أين هم الرجال؟


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فيا أيها المسلمون! اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.

أحبتي الكرام! بعيداً بعيداً إلى ذاكرة التاريخ نقف مع زبر الأولين كي تحدثنا عن الأماجد الراحلين ففي دارٍ من دور المدينة المباركة جلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى جماعة من أصحابه، فقال لهم: (تمنّوا! فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً فأنفقه في سبيل الله -فلم يعجب ذلك الفاروق عمر- ثم قال: تمنّوا! فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به، ثم قال: تمنّوا! فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين! فقال عمر الفاروق : ولكني أتمنى رجالاً أمثال أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله).

رحم الله الملهم عمر، فلقد كان خبيراً بما تقوم به الحضارات الحقة، وتنهض به الرسالات الكبيرة، وتحيا به الأمم الهامدة.

نعم. إن الأمم والرسالات تحتاج إلى المعادن المذخورة، والثروات المنشودة، ولكنها تحتاج قبل ذلك إلى الرءوس المفكرة التي تستغلها، والقلوب الصادقة التي ترعاها، والهمم العالية التي تنفذها، والأيدي الأمينة التي تحافظ عليها، إنها تحتاج إلى رجال.

فالرجل بما تعنيه هذه الكلمة أعز من كل معدن نفيس، وأغلى من كل جوهر ثمين، ولذلك كان عزيزاً في دنيا الناس، حتى قال عليه الصلاة والسلام: ( الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة ) متفق عليه من حديث ابن عمر.

نعم. أعد ما شئت من معامل السلاح والذخيرة، فلن تقتل الأسلحة إلا بالرجل الشهم المحارب، وصغ ما شئت من الأنظمة واللوائح فستظل حبراً على ورق ما لم تجد الرجل الذي ينفذها، وصغ ما شئت من مناهج للتعليم والتربية، فلن يغني المنهج إلا للرجل الذي يقدر مسئوليته، ويدرس بإخلاص تلامذته، وأنشئ ما شئت من جمعيات ومؤسسات خيرية، فلن تنجز مشروعاً إذا أنت حرمت الرجل الغيور، والمخلص الصدوق.. ذلك -أخيّ- ما يقوله الواقع بلا ريب.

إن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي المسلم، والعدل ليس بصدق المتداعيين بقدر ما هو في ضمير القاضي، والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح العلم، وإنجاز المشاريع ليس في تكوين اللجان بقدر ما هو في حماسة القائمين عليها، فلله ما أحكم عمر حين لم يتمن فضة ولا ذهباً، ولا ديناراً ولا جوهراً، ولكنه تمنى رجالاً يقدرون المواقف، ويتعاملون بالعدل والعقل لا بحماس العواطف، يعملون بالسنة والكتاب ولا يحابون الناس ولا الطوائف.

حاصر خالد بن الوليد رضي الله عنه الحيرة ، فطلب من أبي بكر الصديق مدداً، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي وقال: (لا يهزم جيش فيه مثله) وكان يقول: (لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل) كما في كتب السير.

لكن أخيّ ما الرجل الذي نريد؟! أهو كل من طرَّ شاربه ونبتت لحيته من بني الإنسان، إذاً فما أكثر الرجال! إن الرجولة ليست بالسن المتقدمة، فكم من شيخ في سن السبعين وقلبه في سن السابعة، يفرح بالتافه ويبكي على الذاهب، لا يفكر إلا بما في يده، ولا يعيش إلا لنفسه وولده، وكم من غلام في مقتبل العمر، ولكنك ترى الرجولة في صرامته وعزمه، وهمته وعمله، وتفكيره وخلقه!

دخل غلام مع قومه إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقام الغلام يتحدث باسم قومه، فقال له عمر: (ليتقدم من هو أسن منك يا غلام! فقال: يا أمير المؤمنين! لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أولى منك بالخلافة، فأُعجب بمنطقه وقال: قم فتكلم رحمك الله).

معاشر المسلمين! إن خير ما تقوم به الدول لشعوبها هو إيجاد هذا الطراز من الرجال، ولن تترعرع الرجولة الفارعة، ويتربى الرجال الصادقون إلا في ظلال العقائد الراسخة، والفضائل الثابتة، والمعايير الأصيلة، والأخلاق الحميدة، أما في ظلام الشهوة العائم، والغناء الهائم، وسفاسف الدنايا القاتم، فلن تُوجد رجولة صحيحة، ولن ترى الدنيا الرجولة في أجلى صورها وأكمل معانيها، كما رأتها في تلك النماذج الكريمة التي صنعها الإسلام على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، من رجال يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع، لا يغريهم الوعد، ولا يلينهم الوعيد ولا ناكث العهد، جيل ترعرع على حفظ وحب القرآن، وشب ونما على طاعة واتباع سيد الأنام، وارتمى في أحضان تعاليم الإسلام، ينظر إلى الباطل نظرة استعلاء، لا يعرف الكسل، كلا ولا الفتور ولا الاسترخاء، همه نصرة دينه وإعلاء كلمته، وتوحيد عقيدته.

نعم. إنه الجيل المبارك، قد جعلوا وظائف عبوديتهم لربهم قبلة قلوبهم، ونصب عيونهم، يؤمونها أينما كانوا، ويسيرون معها حيث سارت، قد ضربوا مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدتموهم هنالك، إن كان علم وجدتموهم أول من يشارك، أو جهاد أبصرتموهم في لجة المعارك، أو صلاة شاهدتموهم في المساجد يبكون هنالك.

نماذج من الجيل الأول

معاشر المسلمين! اعلموا أن الدين لا يقوم إلا على أولي العزمات من الرجال، ولا يقوم أبداً على أكتاف المترخصين والمترفين، كيف يقوم الإسلام ويعود إلى سالف مجده وعزه دون عزمة كعزمة مصعب بن عمير؟ تلك العزمة التي جعلته يهجر حياة الشباب والرفاهية، ونقلته إلى حياة الخشونة واللأوائية، ذاك الفتى المنعم الذي صاغه الإسلام على يديه، تقدم حين نادت المغارم، وذهب إلى لقاء ربه قبل مجيء الغنائم، اختاره الله شهيداً بين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم، بعد أن أسلم على يديه أسيد بن الحضير الذي تنزلت الملائكة لتلاوته للقرآن، وسعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن، نعم. ما أحوج الأمة الإسلامية إلى عزمة كعزمة ذلك الجيل المنشود، إنك لو فتشت حياة أي صحابي لا تكاد تجد فيه يوماً مهدراً ليس فيه عمل للإسلام والمسلمين، فخذ مثالاً لشاب من شبان الصحابة آنذاك:

فهذا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الذي عاش في بلاد البغضاء البعداء إحدى عشرة سنة، لم يأخذ في أثنائها إجازة عرضية، ولا رخصة مرضية ولا اضطرارية، بل بقي إحدى عشرة سنة يعاني من آلام الغربة، ويواسي إخوته وصحبه، حتى إذا حانت الفرصة للعودة إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة للهجرة -بعد فتح خيبر - ومن شدة فرح النبي صلى الله عليه وسلم بقدومه قال: ( لا أدري بأي شيء أفرح، أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر ).

والسؤال أخيّ: بماذا كافأ النبي صلى الله عليه وسلم هذا القادم من بلاد الغربة بعدما ذاق ألم البعد والفرقة إحدى عشرة سنة؟ هل أصدر أمراً بتعيينه أميراً على بلده.. أو أصدر قراره النافذ بصرفه المخصصات المعيشية؟ كلا.. بل كافأه صلى الله عليه وسلم بأن أتاح له الفرصة بأن يعمل مرة أخرى لهذا الدين، فابتهجت نفسه وسر خاطره، فكان النائب الأول لقائد معركة مؤتة ، فيذهب حفياً بهذا المنصب، يسأل الفوز بالشهادة وهو يقول:

يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنا عذابها علي إن لاقيتها ضرابها

حقاً إن الهمة العالية لتغلي في قلوب أصحابها غليان الماء في القدر، وإنها لتستحث صاحبها على عظائم الأمور، حتى يقول كما قال الشافعي رحمه الله: الراحة للرجال غفلة، ويجعل مبدأ حياته كما قال الشافعي:

أنا إن عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أحرم قبرا

همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا

معاشر المسلمين! اعلموا أن الدين لا يقوم إلا على أولي العزمات من الرجال، ولا يقوم أبداً على أكتاف المترخصين والمترفين، كيف يقوم الإسلام ويعود إلى سالف مجده وعزه دون عزمة كعزمة مصعب بن عمير؟ تلك العزمة التي جعلته يهجر حياة الشباب والرفاهية، ونقلته إلى حياة الخشونة واللأوائية، ذاك الفتى المنعم الذي صاغه الإسلام على يديه، تقدم حين نادت المغارم، وذهب إلى لقاء ربه قبل مجيء الغنائم، اختاره الله شهيداً بين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم، بعد أن أسلم على يديه أسيد بن الحضير الذي تنزلت الملائكة لتلاوته للقرآن، وسعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن، نعم. ما أحوج الأمة الإسلامية إلى عزمة كعزمة ذلك الجيل المنشود، إنك لو فتشت حياة أي صحابي لا تكاد تجد فيه يوماً مهدراً ليس فيه عمل للإسلام والمسلمين، فخذ مثالاً لشاب من شبان الصحابة آنذاك:

فهذا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الذي عاش في بلاد البغضاء البعداء إحدى عشرة سنة، لم يأخذ في أثنائها إجازة عرضية، ولا رخصة مرضية ولا اضطرارية، بل بقي إحدى عشرة سنة يعاني من آلام الغربة، ويواسي إخوته وصحبه، حتى إذا حانت الفرصة للعودة إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة للهجرة -بعد فتح خيبر - ومن شدة فرح النبي صلى الله عليه وسلم بقدومه قال: ( لا أدري بأي شيء أفرح، أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر ).

والسؤال أخيّ: بماذا كافأ النبي صلى الله عليه وسلم هذا القادم من بلاد الغربة بعدما ذاق ألم البعد والفرقة إحدى عشرة سنة؟ هل أصدر أمراً بتعيينه أميراً على بلده.. أو أصدر قراره النافذ بصرفه المخصصات المعيشية؟ كلا.. بل كافأه صلى الله عليه وسلم بأن أتاح له الفرصة بأن يعمل مرة أخرى لهذا الدين، فابتهجت نفسه وسر خاطره، فكان النائب الأول لقائد معركة مؤتة ، فيذهب حفياً بهذا المنصب، يسأل الفوز بالشهادة وهو يقول:

يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنا عذابها علي إن لاقيتها ضرابها

حقاً إن الهمة العالية لتغلي في قلوب أصحابها غليان الماء في القدر، وإنها لتستحث صاحبها على عظائم الأمور، حتى يقول كما قال الشافعي رحمه الله: الراحة للرجال غفلة، ويجعل مبدأ حياته كما قال الشافعي:

أنا إن عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أحرم قبرا

همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شركات المساهمة 2618 استماع
عبادة القلوب 2464 استماع
مسائل فقهية في النوازل 2446 استماع
التأصيل العلمي 2089 استماع
عبادة القلب 2045 استماع
البطاقات الائتمانية - بيع المرابحة للآمر بالشراء 1949 استماع
أعمال القلوب 1931 استماع
العبادة زمن الفتن 1928 استماع
كتاب التوحيد - شرح مقدمة فتح المجيد [2] 1865 استماع
الرزق الحلال وآثاره 1808 استماع