شرح لمعة الاعتقاد [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ،وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول الإمام موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى:

[ الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد، لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، له الأسماء الحسنى والصفات العلى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:6-7]، أحاط بكل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110] موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم ].

سنقرأ فيه إن شاء الله تعالى هذه العقيدة المباركة التي ألفها الإمام الموفق عبد الله بن محمد بن قدامة المقدسي رحمه الله، وهذا المتن المختصر من متون الاعتقاد، هو متن (لمعة الاعتقاد) وهو كتاب مختصر في العقيدة ألفه مؤلفه رحمه الله، وضمَّنه مباحث فيما يتعلق بالإيمان بالله عز وجل، والإيمان بكتبه، والإيمان برسله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر، وهذا هو أغلب ما ذكره المؤلف رحمه الله في هذا الكتاب.

وقد جرت سنة أهل العلم من أهل السنة والجماعة فيما يؤلفونه من مؤلفات في الاعتقاد أنهم ينسجون مؤلفاتهم ويرتبون كتبهم التي يكتبونها في مسائل الاعتقاد على ضوء ما جاء في حديث جبريل في ذكر أصول الإيمان؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وعلى وآله وسلم عندما سأله جبريل عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) .

فإذا تأملت في المؤلفات والمتون والعقائد التي كتبها أهل العلم فستجدها منسوجة على نحو هذه الأصول، فإن العلماء يكتبون في الإيمان بالله، ثم في الإيمان بالملائكة، ثم في الإيمان بالكتب، ثم في الإيمان بالرسل، ثم في الإيمان باليوم الآخر، ثم في الإيمان بالقدر خيره وشره.

وقد يركزون في مؤلفاتهم على نوع من أنواع الإيمان؛ نتيجةً لشدة الحاجة إلى بيان ما يتعلق بذلك الأصل، أو جواباً على شبهة شاعت في هذا الأصل، لكنهم من حيث الأصل إذا تناولوا مسائل الاعتقاد فإنهم يأتون ببيان أصول الإيمان التي جاءت في حديث جبريل.

ولا غرابة في هذا؛ فإن مباحث الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة مبنية على شرح الأصول الستة: الإيمان بالله والإيمان بالكتب والإيمان بالرسل والإيمان بالملائكة والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره.

ولكن لما كان بعض هذه الأصول ليس فيه خلاف كبير، ولم تنتشر فيه المخالفات؛ قلَّ كلام أهل العلم فيه في هذه المتون وفي هذه المؤلفات التي ألفت في العقائد.

فمثلاً: الإيمان بالملائكة لا يتكلم عنه المؤلفون في كتب العقائد كلاماً موسعاً، بل يختصرونه ويقتصرون على جمل فيه، وبعضهم قد لا يذكره بالكلية؛ بناءً على وضوحه وظهوره.

وهكذا كل المؤلفات في العقيدة، الغالب أنها جاءت استجابة للحاجة إلى التأليف؛ إما لبيان وتجلية منهج أهل السنة والجماعة وما كان عليه السلف الصالح، ليتميز عن طريق أهل البدع، وإما جاءت في الجواب والرد على الشبه التي يثيرها هذا السبيل -سبيل أهل السنة والجماعة- فيما يتعلق بمسائل الاعتقاد.

وهذه العقيدة هي من العقائد المشهورة المعروفة عند أهل العلم، وهي من تأليف الإمام عبد الله بن محمد بن قدامة ، وهو من أئمة فقهاء الحنابلة وعلمائهم، وله مؤلفات مشكورة مشهورة في الفقه، وأما هذا المؤلف فهو مما يتعلق بالاعتقاد، كما أنه رحمه الله كتب عدة كتابات في مسائل الاعتقاد في غير هذا المؤلف، فمما كتبه في ذلك واشتهر عنه: كتاب (ذم التأويل) فإنه من الكتب المشهورة التي يستفاد منها في رد وإبطال شبه المنحرفين عن السنة والجماعة في مسائل الاعتقاد؛ لأنه ألفه في بيان ذم التأويل، وذكر أدلة ذلك من الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة.

كذلك له رسالة في (العلو)، وكذلك له كتاب باسم (تحريم النظر في كتب أهل الأهواء).

منهج السلف في تأليف كتب العقائد

أيها الإخوة! إن النصوص التي حث الله جلَّ وعلا فيها الأمة على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ جداًً، ولا نستطيع أن نأتي على أكثر مما ذكرنا لِقِصَر الوقت، إلَّا أن في سيرة الصحابة وفيما عملوه، وما حفظته دواوين السنة لنا من هديهم في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جنوا به من البركات والخيرات؛ شاهدٌ على ذلك، فإن جيل الصحابة أكمل الأجيال، وهو خير القرون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) خيريتهم لم تكن لأنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وفلان وفلان من الصحابة، إنما خيريتهم حصلت لما كانوا عليه من العمل والمسابقة إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة لهم تمام الانقياد لما كان يفعله صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك نموذج حفظته السنة وهو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يصلي بأصحابه في إحدى المرات فخلع نعليه وهو في الصلاة، فما كان من الصحابة رضي الله عنهم إلَّا أن خلعوا نعالهم) تأسياً واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لبس الخاتم فلبسوه، خلع الخاتم فخلعوه، وهكذا كانوا ينظرون إليه صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم حفظوا لنا حركة لحيته وهو يصلي؛ لشدة تأسيهم به؛ ونظرهم إلى أفعاله ليقتدوا بها ويتأسوا.

ومن عجيب ما حفظوه لنا: عدد ما في رأسه ولحيته من الشيب! فحفظوا أن في رأسه ولحيته سبع شعرات من الشيب فقط لا غير، وهذا دليل على أن الصحابة جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت المجهر عندهم، يرقبون فعله، وينظرون إلى ما يفعل، وليس نظر ترفُّه وتفكُّه وحب استطلاع، وإنما هو نظر اتباع واقتداء، فكانوا يهتدون ويقتدون به في دقيق الأمر وجليله.

معنى عنوان الكتاب وسبب تسميته

وهذا الاعتقاد الذي في هذه الرسالة هو اعتقاد مختصر؛ ولذلك سماه المؤلف رحمه الله بـ( لمعة الاعتقاد ) واللمعة هي: البلغة والشيء اليسير من العيش، هذا التعريف من حيث اللغة.

وهذا الكتاب فيه نبذة يسيرة مما يعتقده أهل السنة والجماعة؛ لأنه ذكر فيه نبذاً مختصرة في مسائل الاعتقاد.

وقال بعض أهل العلم: إن سبب تسمية المؤلف رحمه الله لهذا الكتاب بـ(لمعة الاعتقاد)؛ لأن ما ذكره فيه من العقائد ظاهر واضح، تدل عليه الأدلة من الكتاب والسنة، فأدلته من أظهر ما يكون وأوضح ما يطلب؛ ولذلك سماها (لمعة)، من لمعان الشيء؛ وهو ظهوره وعدم خفائه.

وعلى كل حال: فإنه يصح أن يكون المقصود من هذا الاسم المعنيين، فيصح أن يكون قصده من تسمية هذا الكتاب بـ(لمعة الاعتقاد) أنه نبذة مختصرة، وأنه نبذة ظاهرة واضحة بل جلية في تقرير اعتقاد أهل السنة والجماعة.

أما (الاعتقاد): فالاعتقاد هو الحكم الذهني الجازم، ولا يلزم من الاعتقاد أن يكون صحيحاً، لكنه اعتقاد وحكم ذهني جازم، أي: لا تردد فيه ولا ارتياب عند صاحبه.

وقد يكون مطابقاً للواقع فيكون اعتقاداً صحيحاً، وقد يكون مخالفاً للواقع فيكون اعتقاداً فاسداً، فالاعتقاد إذا كان موافقاً للحق فيوصف بأنه اعتقاد صحيح، وإذا كان مجانباً للصراط المستقيم وللحق؛ فيكون اعتقاداً باطلاً فاسداً، والمراد أنه لا يلزم أن يكون الاعتقاد في جميع مواده صحيحاً.

وقول المؤلف رحمه الله في تسمية هذا الكتاب: (لمعة الاعتقاد) أي: بيان ما ظهر من مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة.

قال رحمه الله:( الهادي إلى سبيل الرشاد): الهادي، أي: الدال والمبين والموضح.

إلى سبيل الرشاد؛ أي: إلى الطريق الذي يحصل به الرشد.

وقوله: (الرشاد) هو: ضد الغي، والهداية هي: ضد الضلال، فجمع المؤلف رحمه الله في وصف كتابه وتسميته هذه الأوصاف، وهي الهداية والرشاد والوضوح والظهور.

شرح البسملة

يقول رحمه الله في افتتاح هذه الرسالة المباركة:

(بسم الله الرحمن الرحيم).

وهذه الجملة جملة تامة، ومعنى جملة تامة: أنها كاملة تحصل بها الفائدة، مع أنه من حيث النظر الإعرابي للكلمات الموجودة، لا تستقل الكلمات الموجودة بإفادة المعنى، إذ لابد فيها من تقدير، واختلف العلماء رحمهم الله هذا المقدر على قولين: فمنهم من قدره باسم، ومنهم من قدره بفعل، وهذا الاختلاف ناشئ عن الاختلاف في: هل جملة البسملة جملة فعلية أو جملة اسمية؟ فمن قال: إنها جملة فعلية قدره بفعل، ومن قال: إنها جملة اسمية قدره باسم.

وكلا الوجهين صحيح مقبول، فيصح أن يقدر باسم، ويصح أن يقدر بفعل، والمسألة قريبة والاختلاف فيها ليس بكبير الشأن.

وأكثر العلماء رجحوا تقديره بالفعل، وذهب جماعة من العلماء إلى تقديره بالاسم، لكن ينبغي في هذا المقدر أن يكون مناسباً، أي: أن يكون تقديره مناسباً لحال القائل، أو لحال الكاتب لهذه الجملة.

فمثلاً: عند قراءة كتاب نقدر: بسم الله الرحمن الرحيم قراءتي أو أقرأ، وعند دخول المسجد: بسم الله الرحمن الرحيم دخولي أو أدخل، وعند الذبح: بسم الله الرحمن الرحيم ذبحي أو أذبح، وعند الكتابة: بسم الله الرحمن الرحيم كتابتي أو أكتب وهلم جراً.

وهذا التقدير يناسب أن يكون في آخر الكلام لا في أوله؛ تيمناً بالبداءة بـ(بسم الله الرحمن الرحيم).

ويصح أن يتقدم - أي: يصح أن يأتي مقدماً- كما في قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، ولم يقل: باسم ربك اقرأ؛ لأن التقديم في هذه الصورة مناسب، وذلك أن المقصود الأكبر هو القراءة؛ فلذلك قدمه على البسملة.

لكن الأنسب في غالب موارد البسملة أن يكون المقدر المضمر مؤخراً، فتقول: بسم الله الرحمن الرحيم قراءتي، أو: بسم الله الرحمن الرحيم أقرأ.

الحمد والثناء على الله عز وجل بصفات الكمال وتنزيهه عن صفات النقص

قال المؤلف: (الحمد لله المحمود بكل لسان)؛ وهذا شروع في الرسالة بالحمد بعد البسملة.

واعلم أن الرسائل والكتب والكلام يفتتح: إما بالبسملة، وإما بالحمد غالباً، وإما أن يفتتح بهما كما فعل المؤلف رحمه الله في هذه الرسالة، فإنه افتتح هذه الرسالة بالبسملة، وافتتحها أيضاً بالحمد.

والحمد هو: الإخبار بمحاسن المحمود محبة وتعظيماً.

فقول القائل: الحمد لله، أي: أنه يخبر بمحاسن المحمود وهو الله جل وعلا؛ محبة وتعظيماً له جل وعلا؛ ولذلك يلاحظ أنه بعد ذكر الحمد في كتاب الله عز وجل، وفي غالب الكلام أن يأتي بعده ذكر أوصاف المحمود، أو ذكر أفعاله، والأفعال هي في معنى الصفات.

وهنا قال المؤلف رحمه الله:( الحمد لله المحمود بكل لسان)، أي: أن من صفاته جل وعلا أنه محمود بكل لسان، وهذا يدل على عظيم استحقاقه للحمد؛ لأنه ما من لسان إلا يحمد الله جل وعلا، واللسان هنا يشمل في الأصل والابتداء لسان المقال، ويشمل لسان الحال، فما من أحد إلا وهو حامد لله عز وجل بلسان الحال وبلسان المقال.

قال: (المعبود في كل زمان)؛ أي: المستحق للعبادة في كل زمان، فهو جل وعلا المعبود على مر العصور وتعاقب الدهور وتوالي الأيام وكر الليالي، فهو جل وعلا المستحق أن يعبده العابدون من الإنس والجن والملائكة، وغيرهم من خلق الله عز وجل على توالي الزمان.

قال: (الذي لا يخلو من علمه مكان) أي: لا يشغر ولا يتعطل مكان من الأمكنة عن علمه، بل أحاط جل وعلا علمه بكل شيء، ووسع كل شيء رحمة وعلماً.

قال: (ولا يشغله شأن عن شأن)؛ وهذا من بديع صفات الله عز وجل، وهو أنه لا يشغله أمر عن أمر، فالشأن هنا بمعنى الأمر، أي: لا يشغله أمر عن أمر، فهو جل وعلا الذي لا تكثر عليه المسائل، ولا تشغله المطالب، يسمع سؤال كل سائل، ويعطي كل من سأله ودعاه.

وهو جل وعلا يدبر أمر الكون، فما يكون شيء إلا بمشيئته وتقديره سبحانه وتعالى، لا يشغله إعطاء هذا عن إعطاء غيره، ولا إحياء هذا عن إماتة غيره، ولا تدبير هذا عن تدبير غيره، بل كل شيء بقضاء وقدر، فهو على كل شيء قدير، أحاط جل وعلا بكل شيء، فلا خروج لشيء من خلقه عن قدره ومشيئته وعلمه، كما قال تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3].

قوله: (جل عن الأشباه): أي عظم عن الأشباه، فهو جل وعلا عظيم عن أن يشبهه شيء، أو أن يكون له ند.

والأشباه: جمع شبيه، والأنداد: جمع ند، فالله سبحانه وتعالى متعالٍ عن أن يكون له مثيل، ومتعالٍ عن أن يكون له ند، والند يطلق على المثل ويطلق على الضد، فهو ليس له مثيل وليس له مضاد، بل هو الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد.

قال رحمه الله: (وتنزه)، أي: تقدس (عن الصاحبة)، أي: الزوجة، (والأولاد) أي: تنزه عن أن يتفرع منه شيء سبحانه وتعالى، وعن أن يكون له ولد، فليس له ولد جل وعلا، كما قال سبحانه وتعالى عن نفسه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:1-3].

قال: (ونفذ حكمه في جميع العباد) أي: مضى، والحكم هنا حكمه القدري، فحكم الله جل وعلا القدري نافذ في كل أحد، فلا خروج لأحد عن حكم الله عز وجل، وكل شيء بقضاء وقدر، وما من شيء إلا ويجري عليه حكم الله جل وعلا.

قوله: (لا تمثله العقول بالتفكير) أي: لا تدرك العقول مثالاً له، ومهما أمضت من الوقت في النظر والتأمل والتفكر والتدبر؛ فإنها لا تصل إلى تمثيله، فالمعنى: أنه لا تصل العقول إلى مثله بالتفكير.

(ولا تتوهمه القلوب بالتصوير) أي: لا تستطيع القلوب أن تدرك صورته جل وعلا، أي: أن تجعله سبحانه وتعالى في صورة من الصور، فالقلوب تعجز عن تصويره سبحانه وتعالى، قال جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]؛ أي: أنه جل وعلا ليس له مثيل؛ فليس له ما يمثل به ولا ما يلحق به في الصورة: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقد قال الله جل وعلا في نفي المثل عنه: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65]، أي: ليس له سمي، وليس له نظير كما قال سبحانه: ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] وقوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً [البقرة:22]، وما أشبه ذلك من الآيات التي نفى الله جل وعلا فيها عن نفسه الكفؤ والند والنظير.

معنى كون أسمائه عز وجل حسنى وصفاته عليا

ثم قال: (له الأسماء الحسنى، والصفات العلى) أي: ما تقدم من كونه سبحانه وتعالى ليس له شبيه، وليس له صاحبة ولا ولد، وأنه لا تمثله العقول، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير؛ لا يعني أنه لا يوصف، ولا يعني أنه ليس له أسماء ولا صفات، بل له جل وعلا الأسماء والصفات.

ولذلك بعد أن ذكر ما تقدم من نفي المثل والند والشبيه، وأنه سبحانه وتعالى لا تمثله العقول، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير، قال: (له الأسماء الحسنى، والصفات العلى)، فذكر أن له أسماء وصفات.

والأسماء الحسنى، أي: البالغة المنتهى في الحسن، فلا حسن فوق أسمائه، وقد انتهت أسماؤه إلى الحسن جل وعلا، فجمعت كمال المعنى وجمال اللفظ.

قال: (والصفات العلى) فله جل وعلا الصفات العليا التي لا شيء فوقها.

( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:5-7])، ذكر المؤلف رحمه الله هذه الآيات لبيان شيء من أسماء الله وصفاته التي يثبتها أهل السنة والجماعة.

وثبوت أسماء الله عز وجل جاء من أدلة كثيرة، من ذلك قوله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف:180]، وثبوت الصفات العلى له سبحانه جاء من أدلة كثيرة، ومنها قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60]، المثل معناه: الصفة، وقوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى [الروم:27] أي: له الصفة العليا.

قال رحمه الله:(أحاط بكل شيء علماً)؛ أي: فما من شيء من الخلق إلا وقد أحاط به علم الرب جل وعلا، فلا خروج لشيء عن علم الله، وعلم الله أحاط بالماضي والمستقبل، وأحاط بالممكن والمستحيل، ولذلك قال العلماء: صفة العلم هي أعظم وأوسع الصفات تعلقاً؛ فهي تتعلق بكل شيء: تتعلق بالماضي والمستقبل، وبالممكن والواجب والمستحيل، وتتعلق بما كان وبما لم يكن؛ فالله جل وعلا أحاط علمه بكل شيء، فلا شيء يخرج عن علم الله عز وجل.

قال رحمه الله:(وقهر كل مخلوق عزة وحكماً)؛ وهذا فيه كمال صفاته، مع ما تقدم من الصفات، فهو جل وعلا العزيز الحكيم، لا خروج لأحد عن عزته، ولا خروج لأحد عن حكمه، (ووسع كل شيء رحمة وعلماً، كما قال سبحانه: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110]).

الإيمان وأقسامه من حيث الإجمال والتفصيل

وبعد هذه المقدمة التي ذكر المؤلف رحمه الله فيها الصفات العظيمة للرب جل وعلا على وجه الإجمال، ابتدأ رحمه الله ذكر ما يتعلق بالأصل الأول من أصول الإيمان؛ وهو الإيمان بالله عز وجل فقال:

[ موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم ].

هذا إثبات للصفات على وجه الإجمال، وهذا المسلك تلاحظه في كلام العلماء في عديد من الكتب والمؤلفات، فإنهم إذا ذكروا العقيدة يذكرون في أول اعتقادهم الإيمان المجمل، أعني: الذي ينتظم كل شيء، والذي لا يخرج عنه شيء، بحيث يكون كالمظلة التي يستظل بها جميع ما جاء من مسائل في هذا الأمر.

ففيما يتعلق بالصفات: يجب على المؤمن أن يؤمن بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وهذا إيمان مجمل يشمل كل ما يتعلق بصفات الله عز وجل مما أدركه الإنسان وعلمه، أو خفي عنه ولم يعلمه، أو أنه لم يتبين له معناه، فهذا هو الإيمان المجمل.

وقد ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث جبريل؛ فإن حديث جبريل تضمن الإيمان المجمل الذي يجب على كل أحد.

والإيمان من حيث الإجمال والتفصيل ينقسم إلى قسمين:

إيمان مجمل: وهو الإيمان بكل ما جاءت به الرسل.

وإيمان مفصل: وهو الإيمان بتفاصيل ما جاءت به الرسل.

فإذا قال الإنسان كما قال المؤلف رحمه الله:( موصوف بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان نبيه الكريم)، فهذا هو الإيمان المجمل بجميع الصفات، والإيمان بكل ما أخبر الله به عن نفسه، وبكل ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم عن ربه.

وأما الإيمان المفصل فهو: أن تعلم بأن الله سميع بصير قدير عليم قوي متين، وأن له وجهاً ويدين، وما إلى ذلك من سائر ما جاء به التفصيل في الكتاب والسنة.

ففي أول عتبات الإيمان يجب على المؤمن أن يؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله، مما يتعلق بالأسماء والصفات وغيرها.

ونحن نتكلم فيما تكلم به المؤلف رحمه الله مما يتعلق بالإيمان بالصفات.

فنؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله مما جاء في الكتاب أو صحت به السنة.

أيها الإخوة! إن النصوص التي حث الله جلَّ وعلا فيها الأمة على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ جداًً، ولا نستطيع أن نأتي على أكثر مما ذكرنا لِقِصَر الوقت، إلَّا أن في سيرة الصحابة وفيما عملوه، وما حفظته دواوين السنة لنا من هديهم في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جنوا به من البركات والخيرات؛ شاهدٌ على ذلك، فإن جيل الصحابة أكمل الأجيال، وهو خير القرون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) خيريتهم لم تكن لأنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وفلان وفلان من الصحابة، إنما خيريتهم حصلت لما كانوا عليه من العمل والمسابقة إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة لهم تمام الانقياد لما كان يفعله صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك نموذج حفظته السنة وهو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يصلي بأصحابه في إحدى المرات فخلع نعليه وهو في الصلاة، فما كان من الصحابة رضي الله عنهم إلَّا أن خلعوا نعالهم) تأسياً واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لبس الخاتم فلبسوه، خلع الخاتم فخلعوه، وهكذا كانوا ينظرون إليه صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم حفظوا لنا حركة لحيته وهو يصلي؛ لشدة تأسيهم به؛ ونظرهم إلى أفعاله ليقتدوا بها ويتأسوا.

ومن عجيب ما حفظوه لنا: عدد ما في رأسه ولحيته من الشيب! فحفظوا أن في رأسه ولحيته سبع شعرات من الشيب فقط لا غير، وهذا دليل على أن الصحابة جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت المجهر عندهم، يرقبون فعله، وينظرون إلى ما يفعل، وليس نظر ترفُّه وتفكُّه وحب استطلاع، وإنما هو نظر اتباع واقتداء، فكانوا يهتدون ويقتدون به في دقيق الأمر وجليله.

وهذا الاعتقاد الذي في هذه الرسالة هو اعتقاد مختصر؛ ولذلك سماه المؤلف رحمه الله بـ( لمعة الاعتقاد ) واللمعة هي: البلغة والشيء اليسير من العيش، هذا التعريف من حيث اللغة.

وهذا الكتاب فيه نبذة يسيرة مما يعتقده أهل السنة والجماعة؛ لأنه ذكر فيه نبذاً مختصرة في مسائل الاعتقاد.

وقال بعض أهل العلم: إن سبب تسمية المؤلف رحمه الله لهذا الكتاب بـ(لمعة الاعتقاد)؛ لأن ما ذكره فيه من العقائد ظاهر واضح، تدل عليه الأدلة من الكتاب والسنة، فأدلته من أظهر ما يكون وأوضح ما يطلب؛ ولذلك سماها (لمعة)، من لمعان الشيء؛ وهو ظهوره وعدم خفائه.

وعلى كل حال: فإنه يصح أن يكون المقصود من هذا الاسم المعنيين، فيصح أن يكون قصده من تسمية هذا الكتاب بـ(لمعة الاعتقاد) أنه نبذة مختصرة، وأنه نبذة ظاهرة واضحة بل جلية في تقرير اعتقاد أهل السنة والجماعة.

أما (الاعتقاد): فالاعتقاد هو الحكم الذهني الجازم، ولا يلزم من الاعتقاد أن يكون صحيحاً، لكنه اعتقاد وحكم ذهني جازم، أي: لا تردد فيه ولا ارتياب عند صاحبه.

وقد يكون مطابقاً للواقع فيكون اعتقاداً صحيحاً، وقد يكون مخالفاً للواقع فيكون اعتقاداً فاسداً، فالاعتقاد إذا كان موافقاً للحق فيوصف بأنه اعتقاد صحيح، وإذا كان مجانباً للصراط المستقيم وللحق؛ فيكون اعتقاداً باطلاً فاسداً، والمراد أنه لا يلزم أن يكون الاعتقاد في جميع مواده صحيحاً.

وقول المؤلف رحمه الله في تسمية هذا الكتاب: (لمعة الاعتقاد) أي: بيان ما ظهر من مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة.

قال رحمه الله:( الهادي إلى سبيل الرشاد): الهادي، أي: الدال والمبين والموضح.

إلى سبيل الرشاد؛ أي: إلى الطريق الذي يحصل به الرشد.

وقوله: (الرشاد) هو: ضد الغي، والهداية هي: ضد الضلال، فجمع المؤلف رحمه الله في وصف كتابه وتسميته هذه الأوصاف، وهي الهداية والرشاد والوضوح والظهور.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح لمعة الاعتقاد [17] 2746 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [18] 2032 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [10] 1997 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [5] 1838 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [8] 1787 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [16] 1779 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [19] 1751 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [3] 1712 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [4] 1645 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [12] 1483 استماع