الطريق إلى الجنة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أسأل الله جل وعلا كما اجتمعنا واحتشدنا في هذا المكان المبارك أن يجمعنا بكم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، أسأل الله جل وعلا أن يغفر الذنب، وأن يستر العيب، وأن يمحو الخطيئة، وأن يسترنا وإياكم بستره.

أيها الأحبة في الله: لكم الفضل بعد الله علي أن دعيتم، ومن دعيُ فليجب، ومن لم يجب فقد عصى أبا القاسم، ولكم الفضل بعد الله جل وعلا أن حضرتم، وحضوركم هذا ضمانٌ وعزيمة ومضاءٌ يجعلنا نشعر بواجبنا تجاهكم، ويجعلنا نشعر بالمحبة نحوكم، لا عدمناكم، ولا حرمنا محبتكم، ولا حُرمنا ذاك العلم وتلك المحبة التي نراها في وجوهكم.

أيها الأحبة في الله:

الفجر يطلع لا محالة والقلب يخفق كالغزاله

إني أحن إلى البكور من لم يحن فلا أبا له

قالوا تعسفت الهوى وطلبت ربحاً أو إقاله

من كان يهوى صادقاً قبل المبيع بكل حاله

المجد يطلب قائداً قد زانت التقوى فعاله

والعز يهتف بالشباب المعرضين عن الضلاله

والقمة الشماء حظ الشامخين عن الجهاله

هم فتية الكون الكرام أبناء أشراف السلالة

فيهم مصابيح الهدى ولكل مصباحٍ دلاله

فيهم دعاةٌ للهدى ولكل داعية جلاله

فيهم سميٌّ للجهاد تهاب في الهيجا نزاله

يا إخوة الإسلام هبوا فالأذى جاد المقاله

أنمل من عرض الوساد وغيرنا ينعى عياله

أنموت من ألم الطعام وغيرنا يرجو النخاله

نجتر ألوان الخلاف والكفر جمع كل ماله

كلمات وليس شعراً، ولست بشاعر، لكنها في الطريق بين يدي القدوم إليكم، أسأل الله جل وعلا أن يجعل قولنا وكلامنا وعملنا خالصاً لوجهه الكريم.

اللهم إنك تعلم أن فينا من العيوب والذنوب ما لا يعلمه إلا أنت، ولا يستره إلا أنت.

إلهنا! جملتنا بسترك، ولو كشفت سترك عنا ما أحبنا عبدٌ من عبادك.

إلهنا! زينتنا بمغفرتك، ولو كشفت عنا سترك لما قبلنا عبدٌ من عبادك.

إلهنا! لو كان للذنوب رائحة لما أطاق أحدٌ من الحاضرين مجلسنا.

إلهنا! لو كانت الذنوب أحجاراً في المنازل لما وجدنا مكاناً نسكن فيه أو نطمئن إليه.

إلهنا! جملتنا بالستر فيما مضى، فاسترنا وأعنا على الثبات فيما بقي يا رب العالمين.

اللهم اجعل لهذه الوجوه من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فاحشةٍ أمنا، ومن كل فتنةٍ عصمة.

اللهم لا تدع لهذه الوجوه ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا أيماً من ذكرٍ أو أنثى إلا زوجته وأسعدته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا تائباً إلا قبلته بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.

أيها الأحبة في الله: قد يقول قائل: في خضم هذه الأمواج المتلاطمة من الفتن وأنواع البلاء التي تعرض على المسلمين صباحاً ومساءً، غدواً وعشياً: هل من اللائق أن يكون حديثك اليوم معنا: الطريق إلى الجنة؟ كنا نظن أن يكون الحديث عن فتنة البوسنة والهرسك، أو أن يكون الحديث عن مآسي المسلمين في كشمير ، أو أن يكون الحديث عن آخر تطورات القضية الأفغانية، أو أن يكون الحديث عن أحوال المسلمين وأحوال الدعاة بالأغلال والزنازين.

أقول أيها الأحبة: إن الحديث عن الجنة هو منتهى المطاف في كل قضية لمن دخل واحدة منها وكان مريداً وجه الله جل وعلا.

أيها الأحبة: الحديث عن الجنة حديثٌ عن هدف الدعوة، وحديثٌ عن غاية الدعاة، وحديث عَمَّا يعد به الدعاة، وما يتمنونه، وما يرجونه لأنفسهم ولأتباعهم، ولأعوانهم ولأحبابهم، ولطلابهم وتلامذتهم، ما عرفنا داعيةً وعد ضالاً بعد الهداية بمنصب، وما عرفنا داعيةً وعد منحرفاً بعد الاستقامة بعطية، وما عرفنا داعيةً وعد جاهلاً بعد العلم بحظية، وإنما وعدنا وما نرجوه لأنفسنا وما نعد به كل من سلك الطريق هو الجنة، فمن أبى فعلى نفسه، ومن قبل فليلزم الطريق، وليعرف المبيع، وليأخذ الأهبة، وليعمل وليقم بالاستعداد.

أيها الأحبة في الله: الحديث عن الجنة كلامٌ عن غاية الدعاة، لا كما يظن الظانون، أو يرجف المرجفون أن الدعاة يريدون مالاً، أو يريدون جاهاً، أو يريدون سلطاناً، وذاك أمرٌ ليس بغريبٍ ولا عجيب، لقد ظنت قريش يوم أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ونبأهم بما أمره الله جل وعلا أن يبلغه، أن الرجل يريد مالاً، أو يريد جمالاً، أو يريد جاهاً، أو يريد سلطاناً، أو به رئيٌ من الجن، أو به أذىً من السقم، فقالوا: يا بن أخينا! لقد أغريت بنا سفهاءنا، وتجرأ علينا صبياننا، فإن كان بك رئيٌ من الجن عالجناك، وإن كنت تريد مالاً أعطيناك، وإن كنت تريد جمالاً زوجناك، وإن كنت تريد جاهاً سودناك، فإنهم أخطئوا الطريق يوم أن ظنوا أن هذه بغية وطلبة النبي صلى الله عليه وسلم، وما كانت طلبته إلا قوله صلى الله عليه وسلم: (إلهي وإله المستضعفين قبلي! إلهي وإله المستضعفين! هل تكلني إلى بشرٍ ملَّكْته أمري؟ أم إلى عدوٍ يتجهمني؟ إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، لك العقبى حتى ترضى) والله ما كانت غاية النبي إلا أن يرضى الله جل وعلا، وإن رضي الله فلا تسل بعد ذلك عن حال العبد، وإذا تقبل الله فاعلم أنها النجاة والسعادة، والفوز والطمأنينة: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

أيها الأحبة في الله: الغاية الجنة، ولسنا بصدد الحديث عن ذكر أو عدد أو تعداد الأعمال التي من فعلها دخل الجنة، فلكم فيها باعٌ واسع، وعندكم منها حظٌ وافر، ولكن الحديث عن الجنة حتى يُقطع الطريق عن كل مساوم وعلى كل مزايد يرمي الدعاة بما ليس في جعبهم، ويمقت الطيبين الصالحين بسوء ظنه بهم.

هدف الدعاة مرضاة الله وليس ما يقوله المرجفون

أيها الأحبة: طالما حضرنا مجالس، وسمعنا أقاويل، وعلمنا أموراً مدارها وديدنها وحديث أصحابها: إن هؤلاء الذين يظهرون الدين، إن هؤلاء الذين يتنسكون في ظاهر أمرهم يريدون أموراً، ويخططون لأمور، ويرتبون أشياء، ووالله ما هذه غاية الدعاة فضلاً عن أن يعدوا لها، أو يخططوا لها، أو يجعلوها غايةً في ذاتها.

قال ذلك السلطان للإمام ابن تيمية لما دخل عليه: إنك تريد ما عندي، فغضب ابن تيمية ورفع صوته على ذلك السلطان، وقال: أنا أريد مالك أو أريد جاهك أو أريد حبوتك؟ والله إن ما عندك لا يساوي خيطاً من هذا القميص. ولا غرابة فإن شيخ الإسلام وغيره من الأئمة والدعاة كانوا يطلبون الجنة؛ الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، الجنة التي هي من الآخرة، ليست تنسب إلى الدنيا بشيء، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (ما مثل الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة إلا كما يُدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع) ومن الذي يرغب بقطرة عن بحارٍ متلاطمة من الخير. نقولها وبكل صراحة: إن الجنة هي غاية كل داعية، وهي غاية كل متبوع تابع على منهاج أهل السنة والجماعة .

أما الدنيا، وأما الجاه، والمناصب، والرياسات، والأموال، فاللهم لا تجعلها في قلوبنا، ولا تجعلها أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا.

وإني والله أعجب من أولئك الذين يقبلون مثل هذه الأقاويل ويصدقون بمثل تلك الأكاذيب، ويقول قائلهم: عند الدعاة كذا وكذا، ويريد الدعاة كذا وكذا، ويطمح الدعاة إلى كذا وكذا، وهل رأيت دليلاً عند أحدهم يصدق ما تظنه أو تقوله؟ والله إنه لأمرٌ عجيب، وقلتها ذات مرة في لقاء من اللقاءات السابقة يوم أن كان أهل تلك المنطقة فيهم خوفٌ من كل داعية إلى الله جل وعلا أنه يريد كذا وكذا مما تخافه نفوسهم، وتضطرب منه أفئدتهم، فقلت لبعض الأحباب: يا إخواني! هؤلاء الذين تظنون أنهم يريدون ويدبرون ويطمحون هل فتحت مطبخ واحد منهم فوجدت طائرة دفاعية أو مقاتلة؟ وهل دخلت حظيرة واحدٍ منهم فرأيت طائرةً مضادةً للدبابات؟ وهل دخلت مخزن واحدٍ منهم فرأيت ذخيرةً من الأسلحة؟ والله لو دخلت بيوت الدعاة بيتاً بيتاً؛ ما وجدت عند بعضهم ما يصطاد به الحمامة، ولو تأملت ما عندهم؛ لوجدت عندهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ صحيح البخاري، وصحيح مسلم، والسنن، والمسانيد، والشروح، وكتب العلماء، ذاك سلاحهم، وذاك زادهم، وتلك عدتهم، وذاك طريقهم حتى يبلغوا بذلك وجه الله والدار الآخرة راضين مرضيين، فمن ظن غير ذلك فلينظر إلى برهان قلبه، وليتأمل بعين بصيرته حتى لا يُحذر نفسه من وهمٍ جعل الأغلال في يديه والقيد في رجليه، فقعد به عن شرف الدعوة والدعاة، لقد عرفنا كثيرين فيهم خيرٌ كثير، وفيهم صلاحٌ كبير، وفيهم استقامة، وفيهم جبنٌ وخوفٌ كثير، وذلة عجيبة، والأمر سوء الظن، وتصديق الأكاذيب واتباع الأقاويل، ولو أن أحدهم سمع شريطاً أهدي إليه، أو قرأ كتاباً بذل له؛ لعرف أن غاية الدعاة وأن ما عندهم هو الجنة، لا يريدون غير الجنة، لا يريدون إلا مرضاة الله جل وعلا، وذاك أمرٌ أي كرامة، وأي عزة، وأي منقبة أن يرضى الله عنك في عباده! والله أيها الأحبة! إن جندياً من الجنود يوم أن يُقال له: إن قائد الكتيبة راضٍ عنك، معجبٌ بك، مؤيدٌ لك؛ تجد ذلك الجندي يكاد يطير فوق الأرض من شدة ما ناله من السعادة والإعجاب والطمأنينة؛ لأن قائد الكتيبة قد رضي عنه، وواحدٌ من الموظفين لو قيل له: إن أمير المنطقة قد رضي عنك، وأعجب بك، وأثنى عليك في المجالس خيراً، لجعل يطلب ترداد وإعادة الكلام، لماذا؟ لأن بشراً قد رضي عنه، فما بالك أن يرضى عنك ملك الملوك، جبار السماوات والأرض، ما بالك يوم أن يرضى عنك الذي خلق الأولين والآخرين، والجن والإنس، الذي الأرض جميعاً قبضته والسماوات مطويات بيمينه، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرةٍ في الأرض ولا في السماء.

فتلك غاية الدعاة وهي الجنة، وذلك مطلب الدعاة، وهو رضا الله سبحانه وتعالى، مطلبٌ على منهج الأنبياء والرسل، لا على منهج المنحرفين، والضُلال والمبتدعين، الذين قال بعضهم: عبدنا الله خوفاً من عذابه فقط، أو على منهج الضُلال الذين قال قائلهم: عبدنا الله طمعاً في ثوابه فقط، أو على منهج المتصوفة الذين قال قائلهم: والله ما عبدنا الله طمعاً في ثوابه ولا خوفاً من عذابه، وإنما عبدنا الله حباً في ذاته، فذاك أيضاً منهج الضلالة، ومنهج الغواية، أما منهج الصواب والصراط المستقيم في هذه الغاية فهو صراط الأنبياء الذين قال الله جل وعلا عنهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً [الأنبياء:90] يرغبون في الجنة: وَرَهَباً [الأنبياء:90] خوفاً من الله ومن عذابه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].

فالدعوة عبادة، والعبادة ذلة وانقيادٌ وخضوعٌ مع المحبة والتعظيم للمعبود، قال ابن القيم :

وعبادة الرحمن غاية حبه     مع ذل عابده هما قطبان

أيها الأحبة: طالما حضرنا مجالس، وسمعنا أقاويل، وعلمنا أموراً مدارها وديدنها وحديث أصحابها: إن هؤلاء الذين يظهرون الدين، إن هؤلاء الذين يتنسكون في ظاهر أمرهم يريدون أموراً، ويخططون لأمور، ويرتبون أشياء، ووالله ما هذه غاية الدعاة فضلاً عن أن يعدوا لها، أو يخططوا لها، أو يجعلوها غايةً في ذاتها.

قال ذلك السلطان للإمام ابن تيمية لما دخل عليه: إنك تريد ما عندي، فغضب ابن تيمية ورفع صوته على ذلك السلطان، وقال: أنا أريد مالك أو أريد جاهك أو أريد حبوتك؟ والله إن ما عندك لا يساوي خيطاً من هذا القميص. ولا غرابة فإن شيخ الإسلام وغيره من الأئمة والدعاة كانوا يطلبون الجنة؛ الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، الجنة التي هي من الآخرة، ليست تنسب إلى الدنيا بشيء، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (ما مثل الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة إلا كما يُدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع) ومن الذي يرغب بقطرة عن بحارٍ متلاطمة من الخير. نقولها وبكل صراحة: إن الجنة هي غاية كل داعية، وهي غاية كل متبوع تابع على منهاج أهل السنة والجماعة .

أما الدنيا، وأما الجاه، والمناصب، والرياسات، والأموال، فاللهم لا تجعلها في قلوبنا، ولا تجعلها أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا.

وإني والله أعجب من أولئك الذين يقبلون مثل هذه الأقاويل ويصدقون بمثل تلك الأكاذيب، ويقول قائلهم: عند الدعاة كذا وكذا، ويريد الدعاة كذا وكذا، ويطمح الدعاة إلى كذا وكذا، وهل رأيت دليلاً عند أحدهم يصدق ما تظنه أو تقوله؟ والله إنه لأمرٌ عجيب، وقلتها ذات مرة في لقاء من اللقاءات السابقة يوم أن كان أهل تلك المنطقة فيهم خوفٌ من كل داعية إلى الله جل وعلا أنه يريد كذا وكذا مما تخافه نفوسهم، وتضطرب منه أفئدتهم، فقلت لبعض الأحباب: يا إخواني! هؤلاء الذين تظنون أنهم يريدون ويدبرون ويطمحون هل فتحت مطبخ واحد منهم فوجدت طائرة دفاعية أو مقاتلة؟ وهل دخلت حظيرة واحدٍ منهم فرأيت طائرةً مضادةً للدبابات؟ وهل دخلت مخزن واحدٍ منهم فرأيت ذخيرةً من الأسلحة؟ والله لو دخلت بيوت الدعاة بيتاً بيتاً؛ ما وجدت عند بعضهم ما يصطاد به الحمامة، ولو تأملت ما عندهم؛ لوجدت عندهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ صحيح البخاري، وصحيح مسلم، والسنن، والمسانيد، والشروح، وكتب العلماء، ذاك سلاحهم، وذاك زادهم، وتلك عدتهم، وذاك طريقهم حتى يبلغوا بذلك وجه الله والدار الآخرة راضين مرضيين، فمن ظن غير ذلك فلينظر إلى برهان قلبه، وليتأمل بعين بصيرته حتى لا يُحذر نفسه من وهمٍ جعل الأغلال في يديه والقيد في رجليه، فقعد به عن شرف الدعوة والدعاة، لقد عرفنا كثيرين فيهم خيرٌ كثير، وفيهم صلاحٌ كبير، وفيهم استقامة، وفيهم جبنٌ وخوفٌ كثير، وذلة عجيبة، والأمر سوء الظن، وتصديق الأكاذيب واتباع الأقاويل، ولو أن أحدهم سمع شريطاً أهدي إليه، أو قرأ كتاباً بذل له؛ لعرف أن غاية الدعاة وأن ما عندهم هو الجنة، لا يريدون غير الجنة، لا يريدون إلا مرضاة الله جل وعلا، وذاك أمرٌ أي كرامة، وأي عزة، وأي منقبة أن يرضى الله عنك في عباده! والله أيها الأحبة! إن جندياً من الجنود يوم أن يُقال له: إن قائد الكتيبة راضٍ عنك، معجبٌ بك، مؤيدٌ لك؛ تجد ذلك الجندي يكاد يطير فوق الأرض من شدة ما ناله من السعادة والإعجاب والطمأنينة؛ لأن قائد الكتيبة قد رضي عنه، وواحدٌ من الموظفين لو قيل له: إن أمير المنطقة قد رضي عنك، وأعجب بك، وأثنى عليك في المجالس خيراً، لجعل يطلب ترداد وإعادة الكلام، لماذا؟ لأن بشراً قد رضي عنه، فما بالك أن يرضى عنك ملك الملوك، جبار السماوات والأرض، ما بالك يوم أن يرضى عنك الذي خلق الأولين والآخرين، والجن والإنس، الذي الأرض جميعاً قبضته والسماوات مطويات بيمينه، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرةٍ في الأرض ولا في السماء.

فتلك غاية الدعاة وهي الجنة، وذلك مطلب الدعاة، وهو رضا الله سبحانه وتعالى، مطلبٌ على منهج الأنبياء والرسل، لا على منهج المنحرفين، والضُلال والمبتدعين، الذين قال بعضهم: عبدنا الله خوفاً من عذابه فقط، أو على منهج الضُلال الذين قال قائلهم: عبدنا الله طمعاً في ثوابه فقط، أو على منهج المتصوفة الذين قال قائلهم: والله ما عبدنا الله طمعاً في ثوابه ولا خوفاً من عذابه، وإنما عبدنا الله حباً في ذاته، فذاك أيضاً منهج الضلالة، ومنهج الغواية، أما منهج الصواب والصراط المستقيم في هذه الغاية فهو صراط الأنبياء الذين قال الله جل وعلا عنهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً [الأنبياء:90] يرغبون في الجنة: وَرَهَباً [الأنبياء:90] خوفاً من الله ومن عذابه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].

فالدعوة عبادة، والعبادة ذلة وانقيادٌ وخضوعٌ مع المحبة والتعظيم للمعبود، قال ابن القيم :

وعبادة الرحمن غاية حبه     مع ذل عابده هما قطبان

أيها الأحبة: أي نعيمٍ يوم أن يكون هدفنا وغايتنا وسعينا، وصمتنا ونطقنا، وكل ما نملكه وكل ما ندخله ونخرجه يصب في أمرٍ نريده ألا وهو الجنة التي يقال فيها لمن دخلها: يا أهل الجنة! خلودٌ ولا موت، ويا أهل النار! خلودٌ ولا موت.

أيها الأحبة في الله: يوم أن يدخل سجينٌ من السجناء زنزانة من الزنازين في جريمة من الجرائم، ثم يقال له: هذا سجنٌ إلى أبد الحياة، هذا سجنٌ مؤبد لا تخرج منه إلا يوم أن تخرج روحك من بدنك، حينئذٍ تخرج من هذه البوابة، أليست مصيبة؟ أليست بلية؟ أليست حسرةً وعذاباً؟

إذاً فالخوف من سجن جهنم والطمع في نعيم الجنة هو أولى أن يكون شغلاً شاغلاً وأمنيةً وغايةً يرددها السالك في طريقه إلى الله جل وعلا حتى ينال هذا الرضا: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ 9 وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:106-108].

أيها الأحبة: (ألا إن من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنـزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) إن هذه السلعة الغالية لا تنال بالأماني، ولا تنال بالأقوال، ولا تنال بالتحلي ولا بالتمني، وإنما تنال بالصدق، ولذلك كان الشهداء أقرب الناس إلى بلوغ الجنة؛ لأنهم أثبتوا أمنيتهم بأغلى ما يملكون، وبرهنوا أمانيهم بأغلى ما يجدون، ألا وهي دماؤهم وأرواحهم التي بذلوها رخيصةً لوجه الله، سهلةً ميسورةً في سبيل الله جل وعلا، ويقول قائلهم: إن رضي الله فليس بكثيرٍ ما ذهب وما ولى وما رحل.

أيها الأحبة: يا من تريدون الجنة!

أيها الأخ الحبيب: يا من تضيق ذرعاً بشدة الحر يوم حلوله! وتضيق ذرعاً لشدة البرد يوم نزوله! وتضيق ذرعاً بامتلاء البطون من الطعام يوم أن تتخم! وتضيق ذرعاً بالجوع وآلامه وأسقامه! إن كنا نريد حياةً أبدية، حياةً لا تنقطع، جليسنا فيها من لا نكرهه ومن لا نبغضه، ومن لا يحقد علينا، ومن لا يحمل في نفسه علينا، جليسنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، جليسنا فيها أبو بكر الصديق صاحب النبي على التحقيق، جليسنا فيها شهيد المحراب الإمام الأواب عمر بن الخطاب ، جليسنا فيها مجهز جيش العسرة بأنفس الأثمان عثمان بن عفان ، جليسنا فيها فتى الفتيان ليث بني غالب علي بن أبي طالب ، والصحابة الكرام، جليسنا فيها التابعون ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، جليسنا فيها الصالحون والدعاة، والعلماء البررة، والدعاة الأخيار، هذه هي كل الأمور التي يعد بها الدعاة ويتمنونها ويرجونها: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ [التوبة:111] إنها لأعظم آيةٍ فيها عجب، المعطي هو الله، ثم يعود يشتري منا ما أعطانا، والمتفضل هو الله، ثم ينعم علينا بالجنة: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ [التوبة:111].

أيها الأحبة: نداءاتٌ ودعاءٌ لكل مسلم أن يسارع إلى الجنة ليعلم أن هذه الدنيا ليست لحرٍ سكناً، يقول ربنا: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].

أيها الأحبة: هل بعد هذا الثواب من ثواب؟ هل بعد هذا النعيم من نعيم؟ هل بعد هذه الكرامة من كرامة؟

يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسدٌ     فلقد عرضتِ بأيسر الأثمان

يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسدٌ     بين الأراذل سفلة الحيوان

يا سلعة الرحمن لستِ رخيصةً     بل أنتِ غالية على الكسلان

يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ     خُطَّاب عنكِ وهم ذوو إيمان

أيها الأحبة في الله: إن هذه الجنة التي انشغل عن طلبها كثيرٌ من الناس بما تكفل الله لهم به، إننا نعجب من رجلٍ يشتغل ليل نهار بأمر الدنيا، ووالله لو سعى سعي الوحوش لن ينال أكثر مما قُدر له، أمرٌ قد تكفل الله به، نجد كثيراً من البشر اشتغلوا به ليل نهار، وأمرٌ دعانا الله أن نعمل له وأن نجتهد فيه وجدنا إعراضاً وبعداً عن الاشتغال به، فأي انقلابٍ للموازين هذا؟ وأي سوء في المفاهيم هذا؟

أيها الأحبة: بعد هذا بقي أن نقول: إذا كانت الجنة هي غاية الدعاة، وهي أمنية الدعاة، وهي موعود الدعاة، وهي وعد الدعاة، وهي ما يعد به الدعاة لكل طالبٍ وتابعٍ، ومحبٍ ومخلصٍ، بقي أيها الأحبة في الله! أن نقول: كيف الوصول إليها؟ قد وصفت فدل على طريق يبلغ.

أيها الأحبة: كلٌ يعرف أن الوصول والبلوغ إلى شيءٍ يعني سلوك الطريق الموصل إليه، ومن السهل أن تقول: إن طريق القصيم السريع هو الذي يوصل إلى مكة، لكن من المهم إن كنت جاداً تريد أن تبلغني إلى مكة، فهلا أسعفتني بدابة؟ هلا حملتني معك؟ هلا قربتني بجوارك؟ هلا أخذتني بيدك؟ من السهل أن تقول: إن هذا الطريق ينتهي إلى الدمام لكن هل تستطيع أن تجعل لي معك مركباً؟

معرفة هوان النفس في جنب الله سبحانه وتعالى

هذه البداية أيها الأحبة! إن كنا صادقين في الرغبة بالجنة، والرغبة في رضا الله، أن يرضى ربنا عنا، فلا يسخط علينا أبدا،ً إن كنا صادقين مع الله، إن كنا صادقين في هذه الدعوة بقي أن نقول: هناك ثلاث مسائل:

أولها: اعرف أنك مهين ذليل حقير في ذات الله وفي جنب الله جل وعلا، فمن أراد سلوك الطريق وهو يشمخ بأنفه في كبرٍ وتصعرٍ وتسلطٍ على العباد، فليعلم أنه أهون عند الله من الجعلان والجنادب، وفي الحديث: (يحشر الله المتكبرين يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم) فأنت وهذا وذاك في يوم الموقف، في المشهد العظيم ربما أنت تمشي فتطأ بقدميك عشرة أو عشرين من الطغاة، أو عشرين من المتكبرين، أو ثلاثين من الظلمة، وأنت لا تراهم، كيف دست عليهم بقدمك! كيف وطأتهم برجلك! كيف لم تلتفت لهم! إنهم كانوا في الدنيا متكبرين متغطرسين متجبرين، لم يذلوا أنفسهم لله، ولم يخضعوا لله، ولم ينقادوا لأمر الله، فكان جزاؤهم يوم الموقف هواناً بين العباد، يطؤهم الصغير والكبير، والعبد والحر والغني والفقير، كلٌّ يطؤهم بأقدامه وهو لا يشعر بهم، فمن أراد طريقاً موصلاً إلى الجنة فليبدأ أن يعرف هوان نفسه، وليدرك ذلة نفسه، وليدرك وضاعة نفسه في جنب الله جل وعلا.

ولا كرامة لهذه النفس إلا بالسجود لله، ولا كرامة لهذا الأنف إلا أن يمرغ بين يدي الله، ولا كرامة لهذه اليد إلا أن ترتفع مكبرة لله، ولا كرامة لهذه القدم إلا أن تثبت في القنوت والقيام لله جل وعلا، اعرف أنك بدون هذا الخضوع لله، وبدون هذه الذلة لوجه الله، وبدون ذلك الاحتقار والهوان من نفسك في جنب الله جل وعلا أنك لن تبلغ شيئاً.

قال الله جل وعلا: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]، وقال: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ [الأعراف:179]، وقال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:4-5] ولكن الله قال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70] فكيف تجتمع الكرامة ويجتمع الهوان لهذا الإنسان؟ ليس ضدان في القرآن، ولكن الكرامة لمن أذعن وخضع واستجاب، وخشع وأخبت وأناب إلى الله جل وعلا، والهوان لمن استعصى ومن ارتفع وشمخ بأنفه، أو ارتفع بنفسه عن الذلة والعبودية والانقياد لله سبحانه وتعالى.

أرني متكبراً متجبراً هل يحمل في جوفه غير الخراءة والعذرة؟

أرني متغطرساً هل يحمل في عينه غير القذى؟

أرني متكبراً هل يحمل في أنفه إلا المخاط؟

أرني متغطرساً هل يرى في فمه إلا البخر ونتن الرائحة؟

أرني متجبراً هل يحمل في جوفه إلا البول والنجاسة؟

لماذا يفتخر بعض البشر على بعض؟! وبماذا يعلو بعض العباد على بعض؟! إن كانت مقاييس مادية، أو مقاييس الطينية، أو مقاييس التراب، فوالله ثم والله!! إن الإنسان لأنجس مخلوق بعيداً عن الذلة لله والعبودية له سبحانه: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28].

وأما بالانقياد لوجه الله والاتباع لأوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم: (فلأن تزول السماوات والأرض أهون عند الله من قطرة دم مسلم تراق بغير حق) هذه عزة المسلم، يوم أن يكون مسلماً قطرةٌ من دمه أعظم حرمة وأعظم شأناً من زوال السماوات والأرض، ولكن إذا ضل الإنسان عن هذا المنهج وابتعد عن مرضاة الله فحظه جنهم وساءت مصيراً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

معرفة عظمة الخالق سبحانه وتعالى

أيها الأحبة: المهم في الطريق إلى الجنة، بعد أن عرفت هوان نفسك: أن تعرف عظمة خالقك، أن تعرف أن كل جبارٍ فوقه جبارٌ أعظم منه، أن تعلم أن كل ظالمٍ فوقه يدٌ أقوى منه، وما من يدٍ إلا يد الله فوقها، ولا ظالم إلا سيبلى بأظلم، أن تعلم أن كل غني فوقه من هو أغنى منه، بل خزائنه لا تنفد، ويده سحاء الليل والنهار، أن تعلم أن من ملك شيئاً من الجنود أن فوقه جنود السماوات والأرض لا يعلمها إلا هو، أن تعلم أن من ملك قدرة يحتاج ساعاتٍ إلى تحريكها فإن فوقه من إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن، فيكون، أن تعلم أن من تعب زمناً طويلاً ليخترع أو يصنع أن فوقه من يقبض الأرواح ولا يبالي، ومن يحيي الأجداث ولا يبالي، بل إن البشر كلهم -والله- ما عظم شأنهم على الله جل وعلا.

يقول أحد المفسرين: إن خلق الناس ليس أمراً جليلاً على الله جل وعلا، بل هو عليه هين؛ لأن البشر منذ آدم إلى يومنا هذا خلقوا بكلمة كن، فالناس يتوالدون ويتناسلون وتنتشر البشرية طولاً وعرضاً على هذه الأرض بكلمة من الله: (كن) أن يكون من كل نواةٍ تلتقي بحيوانٍ منوي أن يوجد منها المخلوق الذي قدره الله ذكراً كان أم أنثى، من أي لونٍ من ألوان المخلوقات: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28] بل وأعجب من هذا الأمر العجيب أن من خلق هؤلاء الخلق على اختلاف ألوانهم وأجناسهم لم يعجز عن رزقهم ساعة واحدة، من استكثر أمواله فليرزق أهل بلدته ساعة، ومن استكثر قوته فليحرك جبلاً من مكانه، ومن استعصم نفسه فليتسلط ولو بدقيقة بدون أمرٍ أودعه الله فيه من قوةٍ خلقها له.

أيها الأحبة في الله: إن من ضرورات الوصول إلى الجنة بعد أن تعرف هوان نفسك، أن تعرف عظمة الخالق، الذي بأمره تكون البحار نيراناً: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]، الذي بأمره تتفطر السماء: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار:1]، الذي بأمره تتكدر النجوم: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير:2]، الذي بأمره تحيا النفوس بعد موتها، اعرف عظمة هذا الخالق، ليس الدين قضية قصر ثياب أو طول لحية، ليس الدين قضية كذا أو كذا، الدين قبل كل شيء إدراك وشعورٌ بعظمة الخالق، يوم أن تسجد تسجد لعظيم، انظر إلى أولئك الذين عبدوا البشر في دنياهم، من الطواغيت من لا يدخل عليه أحد إلا بعد أن يسجد ويقبل الأرض بين يديه، وتجد بعض المنافقين، بل الكفرة الذين يسجدون للطواغيت من دون الله، يوم أن يقبل بلاط سيده ومولاه يشعر بكل عظمة أن يقبل التراب والبلاط بين يدي عبدٍ حقيرٍ ذليل، فما بالك وأنت تحني الجبهة إعظاماً لله جل وعلا؟! فما بالك وأنت ترمي هذه الهامة من طولها على الأرض لوجه الله جل وعلا، وتقول: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، وتحني جسمك وجذعك وتقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم؟!

أيها الأحبة: حتى ندرك ما نحن بصدده ينبغي أن نعرف: نبذل الصلاة لمن؟ ونسجد لمن؟ وندعو من؟ ونرجو من؟ ونخاف من؟ ونهاب من؟

معرفة حقارة الدنيا

وبعد ذلك من المهمات التي تعين في الطريق إلى الجنة أن ندرك حقارة الدنيا، فهذه الدنيا حقيرة، وأكبر دليلٍ على هوانها أن كل صحيحٍ لا تدوم صحته، بل يتكدر بالمرض، وكل عزيزٍ لا يدوم عزه، بل مخوفٌ بالذلة، وكل قوي لا تدوم قوته، بل مخطور بالضعف، وكل مجتمعٍ لا يدوم اجتماعه، بل يكدره الفراق، وكلٌ لا يستقيم له من أمره شيءٌ على حال، إذاً إذا عرفت حقارة هذه الدنيا، وعرفت حقارة ملذاتك فيها علمت أن دنياك حقيرة.

فاقضوا مآربكم عجالاً إنما          أعماركم سفرٌ من الأسفار

طبعت على كدرٍ وأنت تريدها     صفواً من الأقذاء والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها     متطلبٌ في الماء جذوة نار

أيها الأحبة: هذه الدنيا من تفكر في مآلها وما فيها وجد أمراً عجباً.

وافتكر في منتهى حسن الذي     أنت تهواه تجد أمراً جلل.

إذا كان الشراب يحتبس بولاً نجساً تتضايق منه، تشرب ما تشتاق إليه وتتجرع ما تريده، ثم تريد التخلص منه فتراه نجساً يخرج من جوفك، وتتلذذ بالطعام ثواني، فمدة اللذة ثوانٍ معدودة على اللسان، ثم بعد ذلك لو احتبست في الجوف هيجت كل عرقٍ ساكن، وسكنت كل عرقٍ متحرك.

أيها الأحبة: اعرف أن دنياك حقيرة، واعرف أن دنياك مهينة، ولو كانت تعدل شيئاً لما سقى الله منها كافراً شربة ماء، ولن يعرف الطريق إلى الجنة من اغتر بنفسه، أو جهل عظمة خالقه، أو اغتر بدنياه واشتغل بها عن آخرته، هل يطمع بالجنة من قدم فلةً صغيرة على دارٍ عرضها السماوات والأرض؟! هل يطمع في الجنة من اختار إضاءةً تنطفئ واشتغل بها عن قناديل في العرش معلقة؟! هل يطمع في الجنة من اشتغل بحفنةٍ من المال عن خيرات عند الله لا تنفد: (إن آخر أهل الجنة دخولاً للجنة من يساوي ملكه مثل ملك أعظم ملكٍ في الدنيا عشر مرات)؟ هذا آخر رجل يدخل الجنة ملكه يساوي مُلْكَ مَلِك من أهل الدنيا عشر مرات، فالذي يقدم داراً صغيرة أو يقدم عرضاً حقيراً تافهاً من الدنيا على مرضاة الله، أتراه يشتاق إلى الجنة شوقاً يبلغه إليها؟ والله إنه لأمرٌ عجيب!

الأخذ من الدنيا للبرزخ والآخرة

ولن يعرف الطريق إلى الجنة من لم يأخذ من دنياه لبرزخه ثم لآخرته، أنت الآن في هذه الإضاءة، فأين الإضاءة في القبر؟ وأنت الآن في النور، فأين النور في اللحد؟ وأنت الآن في السعة، فأين السعة في المقبرة؟ وأنت الآن تحت المروحة والمكيف، فهل تجد مروحةً أو مكيفاً في القبر؟ وأنت الآن تأنس بمن حولك، فهل ستجد أربعة أو خمسة يحدثونك في قبرك؟ والله لا ينفعك إلا عملك الصالح، والله لا يسرك إلا عملك الصالح، دع عنك أولئك الذين زينوا وزخرفوا، وقربوا وقلبوا وغيروا لك الأمور، دع عنك أولئك فوالله ما منهم أحدٌ يسر، ولو كان أحدٌ في الدنيا يسر صاحبه لنفع الابن أمه، والرجل زوجته، والولد أباه، ولكن: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].

أيها الأحبة: من أدرك ذلك فليهيئ للسفر مركب التوبة، وليبدأ بدايةً صادقة، لو أن الحاضرين في هذا المسجد الآن كلٌ منهم عاهد الله بتوبةٍ صادقة؛ إن كان مقصراً أن يتمم، وإن كان مخطئاً أن يقلع، وإن كان مسرفاً أن يتوب، لو أن كل واحدٍ من الحاضرين بدأ وقطع العزم على نفسه أن يهيئ مركب السير في الطريق إلى الله جل وعلا، لانتشر الخير في كل بقعة من بقاع الأرض، كم عدد الحضور؟ سمِّ ما شئت من العدد، كل واحد منهم تاب إلى الله توبةً نصوحاً، وكانت ثمار التوبة أن لو كل واحد دعا اثنين ممن يعرف، وكل اثنين دعوا اثنين ممن يعرفون لانتشر الخير، لا أقول في عشيةٍ وضحاها، ولكن في فترة يسيرة من الزمن.

ولكن أيها الأحبة: ما أكثر ما نسمع قلوباً تعرف، وألسنةً تصف، وأفعالاً تخالف، الران قد علا قلوبنا، الصغائر قد تساهلنا بها: هذه صغيرة، هذه كلمة لكن لا نقول: غيبة، هذه نظرة لكن لا نقول: ليست لغضٍ للبصر، هذا موقفٌ أو تساهل لكن لا نسميها باسم المعصية، بل نسميها باسم آخر، ولو حاسبنا أنفسنا محاسبة الشريك لشريكه لوجدنا أننا قد أكثرنا على أنفسنا من السيئات، ولأجل ذلك خربنا مركب السير.

لو أن سيارة سليمة في قارعة الطريق، ولكن أبوابها مفتوحة، فجاء طفلٌ وعبث بسلك، وآخر عبث بالمقود، والثالث عبث بالإشارة، والرابع عبث بكذا وكذا، فعلى مدى الأيام وجدت هذه السيارة السريعة المطيعة خربة لا تنفع ولا تصلح أن تكون دابة تمشي بك ولو كيلو متر واحد لماذا؟ لأنك فتحت أبوابها لكل راكب، وجعلتها عرضةً لكل مخرب، فكذلك من فتح أبواب نفسه لكل جليس، ولكل صديق ورفيق وصاحب طريق، إنه يجلب على نفسه خراب دابته إن عاجلاً أو آجلاً.

نعم. تساهلنا بالصغائر ونخشى أن نكون ممن طال عليهم الأمد، فقست قلوبهم.

التوبة مركبة الطريق إلى الجنة

أيها الأحبة: أي دليلٍ أعظم من ضعف شوقنا إلى الجنة وعظم غفلتنا عما ينتظرنا، أن الواحد يقف بين يدي الله جل وعلا فتراه يذكر كل شغلٍ فائتٍ ولا يذكر عظمة ربه الذي هو واقفٌ بين يديه جل وعلا، تذكر كل شغلٍ ماضٍ، ولكن قلَّ أن تذكر ما أنت بصدده مما يقابلك من حسابٍ، أو ثوابٍ أو عقابٍ، أو حشرٍ أو كتابٍ تأخذه بيمينك أو بشمالك!!

أيها الأحبة: ينبغي أن نستعد لهذه الغاية التي نتمناها؛ لأن المسافر لابد أن يهيئ دابته، ولابد بعد ذلك أن يحسن الظن بهذه الدابة، بعد أن يهيئها أن يحسن بها الظن، لا أن ينقطع ويتكل ويركن إليها، أقول: لابد أن يهيئها ويحسن الظن بعد ذلك؛ لأن الله جل وعلا يعد من ظن به خيراً: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأ خيرٍ من ملئه).

أيها الأحبة: وهذه التوبة التي هي مركبة الطريق إلى الجنة بشروطها التي تعلمونها، نريدها توبة المريد، لا توبة العادي، نريدها توبة الاختيار، لا توبة الاضطرار؛ توبة الذين غرغرت أرواحهم وبلغت الحلقوم، أو توبة الذين قد رأوا الشمس قد خرجت من مغربها، لا. نريدها توبة القدرة، أن ترى الفلم أمام عينيك، ميسرٌ بين يديك فتعرض عنه لتقرأ كلام الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، هذه توبة وإعراض عن المعصية إلى الطاعة بالاختيار، أما أولئك الذين أرادوا الحرام فعجزوا عنه، ولما عجزوا عنه قالوا: نتوب إلى الله. قد تكون توبة، لكنها ليست توبة المريد، وليست توبة المختار، وليست توبة الذي عرف العظمة وأدرك ذلة نفسه فاختار ما عند الله جل وعلا، أو أنها توبة الخائف على سمعته، أو توبة الخائف على منصبه، أو توبة الخائف على أمرٍ يتعلق بأسرته ونحو ذلك، أو توبة من خاف على نفسه، لا نريد من ترك الفاحشة أو المعصية؛ الخمر أو غيره لأنه يخشى من المرض على نفسه، بل نريد توبة الاختيار، نريد توبة أن تكون قوياً صحيحاً شحيحاً ترجو الغنى وتخشى الفقر، حينما توجد هذه التوبة فإنها تخرج جيلاً ينفعون الأمة، وينشرون الدعوة، ويقمعون البدعة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، أما قول بعضهم: نشبع من المعاصي، ثم نعود إلى التوبة بعد ذلك، أو على حد قول قائلهم:

وكثر ما استطعت من المعاصي     إذا كان القدوم على كريم

لا والله. بل لابد أن تكون تارك المنكر مع القدرة والإرادة التامة، هذا أعظم امتحان لصدق كل عبدٍ قد أراد الله والدار الآخرة.

إن هذا الكلام لا يعني أن يذهب شابٌ إلى حانة خمر، أو مكان للزنا فيقول: الآن أختبر نفسي إن كنت صادقاً بالتوبة أم لا، (لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية) لا تتمنوا الفتنة، وإذا بليتم فاصبروا، لكن نقول لكل شابٍ الآن ربما هو يعلم من نفسه ما عنده من الأشرطة، وما عنده من المجلات، وما عنده من الأفلام، وما عنده من الجلساء، وما يقضي ليله فيه من المكالمات والاتصالات، نقولها لكل شاب: أقلع ما دمت قادراً.

أحسن إذا كان إمكان ومقدرة     فلا يدوم على الإمكان إنسان

أنت اليوم مستطيع، لكنك غداً لا تستطيع، أنت اليوم تستطيع أن تصلي واقفاً على قدميك، ولكن بعد مدة قد تعجز أن تصلي وأنت جالس، أنت الآن قادرٌ على الصيام، وبعد مدة قد تعجز عن ذلك، أنت الآن قادرٌ أن تذهب برجليك إلى المسجد، وبعد مدة قد تكون عاجزاً عن ذلك، أنت الآن قادرٌ أن تخرج المال الذي جمعته من حرام بإرادتك واختيارك، ولكن بعد مدة لو قيل لورثتك: اجعلوا هذا المال بعيداً أو ردوه إلى أهله أو تصدقوا به، أو أخرجوه من تركة والدكم لقالوا: لا. هو الذي جمعه، وهو المسئول عنه ويحاسب عليه، إذاً انفع نفسك، ومن لم ينفع نفسه فلا يلم الناس إذا لم ينفعوه.

الجنة تريد عملاً

بقي أيها الأحبة في الله أن نقول ما تعلمون، وأن نذكر ما تعرفون: أن الجنة تريد عملاً، والعمل لا يشترط بعد المفروضات والواجبات أن يكون منصباً في جانبٍ معين، فإن ترك المحرمات، وحسن معاملة الناس من أعظم الأعمال، ولذلك لما سئل صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، قال: (تقوى الله، وحسن الخلق) والتقوى: الخشية من الله في السر، فليس عجيباً أن تكون مؤدباً بين الناس، لكن إذا أغلقت الحجرة على نفسك، هل بينك وبين الله أدب؟ ليس عجيباً أن تكون خلوقاً طيباً لبقاً بين الناس، لكن إذا أرخيت الستر وأغلقت النور على نفسك هل يكون هذا الأمر موجوداً؟

التقوى: مراقبة الله في السر، خشية الله في السر، أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك من مقامات الإحسان.

أيها الأحبة: من الأعمال: الكف عن المعاصي، وبكل صراحة احفظوا هذه القاعدة: (نحن في هذا الزمان لا نشكو من قلة الحسنات، ولكن نشكو من كثرة السيئات) رُب بعض الناس يعمل أعمالاً ما فعلها بعض التابعين، قد تجد رجلاً يبني مسجداً، وينفق، ويعطي أشياء كثيرة، هذه الأمور بعض التابعين وبعض علماء المسلمين ما قدروا عليها، ولكن مع كونه بنى مسجداً، وأنفق وكفل أيتاماً، ما أكثر ما ترى من ذنوبه وسيئاته! وما أكثر ما ترى من زلاته وهفواته! فإذا كانت النتيجة النهائية ومحصلة الرصيد وجدت أن مجموع السيئات أكثر من رصيد الحسنات، إذاً العمليات الهامشية في الحساب في الدائن والمدين ليست مشكلة، المشكلة في الرصيد النهائي، لا تعجب أن تخسر مائة ريال لكنك في النهاية تجد في الرصيد أرباحاً كثيرة، المشكلة أن تغتر برصيدك الدائن وتنسى نصيبك في المدين، أن تنسى الخسائر، أن تنسى الذنوب التي تعصي الله بها ليل نهار، وإن كثيراً من الناس عنده عدد من الذنوب يومياً يرتكبها ويفعلها، وله جانبٌ من الحسنات. نسأل الله جل وعلا أن يعينه على ترك الذنوب وأن يبارك له بالقبول بحسناته.

أقول أيها الأحبة: ليست المشكلة قلة حسنات، فقد جاء أعرابي قال: يا رسول الله! ما عندي غير الصلاة والصيام وحج البيت وأمور الأركان الخمسة، والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا، لم يقل: أريد صيام اثنين وخميس، ولم يقل: سوف أجاهد، ذكر فقط الواجبات الخمسة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن صدق) وفي رواية: (من سره أن ينظر إلى رجلٍ من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا) لكن التزامٌ بالواجبات مع عدم وقوع وولوغ في المحرمات والمعاصي، لكن الآن تجد عندنا تقصيراً أو تفريطاً في بعض الواجبات، توجد عدد من الحسنات، لكن تجد كثرة وإسرافاً في السيئات، فيظن الإنسان أن عنده خيراً كثيراً، ويجهل أنه في خسارة كبيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إذاً القاعدة: (ليست المشكلة قلة الحسنات، لكن المشكلة كثرة السيئات) إذا حصَّل الواجبات فكثر الله ألفَ ألفٍ خيره، لكن المصيبة كثرة السيئات وعدم المبالاة بها، تجد رجلاً يجلس ويبحلق بعينه في صورة امرأة لا يحل له النظر إليها، ولو قيل له عن رجلٍ يفتح النافذة وينظر إلى بنت الجيران، لقال: هذا خسيس، هذا نذل، هذا لا يستحي على وجهه، وأنت خلفه أما تستحي على وجهك؟!

فعلاً القضية أن الإنسان عنده حسنات، لكن عنده سيئات كثيرة، فالمصيبة ليست قلة الحسنات فقط، ولكن المصيبة كثرة السيئات ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الموت في سبيل الله

أخيراً أيها الأحبة: إن أقرب الطرق إلى الجنة الموت، من أراد أن يختصر المسافة من الدنيا إلى الجنة فالقضية قضية التماس كهربائي، قضية اهتزاز لمدة ثوان معدودة وهي فترة خروج الروح، وبعد ذلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، هذه الفترة الثواني؛ ثواني الاهتزاز، ثواني الكهرباء، ثواني التردد التي يحصل فيها هزة في لحظات بسيطة، من أصابته هذه الهزة أو هذا التردد أو هذه الموجة الممغنطة في عروقه وهي لحظة الشهادة في سبيل الله، لحظة الموت في سبيل الله التي لن يجد فيها إلا كألم القرصة، من أقرب الطرق الموصلة الموت في سبيل الله، وإن أعجب فعجبٌ ذات ليلةٍ ليست بعيدة طرق عليَّ الباب شابٌ، فقلت له: من أنت؟ قال: لن أخبرك عن اسمي، قلت له: أنا ما طرقت بابكم، أنت الذي أتيت تطرق بابي، أي خدمة يا أخي الكريم؟ قال: والله عندي حاجة، قلت: ما هي حاجتك؟ قال: والله -والرجل عليه سمة الصدق- أني أدعو الله وأرجوك أن تدعو لي، قلت: وما أنا بمجاب الدعوة أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم، قال: اسأل الله أن يقطع جسمي إرباً في سبيله، قلت: أسأل الله لك الشهادة، قال: لا. اسأل الله أن يقطع جسمي قطعة قطعة في سبيله، قلت: الآن جاءت المسألة، إذا يوجد عندنا في الأمة شباب كهؤلاء الواحد مستعد أن يقطع الأصبع الواحد من يده إلى خمس أنامل، واليد الواحدة إلى عشر قطع، والرأس إلى مئات الجرامات، والقدم إلى عشرات القطع، إذا يوجد شباب بهذه الصفة فالجنة قريبة، ولا نقول: إن الجنة لا توجد إلا بهذا الطريق، لكن نقول هذا أقرب الطرق إلى الجنة. كان ابن رواحة كثيراً ما ينشد ويقول:

لكنني أسأل الرحمن مغفرةً     وطعنةً ذات فرغٍ تقذف الزبدا

وطعنةً بيدي حران مجهزة     بحربة تنفث الأحشاء والكبدا

حتى يقال إذا مروا على جدثي     يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا

وقول الآخر:

ألا موتٌ يباع فاشتريه     وهذا العيش ما لا خير فيه

ألا رحم المهيمن نفس حرٍ     تصدق بالوفاة على أخيه

الأمة تحتاج إلى أناس يشربون الموت كما يشربون الماء البارد، الأمة بحاجة إلى رجال كما قال خالد بن الوليد لـرستم : [فإن أبيت الإسلام والجزية فقد جئناك بقوم يشتهون الموت -يحبون الموت، يتعطشون للموت، يبحثون عن الموت- كما تحبون الحياة].

إن مصيبة الأمة: حب الدنيا وكراهية الموت كما بينه صلى الله عليه وسلم في داء الوهن الذي ترى فيه كثرة كغثاء السيل، ويتسلط، ويتداعى، ويتكالب الأعداء عليها من كل جانب.

أيها الأحبة: أقرب الطرق إلى الجنة الموت في سبيل الله، وهنيئاً لأولئك الذين سالت دماؤهم على أرض أفغانستان ، ويا فوز أولئك الذين بذلوا أرواحهم للجهاد في سبيل الله، وأولئك الذين جاهدوا فكتب الله لهم الحياة كما كتب لإخوانهم الشهادة، هنيئاً لهم ما بقي الإخلاص والثبات في قلوبهم.

أيها الأحبة: كنت في الجبيل من مدة فدخل شابٌ أسود اللون، ولكن في وجهه نورٌ يتلألأ، فأحببته منذ أن دخل ذلك المجلس، وما كنت أعرفه من قبل، فدنوت له، وكنت في صدر المجلس ودعوته أن يجلس بجواري، فالتفت إليه وقال لي أحد الإخوة: هذا فلان أبو الزبير من خيرة شباب جلال آباد ، فقلت: ليس عجباً أن أميل إليه، وأن أحبه، وأن تميل نفسي ويهفو قلبي إليه، وأن أرى هذا النور يتلألأ في وجهه، وودعت ذلك المجلس ومن بينهم هذا الشاب ونفسي ما زالت تتذكره على كثرة من أقابل وأجالس، وبعد أيام قالوا لي: إن ذلك الشاب الأسود اللون البراق الوجه قد استشهد في سبيل الله، قلت: إذاً لا غرابة أن أحبه بلا خيار، وأن أميل إليه بلا إرادة، وأن أتعلق به بلا سابق معرفة.

أيها الأحبة: يبقى أمرٌ واحد، هل نموت في سبيل الله؟ هل عندنا استعداد أن نقدم الأرواح في سبيل الله؟ إذا وجدت أمة تلعب بالموت كلعب الورق بكل استعداد، أول ورقة في النزال الموت، ولست أدعو بهذا إلى الانتحارية، فيا صاحب الفيديو! تب إلى الله يقول: لا ما أنا بتائب، فأقوم باسم الله الموت، أدخل عليه بحزام ناسف وانتهي أنا وإياه، لا. ليس المقصود هذا، لكن المقصود أن يوجد في النفس المفاوضة على آخر قطرة دم، بمعنى أن الإنسان بآخر قطرة دم مستعد أن يجعلها أول سعر في المساومة، إذا وجد هذا النوع من الشباب والله إن الأعداء يذلون ويهابون ويخافون، فقد قال الله جل وعلا في الكفار: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [البقرة:96] الكافر وصاحب البدعة ومن ليس على صراطٍ مستقيم كل أولئك يخافون الموت، لكن المسلم يقول:

أي يوميَّ من الموت أفر     يوم لا قدر أم يوم قدر؟

يوم لا يقدر لا أرهبه     وعن المقدور لا ينجي الحذر

إذا لم يكن من الموت بدٌ     فمن العار أن تموت جبانا.

إذا كان الموت ساعة لا تتقدم ولا تتأخر، فجميلٌ جداً أن نموت ميتة الأُسُود، لا ميتة النعاج والخراف، والجبناء والضعاف.

أيها الأحبة: الموت في سبيل الله من أقرب الطرق إلى الجنة، وقضية الموت قضية ينبغي أن نبسطها بكل وضوح وبكل سهولة، من الناس من يخاف الموت خوفاً عجيباً، وأعجب من البعض، الجمعة الماضية خرجت من المسجد فإذ بي أجد شاباً، قلت له: أعطني يدك، قال: إلى أين؟ قلت: إلى المقبرة، أحد جيراننا فلان هو من أهل الإحساء ومن جيراننا في الرياض توفي، أسأل الله أن يجمعنا به في الجنة ونعم الجار، ما علمت عنه إلا خيراً، فأصابه حادث سيارة توفي إثره، قلت: نصلي الجمعة ونذهب نشهد جنازته إن أدركناها وإلا نصلي على قبره ثم نعود أهله فنعزيهم فيه، فقال: والله يا أخي! أنا أخشى من المقبرة، أخشى من الموت، قلت له: فقط هذا الدور وتعال اركب، فذهبنا أنا وإياه، قلت له: تخاف من الموت؟ قال: نعم، قلت له: أي شيء من الموت تخاف؟ أي: ما هي المشكلة في الموت؟ تخاف من الموت يأخذك هنا مع الرقبة، وإلا مع الرجل، وإلا مع الظهر، ما هي المشكلة في الموت؟ الموت ظاهرة طبيعية، كما تخرج الفرخة أو الصوصة من البيضة، الموت خروجٌ من بيضة الدنيا إلى عالم البرزخ، الموت ظاهرة طبيعية جداً جداً، فهذه الدجاجة حينما تبيض بيضة، الصوص الموجود في البيضة يفرخ، يخرج من البيضة، سواء كان في محضن أو في فقاسة حرارية، أو كان في غرفة نوم أو في عش، أو كان في نافذة، سوف تنكسر جدران هذه البيضة الكلسية، ويخرج منها هذا المخلوق، فأنت سوف تنكسر عنك بيضة الدنيا وتنتقل إلى عالم جديد، فما هي المشكلة في الموت؟ المشكلة ليست في الموت، المشكلة مشكلة ما بعد الموت، المشكلة مشكلة الانتقال من الضوء إلى الظلام، الانتقال من السعة إلى الضيق، الانتقال من الأنس إلى الوحشة، الانتقال من الري إلى الظمأ، من الشبع إلى الجوع، هذه المشكلة، فمن كان جاداً في خوفه من الموت، فليقدم على الموت حتى تكفر ذنوبه، ويشفع في سبعين من أهل بيته، ويلبس تاج الوقار، ويرى مجلسه من الجنة، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، هكذا من خاف من تلك المصائب بعد الموت، فليقبل على الموت، واحرص على الموت توهب لك الحياة، وإلا لم نجد تفسيراً بدون الرغبة في الموت، لا نجد تفسيراً لتصرفات الصحابة، أحد الصحابة طعنه مشركٌ اسمه جبار بن سلمة ، طعنه طعنةً تفجر الدم من جوفه، فأخذ الصحابي يصرخ ويقول: [فزت ورب الكعبة] فارتعد الكافر، جبار بن سلمة ووقف مشدوهاً: رجلٌ أطعنه طعنة من ظهره بالسيف ثم يصرخ ويقول: [فزت ورب الكعبة] فكانت سبباً في إسلام جبار بن سلمة ، دعاةٌ حتى آخر قطرة دم، دعاةٌ إلى الله حتى في النفس الأخير، وآخر من الصحابة يطعن وتبقر بطنه، فيغرف الدم من جوفه ثم يصبه على رأسه، ويمسح به وجهه ويقول: [اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى] هذه فلسفة الموت، فلسفة الموت عملية طبيعية، ربما الإنسان يجد في عملية زائدة، أو في أي عملية جراحية آلاماً أشد من آلام الموت، لكن المصيبة مصيبة الذين يموتون على المعاصي، تشدد عليهم آلام الموت وسكراته، وأما الذين يموتون مقبلين في سبيل الله فأولئك لا يجدون من آلام الموت إلا كما يجد أحدنا من ألم القرصة.

الصبر على طول الطريق

وأخيراً أيها الأحبة! من أراد الجنة فليصبر على طول الطريق، وليوطن نفسه إذا انغلق عليه بابٌ في الطاعة والدعوة فليفتح باباً آخر، إن من الناس من تجده قد عود نفسه في الدعوة والعبادة على خطٍ معين، فربما انغلق عليه الطريق ذات يومٍ بسببٍ من الأسباب، نقول: إذا أُغلق الطريق فافتح طريقاً آخر، وإذا أُغلق هذا الطريق فافتح طريقاً ثالثاً، وهكذا إلى أن تلقى الله جل وعلا وهو راضٍ عنك غير غضبان، بمنه ورحمته، نريد طول النفس، لقد صنع في إحدى دول أوروبا نوع من اللمبات إضاءة هذه اللمبة يقال: تمكث عشر سنوات لا تنفد. أنتم تلاحظون الآن الواحد كل أسبوع اللمبة عنده محترقة، فيذهب ويأتي بلمبة جديدة، نحن لا نريد المسلم الذي تاريخ فعاليته قصير؛ عشرة أيام ويحترق، أو سنة ويحترق، أو ثلاث سنوات ويحترق، نريد مسلماً ليس من النوع الأوروبي هذا في اللمبة، بل طويل المدى، نريده مستمراً لا يخفت أبداً، مسلم من نوع: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، مسلم من نوع: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

فإن من أراد الجنة صبر على طول الطريق، ومن ضعف أو تقاعس أو تكاسل، أو مل أو اضمحل؛ فربما كانت خاتمته خاتمة المفرطين أو المنهزمين، أو الضائعين أو المنحرفين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فعلى كل مسلمٍ أن يجعل الطريق نصب عينيه، وكما قال علي بن أبي طالب : [اللهم أشكو إليك طول الطريق وقلة الزاد] ولكن نستعين على هذا بما أرشد الله نبيه إليه: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل:1-4] لماذا القيام؟ لماذا الترتيل؟ لماذا القراءة؟ لماذا الذكر؟ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً [المزمل:5-6] فمن أراد أن يأنس بما يعينه وأن يتزود بما يثبته في طريقه إلى الجنة، فليجعل التسبيح والقيام، والعبادة والتهجد، والاستغفار والإنابة زاداً له، فإنها نعم الطريق بمن الله، وهنيئاً لكل مؤمنٍ عبد ربه على بصيرة: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:103-104] .. عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3] يعملون ويشقون وينصبون .. تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:4].

فهنيئاً لكل مسلم عبد الله على بصيرة، وسلك متبعاً منهج نبيه صلى الله عليه وسلم، أولئك في الغرفات آمنون، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وهذا الكلام ليس للرجال وحدهم فحسب، بل هو للرجال والنساء، فإن خطاب القرآن يوم أن ينادي المؤمنين لا يخص الرجال دون النساء، أو النساء دون الرجال، بل الخطاب عامٌ إلا ما استثنيُ فيه ببينة أو خص فيه النساء بقرينة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2802 استماع
حقوق ولاة الأمر 2664 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2652 استماع
توديع العام المنصرم 2647 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2552 استماع
من هنا نبدأ 2495 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2461 استماع
أنواع الجلساء 2460 استماع
إلى الله المشتكى 2436 استماع
الغفلة في حياة الناس 2436 استماع