كتاب منهج السالكين - كتاب البيوع [12]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل. وبعد:

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب الغصب: وهو الاستيلاء على مال الغير بغير حق، وهو محرم؛ لحديث: ( من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله به يوم القيامة بسبع أراضين )، متفق عليه].

عرف المؤلف الغصب بقوله: (وهو الاستيلاء على مال الغير بغير حق).

وهذا هو تعريف فقهاء الحنابلة، وأنت ترى أن الاستيلاء لا بد أن يكون على مال، والمال هو كل ما يتمول، ويمكن الانتفاع به، ويحصل فيه البذل والأخذ.

وعلى هذا فالذي لا يجوز بيعه كالكلب وجلد الميتة بعد الدبغ إذا كان مما يؤكل لحمه فإن الحنابلة يقولون: يجوز الانتفاع به في اليابسات، فإن هذا لا يعد غصباً؛ لأن الكلب ليس بمال، ولهذا لو عرفه المؤلف بقوله: هو الاستيلاء على حق الغير بغير حق، لكان أوجه؛ ليدخل فيه أخذ مال أو أخذ كلب الصيد للشخص.

المؤلف يقول: (وهو محرم).

الغصب محرم في كتاب الله وفي سنة سيدنا رسولنا صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع العلماء على أن ذلك محرم.

أما في الكتاب: فإن الله يقول: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، وهذه آية عظيمة.

وبين النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الغصب في أعظم مكان وفي أشرف يوم وهو يوم عرفة، فقال: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا )، والمؤلف رحمه الله ذكر حديث التحريم: ( من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله يوم القيامة من سبع أراضين )، وهذا الحديث رواه البخاري و مسلم من حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهذا حديث ثابت واضح.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: ( وعليه رده لصاحبه ولو غرم أضعافه، وعليه نقصه وأجرته مدة بقائه بيده، وضمانه إذا تلف مطلقاً، وزيادته لربه).

المؤلف شرع في الأحكام المترتبة على فعل الغاصب فقال: (فعليه رده لصاحبه)، أي: يجب على الغاصب أن يرد ما غصبه إلى صاحبه بلا توان، وهذا بغير خلاف كما ذكر ذلك أبو محمد بن قدامة ، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لا لاعباً ولا جاداً، ومن أخذ عصا أخيه بغير حق فليرده )، والحديث رواه أبو داود وسنده لا بأس به.

وقال صلى الله عليه وسلم: ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه )، كما في حديث سمرة عند أهل السنن و أحمد، والحديث فيه كلام فقد ضعفه الإمام أحمد وصححه بعض المتأخرين، وليس هذا موطن الكلام على هذا الحديث، وإن كان الأصح أنه ضعيف لكن هذه القاعدة معروفة، ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) وقد ثبتت بالسنن المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب رد المغصوب.

وعلى هذا فيجب على الغاصب أن يرده بمثل ما أخذه، وعلى هذا إذا حصل على المغصوب نقص فإن النقص على أنواع:

النوع الأول: إما أ ن يكون نقصاً في نفس المغصوب، مثل: أن يكون قد أخذه سميناً، كناقة سمينة فضمرت فحينئذ يضمن النقص، فلو كان قيمة الناقة الممتلئة حيوية ثلاثة آلاف وبعد الغصب صارت قيمتها بسبب ضمورها وهزالها ألفين، فإنه يضمن النقص الحاصل، وهذا نوع من النقص.

النوع الثاني: يضمن النقص الحاصل إذا كانت تجيد الجري والسرعة، مثل الخيل، فأهملها الغاصب فنقصت قيمتها.

أنتم تعرفون أن الخيل أحياناً تجيد القفز وتجيد السرعة، وهذا لا بد فيه من تربية، فإذا أخذها الغاصب ثم أراد أن يردها فضعفت، فإنه يضمن هذه الصنعة التي يجيدها الخيل أو يجيدها المغصوب.

النوع الثالث: يضمن القيمة، ولو لم يحصل غصب، وعلى هذا فلو غصب شاة أو ناقة في أول ذي الحجة، فمن المعلوم أن النوق أو الغنم ترتفع قيمتها وقت عيد الأضحى، فإذا غصبها ولم يردها إلا في شهر جماد فإن العلماء قالوا: يضمن النقص (نقص السعر)، وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد واختارها أبو العباس بن تيمية و ابن قدامة والشيخ ابن سعدي رحمهم الله، وإلا فإن المذهب لا يضمن إلا النقص الحاصل الفعلي على المغصوب، ولكن الراجح أنه يضمن النقص في القيمة.

ومثل هذا لو أن شخصاً في محفظته أسهم، فكانت قيمة السهم آنذاك مائة ريال، فعطل المصرف عملية التداول عند العميل فحصل بسببها نقص في السعر، فلم يستطع العميل أن يقوم بعملية التداول بيعاً وشراء في محفظته بسبب خلل في البنك، ولم يستطع إلا بعد عشرة أيام مما سبب في ذلك نزول السهم، فحينئذ على القول بأنه يأخذ حكم الغاصب يضمن النقص الحاصل، خاصة إذا طلب العميل تنفيذاً بالبيع، ولم يتم بسبب خلل في النظام، وهذا كما قلت هو الراجح والله أعلم.

يقول المؤلف: (وعليه نقصه وأجرة مدة مقامه بيده) أطلق المؤلف (أجرة مدة مقامه بيده)، بينما كان المغصوب نقداً أم عرضاً من العروض، مثل: أن يكون عقاراً، أو أن تكون ناقة تؤجر، أو أن تكون سيارة، والظاهر والله أعلم أن المؤلف لم يقصد، وإنما قصد (وأجرة مدة مقامه بيده) إن كان لمثله أجرة.

وعلى هذا فالنقود هل لها أجرة؟ لا، ليس لها أجرة، فلو غصب نقوداً فإنه يجب أن يردها من غير شيء، ولا يلزم أن يرد أجرة لانتفاعها.

هذا قول عامة أهل العلم، إلا أن المالكية قالوا كما في مختصر خليل: ويجب على الغاصب رد أجرة نقد، وعامة أهل العلم على خلاف ذلك.

وعلى هذا فإذا غصب أرضاً -ومن المعلوم أن الأرض يمكن استئجارها- فيقال: رد الأرض، ثم يقال: كم مكثت عندك؟ قال: سنة، قيل: كم أجرة هذا العقار لمدة سنة؟ قالوا مثلاً: مائة ألف، فيقال له: يجب أن ترد مع العين مائة ألف ريال، وهذا قول جماهير أهل العلم خلافاً لـأبي حنيفة ؛ لأن أبا حنيفة لا يرى بيع المنافع في مثل هذا، والراجح صحته والله أعلم وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة.

وعلى هذا فيجب عليه أن يرد أجرة المثل سواء انتفع بها أو لم ينتفع بها، فلو أن غاصباً غصب أرضاً ولم ينتفع بها، فنقول: يجب أن تلزم بأجرة المثل انتفعت أو لم تنتفع، وإن أجرها الغاصب بأكثر من أجرة المثل، أجرة المثل مثلاً مائة ألف فأجرها بمائة وخمسين، هل نقول للغاصب: ادفع مائة ألف أجرة المثل أو مائة وخمسين؟ نقول: الصحيح والراجح أنه يقال له: ادفع مائة وخمسين ألفاً.

ولو أن غاصباً أخذ مائة ألف من شخص، وقام باستثمارها ووضعها في مساهمة عقارية، وبعد سنة جاءت مائة ألف وزيادة مائة ألف أخرى، فجاء الغاصب وقال للمغصوب منه: خذ مائة ألف التي أخذتها منك، هل يصح هذا؟ نقول: لا، اختلف العلماء في ذلك: فذهب الجمهور بما فيهم الحنابلة والشافعية إلى أنه يجب عليه أن يرد الربح كله لمالكه وليس له إلا أجرة المثل، وما معنى أجرة المثل؟ يعني: كأننا وضعنا عاملاً يستثمر هذا الأمر والربح كله لرب المال وللعامل أجرة المثل، والغاصب ليس له إلا أجرة المثل، هذا هو مذهب الجمهور.

وذهب ابن تيمية وهو قول عند المالكية إلى أن الغاصب له مضاربة المثل أو جعل المثل، ما معنى جعل المثل؟ قالوا: فلو قدرنا أن الغاصب أخذ هذا المال وبدأ يستثمره على أنه مضاربة كم ربحه عند عامة الناس؟ قالوا: ربحه 30% له، إذاً 30 % أكثر من أجرة المثل فهذا رأي ابن تيمية رحمه الله؛ بأن له مضاربة المثل.

فالغاصب أخذ مائة ألف واستثمرها وربح مائة ألف أخرى، فعلى مذهب الجمهور يجب عليه أن يرد الربح كله لصاحب المال، وليس له إلا أجرة المثل كأنه عامل، وأجرة المثل يمكن أن تكون ألفاً أو ألفين. أما القول الثاني: فيقول: له مضاربة المثل، كأنني أعطيت الغاصب هذا المال يستثمره، فكم يكون له؟ نسأل الشركات العقارية كم تأخذون؟ قالوا: من 20% إلى 30%، فيأخذ 20%، وهذا هو قول ابن تيمية.

والمسألة طويلة والخلاف فيها قوي والذي يظهر والله أعلم التفريق، فيقال: إن كان الغاصب أخذ هذا المال من غير علم أن المال مال المغصوب منه، أو ظن أنه يجوز التعامل به، فنقول: له مضاربة المثل، وأما إذا كان يعلم أن هذا المال مال المغصوب منه فحينئذ يجب عليه أن يرد كامل الربح وليس له إلا أجرة المثل.

ونقول: الراجح أن الغاصب إن كان يعلم أن هذا المال مال الغير وأنه غاصب، فنقول ليس لك إلا أجرة المثل، وإن كان يعلم أن هذا المال مال الغير ولكن لم يأخذه على أنه غاصب، بل ظن أنه يحق له ذلك -كما سوف يأتي صورها- فإن له مضاربة المثل.

خذ مثالاً بسيطاً كما تفعله كثير من الشركات العقارية، الشركات العقارية تفتح مساهمة، أنا أحب دائماً أن أصور المسائل القديمة بالواقعية: شركة اسمها: (س) فتحت مساهمة عقارية على هذه الأرض، أخذوا مليون ريال وقطعوا الأرض ثم بدءوا يبيعون, وصار ربح الناس 50%. فالشركة العقارية باعت تقريباً 50% من الأرض، وحصلت على نقود، فالواجب عليها أن تبقيها في الحساب ولا تتصرف فيها، لكن الواقع مع الأسف الشديد أن كثيراً من الشركات العقارية لا تفهم ولا تعي ولا تدرك، ويظن بعضهم مع الأسف الشديد أنه إذا تخرج من كلية الشريعة أو من أصول الدين له أن يفتي، فماذا يصنع؟ يأخذ هذا المال ويشتري أرضاً أخرى، وإذا جاء العميل أو الشريك يقول: ما الذي صار في مساهمتنا؟ فيقول: والله إلى الآن ما بعنا، بعنا 50% تعال بعد أسبوع، فيأتي بعد أسبوع فيقال له: والله ما بعنا وهكذا تأتي سنة وتذهب سنة، وربما يكون بعضهم فيه خيانة، فيبقي بعض الأراضي لا يبيعها. ويستثمر أموال الناس، وأنتم ترون أن أكثر الشركات العقارية وقع عندها إفلاس؛ لأنها حينما أخذت أموال الناس أدخلتها في الأسهم -هذا هو الواقع- فخسروا، فصار يضمن المال، وليس عنده مال، وتجد كثيراً من الشركات الآن يسجنون بسبب هذا الأمر.

إذاً: لو افترضنا أنه أخذ هذا المال ووضعه في مضاربة ظاناً أنه يجوز له ذلك، فعلى مذهب الجمهور ليس له إلا أجرة المثل، والربح كله للمساهمين.

وعلى رأي ابن تيمية أن له جعل المثل أو مضاربة المثل، وعلى القول الراجح الذي هو على التفريق، إن كان يعلم أنه يأثم بهذا التصرف فإنه ليس له إلا أجرة المثل، وإن كان يظن أنه جائز فله مضاربة المثل، ويذهب قضاءً ويطلب منه اليمين.

إذاً: المسألة ليست سهلة: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79]، والمشكلة أن كثيراً من الشركات العقارية إذا جاء الضعيف يريد ماله قالوا: والله أزعجنا هذا بعشرة آلاف، أعطوه حقه، فيجب على الإنسان أن يخاف ربه، وأن يعلم أن هذا المال عرضة لأن يسأل عنه يوم القيامة، ( ومن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله )، كما عند البخاري عن أبي هريرة.

يقول المؤلف: (وضمانه إذا تلف مطلقاً) لو أن الغاصب أخذ هذا المال وتلف، فيجب أن يضمنه مطلقاً يعني: حتى لو كان النقص بسبب السعر فإنه يضمن.

المؤلف قال: (يضمنه مطلقاً)، ولم يذكر رحمه الله طريقة الضمان، لا يخلو المغصوب إما أن يكون مثلياً، أو يكون غير مثلي، أو الذي يسمى قيمياً، والمثلي: هو كل مكيل أو موزون لا صناعة فيه مباحة يصح السلم فيه، وأما القيمي فهو عكسه مثل السيارات والأجهزة وغير ذلك.

الحنابلة قالوا: إن كان المغصوب مثلياً فيرده مثلياً، وإن كان قيمياً فيجب أن يرده بالقيمة، ولكن الراجح وهو رواية عند الإمام أحمد وهو اختيار ابن تيمية و ابن سعدي رحمهم الله قالوا: يضمنه بحسبه، يعني: إن كان له مثيل فيضمن مثله وإلا فلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( طعام بطعام وإناء بإناء )، والحديث رواه البخاري ولكن الزيادة عند الترمذي بهذا اللفظ.

يقول المؤلف: [وزيادته لربه].

يعني: لو أن الغاصب أخذ ناقة هزيلة وبدأ يعطيها فسمنت وكانت قيمتها حينما غصبها ألفين والآن قيمتها أربعة آلاف، إذاً هل يصح أن للغاصب أن يقول: أنا سأعطيك ألفين، أو أعطيك الناقة ورد لي ألفين؟ نقول: لا، زيادتها للمالك.

والزيادة تنقسم إلا قسمين: زيادة متصلة مثل: السمن والصنعة، أو زيادة منفصلة مثل أن يغصب ناقة ثم تلد الناقة فيجب عليه أن يردها، هذا هو قول جمهور أهل العلم خلافاً لـأبي حنيفة. والله تبارك وتعالى أعلم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن كانت أرضاً فغرسها أو بنى فيها فلربه قلعه؛ لحديث: ( ليس لعرق ظالم حق )، رواه أبو داود ].

هذا الحديث تكلم الحفاظ فيه، والذي يظهر والله أعلم وعلى طريقة المتقدمين أن الحديث ضعيف وإن حسنه الحافظ ابن حجر لكن الحديث الراجح فيه أنه مرسل. والله تبارك وتعالى أعلم.

لكن أهل العلم قالوا: إن كانت أرضاً يعني: شخص غصب أرضاً ووضع فيها نخلاً، هذا معنى الغرس، فإذا ذهب إلى القاضي وأثبت أن هذه الأرض أرضه، قال الغاصب: لكن فيها نخلاً، قلنا: يا صاحب الأرض! أنت بالخيار، بين أن تطلب منه أجرة هذا الانتفاع، أو أن تقلعها، قال: (فلربه قلعه) أو إبقاؤه مع طلب الأجرة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن انتقلت إليه العين من الغاصب وهو عالم فحكمه حكم الغاصب].

يقول المؤلف رحمه الله: إن هذا الغاصب الذي استولى على مال الغير إن أعطاه غيره وكان هذا الغير يعلم بالغصب فإنه يضمن مثل ضمان الغاصب، وإن كان لا يعلم فإن الضمان على الغاصب فقط والله أعلم، لماذا؟ لأن العلماء يقولون: إن كل من تصرف بمال الغير ضمنه، وما ترتب على المأذون فلا ضمان، وما ترتب على غير المأذون ففيه ضمان، فإن كان الذي أخذ من الغاصب يعلم فهو قد أخذ غير مأذون وعلى هذا فيضمن.

والله أعلم.