كتاب منهج السالكين - كتاب البيوع [6]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل. وبعد:

وصلنا إلى باب الحجر لفلس أو غيره.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب الحجر لفلس أو غيره.

ومن له الحق فعليه أن ينظر المعسر، وينبغي له أن ييسر على الموسر، ومن عليه الحق فعليه الوفاء كاملاً بالقدر والصفات، قال صلى الله عليه وسلم: ( مطل الغني ظلم، وإذا أحيل بدينه على مليء فليحتل )، متفق عليه، وهذا من المياسرة، فالمليء: هو القادر على الوفاء الذي ليس مماطلاً ويمكن تحضيره لمجلس الحكم].

يقول المؤلف: (باب الحجر)، الحجر في اللغة: التضييق والحبس والمنع أيضاً، ولذا سمي العقل حجراً؛ لأنه يمنع صاحبه من التصرف بما لا يليق.

وأما في الاصطلاح: فهو منع الإنسان من التصرف في ماله.

والحجر ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، ففي الكتاب قال الرب عز وجل: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5].

وأما من السنة: فقد جاء في بعض الروايات (أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله بسبب دينه)، وهذا الحديث مشتهر عند الفقهاء وهو حديث ضعيف، إلا أن السنة ثابتة على أن الإنسان ينبغي له أن يتصرف بمال الصبي، أو بمال اليتيم بالحسنى، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه سلم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

يقول المؤلف: (باب الحجر لفلس أو غيره)، دل ذلك على أن باب الحجر يكون لمعنيين، أو لقسمين:

القسم الأول: الحجر لحظ المحجور عليه، وهو أن يحجر على الصبي بأن يمنع من التصرف بماله، أو يحبس عن السفيه، إذا كان لا يحسن التصرف، أو يحبس عن بعض القصر الذين لا يحسنون التصرف بأموالهم، فهذا يسمى: حجراً لحظ المحجور عليه.

القسم الثاني: حجر لحظ الغير، وذلك بأن يمنع الإنسان من التصرف بماله؛ بسبب أن ماله قد تعلقت به حقوق الغرماء، مثل: أن يمنع الإنسان من أن يتصرف بماله إذا كان دينه أكثر من ماله، فإذا حكم الحاكم على ماله، فإنه لا يصح التصرف بعين ماله، نعم، يتصرف بذمته لكنه لا يتصرف بعين ماله؛ لأنه قد تعلقت به حقوق الغرماء، كذلك لا يصح للإنسان أن يتصرف بالرهن إذا كان بيد المرتهن، فلا يجوز للراهن أن يبيع العين المرهونة إذا كانت بيده؛ لأنها تعلقت بها حقوق الغير.

وقل مثل ذلك: لا يجوز للإنسان أن يبيع حصته إذا كان له شريك ولم تصرف الطرق إلا بعد إذن شريكه، وإلا فإن لشريكه الحق في ما يسمى بالشفعة.

هذان قسمان، ولكل قسم أحكام.

والمؤلف ذكر أن المدين لا يخلو من حالين:

الحالة الأولى: إذا كان المدين معسراً.

فالمفلس: من لزمه من الدين أكثر من الموجود، وهناك فرق بين المفلس والمعسر، فالمفلس هو من ليس عنده مال ألبتة، أو يكون عنده مال لكنه لا يفي بدينه.

أما المعسر: فهو الذي ليس عنده مال ألبتة، ولا يستطيع أن يسدد دين غريمه.

فإن كان معسراً وجب إنظاره، وحرمت مطالبته أو ملازمته، ومعنى ملازمته: أي أن يأتي شخص يلاحقه، فمثلاً لو أن شخصاً عليه دين، فيقول الدائن: سدد، يقول: لا، فيقول الدائن: حسن، ويذهب ليتفق مع الخدمات العامة لتحصيل الديون؛ لأجل أن يجلسوا عند مكتبه، بحيث يحس الآخرون أن عنده إشكالاً في التعامل معه؛ فيضطر لأجل السمعة أن يسدد دينه بسبب هذه الملازمة.

إذاً: إذا كان معسراً فإنه يحرم ملازمته أو مطالبته، فلا يجوز إذا رآه في المسجد مثلاً أن يقول له: يا فلان! اتق الله، وأعطني مالي. وهو ليس عنده مال.

فالمطالب هنا آثم، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، وكلمة: فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] خبر بمعنى: الأمر.

ومن السنة، ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للغرماء بعدما وجدوا شيئاً من المال عند المدين: خذوا ما وجدتم، ليس لكم إلا ذلك )، وهذا الحكم بإجماع العلماء، كما نقل ذلك ابن تيمية رحمه الله، وغير واحد من أهل العلم.

الحالة الثانية: إذا كان المدين مليئاً موسراً، فهذا فيه أحكام مستحبة تتعلق بحقه، وأحكام واجبة تتعلق بحق الغير:

أولاً: أنه يستحب للدائن أن يخفف عن الموسر بأن يضع عنه، وهذا من الإحسان، كما جاء في الصحيح ( أن رجلاً ممن كان قبلكم، كان يتعامل مع الناس فكان ينظر المعسر ويخفف عن الموسر، يقول لغلمانه: لعل الله أن يخفف عنا، فخفف الله عنه )، فهذا دليل على أن التخفيف على الموسر سنة، ويا ليت هذا الأمر يفشو بين الناس! أن التخفيف على المدين ولو كان قادراً يعتبر من أعظم الوفاء، ومن أعظم الكرم، وهو بإذن الله سبب لإنظار الله عن هذا العبد يوم القيامة، وله أن يطالبه بكامل الثمن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لصاحب الحق مقالاً ).

يقول المؤلف: (ومن عليه الحق)، يعني: المدين، (فعليه الوفاء كاملاً بالقدر والصفات)، بالقدر يعني: لا يجوز أن ينقص، فإذا كان الدائن يطالب بمائة ألف ريال فلا يجوز أن يعطيه تسعين، ألف ريال ويقول: سأعطيك الباقي لاحقاً، حتى يمل المطالب فيتركه، فهو آثم في هذا، وهذا من أكل لأموال الناس، ومن ذلك ما يصنعه بعض الإخوة يقول: يا فلان! تعال أنت تطالبني بمائة ألف.. والله ما أعطيك حتى تخفف عني، فيضطر الدائن إلى أن يضع شيئاً من ماله؛ لأجل أن يوفي له حقه، وهذا من أكل أموال الناس بالباطل، كما ذكر ذلك ابن الحاج في كتاب المدخل، وهو من المماطلة، ويجب على الناس أن يحذروا من ذلك.

كذلك ما يفعله بعض الفضلاء -جزاهم الله خيراً- إذا كان عندهم مال زكاة فإنهم يجمعون الدائنين ويقولون لكل واحد له دين: أنت تطلب دينك من فلان من الناس؟ فيقول الدائن: نعم، فيقولون: إن كنت تريد أن نعطيك المال الذي لك عند فلان فخفف عليه منه، وإذا لم تضع فلن نعطيك، فيضطر الدائن إلى أن يضع من المال؛ لأجل أن يعطيه، وهذا لا ينبغي؛ لأنه أحياناً يكون نوعاً من الإلزام الذي لا يريده ولا يرضاه، وهو أكل لأموال الناس بالباطل.

وأما الوفاء بالصفات: فإنه إذا كان واجباً عليه أن يعطيه صاعاً من التمر السكري فلا يجوز أن يعطيه صاعاً من التمر الرديء، بل يعطيه تمراً على نحو الصفة التي قد ثبتت في ذمته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( مطل الغني ظلم )، فإذا ماطل وأخر التسديد فإنه يعد ظلماً.

ومن المماطلة ألا يعطيه حقه كاملاً، إما قدراً وإما صفة.

يقول المؤلف: (يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وإذا أحيل بدينه على مليء فليحتل ) وهذا من المياسرة)، يعني: فإذا كان المدين له دين على الغير، وهذا الدين الذي على الغير حال جاز أن يقول لدائنه: اذهب إلى فلان وخذ دينك منه، إذا كان فلان الذي هو المحتال عليه مليئاً، وأما إذا كان غير مليء فإن له حقاً ألا يقبل.

إذاً عندنا ثلاثة: محيل، وهو المدين، وعندنا محال عليه المدين الثاني، وعندنا محال، يقول العلماء: فإن كان المحال عليه غنياً مليئاً وجب على المحال أن يقبل؛ للأمر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وإذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل )، هذا بإجماع العلماء، ولم يخالف إلا من خفيت عليه السنة.

الثاني: إذا كان المدين الثاني لا يعلم عن حاله المحال عليه، كأن يقول المدين الأول: اذهب إلى فلان من الناس، فإن لي عليه حق، فقال المحال: أنا لا أعرفه، فإن الراجح والله أعلم أنه لا يجب أن يحتال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علقه على مليء، والمليء: هو المليء الظاهر، وأما المجهول فلا يجب.

الثالث: إذا كان المدين الثاني مليئاً ولكنه مماطل، فلما قبل المحال هذا الأمر علم أنه مماطل، فهل له أن يرجع إلى المدين الأول أم لا؟

قولان عند أهل العلم، والراجح والله أعلم وهو رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية أن له الرجوع؛ لأجل ألا يسقط حقه.

الرابع: إذا أحاله على محال عليه مليء وغير مماطل، ثم صار مفلساً بعد الإحالة، قال: أنا أطلب فلاناً مليون ريال وأنت تطلبني مليون ريال فاذهب إليه، فقال له المحال: حسناً، فلما ذهب إليه قال: نعم أقبل الحوالة، لكن يا فلان! تعال إلى يوم السبت أعطيك؛ لأن سوق الأسهم مقفلة، فلما جاء يوم السبت نزلت الأسهم، فصار مفلساً، فهل للمحال أن يرجع على المحيل أم لا؟

جمهور أهل العلم قالوا: ليس له أن يرجع؛ لأنه حينما قبل كان مليئاً فلا يجوز، بل لابد أن يصبر، وذهب الإمام أحمد في رواية وهي اختيار ابن تيمية رحمه الله إلى أن له الرجوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وإذا أحيل أحدكم على مليء )، والملاءة تستمر حتى إبراء الذمة، وهذا هو الراجح، والله أعلم.

والمؤلف عرف المليء بقوله: (هو القادر على الوفاء الذي ليس مماطلاً، ويمكن تحضيره لمجلس الحكم)، فلو لم يمكن تحضيره لمجلس الحكم، مثل أن يكون: مسئولاً كبيراً يخاف منه فإن أهل العلم قالوا: ليس هذا بمليء، فالمليء لا بد أن يكون مليئاً بكلامه، ومليئاً بماله، حتى يتمكن من أن يعطي صاحب الحق حقه.

إذا ثبت هذا فإن المؤلف بعدما ذكر القواعد شرع في أحكام المفلس، وهو الذي ثبت عليه الحق ولكن ماله لا يفي لجميع الديون التي عليه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا كانت الديون أكثر من مال الإنسان، وطلب الغرماء أو بعضهم من الحاكم أن يحجر عليه: حجر عليه ومنعه من التصرف في جميع ماله، ثم يصفي ماله ويقسمه على الغرماء بقدر ديونهم].

حكم حبس المدين

يقول المؤلف: (وإذا كانت الديون أكثر من مال الإنسان)، قبل هذا لتعلم أن من كان له حق على الغير، وهذا الحق حالاً لزم الغير أن يوفي به، ويجوز للغريم -الذي هو الدائن- أن يلازمه حتى يسدد، ويجوز أن يطالب عند الحاكم أن يسدد الدين وإلا حبسه الحاكم.

والحبس للمليء لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد أبي بكر ، ولا في عهد عمر ، ولا في عهد عثمان ، لكن في أواخر عهد علي أو بعد عهد علي رضي الله عنهم أجمعين.

إذاً: الحبس ليس له أصل إلا عموم حديث عمرو بن الشريد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته )، ولهذا قال أبو موسى -من أفراد البخاري كما نقل ذلك ابن هبيرة في الإفصاح- قال: أول من حبس في الدين هو شريح القاضي ، والآن أصبح الناس يتوسعون في السجن حتى إنه أحياناً يكون نفس المدين يريد السجن؛ لأنه يعطى شيئاً أكثر مما لو يجلس وحده، وربما كان فيه نوع من التحايل لإخراج صك إعسار، ثم إنه أحياناً يسجن الإنسان فلا يستطيع أن يتصرف بشركته، فيتضرر الغرماء ويتضرر الأهل ويتضرر هو.

ولهذا أقول: لا ينبغي التوسع في حبس المدين، بل هناك طرق تجعل المدين يتصرف بشركته ولا يتصرف بماله أفضل من أن يحبس، مثل: أن تخاطب وزارة المالية من قبل القضاة، قبل أن يسجنه بأن يحبسوا على هذا المدين حساباته ويمنعوه من السفر، ويوجد ملازم له من قبل الغريم، حتى إذا قام بالتسديد تكون أجرة الغريم الملازم على نفس المدين الذي سبب وجود هذه الملازمة، هذا حل ولو فعل وطبق لكان فيه خير عظيم، وإن كان أصل الحبس جائزاً لعموم حديث: ( لي الواجد يحل عرضه وعقوبته )، ومن العقوبة الحبس، لكن لا ينبغي التوسع في ذلك.

فإن لم يقم بتسديد المبلغ بعد الحبس فإن للحاكم أن يبيع ماله ولو لم يكن مفلساً، فلو قال الغرماء: يا شيخ! هذا غني ونحن نطالبه مليوناً وعنده عمارة على شارع عثمان بن عفان، وله منها إيجار يأخذه، فإن الحاكم يمنعه من التصرف بماله هذا، وبدلاً من أن يحبسه يقول له: أعطيك مهلة لكي تسدد الدين وإلا سوف أبيع أنا هذا العقار، فإن قال: أعطني مهلة لبيعه أعطي مهلة، وإلا فإن الحاكم يبيع عليه هذه العمارة أو هذا العقار، فإن لم يشتك الغرماء إلا بعد أن كان مفلساً جاز للحاكم أن يحجر عليه بعد الشكوى سواء كانت الشكوى من جميع الغرماء أم من البعض؛ لقول المؤلف: (وطلب الغرماء أو بعضهم من الحاكم أن يحجر عليه).

إذاً: لا يجوز للحاكم أن يحجر على المدين إلا بطلب من الغرماء أو من بعضهم؛ لأن الحق لا يعدوهم، ولا يجوز المطالبة إلا بحق وصفة، وإذا لم يوجد أحد من الغرماء فإن حكم الحاكم من غير صفة، والله أعلم.

حكم تصرف المفلس في ماله

يقول المؤلف: (حجر عليه ومنعه من الصرف في جميع ماله، ثم يصفي ماله).

جمهور أهل العلم قالوا: إن المفلس الذي ماله أقل من ديونه له أن يتصرف بماله قبل الحجر عليه قضاءً، وأما بعد الحجر عليه فجميع تصرفاته باطله، وأما قبل أن يحجر عليه الحاكم فجميع تصرفاته صحيحة، وذهب أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي إلى أنه متى ثبت أنه مفلس وكان ماله أقل من ديونه فإنه لا يصح تصرفه ولو لم يحكم الحاكم بفلسه، وهذا القول أظهر؛ لأن المفلس أحياناً يكون عنده بعض المال ويكون لقريبه دين فيعطيه دينه، في حين أن هذا المال المفترض أن يكون أسوة الغرماء فيكون فيه حظوة، فهذا يدل على أنه لا يصح تصرفه إذا ثبت أنه مفلس سواء حين حجر الحاكم عليه أو بعد الحجر عليه، هذا هو الراجح والله أعلم.

كيفية تصفية الحاكم لمال المحجور وقسمته على غرمائه

ويجوز للحاكم بعد الحجر عليه أن يمنعه من التصرف في جميع ماله، إلا في بعض الأشياء التي يستطيع أن يعطي منها نفقته الواجبة لأهله وأولاده، ثم بعد ذلك يصفي الحاكم ماله، (ويقسمه على الغرماء بقدر ديونهم)، فإذا كان مثلاً دينه ألف ريال، ولهذا ثلاثمائة، ولهذا أربعمائة، فيقال: كم نسبة الألف من المال الذي على المفلس، فإذا قال: نسبة 80%، وهذا نسبته 40%، وهذا نسبته 30%، فيقسم مال المفلس الباقي على نسبهم، والله تبارك وتعالى أعلم.

تقديم صاحب الرهن بالوفاء من بين الغرماء

قال رحمه الله تعالى: [ولا يقدم منهم إلا صاحب الرهن برهنه، وقال صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ماله عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره )، متفق عليه ].

المؤلف رحمه الله حينما بين أن للحاكم أن يتصرف بمال المدين المفلس، وأن يبيع عليه ماله، بين أن المال إذا بيع فلا يخلو من حالين:

الأولى: أن يكون الدين قد ثبت على ذمة المدين.

الثانية: أن يثبت الدين على ذمة المدين وعلى عين ماله الموجود.

فمثلاً: أنا أعطيت زيداً خمسين ألفاً، وفهد أعطاه مائة ألف، وعبد العزيز أعطاه مائة ألف، إذاً زيد عليه دين مقداره مائتان وخمسون ألف ريال، لكن فهداً عندما أعطاه مائة ألف قال له: بشرط أن تعطيني رهناً، قال: خذ هذه الفلة رهناً، أنا وعبد العزيز لم نطلب منه رهناً، إذاً: الدين الذي على المدين في حقي أنا وعبد العزيز ثابت في ذمة المدين، وأما فهد فالدين ثابت في ذمة المدين وفي عين المال المرهون، يقول المؤلف: إذا كان كذلك فإنما يقدم صاحب الرهن برهنه، فإذا كان المفلس عنده عمارة مرهونة لفهد قيمتها مائة ألف، وعنده أرض قيمتها خمسون ألفاً، وسيارة قيمتها مائة ألف، ماذا يصنع الحاكم؟ يبيع الرهن ويعطيه كاملاً لفهد، إذاً فهد ضمن حقه، مائة ألف، وبقي للملفس خمسون ألفاً قيمة أرض، وسيارة قيمتها مائة ألف، فيبيع الحاكم السيارة بمائة ألف ويعطيه سيارة لحاجاته الضرورية بستة آلاف أو ثمانية آلاف، أو عشرة آلاف، وتبقى تسعون، عبد العزيز له مائة، وأنا لي خمسون، والموجود الآن مائة وأربعون فقط؛ لذلك على الحاكم أن يأمر.

عبد العزيز بأن ينقص من دينه عشرة بالمائة، وأنا عشرة بالمائة، فيعطى عبد العزيز تسعين ألفاً، وأعطى أنا خمسة وأربعين ألفاً، إذاً: أنا وعبد العزيز خسرنا، وأما فهد فلم يخسر؛ لأنه مرتهن، قال العلماء: لأن حق الغريم المرتهن متعلق بذمة المدين وبعين ماله فيقدم.

من وجد ماله بعينه عند مفلس وشروط أخذه

كذلك يقول المؤلف: (وقال صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ماله عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره ).

مثال ذلك لو أنني بعت سيارتي بمائة ألف ريال على زيد، فاشتراها زيد على أن يسدد لي مائة ألف بعد سنة ولم آخذ منها شيئاً، ثم ثبت أن زيداً مفلس، فالآن إذا جاء الغرماء وأنا منهم، فأراد الحاكم أن يبيع السيارة فلي الحق أن أعترض وأقول: هذه السيارة لي؛ لأنني بعتها لزيد ولم يعطني من الثمن، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ماله عند رجل قد أفلس فهو أحق به )، إذاً أنا أحق بهذه السيارة وبقيمتها من سائر الغرماء.

إلا أن أهل العلم اشترطوا للدائن أن يرجع إلى عين ماله الذي باعه على المفلس بشروط:

الشرط الأول: أن يجده بعينه، فإن تغيرت صفته فليس له فيه الحق، مثال ذلك: لو أنني أعطيته خيوط أسلاك كيابل، فجاء المفلس وأدخل الكيابل في عملية معينة حتى تغيرت نوع الكيابل، أقول: أنا ما عندي مانع، وأنا راض فأعطني الكيابل؛ لأن الكيابل الآن لهن قيمة مالية، فأقول: أعطني الكيابل، يقول الغرماء: لا يا عبد الله؛ لأنك لم تجد عين مالك، فقد تغيرت صفته.

ولو أعطيته قماشاً ثم فصله أثواباً فإنه قد تغيرت صفته، ولو أعطيته خيوطاً فغزلها فإن قد تغيرت صفتها، وحينئذ فليس لي حق فيها، هذا الشرط الأول؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ماله )، وفي رواية: ( بعينه )، قالوا: وهذا ليس بعينه.

الشرط الثاني: أن يكون الدائن لم يأخذ شيئاً من دينه على المفلس، فلو اشترطت حين بيع السيارة أن يسلم لي 20% أو 10% مقدماً، ثم أفلس فليس لي الحق في أن أرجع إلى هذه السيارة؛ لأنني قد أخذت شيئاً من الثمن، وقد ورد في ذلك حديث وهو ما رواه مالك في موطئه و أبو داود من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما رجل باع متاعاً، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئاً، فوجد متاعه بعينه فهو أحق به )، الشاهد قال: ( ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئاً )، هذا الحديث رواه مالك مرسلا، ورواه بعضهم من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأقرب والله أعلم أن هذا الحديث مرسل، ولكن جمهور أهل العلم أخذوا به.

والقول الثاني في المسألة قالوا: إن أخذ بعض ماله فإنه يرجع إلى عين ماله إذا كانت موجودة، بشرط أن يقول للغرماء: خذوا هذا المبلغ الذي أنا أخذته منه، وآخذ أنا السيارة، فتكون معاوضة جديدة، فإذا وجد سيارته ولو نقصت السيارة، الآن مثلاً السيارة موديل 2009 وبعد، شهر ثمانية تنزل موديل 2010، وبعد ستة شهور تقل قيمة السيارة موديل 2009، فلو كانت قيمتها مثلاً مائة وخمسين ألفاً، فسلم المفلس عشرين ألفاً، وبقي للبائع مائة وثلاثون ألفاً، وبعد ستة شهور وجد السيارة وأفلس، فإننا نقول للذي باع على القول الراجح: إما أن تعطي المفلس العشرين ألفاً وتأخذ السيارة، وإما أن تبقى العشرون ألفاً عندك وتكون أسوة الغرماء، هذا هو القول الراجح، والله أعلم.

الشرط الثالث: قال العلماء: ألا يتعلق بهذه العين حق للغير، فإذا أفلس المشتري فوجد البائع عين ماله لكنه لم يجده عند المفلس، بل وجد أن المفلس قد رهنه للغير، فإنه لم يجده بعينه؛ لأنه انتقل إلى حكم آخر.

الشرط الرابع: إذا كان المدين المفلس ميتاً، فإنه ليس له الحق بعد ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء ).

يقول المؤلف: (وإذا كانت الديون أكثر من مال الإنسان)، قبل هذا لتعلم أن من كان له حق على الغير، وهذا الحق حالاً لزم الغير أن يوفي به، ويجوز للغريم -الذي هو الدائن- أن يلازمه حتى يسدد، ويجوز أن يطالب عند الحاكم أن يسدد الدين وإلا حبسه الحاكم.

والحبس للمليء لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد أبي بكر ، ولا في عهد عمر ، ولا في عهد عثمان ، لكن في أواخر عهد علي أو بعد عهد علي رضي الله عنهم أجمعين.

إذاً: الحبس ليس له أصل إلا عموم حديث عمرو بن الشريد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته )، ولهذا قال أبو موسى -من أفراد البخاري كما نقل ذلك ابن هبيرة في الإفصاح- قال: أول من حبس في الدين هو شريح القاضي ، والآن أصبح الناس يتوسعون في السجن حتى إنه أحياناً يكون نفس المدين يريد السجن؛ لأنه يعطى شيئاً أكثر مما لو يجلس وحده، وربما كان فيه نوع من التحايل لإخراج صك إعسار، ثم إنه أحياناً يسجن الإنسان فلا يستطيع أن يتصرف بشركته، فيتضرر الغرماء ويتضرر الأهل ويتضرر هو.

ولهذا أقول: لا ينبغي التوسع في حبس المدين، بل هناك طرق تجعل المدين يتصرف بشركته ولا يتصرف بماله أفضل من أن يحبس، مثل: أن تخاطب وزارة المالية من قبل القضاة، قبل أن يسجنه بأن يحبسوا على هذا المدين حساباته ويمنعوه من السفر، ويوجد ملازم له من قبل الغريم، حتى إذا قام بالتسديد تكون أجرة الغريم الملازم على نفس المدين الذي سبب وجود هذه الملازمة، هذا حل ولو فعل وطبق لكان فيه خير عظيم، وإن كان أصل الحبس جائزاً لعموم حديث: ( لي الواجد يحل عرضه وعقوبته )، ومن العقوبة الحبس، لكن لا ينبغي التوسع في ذلك.

فإن لم يقم بتسديد المبلغ بعد الحبس فإن للحاكم أن يبيع ماله ولو لم يكن مفلساً، فلو قال الغرماء: يا شيخ! هذا غني ونحن نطالبه مليوناً وعنده عمارة على شارع عثمان بن عفان، وله منها إيجار يأخذه، فإن الحاكم يمنعه من التصرف بماله هذا، وبدلاً من أن يحبسه يقول له: أعطيك مهلة لكي تسدد الدين وإلا سوف أبيع أنا هذا العقار، فإن قال: أعطني مهلة لبيعه أعطي مهلة، وإلا فإن الحاكم يبيع عليه هذه العمارة أو هذا العقار، فإن لم يشتك الغرماء إلا بعد أن كان مفلساً جاز للحاكم أن يحجر عليه بعد الشكوى سواء كانت الشكوى من جميع الغرماء أم من البعض؛ لقول المؤلف: (وطلب الغرماء أو بعضهم من الحاكم أن يحجر عليه).

إذاً: لا يجوز للحاكم أن يحجر على المدين إلا بطلب من الغرماء أو من بعضهم؛ لأن الحق لا يعدوهم، ولا يجوز المطالبة إلا بحق وصفة، وإذا لم يوجد أحد من الغرماء فإن حكم الحاكم من غير صفة، والله أعلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
كتاب منهج السالكين - كتاب البيوع [11] 2191 استماع
كتاب منهج السالكين - كتاب البيوع [12] 2044 استماع
كتاب منهج السالكين - كتاب الصداق [2] 2035 استماع
كتاب منهج السالكين - كتاب الأطعمة 1991 استماع
كتاب منهج السالكين - كتاب البيوع [4] 1746 استماع
كتاب منهج السالكين - كتاب الجنايات والحدود 1672 استماع
كتاب منهج السالكين - كتاب البيوع [7] 1615 استماع
كتاب منهج السالكين - كتاب البيوع [9] 1608 استماع
كتاب منهج السالكين - كتاب الطلاق 1545 استماع
كتاب منهج السالكين - كتاب البيوع [1] 1462 استماع