري؛ لأن (لا) هنا نافية وليست ناهية؛ لكنه ظاهره النفي ومراده النهي، كقوله: (لا ضرر ولا ضرار) وقوله: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] فهذا خبر لكن المقصود به: ( لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا ) فالمقصود هنا: أن هذا من شدة تأكده ولزومه على المؤمنين، كأنه لا يمكن أن تجد مؤمناً يحب الله ورسوله يجمع بين الإيمان ومودة أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمراد بنفي الوجدان نفي المودة، يعني: لا توادوهم أبداً، على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتوصية في التصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراز من مخالطتهم ومعاشرتهم. وزاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله: (( وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ )) إلى آخره. (( وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ )) يعني: آباء الموادين، والضمير في (كانوا) لمن حادوا الله ورسوله، يعني: ولو كان هؤلاء الذين حادوا الله ورسوله آباءهم أو أبناءهم إلى آخره، ونلاحظ هنا جمعاً وإفراداً، الإفراد بقوله: (حاد الله) وفاعله ضمير تقديره هو، يعود إلى (من) فالإفراد بالنظر إلى اللفظ، ثم باعتبار المعنى فقال: (( وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ )) فلذلك يقول القاسمي رحمه الله تعالى: والجمع باعتبار معنى (من)، كما أن الإفراد فيما قبله باعتبار لفظها، فإن قضية الإيمان هجر المحادين. (( أُوْلَئِكَ )) إشارة إلى الذين لا يوادونهم (( كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ )) أي: أسسه فيها ((وأيدهم بروح منه))، أي: بنور وعلم ولطف حيت به قلوبهم في الدنيا، وأشار إلى مآلهم في الآخرة بقوله: (( وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ))، أي: الناجحون الفائزون بسعادة الدارين. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وردت هذه الآية الكريمة بلفظ الخبر: (( لا تَجِدُ قَوْمًا )) والمراد بها الإنشاء، وهذا للنهي البليغ والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله، وإيراد الإنشاء بلفظ الخبر أقوى وأوكد من إيراده بلفظ الإنشاء كما هو معلوم بمحله. ومعنى قوله: (( يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ))، أي: يحبون ويوالون أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وما جاء في هذه الآية من النهي والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله جاء موضحاً في آيات أخر، كقوله تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4]. أكاد أجزم والله تعالى أعلم لو أن هؤلاء المؤمنين إبراهيم والذين معه عاشوا في عصرنا لقيل لهم: أنتم متطرفون وإرهابيون ... إلى آخر هذه القائمة من الشتائم المعروفة. فحقيقة ما يحصل الآن هو غسيل مخ للمسلمين في ظل نظام العولمة، وهذا يهدم أصلاً أصيلاً من أصول الإيمان بعد التوحيد مباشرة، وهو حق من حقوق التوحيد، ألا وهو قضية الولاء والبراء؛ فالآن تجري عملية تغريب عن طريق بث هذه الأفكار المسمومة، وليس التغريب بمعنى التبعية للغرب كما هو شائع، لكن التغريب زيادة غربة الإسلام بين أهله، حتى أن الذي يقول هذا الكلام أصبح إنساناً شاذاً متطرفاً مهووساً مجنوناً يريد الفتنة، ويريد كذا وكذا. فهذه زيادة غربة الإسلام بإشاعة المفاهيم المسمومة حتى تزداد غربة المفاهيم الصحيحة، ويصبح القائم بها هو الشاذ المتطرف الإرهابي. ويقول تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، الآن نحل محلها الأخوة الإنسانية، وحقوق الإنسان، إلى آخر هذه المصطلحات. ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]. وقوله هنا في هذه الآية الكريمة: (( وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ )) زعم بعضهم أنها نزلت في أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قائلاً: إنه قتل أباه كافراً يوم بدر أو يوم أحد. وقيل نزلت: في عبد الله بن عبد الله بن أبي وزعم من قال ذلك أن عبد الله استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه عبد الله بن أبي فنهاه. وقيل نزلت: في أبي بكر ، وزعم من قال ذلك أن أباه أبا قحافه سب النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه فضربه ابنه أبو بكر حتى سقط. (( أَوْ أَبْنَاءَهُمْ )) زعم بعضهم أنها نزلت في أبي بكر حين طلب مبارزة ابنه عبد الرحمن يوم بدر. (( أَوْ إِخْوَانَهُمْ )) زعم بعضهم أنها نزلت في مصعب بن عمير ، قالوا: قتل أخاه عبيدة بن عمير ؛ وقال بعضهم: مر بأخيه يوم بدر وقد كان يأسره رجل من المسلمين، فقال: شدد عليه الأسر، فإن أمه ملية وستفديه. (( أَوْ عَشِيرَتَهُمْ )) قال بعضهم: نزلت في عبيدة بن الحارث بن المطلب وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم لما قتلوا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة في المبارزة يوم بدر وهم بنو عمهم؛ لأنهم أولاد ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف وعبد شمس أخو هاشم كما لا يخفى. (( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ))، أي: ثبته في قلوبهم بتوفيقه. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تثبيت الإيمان في قلوبهم جاء موضحاً في قوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات:7-8].
وجوب التصلب في الدين في مقابلة المبطلين
أهل الذمة لا يدخلون في حكم المحادين لله ورسوله
يقول القاسمي في تفسير هذه الآية الكريمة: من أشباه هذه الآيات قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]. وقال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]. ثم نقل عن ابن كثير ما نقلناه آنفاً عن سبب نزول هذه الآيات: أن آية كذا نزلت في فلان قتل أخاه، وفلان قتل أباه.. إلى آخره. قال القاسمي : وقد بينا مراراً أن المراد بسبب النزول في مثل ذلك: صدق الآية على هؤلاء، وما أتوا به من التصلب في دين الله في مقابلة المبطلين، ولو كانوا من أقرب الأقربين. قال ابن كثير : ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر، فأشار الصديق بأن يفادوا، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين وهم بنو العم والعشيرة، ولعل الله تعالى أن يهديهم؛ وقال عمر: لا أرى ما يرى يا رسول الله، إلا أن تمكني من فلان، وتمكن علياً من عقيل ، وتمكن فلاناً من فلان ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين. وقال ابن كثير: في قوله تعالى: (( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )) سر بديع، وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله تعالى، عوضهم الله بالرضا عنهم وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم والفوز العظيم والفضل العميم.