شرح لمعة الاعتقاد [18]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحم الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المؤلف رحمه الله تعالى:

[ ومن السنة: تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم وذكر محاسنهم، والترحم عليهم والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] ، وقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ].

يقول المؤلف رحمه الله في بيان ما يجب اعتقاده فيما يتعلق بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن السنة) أي: التي يجب اعتقادها والعمل بها، وليس المقصود هنا السنة الاصطلاحية التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، بل السنة هنا هي الطريقة التي يسلكها أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالصحابة رضي الله عنهم.

قوله: (تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) التولي: مأخوذ من ولي الشيء إذا قرب منه، والمقصود بالتولي هنا القرب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك بمحبتهم وإجلالهم وتقديرهم ومعرفة سابقتهم.

وهذا بيان مجمل لما يجب للصحابة رضي الله عنهم، ثم جاء تفصيل ذلك في قوله: (ومحبتهم وذكر محاسنهم، والترحم عليهم والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم)، فكل هذا إنما هو من معاني التولي، فإن من لوازم التولي ما ذكر رحمه الله من هذه الواجبات التي تجب لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تعريف الصحابي وتفاوت الصحابة في الصحبة

قول المؤلف رحمه الله: (تولي أصحاب رسول الله) أصحاب: جمع صاحب، والصحابي: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك ولو كان ذلك ساعة من ليل أو نهار، ولكن لا شك أن الصحابة رضي الله عنهم، يتفاوتون في الحقوق بقدر تحقق الصحبة لهم، فالذين صحبوه صلى الله عليه وسلم أطول وكانت صحبتهم له أحسن وأكمل، فإن لهم من الحق والفضيلة والمزية أكثر مما هي لمن قصر نصيبه من ذلك، فالصحبة وصف كلما ازداد في الشخص تحققه كلما علا حقه وارتفعت قدمه فيما ذكره المؤلف رحمه الله من المحبة وذكر المحاسن.

وأعلى الصحابة صحبة هو: أبو بكر رضي الله عنه، فله من المحبة والفضل والسبق والتولي ما ليس لغيره من صحابة رسول صلى الله عليه وسلم، فعلى سبيل المثال: من أسلم بعد الفتح ليس كمن أسلم قبل الفتح، كما ميز الله جل وعلا ذلك فقال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]، فهذه الآية ميزت بين طبقات الصحابة، فحق الذين أسلموا قبل الفتح -وهو صلح الحديبية- من المحبة وذكر المحاسن والترحم والاستغفار والولاية أعظم من حق من جاء بعد ذلك؛ لأن من أسلموا قبل الفتح تحقق الصحبة فيهم أعظم من تحقق الصحبة فيمن أسلموا بعد الفتح، وهذا هو معنى قولنا: الصحبة وصف يزداد فيه الحق بازدياد هذا الوصف، فكلما ازداد نصيب الإنسان من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم كلما ازداد حقه من هذه الخصال الذي ذكرها المؤلف رحمه الله.

وجوب محبة الصحابة وتوليهم والكف عن ذكر مساوئهم

يقول رحمه الله: (ومن السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبتهم) أي: محبة قلبية، وذلك لما كانوا عليه من عظيم الإيمان وصدق اليقين ورسوخ القدم في سبيل المتقين، ولما كانوا عليه من الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كانوا عليه من الدعوة إلى الله عز وجل والنصح للخلق، فهم رضي الله عنهم لهم القدم السابقة في هذه الأمور كلها التي لا يمكن أن يُحلقوا فيها رضي الله عنهم.

ويكفيهم فضلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم) فهم خير الناس، وهم أحق من يدخل في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] وهم أحق من يدخل في قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، وهم المعنيون بقوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100] فالمهاجرون والأنصار السابقون منهم هم الذين رضي الله عنهم رضاً مطلقاً فلم يقيد ذلك باتباع بإحسان فيما كان منهم، بل قال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100] فاشترط الإحسان في التابعين لا فيهم هم.

فهم رضي الله عنهم لهم من الفضائل ما ليس لغيرهم، ولهم من المنزلة والمكانة ما ليس لغيرهم، فحقهم أن يحبوا؛ لأن محبة الصالحين من عبادة الله عز وجل ومن طاعته التي يؤجر عليها الإنسان ويثاب، فينبغي للمؤمن أن يستشعر هذا المعنى وأن يلاحظه، فليست المحبة لكوننا مأمورين بمحبتهم، بل نحن نحبهم محبة قلبية لما كانوا عليه من الفضل، ولما كانوا عليه من الخير، ولما وصلنا عن طريقهم من الشريعة، فهم حفظة الشريعة وحملتها رضي الله عنهم.

يقول: ( وذكر محاسنهم )، فالواجب ذكر محاسنهم؛ لأن ذكر المحاسن مما يزداد به حبهم ويزداد به توليهم.

قال: ( والترحم عليهم ) أي: والواجب أيضاً أن نترحم عليهم وأن ندعو لهم بالرحمة والمغفرة، وأن ندعو لهم بالرضى وبكل خير.

قال: (والاستغفار لهم)؛ أيضاً يجب طلب المغفرة لهم؛ لأنه ما من إنسان إلا ويخطئ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) فنحن لا نقول: إنهم معصومون، لكننا نقول لهم: من السبق والفضل والمكانة والخير والتقوى ما يستوجب أن يحبوا وأن يذكروا بإحسان، وأن يترحم عليهم وأن يستغفر لهم رضي الله عنهم.

يقول رحمه الله: ( والكف عن ذكر مساوئهم ) الكف: الامتناع، فيجب الامتناع عن ذكر مساوئهم، أي: عن ذكر ما ينسب إليهم من المساوئ سواء كانت صحيحة النسبة أو لم تصح؛ لأنهم قد رضي الله عنهم، ومن رضي الله عنه فلا يسوغ لمؤمن أن يبحث عن عيوبه أو أن يتلقط زلاته أو أن يبحث عن عثراته، فإن هذا مما يضعف مكانتهم وينزل في منزلتهم التي أنزلهم الله عز وجل إياها.

ثم اعلم أن كثيراً مما يذكر من المساوئ المنسوبة إلى الصحابة: إما أنها آثار لا تصح، وإما أنها صحيحة لكن فيها زيادة أو نقص، وإما أنها غيرت عن الوجه الذي جاءت عليه، فبدل أن تكون إحساناً حولت إلى أن تكون سيئة ومثلبة.

كذلك إذا ثبت هذا الذي ينسب إليهم فالواجب أن نعتقد أنهم مجتهدون رضي الله عنهم، ولا يخلو حالهم عن إصابة فيكون لهم أجران، أو أن يكونوا قد أخطئوا فيكون لهم أجر واحد رضي الله عنهم، وهذا لا يعني أننا نقول: إنهم معصومون كما تقدم قبل قليل، لكننا نعتقد فيهم كل خير، ونعتقد فيهم كل بر، ونسأل الله لهم العفو والعافية والمغفرة، رضي الله عنهم وأرضاهم.

وجوب اعتقاد فضل الصحابة والكف عما شجر بينهم

قال: ( والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم ) يعني: الكف عن ذكر مساوئهم وعن ذكر ما شجر بينهم، أي: اشتبك ووقع بينهم من خلاف، فإن الواجب الكف عما شجر بينهم، فلا يجوز لمؤمن يرغب في النجاة ويحب السلامة أن يقع في ذكر ما وقع بين الصحابة من خلاف، بل الواجب الإعراض عن تلك الفتنة وعدم الوقيعة فيها أو التكلم بها أو ذكرها.

قال رحمه الله: [واعتقاد فضله] أي: يجب أن يعتقد فضلهم، فالواجب أن نعتقد فضلهم رضي الله عنهم، وأن نعرف ما لهم من السابقة والمكانة؛ ولذلك قال: (واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم) أي: أنهم سبقوا إلى الخير، وسبقوا إلى الفضل، وسبقوا إلى نصرة الشريعة ونصرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

ثم استدل المؤلف رحمه الله لما تقدم من واجبات في حق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10]] هذه الآية جاءت في سياق بيان الذين يستحقون الأخذ من الفيء، والفيء: هو ما يوقف عليه من أموال الكفار بلا قتال، فجعل الله عز وجل الحق فيها: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحشر:8] ثم ذكر الله عز وجل ممن يستحق الفيء بعد ذكر المهاجرين والأنصار: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ أي: من بعد المهاجرين والأنصار، لكن ليس كل أحد جاء بعدهم إنما من كان على هذه الصفة يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، فهذا فيه الدعوة لهم بالرحمة والدعوة لهم بالمغفرة.

قال: [وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]] وهذا من أبرز ما تميز به الصحابة رضي الله عنهم أنهم أشداء على أعداء الله الذي يحادون الله ويكذبون رسله، وهم فيما بينهم أهل رحمة وتواضع وخفض جناح وذلة وتقارب، حتى إنه وصفهم الله عز وجل بهذا الوصف في قوله تعالى: رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] والرحماء: جمع رحيم، والرحيم: هو الذي يسعى في إيصال الخير وقطع الشر عن المرحوم، فهم رضي الله عنهم كانوا يسعون في إيصال كل خير لكل من يعرفونه من أهل الإسلام، ويسعون في قطع كل شر عمن يعرفونه من أهل الإسلام رضي الله عنهم وأرضاهم، وكفى بتزكية الله عز وجل لهم تزكية في هذه الآية وفي غيرها من الآيات.

حرمة سب الصحابة

قال: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)] هذا الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وقد ذكر مسلم له قصة وهي: أن خلافاً وقع بين خالد بن الوليد رضي الله عنه وبين عبد الرحمن بن عوف ، فتكلم خالد رضي الله عنه في عبد الرحمن وسبه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تسبوا أصحابي) يقول هذا ويوجه هذا لـ خالد بن الوليد ، وخالد صحابي، لكنه من الذين أسلموا بعد الفتح، أي: بعد صلح الحديبية، فهو ممن تأخر إسلامه، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين تأخر إسلامهم أن يسبوا وأن يتكلموا فيمن تقدم إسلامهم كـ عبد الرحمن بن عوف وغيره من الصحابة الذين أسلموا قبل الفتح، فكيف بمن جاء من غير الصحابة من بعدهم؟! فإذا كان الصحابة فيما بينهم يتفاضلون هذا التفاضل ففضل الصحابة -على وجه الإجمال- على من بعدهم كفضل الأولين منهم على المتأخرين.

معنى هذا: أن هذا النهي نهي لكل مسلم عن أن يسب أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان ممن تقدم إسلامه أو ممن تأخر إسلامه؛ لأن نسبة من بعد الصحابة إلى الصحابة كنسبة المتأخرين منهم إلى المتقدمين، وهذا دليل على ما ذكرنا قبل قليل من أنه كلما ازداد وصف الصحبة في شخص فإنه يستحق من الفضل والمكانة والمحبة وسائر ما يلزم من التولي أكثر من غيره، فإن عبد الرحمن بن عوف يستحق من المحبة والتولي والاستغفار والترحم، أكثر ممن جاء بعده كـ خالد بن الوليد، وإن كان الجميع يشتركون في أصل الحق وهو التولي والمحبة والاستغفار والكف عن مساوئهم والكف عما شجر بينهم والاستغفار لهم، وما إلى ذلك مما تقدم ذكره في كلام المؤلف.

فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الإسلام عن سب أصحابه، فكل من كان صاحباً للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز سبه، لكن أيهما أعظم وأشد في السب: أن يسب الإنسان أبا بكر رضي الله عنه أو أن يسب وحشياً رضي الله عنه؟

الجواب: أن يسب أبا بكر.

وأيهما أعظم أن يسب عمر أو أن يسب من تأخر إسلامه أو من تأخر إيمانه من الصحابة رضي الله عنهم؟

الجواب: لا شك أن سب عمر رضي الله عنه أعظم، ولذلك يجب أن يكف المؤمن عن سب كل أهل الإيمان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن يشتد الأمر بالمؤاخذة والذنب بقدر ما يكون من الوقيعة فيهم رضي الله عنهم، فسب معاوية -مثلاً- ممن أسلم بعد فتح مكة، أو عمرو بن العاص رضي الله عنه محرم؛ لكن سب أبي موسى وأبي هريرة أعظم من سبهما، وكذلك سب طلحة والزبير وسعد وسعيد أعظم من سب أبي موسى وأبي هريرة ، وكذلك سب أبي بكر وعمر أعظم من سب من دونهم من الصحابة رضي الله عنهم.

فقوله: (لا تسبوا أصحابي) نهي عن سب الجميع، ويتأكد هذا النهي في حق من عظمت منزلته في الصحبة وطالت صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً) أي: مثل جبل أحد وهو جبل معروف بالمدينة، يقع في جهة الشمال منها، فلو أنفق غير الصحابي مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم، أي: ما بلغ في الأجر والمثوبة قدر ما ينفق أحد المتقدمين من الصحابة ملء يديه، فالمد هو: ملء اليدين أو نصيفها أي: نصف المد، وهذا يبين أن الفضل فيما يقوم في القلب، وأن السابقة لها فضل عند الله عز وجل كما قال الله جل وعلا: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة:10].

فكل من سبق إلى الفضل فله من المنزلة والمكانة ما ليس لغيره ممن تأخر عن هذا الفضل وعن هذا الخير، فمعنى الحديث: لو أنفق قدر ما تملأ اليدين نفقة في سبيل الله، فإن نفقة الواحد منهم نصف المد خير من أن ينفق غيره مثل جبل أحد ذهباً.

قول المؤلف رحمه الله: (تولي أصحاب رسول الله) أصحاب: جمع صاحب، والصحابي: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك ولو كان ذلك ساعة من ليل أو نهار، ولكن لا شك أن الصحابة رضي الله عنهم، يتفاوتون في الحقوق بقدر تحقق الصحبة لهم، فالذين صحبوه صلى الله عليه وسلم أطول وكانت صحبتهم له أحسن وأكمل، فإن لهم من الحق والفضيلة والمزية أكثر مما هي لمن قصر نصيبه من ذلك، فالصحبة وصف كلما ازداد في الشخص تحققه كلما علا حقه وارتفعت قدمه فيما ذكره المؤلف رحمه الله من المحبة وذكر المحاسن.

وأعلى الصحابة صحبة هو: أبو بكر رضي الله عنه، فله من المحبة والفضل والسبق والتولي ما ليس لغيره من صحابة رسول صلى الله عليه وسلم، فعلى سبيل المثال: من أسلم بعد الفتح ليس كمن أسلم قبل الفتح، كما ميز الله جل وعلا ذلك فقال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]، فهذه الآية ميزت بين طبقات الصحابة، فحق الذين أسلموا قبل الفتح -وهو صلح الحديبية- من المحبة وذكر المحاسن والترحم والاستغفار والولاية أعظم من حق من جاء بعد ذلك؛ لأن من أسلموا قبل الفتح تحقق الصحبة فيهم أعظم من تحقق الصحبة فيمن أسلموا بعد الفتح، وهذا هو معنى قولنا: الصحبة وصف يزداد فيه الحق بازدياد هذا الوصف، فكلما ازداد نصيب الإنسان من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم كلما ازداد حقه من هذه الخصال الذي ذكرها المؤلف رحمه الله.

يقول رحمه الله: (ومن السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبتهم) أي: محبة قلبية، وذلك لما كانوا عليه من عظيم الإيمان وصدق اليقين ورسوخ القدم في سبيل المتقين، ولما كانوا عليه من الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كانوا عليه من الدعوة إلى الله عز وجل والنصح للخلق، فهم رضي الله عنهم لهم القدم السابقة في هذه الأمور كلها التي لا يمكن أن يُحلقوا فيها رضي الله عنهم.

ويكفيهم فضلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم) فهم خير الناس، وهم أحق من يدخل في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] وهم أحق من يدخل في قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، وهم المعنيون بقوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100] فالمهاجرون والأنصار السابقون منهم هم الذين رضي الله عنهم رضاً مطلقاً فلم يقيد ذلك باتباع بإحسان فيما كان منهم، بل قال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100] فاشترط الإحسان في التابعين لا فيهم هم.

فهم رضي الله عنهم لهم من الفضائل ما ليس لغيرهم، ولهم من المنزلة والمكانة ما ليس لغيرهم، فحقهم أن يحبوا؛ لأن محبة الصالحين من عبادة الله عز وجل ومن طاعته التي يؤجر عليها الإنسان ويثاب، فينبغي للمؤمن أن يستشعر هذا المعنى وأن يلاحظه، فليست المحبة لكوننا مأمورين بمحبتهم، بل نحن نحبهم محبة قلبية لما كانوا عليه من الفضل، ولما كانوا عليه من الخير، ولما وصلنا عن طريقهم من الشريعة، فهم حفظة الشريعة وحملتها رضي الله عنهم.

يقول: ( وذكر محاسنهم )، فالواجب ذكر محاسنهم؛ لأن ذكر المحاسن مما يزداد به حبهم ويزداد به توليهم.

قال: ( والترحم عليهم ) أي: والواجب أيضاً أن نترحم عليهم وأن ندعو لهم بالرحمة والمغفرة، وأن ندعو لهم بالرضى وبكل خير.

قال: (والاستغفار لهم)؛ أيضاً يجب طلب المغفرة لهم؛ لأنه ما من إنسان إلا ويخطئ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) فنحن لا نقول: إنهم معصومون، لكننا نقول لهم: من السبق والفضل والمكانة والخير والتقوى ما يستوجب أن يحبوا وأن يذكروا بإحسان، وأن يترحم عليهم وأن يستغفر لهم رضي الله عنهم.

يقول رحمه الله: ( والكف عن ذكر مساوئهم ) الكف: الامتناع، فيجب الامتناع عن ذكر مساوئهم، أي: عن ذكر ما ينسب إليهم من المساوئ سواء كانت صحيحة النسبة أو لم تصح؛ لأنهم قد رضي الله عنهم، ومن رضي الله عنه فلا يسوغ لمؤمن أن يبحث عن عيوبه أو أن يتلقط زلاته أو أن يبحث عن عثراته، فإن هذا مما يضعف مكانتهم وينزل في منزلتهم التي أنزلهم الله عز وجل إياها.

ثم اعلم أن كثيراً مما يذكر من المساوئ المنسوبة إلى الصحابة: إما أنها آثار لا تصح، وإما أنها صحيحة لكن فيها زيادة أو نقص، وإما أنها غيرت عن الوجه الذي جاءت عليه، فبدل أن تكون إحساناً حولت إلى أن تكون سيئة ومثلبة.

كذلك إذا ثبت هذا الذي ينسب إليهم فالواجب أن نعتقد أنهم مجتهدون رضي الله عنهم، ولا يخلو حالهم عن إصابة فيكون لهم أجران، أو أن يكونوا قد أخطئوا فيكون لهم أجر واحد رضي الله عنهم، وهذا لا يعني أننا نقول: إنهم معصومون كما تقدم قبل قليل، لكننا نعتقد فيهم كل خير، ونعتقد فيهم كل بر، ونسأل الله لهم العفو والعافية والمغفرة، رضي الله عنهم وأرضاهم.