كتاب منهج السالكين - كتاب البيوع [11]


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده تعالى ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل, وبعد:

يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب الجعالة والإجارة. وهما: جعل مال معلوم لمن يعمل له عملاً معلوماً, أو مجهولاً في الجعالة ومعلوماً في الإجارة, أو على منفعة في الذمة؛ فمن فعل ما جعل عليه فيهما استحق العوض وإلا فلا، إلا إذا تعذر العمل في الإجارة؛ فإنه يتقسط العوض ].

تعريف الجعالة والإجارة وحكمهما

قول المؤلف: (باب الجعالة والإجارة), الجعالة: مثلثة الجيم, تقول: جَعالة وجِعالة وجُعالة, وهي جائزة عند عامة أهل العلم خلافاً لـأبي حنيفة , وقد قال الله تعالى: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72], وثبتت كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد في قصة اللديغ الذي لدغ, فذهب إلى نفر من الصحابة فقال: ( هل فيكم من راق؟ فقال أحدهم: أنا أرقي, وماذا تعطونا؟ قالوا: نعطيكم قطيعاً من الغنم, قال: فرقى هذا اللديغ فكأنما نشط من عقال ), وهذا يدل على أنها رقية جعالة, وهذه لا بأس بها.

والمؤلف قال: (وهما), يعني: الجعالة والإجارة, والإجارة: هي عقد على عمل أو على منفعة.

فتكون عقداً على عمل مثل: أن يعمل له هذا العمل، وتكون عقداً على منفعة مثل: أن يكون عند شخص شيء من المنافع, فيؤجرها إلى الغير, مثل أن يكون عنده أرض فيؤجرها, أو منزل فيؤجره, فهذه الإجارة إجارة عقد على منفعة.

الفرق بين الجعالة والإجارة

المؤلف رحمه الله ذكر بعض الفروق بين الجعالة والإجارة, وهي:

الفرق الأول: أن الإجارة عقد لازم, فلا يجوز لأي واحد من المتعاقدين فسخه, إلا إذا هلكت العين المؤجرة, وأما الجعالة فهي عقد جائز, وليس بلازم, إلا إذا ظهر الشيء, أو انتهى العمل فتكون لازمة, وأما إذا لم ينته العمل, فإن كان الفسخ من العامل فليس له شيء, فلو قال رجل: من يبني لي هذا الجدار كاملاً فله خمسون ألفاً, فجاء شخص فبنى نصفه, ثم قال: أنا لا أريد أن أعمل, أعطني أجرة عملي، فإن المذهب يقول: ليس له شيء؛ لأنه اشترط كامل العمل, فإن كان الفسخ من العامل فلا يستحق شيئاً, وإن كان الفسخ من صاحب العمل -الذي هو الجاعل- فإن العامل يستحق أجرة عمله.

والله أعلم.

الفرق الثاني: العمل في الإجارة لا بد أن يكون معلوماً, وأما في الجعالة فلا يشترط أن يكون العمل معلوماً, فلو قال رجل: من رد ضالتي فله كذا, فيمكن أن يخرج من المسجد فيجدها, ويمكن أن يبحث سنة ثم يجدها, فهذا العمل مجهول, وأما الإجارة فلا يجوز أن يكون العمل فيها مجهولاً, بل لا بد أن يكون العمل معلوماً.

الفرق الثالث: أن المدة في الإجارة لا بد أن تكون معلومة, وأما في الجعالة فلا يشترط أن تكون المدة معلومة.

الفرق الرابع: أن العقد في الإجارة لا بد أن يكون على معين, فلا بد أن أعقد على عبد الملك مثلاً، أو على الشركة الفلانية, أو على الجماعة الفلانية, وأما الجعالة فيجوز أن يكون معلوماً ويجوز أن يكون مجهولاً, فيقول الرجل: من رد ضالتي فله كذا, فالعاقد الآخر غير معلوم في الجعالة, أما في الإجارة فلا بد أن يكون معلوماً.

الخامس: أن الإجارة لا تحتمل الغرر, فإذا وجد الغرر في الأجرة مثلاً أو في المدة, فإنها لا تصح على مذهب الجمهور أما الجعالة فيجوز أن تكون المدة أو العوض غير معلوم, مثل أن يقول رجل: من رد جملي فله ثلثه, ولا يدري كم قيمته فإنه يمكن أن يكون غالياً, ويمكن أن يكون رخيصاً ويمكن أن تكون بكرة، ويمكن يكون حاشياً, فهذا يجوز أيضاً على مذهب جمهور الفقهاء.

قول المؤلف: (فمن فعل ما جعل عليه فيهما استحق العوض, وإلا فلا), فالجعالة إذا ثبت له العمل استحق كامل العوض, فإن فسخ في أثناء العمل فليس له شيء في الجعالة, وأما إن كان الفسخ من رب العمل, فإن له أجرة المثل, وأما الإجارة فإن العقد يكون لازماً, إلا إذا هلكت العين المؤجرة, مثل لو أجرتك دابتي تسافر بها من الرياض إلى مكة, ثم لما وصلت إلى ظلم مثلاً هلكت الدابة, فهنا فسخت الإجارة, وصاحب الجمل يستحق أجرة المنفعة من الرياض إلى ظلم؛ ولهذا قال: (إلا إذا تعذر العمل في الإجارة, فإنه يتقسط العوض), والله أعلم.

إذا قال مثلاً: الإجارة عشرة آلاف فيقسط, فيقول: كل عشرة كيلو مائة ريال, أو خمسين ريالاً, أو ألف ريال, وعلى هذا فقس، هذا هو التقسط.

يقول المؤلف رحمه الله تعالى: ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره ), رواه مسلم ].

الحديث لم يروه مسلم وإنما رواه البخاري كما هو معروف, وهذا الحديث أشار به المؤلف رحمه الله إلى أن الإجارة لا بد فيها من إعطاء حقه, ويشترط أن تكون معلومة فلو قال: لك الثلث من الربح, منعه الجمهور، وجوزه أحمد رحمه الله في رواية. ولو قال صاحب محفظة أسهم: أريدك أن تعمل بمحفظتي, على أن لك الربع من هذه الأسهم, فهذه إجارة عمل, وهي ممنوعة عند الجمهور؛ لأنه لا بد أن تكون الإجارة معلومة المال حال العقد, فلا بد أن يقول: لك الثلث الآن, فإذا كان في المحفظة مليون ريال, فيقول: لك الثلث, أي: ثلاثمائة ألف, أو لك واحد في المائة الآن. والله تبارك وتعالى أعلم.

سبق أن ذكرنا أن الجعالة والإجارة بينهما اختلاف واجتماع, وتختلف الجعالة عن الإجارة في خمسة أشياء:

الفرق الأول: أن الجعالة عقد جائز, فيجوز للجاعل أو المجعول له أن يتفاسخا, وثمة تفاصيل في هذا الباب بخلاف الإجارة, فإن الإجارة عقد لازم.

الفرق الثاني: أن العمل في الإجارة يشترط فيه العلم, في حين أن العمل في الجعالة لا يشترط فيه, فلو قال: من رد ضالتي فله كذا, فتطلب هذا العمل أياماً أو وقتاً, فكل ذلك جائز.

أما المدة في الإجارة فلا بد أن تكون معلومة, في حين أن الإجارة لا يلزم.

الفرق الثالث: أن العقد لا بد أن يكون في الإجارة مع شخص معين, بأن يبرم العقد معه, وأما في الجعالة فله أن يقول لفلان: يا فلان! إن رددت ضالتي فلك كذا, أو أن يقول: من رد ضالتي فله كذا.

الفرق الرابع: أن الغرر يحتمل في الجعالة أكثر مما يحتمل في الإجارة, فثمة غرر كبير في الجعالة, مما جعلت أبا حنيفة يمنع من الجعالة, في حين أن الجمهور جوزوها؛ لدعاء الحاجة في هذا الباب, وعلى هذا فالجعالة أوسع من الإجارة.

الفرق الخامس: أن الجعالة على مذهب الحنابلة تجوز في القرب ولا تجوز الإجارة في القرب, فلو قال شخص: أصلي لكم في رمضان, وقالوا له مثلاً: إن قرأت على مريضنا فلك كذا, فقرأ فشفي, جاز ذلك؛ لأن هذا من باب الجعالة, أما لو قال: أصلي لكم بكذا, فعلى مذهب الحنابلة لا يجوز؛ لأن هذا نوع إجارة.

وعلى القول الثاني في المسألة: أنه ليس ثمة فرق؛ لأنه يجوز الإجارة في القرب على مذهب أحمد في رواية, وهو قول بعض المحققين وهو الأقرب, ولا يسع الناس في هذا الزمان إلا هذا, فأكثر عقود الناس مع وزارة التربية والتعليم عقود إجارة, وأكثرهم يعلم القرآن, والثاني يعلم الفقه, وكلها من القرب التي هي على مذهب الحنابلة لا تجوز.

تعريف الإجارة وحكم تأجير العين المستأجرة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وتجوز إجارة العين المؤجرة على من يقوم مقامه لا بأكثر منه ضرراً؛ ولا ضمان فيهما بدون تعد ولا تفريط ].

المؤلف رحمه الله يقول: (وتجوز), الآن دخل في باب الإجارة, والإجارة: عقد لازم لمن يقوم بعمل أو لمن ينتفع بها, عقد يقوم على عمل, أو الانتفاع بالعين, مدة معلومة بأجر معلوم.

ويجوز للمستأجر أن يؤجر العين التي استأجرها لغيره بشروط:

الشرط الأول: ألا يمانع المؤجر من ذلك, فلو قال المؤجر للمستأجر: أؤجرك العين شريطة ألا تؤجرها للغير, فإنه لا يجوز أن يؤجر المستأجر هذه العين للغير, سواء عمل بمثل عمل المستأجر أو أقل, كل ذلك ممنوع؛ لأن المؤجر مالك للسلعة, وقد أذن للمستأجر بالعقد واشترط عليه, وللإنسان أن يقيد في التصرف في ملكه ما شاء.

الشرط الثاني: ألا يزيد المستأجر الثاني بالانتفاع من المنفعة بأكثر مما يعمله المستأجر الأول, وهذا في ما يعود عليه بالضرر, فلو أن شخصاً أجر على علي محلاً, هذا المحل المفترض أن يؤجره عليه؛ لأجل أن يفتح محلات بيع ثياب, فقام علي فأجره إلى محمد فصنع فيه تنوراً, يعني: مخبزاً, هذا المخبر سيؤثر على المبنى, فهذا فيه ضرر, ولهذا يمنع؛ لأنه سوف ينتفع فيه بأكثر مما انتفع فيه المستأجر الأول, فأما إن لم يمانع المؤجر, ولم ينتفع المستأجر الثاني بأكثر مما ينتفع المستأجر الأول, فالأصل فيه الجواز, والله أعلم.

وعلى هذا فلو أن المؤجر مانع من تأجير المستأجر الغير في حين أن العقد لم ينص عليه, فلا يصح له أن يمنعه بعد أن تم العقد بلا شرط لا يصح, ولا يسوغ له, وإذا أراد أن يمنعه فإذا انتهى العقد فلا يجدد له إلا بالشرط الذي يريد.

أحكام متعلقة بالضمان في الجعالة والإجارة

يقول المؤلف: (ولا ضمان فيهما بدون تعدٍ ولا تفريط), يعني: لو أن الجاعل قال: من رد ضالتي فله شاة, من رد بعيري فله شاة, فجاء المجعول له, فوجد البعير, فالبعير في يد المجعول له يد أمانة, وعلى هذا فلو هلك البعير في يد المجعول له من غير تعدٍ ولا تفريط فلا ضمان عليه؛ لأنه أمين، والأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط.

أما الإجارة فهي تنقسم إلى قسمين: أجير خاص وأجير مشترك.

الأجير الخاص: هو الذي يعمل لدى المؤجر مدة معلومة, فيكون قد حبس وقتاً معيناً للمؤجر, فهنا لا يضمن الأجير الخاص إلا بالتعدي أو التفريط, هذا قول عامة أهل العلم, فالموظف الذي يعمل لدى شركة معينة يسمى: أجيراً خاصاً، فلو هلك جهاز الحاسب, مثلاً دخل موقعاً, فصار هذا الموقع فيه فيروس, فاحتاج هذا الجهاز إلى الفرمتة, وتطلب مبلغاً كبيراً, نقول: إن فرط, بأن دخل مواقع لم يبح له من جهة العمل فيكون قد تعدى, وإن لم يتعد, بل طلب منه أن يبحث عبر الإنترنت عن مسائل معينة فدخل, فترتب على ذلك الحاجة إلى تنظيف الجهاز, فحينئذٍ نقول: لا يضمن, لأنه أمين, والأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط, هذا هو الأجير الخاص.

ومثال ذلك: لو استأجر شخص سيارة من محلات الأجرة, فهذا في حكم الأجير الخاص؛ لأنه سوف ينتفع من العين مدة معلومة, فلو هلكت السيارة من غير تعدٍ ولا تفريط, فلا يضمن, فلو كان شخص يقود السيارة ووقف عند الإشارة, والسيارة قد أخذها بالأجرة, فجاء شخص من الأشخاص وهو يقوم بتفحيط السيارة, فصدم هذا الشخص, فهل يضمن؟ لا يضمن, لماذا؟ لأنه لم يتعد ولم يفرط.

وهنا مسألة: لو أن المؤجر اشترط على المستأجر أن يضمن -ولو لم يتعد أو يفرط- ما هلك تحت يده, مثال لهذه المسألة: قال المؤجر: أؤجرك, لكن أنا ما أعرفك, وعندي شركة سيارات كثيرة, وكل يوم يأتيني شخص, سأعمل معك عقداً على أنه إن هلكت السيارة وهي بيدك وتحت تصرفك, فإنك تضمن ولو لم تتعد أو تفرط, فقبل بذلك, فهل يصح الشرط, أم لا؟

هذه المسألة من أعقد المسائل, فذهب الحنابلة في المشهور عندهم, وهو مذهب الشافعية إلى أن هذا الشرط فاسد, لماذا؟ قالوا: لأنه شرط يخالف مقتضى العقد, فإن مقتضى العقد أن الضمان يكون على المؤجر؛ لأن الضمان على صاحب العين, فإذا حمل الضمان على المستأجر, فكل شرط في الضمان يخالف أصل العقد، فهو شرط فاسد, وكل شرط أوجبه الضمان ولم يوجبه العقد فهو شرط فاسد, هذا هو مذهب الحنابلة.

والقول الثاني في المسألة: أن للمؤجر أن يضمن المستأجر ما تلف تحت يده ولو لم يتعد أو يفرط بالشرط, وهو رواية عند الإمام أحمد , سئل عن ذلك فقال: لا بأس, المسلمون على شروطهم, ومن التزم على نفسه أمراً فلا بأس, فإن قالوا: يلزم من هذا أن الشرط يعود على أصل العقد بالمخالفة, قلنا: ولا ضير؛ لأن العارية الأصل فيها أنها أمانة, ولكنها لو اشترط عليه بالضمان لجاز, وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله, هذا هو القسم الأول, الأجير الخاص.

أما الأجير المشترك: فهو من يعمل عملاً لواحد أو أكثر، فهو مقيد بالعمل لا بالوقت, كالخياط والغسال, والنقل الجماعي, فهذا عقده مع الغير عقد مشترك, فالأصل في هذا أنه أمين؛ لكن لأجل اختلاف الزمان وربما ضاعت أموال كثيرة على المسلمين بسبب تفريط هذا المستأجر جعل كثير من أهل العلم يقولون: يضمن الأجير المشترك, وإن كان الأصل أنه لا يضمن, وهذا هو قول علي رضي الله عنه, كما روى عنه مالك في المدونة أنه قال: لا يصلح الناس إلا هذا, وهو قول أكثر أهل العلم, كالحنابلة وغيرهم, وهو قول مالك و أبي حنيفة و أحمد .

وذهب أبو يوسف من الحنفية, وهي رواية عند الإمام أحمد -كأن المؤلف رحمه الله وهو الشيخ ابن سعدي يميل إليه- أن الأجير المشترك لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط, قالوا: لأن الأصل أن المستأجر أمين, سواء كان أجيراً خاصاً، أم أجيراً مشتركاً, ولا يثبت الضمان إلا بدليل, ولا دليل, والذي يظهر والله أعلم هو قول أكثر أهل العلم؛ وذلك لأمور:

أولاً: لأننا صححنا أن الأجير الخاص يضمن بالشرط, فإن الأجير المشترك تضمينه هنا من باب الشرط العرفي, فإن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً, ولا يسع الناس إلا هذا, فلو طلب الإنسان مشلحه الذي اشتراه بمبلغ كبير, وهذه الفتاة التي أرادت غسل فستانها الذي خاطته بمبلغ عظيم, ثم قال الخياط: غسلته ففسد, وأنا أمين ولا أضمن, كم من الفساد الذي سيحصل, لكنه إذا علم أنه سوف يضمن, فإنه ابتداء سوف يقول لصاحب الفستان: لا أستطيع أن أقوم بغسله؛ لأنه ليس عنده غسيل بخار, أما أن يأخذه بدعوى أن عنده غسيل بخار, فماذا يصير عليه؟ يفسد, وهذا يحصل كثيراً عند أصحاب الثياب الصوفية الطبيعية, ينكمش الثوب ويخرب.

أو غسل المشالح ممن لا يحسنه, فيقول: أنا أمين, والأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط, وأنا والله ما قصرت في هذا, والحقيقة أنه قصر بجهله وإن لم يقصر بعمله.

وعلى هذا فالذي يظهر والله أعلم: أن الأجير المشترك يضمن, خلافاً لما ذكره المؤلف, وقلنا: هو قول جمهور أهل العلم. والله أعلم.

إبرام عقد الإجارة من غير معرفة الثمن

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي الحديث: ( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ), رواه ابن ماجه ].

هذا الحديث رواه ابن ماجه و البيهقي من حديث أبي سعيد , والحديث ضعفه أكثر أهل العلم, إلا أن المتأخرين قووه, والذي يظهر أن الحديث ضعيف.

وهذا الحديث فيه مسألة وهي: هل يجوز إبرام عقد الإجارة من غير معرفة الثمن؟ فإننا قلنا في عقد البيع: لا يصح عقد البيع مع جهالة الثمن, فهل يقال: إنه لا بد من معرفة الأجرة حين إبرام عقد الإجارة؟

جمهور أهل العلم اشترطوا ذلك, قالوا: وإن تم العقد من غير معرفة الثمن ثم انتهى العمل, فالعقد إجارة فاسدة وليس للمستأجر إلا أجرة المثل.

خذ مثالاً: لو ذهبت إلى طبيب في مستشفى كبير, لديه خدمات كبيرة, فإن أجرة الكشف عالية, ولو ذهبت إلى طبيب في مستشفى في إحدى زوايا الحي, فإن قيمة الكشف زهيدة, وإن كان تخصصهما وشهادتهما واحدة, فلو أنه جاء شخص فقال: بكم الكشف؟ قال: والله مركز الاستعلامات غير موجود, أنت ادخل على الطبيب, فدخل على الطبيب, وقال له: يا دكتور! أنا أريد أن أكشف لكن لا أدري بكم الكشف, قال: نعالجك الآن ونحاسبك فيما بعد, فعالجه, فلما انتهى قال: ادفع ثلاثمائة ريال, قال: لم؟ قال: لأن تسعيرتنا ثلاثمائة ريال, قال: أنتم لم تخبروني, فرفض, فماذا يكون الحكم؟ فعلى مذهب الجمهور يقولون: ليس له إلا أجرة المثل, وعلى أنه لو أبرم العقد فإنه يكون له ثلاثمائة, هذا هو الفرق, وهذا هو الظاهر. والله تبارك وتعالى أعلم.

والراجح أن الإجارة لا تفسد, وأن له أجرة المثل, إن اتفقا على العمل فله أجرة مثله وليس له أجرة المثل, ثمة فرق أم لا؟ هناك فرق, إذا قلنا له: أجرة مثله, فإننا ننظر إلى المحل الذي في المستشفى الذي له خدمات كبيرة, فبطبيعة الحال سوف يكون أجرة مثله ثلاثمائة, وإذا نظرنا إلى أجرة العمل ابتداءً, فإننا لا ننظر إلى هذه الاعتبارات التي ذكرناها, وهذا هو الراجح والله أعلم, وهو مذهب أحمد وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله, أن له أجرة مثله وليس له أجرة المثل, والفرق بينهما: أننا ننظر في القول الأول إلى العمل نفسه, وأما الثاني فننظر إلى العمل وإلى من عمل به. والله أعلم.

قول المؤلف: (باب الجعالة والإجارة), الجعالة: مثلثة الجيم, تقول: جَعالة وجِعالة وجُعالة, وهي جائزة عند عامة أهل العلم خلافاً لـأبي حنيفة , وقد قال الله تعالى: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72], وثبتت كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد في قصة اللديغ الذي لدغ, فذهب إلى نفر من الصحابة فقال: ( هل فيكم من راق؟ فقال أحدهم: أنا أرقي, وماذا تعطونا؟ قالوا: نعطيكم قطيعاً من الغنم, قال: فرقى هذا اللديغ فكأنما نشط من عقال ), وهذا يدل على أنها رقية جعالة, وهذه لا بأس بها.

والمؤلف قال: (وهما), يعني: الجعالة والإجارة, والإجارة: هي عقد على عمل أو على منفعة.

فتكون عقداً على عمل مثل: أن يعمل له هذا العمل، وتكون عقداً على منفعة مثل: أن يكون عند شخص شيء من المنافع, فيؤجرها إلى الغير, مثل أن يكون عنده أرض فيؤجرها, أو منزل فيؤجره, فهذه الإجارة إجارة عقد على منفعة.

المؤلف رحمه الله ذكر بعض الفروق بين الجعالة والإجارة, وهي:

الفرق الأول: أن الإجارة عقد لازم, فلا يجوز لأي واحد من المتعاقدين فسخه, إلا إذا هلكت العين المؤجرة, وأما الجعالة فهي عقد جائز, وليس بلازم, إلا إذا ظهر الشيء, أو انتهى العمل فتكون لازمة, وأما إذا لم ينته العمل, فإن كان الفسخ من العامل فليس له شيء, فلو قال رجل: من يبني لي هذا الجدار كاملاً فله خمسون ألفاً, فجاء شخص فبنى نصفه, ثم قال: أنا لا أريد أن أعمل, أعطني أجرة عملي، فإن المذهب يقول: ليس له شيء؛ لأنه اشترط كامل العمل, فإن كان الفسخ من العامل فلا يستحق شيئاً, وإن كان الفسخ من صاحب العمل -الذي هو الجاعل- فإن العامل يستحق أجرة عمله.

والله أعلم.

الفرق الثاني: العمل في الإجارة لا بد أن يكون معلوماً, وأما في الجعالة فلا يشترط أن يكون العمل معلوماً, فلو قال رجل: من رد ضالتي فله كذا, فيمكن أن يخرج من المسجد فيجدها, ويمكن أن يبحث سنة ثم يجدها, فهذا العمل مجهول, وأما الإجارة فلا يجوز أن يكون العمل فيها مجهولاً, بل لا بد أن يكون العمل معلوماً.

الفرق الثالث: أن المدة في الإجارة لا بد أن تكون معلومة, وأما في الجعالة فلا يشترط أن تكون المدة معلومة.

الفرق الرابع: أن العقد في الإجارة لا بد أن يكون على معين, فلا بد أن أعقد على عبد الملك مثلاً، أو على الشركة الفلانية, أو على الجماعة الفلانية, وأما الجعالة فيجوز أن يكون معلوماً ويجوز أن يكون مجهولاً, فيقول الرجل: من رد ضالتي فله كذا, فالعاقد الآخر غير معلوم في الجعالة, أما في الإجارة فلا بد أن يكون معلوماً.

الخامس: أن الإجارة لا تحتمل الغرر, فإذا وجد الغرر في الأجرة مثلاً أو في المدة, فإنها لا تصح على مذهب الجمهور أما الجعالة فيجوز أن تكون المدة أو العوض غير معلوم, مثل أن يقول رجل: من رد جملي فله ثلثه, ولا يدري كم قيمته فإنه يمكن أن يكون غالياً, ويمكن أن يكون رخيصاً ويمكن أن تكون بكرة، ويمكن يكون حاشياً, فهذا يجوز أيضاً على مذهب جمهور الفقهاء.

قول المؤلف: (فمن فعل ما جعل عليه فيهما استحق العوض, وإلا فلا), فالجعالة إذا ثبت له العمل استحق كامل العوض, فإن فسخ في أثناء العمل فليس له شيء في الجعالة, وأما إن كان الفسخ من رب العمل, فإن له أجرة المثل, وأما الإجارة فإن العقد يكون لازماً, إلا إذا هلكت العين المؤجرة, مثل لو أجرتك دابتي تسافر بها من الرياض إلى مكة, ثم لما وصلت إلى ظلم مثلاً هلكت الدابة, فهنا فسخت الإجارة, وصاحب الجمل يستحق أجرة المنفعة من الرياض إلى ظلم؛ ولهذا قال: (إلا إذا تعذر العمل في الإجارة, فإنه يتقسط العوض), والله أعلم.

إذا قال مثلاً: الإجارة عشرة آلاف فيقسط, فيقول: كل عشرة كيلو مائة ريال, أو خمسين ريالاً, أو ألف ريال, وعلى هذا فقس، هذا هو التقسط.

يقول المؤلف رحمه الله تعالى: ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره ), رواه مسلم ].

الحديث لم يروه مسلم وإنما رواه البخاري كما هو معروف, وهذا الحديث أشار به المؤلف رحمه الله إلى أن الإجارة لا بد فيها من إعطاء حقه, ويشترط أن تكون معلومة فلو قال: لك الثلث من الربح, منعه الجمهور، وجوزه أحمد رحمه الله في رواية. ولو قال صاحب محفظة أسهم: أريدك أن تعمل بمحفظتي, على أن لك الربع من هذه الأسهم, فهذه إجارة عمل, وهي ممنوعة عند الجمهور؛ لأنه لا بد أن تكون الإجارة معلومة المال حال العقد, فلا بد أن يقول: لك الثلث الآن, فإذا كان في المحفظة مليون ريال, فيقول: لك الثلث, أي: ثلاثمائة ألف, أو لك واحد في المائة الآن. والله تبارك وتعالى أعلم.

سبق أن ذكرنا أن الجعالة والإجارة بينهما اختلاف واجتماع, وتختلف الجعالة عن الإجارة في خمسة أشياء:

الفرق الأول: أن الجعالة عقد جائز, فيجوز للجاعل أو المجعول له أن يتفاسخا, وثمة تفاصيل في هذا الباب بخلاف الإجارة, فإن الإجارة عقد لازم.

الفرق الثاني: أن العمل في الإجارة يشترط فيه العلم, في حين أن العمل في الجعالة لا يشترط فيه, فلو قال: من رد ضالتي فله كذا, فتطلب هذا العمل أياماً أو وقتاً, فكل ذلك جائز.

أما المدة في الإجارة فلا بد أن تكون معلومة, في حين أن الإجارة لا يلزم.

الفرق الثالث: أن العقد لا بد أن يكون في الإجارة مع شخص معين, بأن يبرم العقد معه, وأما في الجعالة فله أن يقول لفلان: يا فلان! إن رددت ضالتي فلك كذا, أو أن يقول: من رد ضالتي فله كذا.

الفرق الرابع: أن الغرر يحتمل في الجعالة أكثر مما يحتمل في الإجارة, فثمة غرر كبير في الجعالة, مما جعلت أبا حنيفة يمنع من الجعالة, في حين أن الجمهور جوزوها؛ لدعاء الحاجة في هذا الباب, وعلى هذا فالجعالة أوسع من الإجارة.

الفرق الخامس: أن الجعالة على مذهب الحنابلة تجوز في القرب ولا تجوز الإجارة في القرب, فلو قال شخص: أصلي لكم في رمضان, وقالوا له مثلاً: إن قرأت على مريضنا فلك كذا, فقرأ فشفي, جاز ذلك؛ لأن هذا من باب الجعالة, أما لو قال: أصلي لكم بكذا, فعلى مذهب الحنابلة لا يجوز؛ لأن هذا نوع إجارة.

وعلى القول الثاني في المسألة: أنه ليس ثمة فرق؛ لأنه يجوز الإجارة في القرب على مذهب أحمد في رواية, وهو قول بعض المحققين وهو الأقرب, ولا يسع الناس في هذا الزمان إلا هذا, فأكثر عقود الناس مع وزارة التربية والتعليم عقود إجارة, وأكثرهم يعلم القرآن, والثاني يعلم الفقه, وكلها من القرب التي هي على مذهب الحنابلة لا تجوز.