التأصيل العلمي


الحلقة مفرغة

المقدم: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

ضيوفنا الأكارم نرحب بكم في هذا المساء المبارك، ونرحب بمحاضرنا ومدير هذا اللقاء؛ وهما أصحاب الفضيلة الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي ، وكذلك أيضاً الدكتور: خالد بن محمد أبا الحسن ، وهما ضيفانِ كريمان على هذا المنتدى، أرحب بهما باسم الضيوف وباسم منتدى العمري، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بعلمهما، وسأترك التعريف بمحاضرنا لمقدم هذا اللقاء الذي له حق كبير علينا، وكنت بصحبته في رحلة علمية إلى الأحساء بالأمس، وكانت أول مرة نتعرف فيها على بعضنا البعض، فآنست منه حسن الخُلق والعلم الجم، وتواصل الأفكار فيما بيننا، فجزاه الله خيراً، وقد قبل مشكوراً هذه الدعوة لإدارة هذا اللقاء خصوصاً حينما علم أن فضيلة الدكتور عبد الله هو محاضر هذا اليوم، وشعرت بمحبته له فكان فأل خير حسن.

مدير هذا اللقاء هو الدكتور: خالد بن محمد بن إبراهيم أبو الحسن حاصل على الماجستير من جامعة متشجن الحكومية، ومعها أيضاً ماجستير في اللغة الانجليزية للناطقين بغيرها، ومعها من جامعة دوكن أيضاً ماجستير في علوم الحاسبات، وحاصل على الدكتوراه من جامعة أنديانا في مجال اللغة الإنجليزية، عمل مستشاراً لدى معالي نائب وزير التعليم العالي، وعمل في عدة مجالات علمية وعملية يصعب حصرها، فهو عضو في العديد من الجمعيات والروابط المهنية المتخصصة في الترجمة، والترجمة الفورية في المؤتمرات والندوات ووسائل الإعلام، وهو عضو في لجنة المعادلات بوزارة التعليم العالي، ومستشاراً متفرغاً لمعالي نائب وزير التعليم العالي حيث يعمل حالياً، وهو مستشار دولي في المجلس الاستشاري الدولي الـ msu ، ومثَّل وزارة التعليم العالي في العديد من المناسبات لدى اليونسكو، والإليسكو، والإيسسكو، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، كان إماماً وخطيباً لعدد من المساجد في الولايات المتحدة في متشجن وأنديانا وبوتسبرد من انسلفاريا، له إسهامات عديدة في البحث والتأليف، ولعل من أشهرها كتاب صدر له باللغة العربية والإنجليزية عن التعليم العالي في المملكة العربية السعودية، وقد أثار حقيقة الكثير من الاهتمام لدى الجامعات العالمية والسفارات الأجنبية في المملكة والجهات العلمية في مختلف أنحاء العالم، وهو مؤسس لمركز النشر والترجمة بوزارة التعليم العالي، ومدير عام للدراسات والمعلومات سابقاً في وزارة التعليم العالي في الشئون التعليمية، وله اهتمامات كثيرة وهو ممن يهتمون بتعليم اللغة عن طريق الحاسب، وبعلم اللغة الاجتماعي، وبالتصميم للبرامج التعليمية عبر الحاسب.

قبل أن نبدأ اللقاء كما تعودنا ينقل هذا اللقاء عبر البث الإسلامي على الهواء عبر الإنترنت، وسيتاح المجال إن شاء الله للأسئلة المكتوبة أو المداخلات المباشرة التي نتمنى أن تكون في صميم هذا الموضوع.

أكرر الترحيب بضيفينا الكريمين. ولشيخنا الدكتور: عبد الله حسنة فهو أولاً صديق قديم ووالده حفظه الله صديق أيضاً للوالد، وجار لنا ونصلي معاً في مسجد واحد، وأحدث تغييراً في هذا المسجد حيث أننا في صلاة الفجر من فضل الله نشهد ما يزيد على الصفين في هذا المسجد؛ بسبب درسه الذي يلقيه بعد صلاة الفجر في بعض الأيام، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعهم وينفعنا بعلمه، وقبل أن أبدأ هذا اللقاء أترك المجال للابن إبراهيم بن عبد العزيز العمري ليتلو علينا بعض الآيات الكريمات.

القارئ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ * وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ * وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ * إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:1-12].

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

أحييكم إخوتي الأحبة حضور هذا اللقاء، ونشكر مُضيفنا الدكتور: عبد العزيز على حفاوته بنا وبكم، ونرحب بكم أيضاً يا من تتابعوننا على أثير الإنترنت، ومن ستشاهدون هذا اللقاء مسجلاً في وقت لاحق.

لقاؤنا اليوم يطوف بنا فيه فضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي -عميد المعهد العالي للقضاء سابقاً- حول قضية أصيلة ومسألة مهمة هي أساس كل علم؛ وهي قضية: التأصيل العلمي.

الدكتور من مواليد عام 1391 للهجرة، ولد في مدينة بُريدة، يحمل شهادة البكالوريوس من كلية الشريعة وأصول الدين في القصيم إبان تبعيتها لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وذلك في عام 1414هـ، وحصل عليها بتقدير امتياز، كما يحمل درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء في قسم الفقه المقارن، وحصل عليها عام 1417هـ، نال شهادة الدكتوراه بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف من قسم الفقه المقارن من المعهد العالي للقضاء في عام 1422هـ.

فضيلة الشيخ صدرت له عدة مؤلفات أذكر منها: أحكام الخطأ في المعاوضات المالية، وأصله رسالة الماجستير، وكذلك: الغش وأثره في العقود، وهو أساس رسالته أطروحة الدكتوراه، وله أيضاً كتاب المماطلة أسبابها وأنواعها ومظاهرها والسُبل الواقية لتفاديها، وهو كتاب تحت الطبع، كما صدر له كتاب أحكام دخول المسجد، وهو كذلك تحت الطبع.

فضيلة الشيخ يعمل باحثاً في وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وعمل معيداً في المعهد العالي للقضاء في قسم الفقه المقارن وبدأ ذلك في عام 1420هـ، وهو الآن أستاذ مساعد في قسم الفقه المقارن منذ 1422هـ، عمل عضواً في هيئة التدريس في قسم الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء، وخبيراً في مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي، كما أنه مستشار غير متفرغ في وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، شارك في حضور دورات لمجمع الفقه الإسلامي كان آخرها في الدورة السادسة عشرة والتي عُقدت في دولة الإمارات، كما أنه حضر الملتقى الثاني والرابع للهيئة الشرعية في شركة الراجحي المصرفية للاستثمار، وكما يشارك حفظه الله في إجابة الفتاوى الشرعية المتعلقة بالقضايا الفقهية المالية في موقع الإسلام اليوم، وموقع المسلم وغيرها من المواقع المشابهة، كما أنه يعمل مستشاراً في مجلس أوقاف الشيخ عبد الله الراجحي .

فضيلة الشيخ سيتناول مسألةً مهمَّة كما ذكرت في المجال العلمي إذ أن المبنى الذي نجلس فيه على سبيل المثال نجلس فيه آمنين مطمئنين؛ لأن هذا المبنى يقوم على أساسات سليمة، وكل شأن من شئونك تطمئن فيه حين تعلم أن أساسه أصيل سليم لا خلل فيه ولا ظن بأنه سينهار عليك يوماً ما، وحين نرى خطأً جسيماً يقع فيه أحد طلبة العلم فقد يكون أساس ذلك الخطأ نابعاً من كونه لم يؤصل لما يعلم تأصيلاً سليماً، وفي كل علم يكون للتأصيل طريقة ومنهج وأساليب يجب أن تُتبع، والتأصيل في العملية الأكاديمية متشابهة في كل علم وفي كل تخصص، إنما حديثنا اليوم سيكون لتأصيل العلم الشرعي، ونتناوله إنموذجاً لكل تخصص، وهذا التأصيل يهم كل طالب علم بأن يضعه نصب عينيه حين يدخل هذا المجال.

فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله عرف التأصيل حين سُئل: ما معنى التأصيل في طلب العلم؟ وما الطريقة التي تنصحون بها طالب العلم في بداية الطلب؟ والكتب التي يجب أن يتناولها من كتب الأولين؟

أجاب رحمه الله بأن التأصيل في طلب العلم: هو أن يحرص الإنسان على الأصول والقواعد؛ لأن هذا هو العلم، أما العلم بالمسائل فقط فيعد ناقصاً ولا شك، لكن إذا كان لدى الإنسان أصول وقواعد يبني عليها المسائل الجزئية كان هذا هو العالم حقيقة والراسخ في العلم، هذا مدخل نستمع بعده لفضيلة شيخنا ليتناول هذه المسألة، وآمل أن نستمتع بحديثٍ لا تزعجونا فيه بالهواتف الجوالة؛ لأن ذلك سيشوش على من يرغب في الاستماع والإنصات، شكر الله لكم وأترك الميكرفون لفضيلة الشيخ.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم.

وبعد: فلا أجدني مضطراً إلى الحديث عن مقدمة عن العلاقة الحميمية التي بيني وبين أستاذي الدكتور: عبد العزيز العمري، ولا عن العلاقة التي بيني وبين الدكتور خالد فقد جمعتنا به مجالس عدة وعلاقة وطيدة، أتركها لموضوع التأصيل العلمي؛ لأن من التأصيل العلمي ألا يدخل الإنسان في الحديث الجانبي.

أيها الإخوة في الله! ليس غريباً أن ترى الطبيب البارع وهو يشتاط غضباً حينما يرى تزايد الكثيرين من أصحاب العطارة وغيرهم وهم يدعون الطب؛ لأنه يعلم بخبرته ودرايته أن كل ذلك ناتج عن جهل، وإن وافقته الحظوظ في معالجة مريض قد تخطئه وأخطأته في مرضى كُثر، وليس غريباً أيضاً أن ترى الشاعر المسطع والنحوي البارع حينما تنفر آذانهما من سماع هراء يُسمى شعراً أو أدباً وهو بعيد كل البعد عن أوزان الشعر العربي، وأيضاً قد تجد أصحاب التخصصات الشرعية وغيرها يأنفون ويغضبون من الذين يتقحمون على هذا التخصص بمنهج غريب واستنباطات عجيبة.

نعم ليس في الإسلام رجال دين وكهنوت لا يؤخذ العلم إلا منهم، لكن في الإسلام عقائد وقواعد وأصول ومبادئ لا يمكن فهم الشرع وسنة سيد الأنام عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم إلا بالأخذ بها والسير على منوالها، ومن هنا لابد من إجابة شافية للسؤال الذي يُطرح دوماً: لماذا التأصيل العلمي فالقرآن موجود، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم موجودة، فنأخذ مثلما أخذوا، وهم رجال ونحن رجال؟

المقصود بالتأصيل العلمي

من المعلوم أيها الإخوة! أن هذه المقدمة من الأهمية بمكان، حيث إن مناهج الأئمة وإن اختلفت مشاربها وتنوعت عباراتها إلا أنها بالجملة تستقرئ حال النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وأسلوبه في الأمر والنهي، وطريقته في التعبير بما يُحب وما يكره، ومعرفة ذلك بجمع الطرق والروايات والنظر في تقاسيم وجهه وغضبه، وهل ما قاله على سبيل الإلزام أو على غير سبيل الإلزام، ويُعرف ذلك بالقرائن والأدلة الأخرى التي فيها إقرار منه عليه الصلاة والسلام، لغيره أن يفعل خلاف ما قال فدل ذلك على أنه على غير سبيل الإلزام. ونهيه صلى الله عليه وسلم عن شيء وفعل خلافه يدل على أن هذا النهي ليس على سبيل التحريم، هذا باختصار هو التأصيل العلمي، ولهذا جاء علم أصول الفقه، وموضوعه: الكتاب والسنة، ومعرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم. وأول من ألف في علم أصول الفقه بلا نزاع عند أهل الشأن هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي ، ألف كتاب الرسالة، وهي قواعد استقاها مما عرفه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ضبط القواعد والأصول العلمية على مراد الله ورسوله

وعلى هذا فالمعيب والغريب من المناهج التي بدأت اليوم تُطرح على غير ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا الخطورة، ولهذا أصبحنا نسمع ما يسمى بفهم إعادة النطق، أو القراءة الجديدة للتراث، هاتان النظريتان يُقصد منهما إعادة فهم الشريعة الإسلامية على غير ما فهمها السلف من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

والأئمة حينما يطلقون على أمر من الأمور أن القاعدة فيه كذا، إنما عرفوها باستقراء سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيجمعون النصوص ويقعدون القواعد التي تنص على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد ذلك على سبيل العموم أو على سبيل الإطلاق أو قيد ذلك بخصوص معين، أو أنه أطلق بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. أما أن يأتي منهج جديد ويقول: أنا فهم كذا واللغة تؤيده لا، اللغة العربية تؤيد ذلك إذا جاء لفظ عام من الرسول صلى الله عليه وسلم أو من القرآن ولم يأتنا ما يخالفه من سنة سيد الأنام، ولهذا وجد في الشريعة ما يسمى بالحقائق الثلاث: الحقيقة العُرفية، والحقيقة اللغوية، والحقيقة الشرعية، لكننا نجد أن بعض الناس يقول: ما دام أن هذا اللفظ أو أن هذا المعنى يمكن أن يُفسر بلغة من لغات العرب فلا مانع أن يكون هذا هو فهم القرآن والسنة، وهذا الذي لا ينبغي؛ لأنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرر حقيقة شرعية فلا يعول على الحقيقة اللغوية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءنا بشريعة قائمة إلى قيام الساعة صالحة لكل زمان ومكان، ومعنى ذلك أنه لا يمكن أن نأتي بفهم يخالف ما فهمه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان من جميل ما ذكره الإمام محمد بن إدريس الشافعي يقول: لا يكاد يوجد حكم شرعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أخذه مما فهمه من القرآن، وهذا يدل على فهم دقيق من الإمام الشافعي رحمه الله.

وعلى هذا أيها الإخوة! لا عتب أن تختلف مناهج الأئمة؛ هذا منهج أبي حنيفة رحمه الله، وهذا منهج الشافعي ، وهذه أصول أحمد ، وهذه أصول مالك ، وهذه أصول الأوزاعي ، وهذه أصول الثوري ، لكن كل هؤلاء إنما بنوا أصولهم بما فهموه من مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، أما أن يقول: أنا أعلم أن الرسول أراد كذا، لكن لغة العرب تفهم من هذه العبارة معنى آخر فلي أن آخذ بها، قلنا: هذا هو الإشكال، هذا هو التأصيل الذي سوف يهدم الأصل الشرعي، الذي قال عليه الصلاة والسلام عنه: ( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، بيننا وبينكم القرآن، ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه )، كما رواه الإمام أحمد و أبو داود بسند صحيح، وقول الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، لأن الله حينما ذكر في القرآن وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4]؛ بين أن اللسان هذا يحتمل معاني كثيرة، فلا يمكن أن نعول على هذه المعاني ولنا حقيقة شرعية قد قررها الرسول صلى الله عليه وسلم.

أمثلة لبعض الأصول المخالفة لما عليه إجماع الأئمة

وعلى هذا أيها الإخوة! حينما جاء ابن حزم رحمه الله وهو كما يقول ابن تيمية عنه: هو من أذكياء العالم، لكن مع ذكائه أتى بأصل لم يقل به سلف هذه الأمة، وهذا الأصل يهدم قواعد كبيرة مثل القياس، فـابن حزم رحمه الله لا يؤمن بالقياس، القياس أخذه العلماء من النبي صلى الله عليه وسلم عندما قالوا: ( يا رسول الله! أيأتي أحدنا أهله ويكون له أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فذاك )، وهناك أمثلة كثيرة في تقريره عليه الصلاة والسلام بالقياس، فهمها الصحابة، ولذلك قال عمر في رسالته العظيمة لـأبي موسى قال: اجمع المتشابه فيما وافق كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كما قال، وهذا الكتاب معروف عند أهل السير، ولذلك عتب الأئمة على ابن حزم أشد العتب حتى قال بعضهم وهو ابن العربي المالكي أو الجويني الشافعي: أجمع العلماء على أن الظاهرية لا يعد قولهم في مخالفة الإجماع، انظر المبالغة في هذا الأمر؛ لأن ابن حزم رحمه الله بالغ في إنكار هذا القياس.

إذاً: ليس بيننا وبين أحد مهما علا كعبه إلا أن نوقفه على الأصول المعتمدة في هذا الأمر، فكما أن الطب حينما تأصل على ما يسمى الطب الكيميائي -وله قواعد وأصول يعرفها أهله- لم تقبل الحكومات الطب الصيني -وهو ما يسمى بالطب البديل في الغرب- إلا على سبيل الاستشفاء؛ لأنهم بنوا طبهم على أصول لا يمكن لهذه الأصول أن تتزعزع، ولو كان الطب البديل له وجه وله حظ وله آثار، لكن هذا دليل على أن الأصول لابد أن تثبت وإلا لتزعزع الكيان وضاعت أصول العلوم.

و أبو حنيفة رحمه الله قال عنه مالك : أبو حنيفة لو أراد أن يجعل هذه الاسطوانة -يعني العمود- ذهباً لاستطاع من قوة حجته.

حتى إن إبراهيم الحربي يقول: جالست الإمام أحمد رحمه الله فرأيت عنده مسائل دقاق، يعني: مسائل دقيقة وتفصيلات، فقلت: أبا عبد الله مم ذاك؟ قال: قرأت كتب محمد بن الحسن ، التي أخذها من الإمام أبي حنيفة ، لكن مع ذلك ومع إثبات أن أبا حنيفة من الأئمة في الفقه إلا أنهم رحمهم الله عابوا على أبي حنيفة حينما أخذ بأصل لم يكن عليه من سبقه؛ وهو الأخذ بظاهر النص وترك الحديث الآحاد، يعني: لو جاءه حديث في البخاري أو في مسلم لم ينتشر انتشاراً كبيراً يسميه العلماء: خبر آحاد، يقول أبو حنيفة : إذا خالف خبر الآحاد ظاهر القرآن أو الأصل الذي تقرر في أصول أخرى فإني آخذ بهذا الأصل وأدع الحديث الصحيح، فأنكر الأئمة على أبي حنيفة أشد الإنكار، حتى قال الإمام أبو عمر بن عبد البر : وعيب على أبي حنيفة أخذه بالأصل وتركه الأحاديث الثابتة في الأخبار الصحيحة، وكان عتب أهل الحديث ومن معهم من أهل الفقه على أبي حنيفة أشد من عتبهم عليه في مسألة الإرجاء وهي مسألة عقدية؛ لأن الإرجاء منسوب إلى غيره، أما خبر الآحاد إنما كان من منشأ أبي حنيفة .

إذاً: العلماء ومنهم أبو حنيفة إنما صارت مناهجهم على أصول، لكن حينما جاء أبو حنيفة بأصل جديد أنكر عليه العلماء.

فهم القرآن والسنة بفهم سلف الأمة والرد على من خالف ذلك

واليوم نسمع أيها الإخوة! بعض من يقول: قداسة النص وتأويل المراد، يعني: لأجل أن الناس لا يغضبون على النصوص الشرعية، وكذلك قالوا: القرآن والسنة على العين والرأس، لكن هذا الفهم الذي فهمتموه سواء كان صحابة أو أئمة، هم رجال ونحن رجال، نحن لا نعتمد على ما قالوا، لنا فهم آخر. فهذا ألا يثير بلبلة كثيرة، وهو أشد من أن تخالف الكتاب والسنة مطلقاً؛ لأن مخالفتك للقرآن والسنة سهلة يمكن أن يردك المخالف، ويعرف أنك مخالف للكتاب والسنة، لكن أن تقول: أنا أقبل الكتاب والسنة وعندي فهم جديد وقراءة جديدة للنص فهذا من الخطورة بمكان، ولهذا تجد مبالغات في فهمهم للنصوص.

واسمحوا لي أيها الإخوة! أن أنقل لكم ما قاله بعضهم. عندما قال الله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، قال بعضهم: المقصود بالجيوب ليس مثل ما فهمه الصحابة؛ لأن القرآن حمال وجوه، فالجيوب هي كل ما له طبقات، ومعنى ذلك أن المرأة ممنوعة أن تُظهر كل ما له طبقات: كالإبطين والإليتين والثديين، وما عدا ذلك فيجوز للمرأة أن تخرجه؛ لأن هذا ظاهر القرآن، والله يقول: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، وما عدا ذلك فلها أن تخرجه، وهذا مع الأسف الشديد يوجد في بعض الكتابات الموجودة في المجلات الإلكترونية، وعبر الكتابات الموجودة في كل ما يضخ لنا عن طريق معارض الكتاب.

أيها الإخوة! إذا ثبت هذا فإن التأصيل العلمي سار على ما سار على قواعد ثابتة، مثل الحديث، ولهذا أقر المستشرقون أن علم الحديث مبني على دقة متناهية في مراد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة حديثه؛ كيف عرف الأئمة ذلك؟

نظروا إلى الراوي، الراوي إذا حدث بالحديث وعنده طلاب، مثلاً: أنا اليوم لو الآن حدثت بحديث فكلكم ثقات، فجاء هذا الراوي فقال: تحدث عن يوم الجمعة، وكلكم حدثتم أن عبد الله تحدث عن التأصيل العلمي، فجاء رجل وهو ثقة فقال: عبد الله تحدث عن التأصيل العلمي وتحدث عن فضل يوم الجمعة، فأنتم لم تقولوا: إن عبد الله تحدث عن يوم الجمعة ولم تنكروا ذلك، والأئمة رأوا أن تفرد هذا الشخص ولو كان ثقة بذكر يوم الجمعة دليل مع إقرار هؤلاء كلهم الذين لم يذكروا ذلك لا سلباً ولا إيجاباً دليل على أن عبد الله قطعاً لم يقل ذلك، ويقولون: إن هذا الرجل خالف الثقات، هو هل خالفهم؟ يعتبرون سكوت هؤلاء وذكر هذا دليل على المخالفة، من أين عرفوا؟ عرفوا من تقريرات عبد الله ومن ملازمة أصحابه ورؤيته، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم.

فالصحابة رضي الله عنهم عاينوا التنزيل وأدركوا مراد النبي صلى الله عليه وسلم فكان فهمهم معتبراً، ولهذا قال الإمام الشاطبي رحمه الله: كل فهم يُخالف فهم الصحابة فلا يعول عليه؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، والعرب عندما نزل القرآن فهموا مراده، وعلى هذا فإذا كان هناك فهم لم يفهمه السلف أو فهموا خلافه لا يعول عليه، لكن إذا جاءنا فهم لا يخالف منهج السلف ويعتمد على اللغة نقول: الحمد لله نقبل، ولهذا قال علي : إلا فهماً يؤتيه الله أحد خلقه في القرآن.

من المعلوم أيها الإخوة! أن هذه المقدمة من الأهمية بمكان، حيث إن مناهج الأئمة وإن اختلفت مشاربها وتنوعت عباراتها إلا أنها بالجملة تستقرئ حال النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وأسلوبه في الأمر والنهي، وطريقته في التعبير بما يُحب وما يكره، ومعرفة ذلك بجمع الطرق والروايات والنظر في تقاسيم وجهه وغضبه، وهل ما قاله على سبيل الإلزام أو على غير سبيل الإلزام، ويُعرف ذلك بالقرائن والأدلة الأخرى التي فيها إقرار منه عليه الصلاة والسلام، لغيره أن يفعل خلاف ما قال فدل ذلك على أنه على غير سبيل الإلزام. ونهيه صلى الله عليه وسلم عن شيء وفعل خلافه يدل على أن هذا النهي ليس على سبيل التحريم، هذا باختصار هو التأصيل العلمي، ولهذا جاء علم أصول الفقه، وموضوعه: الكتاب والسنة، ومعرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم. وأول من ألف في علم أصول الفقه بلا نزاع عند أهل الشأن هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي ، ألف كتاب الرسالة، وهي قواعد استقاها مما عرفه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا فالمعيب والغريب من المناهج التي بدأت اليوم تُطرح على غير ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا الخطورة، ولهذا أصبحنا نسمع ما يسمى بفهم إعادة النطق، أو القراءة الجديدة للتراث، هاتان النظريتان يُقصد منهما إعادة فهم الشريعة الإسلامية على غير ما فهمها السلف من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

والأئمة حينما يطلقون على أمر من الأمور أن القاعدة فيه كذا، إنما عرفوها باستقراء سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيجمعون النصوص ويقعدون القواعد التي تنص على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد ذلك على سبيل العموم أو على سبيل الإطلاق أو قيد ذلك بخصوص معين، أو أنه أطلق بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. أما أن يأتي منهج جديد ويقول: أنا فهم كذا واللغة تؤيده لا، اللغة العربية تؤيد ذلك إذا جاء لفظ عام من الرسول صلى الله عليه وسلم أو من القرآن ولم يأتنا ما يخالفه من سنة سيد الأنام، ولهذا وجد في الشريعة ما يسمى بالحقائق الثلاث: الحقيقة العُرفية، والحقيقة اللغوية، والحقيقة الشرعية، لكننا نجد أن بعض الناس يقول: ما دام أن هذا اللفظ أو أن هذا المعنى يمكن أن يُفسر بلغة من لغات العرب فلا مانع أن يكون هذا هو فهم القرآن والسنة، وهذا الذي لا ينبغي؛ لأنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرر حقيقة شرعية فلا يعول على الحقيقة اللغوية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءنا بشريعة قائمة إلى قيام الساعة صالحة لكل زمان ومكان، ومعنى ذلك أنه لا يمكن أن نأتي بفهم يخالف ما فهمه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان من جميل ما ذكره الإمام محمد بن إدريس الشافعي يقول: لا يكاد يوجد حكم شرعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أخذه مما فهمه من القرآن، وهذا يدل على فهم دقيق من الإمام الشافعي رحمه الله.

وعلى هذا أيها الإخوة! لا عتب أن تختلف مناهج الأئمة؛ هذا منهج أبي حنيفة رحمه الله، وهذا منهج الشافعي ، وهذه أصول أحمد ، وهذه أصول مالك ، وهذه أصول الأوزاعي ، وهذه أصول الثوري ، لكن كل هؤلاء إنما بنوا أصولهم بما فهموه من مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، أما أن يقول: أنا أعلم أن الرسول أراد كذا، لكن لغة العرب تفهم من هذه العبارة معنى آخر فلي أن آخذ بها، قلنا: هذا هو الإشكال، هذا هو التأصيل الذي سوف يهدم الأصل الشرعي، الذي قال عليه الصلاة والسلام عنه: ( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، بيننا وبينكم القرآن، ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه )، كما رواه الإمام أحمد و أبو داود بسند صحيح، وقول الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، لأن الله حينما ذكر في القرآن وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4]؛ بين أن اللسان هذا يحتمل معاني كثيرة، فلا يمكن أن نعول على هذه المعاني ولنا حقيقة شرعية قد قررها الرسول صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا أيها الإخوة! حينما جاء ابن حزم رحمه الله وهو كما يقول ابن تيمية عنه: هو من أذكياء العالم، لكن مع ذكائه أتى بأصل لم يقل به سلف هذه الأمة، وهذا الأصل يهدم قواعد كبيرة مثل القياس، فـابن حزم رحمه الله لا يؤمن بالقياس، القياس أخذه العلماء من النبي صلى الله عليه وسلم عندما قالوا: ( يا رسول الله! أيأتي أحدنا أهله ويكون له أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فذاك )، وهناك أمثلة كثيرة في تقريره عليه الصلاة والسلام بالقياس، فهمها الصحابة، ولذلك قال عمر في رسالته العظيمة لـأبي موسى قال: اجمع المتشابه فيما وافق كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كما قال، وهذا الكتاب معروف عند أهل السير، ولذلك عتب الأئمة على ابن حزم أشد العتب حتى قال بعضهم وهو ابن العربي المالكي أو الجويني الشافعي: أجمع العلماء على أن الظاهرية لا يعد قولهم في مخالفة الإجماع، انظر المبالغة في هذا الأمر؛ لأن ابن حزم رحمه الله بالغ في إنكار هذا القياس.

إذاً: ليس بيننا وبين أحد مهما علا كعبه إلا أن نوقفه على الأصول المعتمدة في هذا الأمر، فكما أن الطب حينما تأصل على ما يسمى الطب الكيميائي -وله قواعد وأصول يعرفها أهله- لم تقبل الحكومات الطب الصيني -وهو ما يسمى بالطب البديل في الغرب- إلا على سبيل الاستشفاء؛ لأنهم بنوا طبهم على أصول لا يمكن لهذه الأصول أن تتزعزع، ولو كان الطب البديل له وجه وله حظ وله آثار، لكن هذا دليل على أن الأصول لابد أن تثبت وإلا لتزعزع الكيان وضاعت أصول العلوم.

و أبو حنيفة رحمه الله قال عنه مالك : أبو حنيفة لو أراد أن يجعل هذه الاسطوانة -يعني العمود- ذهباً لاستطاع من قوة حجته.

حتى إن إبراهيم الحربي يقول: جالست الإمام أحمد رحمه الله فرأيت عنده مسائل دقاق، يعني: مسائل دقيقة وتفصيلات، فقلت: أبا عبد الله مم ذاك؟ قال: قرأت كتب محمد بن الحسن ، التي أخذها من الإمام أبي حنيفة ، لكن مع ذلك ومع إثبات أن أبا حنيفة من الأئمة في الفقه إلا أنهم رحمهم الله عابوا على أبي حنيفة حينما أخذ بأصل لم يكن عليه من سبقه؛ وهو الأخذ بظاهر النص وترك الحديث الآحاد، يعني: لو جاءه حديث في البخاري أو في مسلم لم ينتشر انتشاراً كبيراً يسميه العلماء: خبر آحاد، يقول أبو حنيفة : إذا خالف خبر الآحاد ظاهر القرآن أو الأصل الذي تقرر في أصول أخرى فإني آخذ بهذا الأصل وأدع الحديث الصحيح، فأنكر الأئمة على أبي حنيفة أشد الإنكار، حتى قال الإمام أبو عمر بن عبد البر : وعيب على أبي حنيفة أخذه بالأصل وتركه الأحاديث الثابتة في الأخبار الصحيحة، وكان عتب أهل الحديث ومن معهم من أهل الفقه على أبي حنيفة أشد من عتبهم عليه في مسألة الإرجاء وهي مسألة عقدية؛ لأن الإرجاء منسوب إلى غيره، أما خبر الآحاد إنما كان من منشأ أبي حنيفة .

إذاً: العلماء ومنهم أبو حنيفة إنما صارت مناهجهم على أصول، لكن حينما جاء أبو حنيفة بأصل جديد أنكر عليه العلماء.

واليوم نسمع أيها الإخوة! بعض من يقول: قداسة النص وتأويل المراد، يعني: لأجل أن الناس لا يغضبون على النصوص الشرعية، وكذلك قالوا: القرآن والسنة على العين والرأس، لكن هذا الفهم الذي فهمتموه سواء كان صحابة أو أئمة، هم رجال ونحن رجال، نحن لا نعتمد على ما قالوا، لنا فهم آخر. فهذا ألا يثير بلبلة كثيرة، وهو أشد من أن تخالف الكتاب والسنة مطلقاً؛ لأن مخالفتك للقرآن والسنة سهلة يمكن أن يردك المخالف، ويعرف أنك مخالف للكتاب والسنة، لكن أن تقول: أنا أقبل الكتاب والسنة وعندي فهم جديد وقراءة جديدة للنص فهذا من الخطورة بمكان، ولهذا تجد مبالغات في فهمهم للنصوص.

واسمحوا لي أيها الإخوة! أن أنقل لكم ما قاله بعضهم. عندما قال الله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، قال بعضهم: المقصود بالجيوب ليس مثل ما فهمه الصحابة؛ لأن القرآن حمال وجوه، فالجيوب هي كل ما له طبقات، ومعنى ذلك أن المرأة ممنوعة أن تُظهر كل ما له طبقات: كالإبطين والإليتين والثديين، وما عدا ذلك فيجوز للمرأة أن تخرجه؛ لأن هذا ظاهر القرآن، والله يقول: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، وما عدا ذلك فلها أن تخرجه، وهذا مع الأسف الشديد يوجد في بعض الكتابات الموجودة في المجلات الإلكترونية، وعبر الكتابات الموجودة في كل ما يضخ لنا عن طريق معارض الكتاب.

أيها الإخوة! إذا ثبت هذا فإن التأصيل العلمي سار على ما سار على قواعد ثابتة، مثل الحديث، ولهذا أقر المستشرقون أن علم الحديث مبني على دقة متناهية في مراد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة حديثه؛ كيف عرف الأئمة ذلك؟

نظروا إلى الراوي، الراوي إذا حدث بالحديث وعنده طلاب، مثلاً: أنا اليوم لو الآن حدثت بحديث فكلكم ثقات، فجاء هذا الراوي فقال: تحدث عن يوم الجمعة، وكلكم حدثتم أن عبد الله تحدث عن التأصيل العلمي، فجاء رجل وهو ثقة فقال: عبد الله تحدث عن التأصيل العلمي وتحدث عن فضل يوم الجمعة، فأنتم لم تقولوا: إن عبد الله تحدث عن يوم الجمعة ولم تنكروا ذلك، والأئمة رأوا أن تفرد هذا الشخص ولو كان ثقة بذكر يوم الجمعة دليل مع إقرار هؤلاء كلهم الذين لم يذكروا ذلك لا سلباً ولا إيجاباً دليل على أن عبد الله قطعاً لم يقل ذلك، ويقولون: إن هذا الرجل خالف الثقات، هو هل خالفهم؟ يعتبرون سكوت هؤلاء وذكر هذا دليل على المخالفة، من أين عرفوا؟ عرفوا من تقريرات عبد الله ومن ملازمة أصحابه ورؤيته، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم.

فالصحابة رضي الله عنهم عاينوا التنزيل وأدركوا مراد النبي صلى الله عليه وسلم فكان فهمهم معتبراً، ولهذا قال الإمام الشاطبي رحمه الله: كل فهم يُخالف فهم الصحابة فلا يعول عليه؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، والعرب عندما نزل القرآن فهموا مراده، وعلى هذا فإذا كان هناك فهم لم يفهمه السلف أو فهموا خلافه لا يعول عليه، لكن إذا جاءنا فهم لا يخالف منهج السلف ويعتمد على اللغة نقول: الحمد لله نقبل، ولهذا قال علي : إلا فهماً يؤتيه الله أحد خلقه في القرآن.

أيها الإخوة! لفهم أصول وقواعد التأصيل العلمي لابد أن نسير على تأصيل وعلى قواعد، وأنا سوف أذكر عن كل قاعدة أمثلة واقعية لخلل وخطأ بعض الباحثين أو بعض المفكرين أو بعض الكتاب والصحفيين وغير ذلك.

القاعدة الأولى: جمع النصوص الشرعية من الكتاب والسنة

أولاً: أنه لابد من جمع النصوص الشرعية عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كي نعرف ما هو العام؟ وما هو الخاص؟ وما هو المطلق؟ وما هو المقيد؟ ونفهم الدلالات الشرعية قبل الحكم على الشيء، إن الاستقلال بالرأي دون جمع الأدلة الأخرى المتعلقة به المؤثرة عليه أو أخذ الأدلة العامة دون أدلة مقيدة بمسألة معينة هي التي أحياناً تشتط بالباحث أو بالفقيه، فيأتي بأقوال لم يقبلها الأئمة منه، ولهذا كان ابن تيمية يبين أن سبب انحراف كثير من المتفقهة أنهم أخذوا بمسألة جزئية دون جمع الأدلة لذلك فضلوا وأضلوا، ولهذا يقول ابن تيمية : وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء القليل قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه. ويقول الإمام أحمد رحمه الله: إنما هلك من هلك لكثرة التأويل والقياس، يعني: أنهم يؤولون وعندهم ما يبين بجلاء أكثر مما يبين بالقياس، ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله مؤكداً ذلك: وكثير من الجهال يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة، أو بأدلة صحيحة اقتصاراً بالنظر على دليل واحد، واطراحاً للنظر في غيره من الأدلة، وكثير ممن يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكاً.

أمثلة على هذا الواقع: كنت قبل أن أبني بيتي مع المهندس فقال لي: أنا أرى أن للمرأة أن تزوج نفسها -يقصد المرأة الثيب، أما المرأة البكر فلا- قلت له: طيب ما هو الدليل؟ قال: دليلي أن الله يقول: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، قال الله: حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، إذاً خاطبها، قلت له: إذاً أنت على أصول مذهب أبي حنيفة ، قال: وما هي أصول مذهب أبي حنيفة ؟ قلت له: أصول مذهب أبي حنيفة يرى أن خبر الآحاد إذا جاء -ولو صح- يُخالف ظاهر القرآن فإننا نأخذ بظاهر القرآن وندع النص، ويلزمك على هذا أن تأخذ بهذا الأصل في كل شيء، وإلا أصبحت عند العلماء مُلفقاً بين الأقوال، أو أنك مضطرب، قال: والله ما أدري ما مذهب وأصول أبي حنيفة . وهذه هي المشكلة عندنا، الآن أبو حنيفة حينما جاءه حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما امرأة نكحت نفسها من غير ولي فنكاحها باطل باطل باطل، ولها المهر بما استحل من فرجها )، حينما جاء هذا الحديث الصحيح الثابت أبو حنيفة لم يعول عليه؛ لأنه يرى أنه مخالف لظاهر القرآن، طيب! لو نفترض أنه مخالف لظاهر القرآن؟ قال أبو حنيفة : مخالفته لظاهر القرآن يستلزم نسخ المتواتر بالآحاد وأنا لا أقبل ذلك، إذاً أبو حنيفة له أصل أنكره الأئمة عليه.

إذاً الذي يأتي بعد أبي حنيفة ويرى برأي أبي حنيفة يلزمه أن يطبق ذلك في جميع المسائل وإلا لعُد مضطرباً.

مثال على ذلك: نسمع بين الفينة والأخرى من بعض الباحثين حتى من بعض الطلاب الذين يتخرجون من الشريعة وخفي عليهم أصول الأئمة يقول: لا يُشرع صيام ست من شوال، عندما أكثر الناس من هذا الأمر بحثوا بحثوا فوجدوا أبا شامة -إمام معروف صاحب الحوادث والبدع- يذكر أن مالكاً رحمه الله يكره صيام الست من شوال؛ قال مالك : لأني لم أر أهل المدينة يصومونه، إذاً مالك عنده قاعدة وهي أن عمل أهل المدينة أصل، وإذا جاء الحديث ولم يعمل به أهل المدينة، فيقول مالك: إن ترك أهل المدينة لهذا الحديث دليل على أن فيه نكارة، عرفته أو لم أعرفه، هذا أصل مالك، فيأتي بعض طلاب العلم فتجدهم يأخذون بهذا الأصل؛ لأن الناس تعارفوا على هذا الأمر، طيب! لماذا أخذت به؟ قال: أتغضب حينما أقلد مالكاً ؟ قلت: لا يا أخي! أنا ما أغضب أن تقلد مالكاً، لكن أغضب أن تأخذ بأصل مالك ولا تعتمد على أصل مالك في كل شيء، وهذا نوع من الاضطراب، والخلل الحاصل في كثير من بُحوثنا وكثير من أقوالنا الموجودة.

خذ مثالاً آخر على ذلك: حينما انتشرت الأقليات المسلمة في بلاد الغرب أصبح المسلمون يعيشون في اضطراب بين العقلية الغربية وأيدلوجيتها والعقلية الإسلامية وأيدلوجيتها، ومن المعلوم أنه لا ينبغي لنا أن نضيق على الناس، إذا لم يكن في المسألة دليل شرعي فلا يسوغ لنا أن نقول: هذا حرام، لنفتري على الله الكذب، ولهذا (ما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما)، هذا ما لم يكن إثماً، يعني: ما لم يكن مخالفاً لنص شرعي، فالآن مس المرأة الأجنبية من المعلوم أن المتقرر عند الأئمة الأربعة أن المرأة الأجنبية -خاصة الشابة- لا يجوز للمسلم أن يصافحها؛ لأنه ثبت بالسنة كما في الصحيحين من حديث عائشة أنها قالت: (ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه كان يُبايعهن كلاماً )، قال العلماء: هذا أمر بلفظ الخبر. جاء الآن بعض الباحثين -حينما جاءه إشكالات- قال: لا بأس بمس يد المرأة الأجنبية، وهذا الإشكال الذي هو بسبب عدم جمع النصوص، تقول له: ما الدليل؟ يقول لك: الدليل هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين، من حديث أنس أنه قال: ( إن كانت المرأة الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيده حتى تذهب به خارج المدينة ما شاءت )، قال: فهذا يدل على أن الأمة تمس يد الرسول صلى الله عليه وسلم وتخرجه خارج المدينة، وهذا ليس هو المراد من الحديث وإنما المقصود بالحديث أن ذلك دلالة على رقة النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه عليه الصلاة والسلام، حتى مع الإماء، فليس الحديث مقصوداً به مس اليد، إنما المراد به إظهاراً لتواضعه عليه الصلاة والسلام، فتجد أننا أخذنا بهذا المتشابه وتركنا المُحكم من الأدلة العامة الشرعية، وهذا نوع من الخلل في واقعنا المعاصر.

خذ مثالاً آخر على ذلك: مسألة المحرمية، السفر بالمحرم غايته الوجوب، فتجد أن بعض الناس يشتط ما بين يمين أو يسار فبعضهم قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أوجب ذلك إنما كان ذلك في زمانه، أما اليوم فاختلفت الأمور فهناك طائرات وغيرها، ظناً منهم أن وجود المحرمية نوع إلزام على المرأة وهذا ليس صحيحاً، ليس المقصود ذلك، المقصود أن المرأة تسافر وهي مطمئنة، وهذا يسميه العلماء علة مستنبطة، تسافر باطمئنان ولا يتأتى هذا الاطمئنان إلا بوجود محرم لها، يقول الحافظ ابن حجر : أجمع العلماء على أن المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم، ما عدا وجوب الفرض في الحج والعمرة أو أن المرأة تخرج من الحرب، أو تخرج من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وبعض الناس عندما يسمع هذا الحديث يقول: نحن نلتزم أن المرأة لا يجوز لها، لكن هي مضطرة إلى ذلك، ربما يكون زوجها خارج المملكة وهي مضطرة إلى أن تسافر لوالدها، نقول: هذا واجب، لكن غاية الواجبات تسقط مع العجز وعدم الإمكان، فالمرأة إذا أرادت أن تسافر واضطرت إلى السفر فلم تجد محرماً فلها أن تسافر بدون محرم؛ هذا لأن الواجب يسقط مع العجز وعدم الإمكان، ولهذا عائشة رضي الله عنها فهمت هذا الأمر، ولهذا لما أراد ابن عمر ألا يسافر نساءه في الحج إلا مع ذي محرم، فأُخبرت عائشة بذلك قالت: رحم الله أبا عبد الرحمن ليس كل النساء تجد محرماً.

في المقابل بعضهم -حتى لو كانت المرأة ليست بحاجة إلى سفر- يقول: لا بأس للمرأة أن تسافر بدون محرم؛ لأن السفر الآن مطمئن، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عند السفر لعدم الاطمئنان.

وأنا أقول: إن سفر المرأة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر اطمئناناً من زماننا اليوم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ( والذي نفسي بيده لتسافرن المرأة الضعينة من العراق إلى صنعاء أو من حضرموت إلى صنعاء لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها )، هذا دلالة على الإخبار بالطمأنينة وليس دلالة على تجويز هذا الأمر، هذا نوع من الفهم الذي أحياناً يقع فيه كثير من الباحثين.

القاعدة الثانية: فهم مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم من النصوص

أيضاً من الأشياء المهمة أنه يجب علينا حينما يأتينا القرآن أو تأتينا السنة أن نفهم مراد الله ومراد رسوله على ما أراد الله وأراده رسوله، لا على ما أراده الباحث أو الفقيه أو المجتهد، لابد أن نفهم مراد الله على هذا الأمر، ومن الخطأ أن نطالب أحياناً الباحثين أن يرجح، نقول: لازم إذا اخترت قولاً أن ترجح، فيضطر الباحث حتى لو كان قليل البضاعة إذا أراد أن يرجح يقول: والراجح هو القول الأول؛ لقوة أدلة القول الأول، وضعف أدلة القول الثاني، وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني من قوله صلى الله عليه وسلم فيُحتمل كذا، ويحتمل كذا، ثم يبدأ يبعث احتمالات عقلية لم يكن مراد الله ولا مراد رسوله في هذا الأمر ثم يختم كلامه بقول: والحديث إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.

وهذه والله قاعدة مظلومة؛ لأن المقصود من ذلك إذا جاءك نص يجب أن تفهمه على مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الخطأ أن يفهم بعض المجتهدين أو بعض الناس فهماً يخالف الكتاب والسنة، ولهذا يقول ابن تيمية : لا ينبغي لأحد أن يفهم مراد أحد إلا على ما أراده في عامة التقريرات، فكما أنه لا يجوز لأحد أن يفهم مراد الله إلا على ما أراده الله وأراده رسوله لا على ما أراده المجتهد، فكذلك لا ينبغي أن نحمل كلام أحد إلا على ما أراده لا على ما يحتمله اللفظ، وهذا كثير جداً، ولهذا تبرز أحياناً احتمالات عقلية وتصورات ذهنية تخالف تماماً مراد الله ومراد رسوله في أمر ما، لذا وجب علينا الالتزام بمراد الله ومراد رسوله دائماً في كل شئون حياتنا.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شركات المساهمة 2611 استماع
عبادة القلوب 2460 استماع
مسائل فقهية في النوازل 2442 استماع
عبادة القلب 2042 استماع
البطاقات الائتمانية - بيع المرابحة للآمر بالشراء 1946 استماع
أعمال القلوب 1928 استماع
العبادة زمن الفتن 1925 استماع
كتاب التوحيد - شرح مقدمة فتح المجيد [2] 1861 استماع
الرزق الحلال وآثاره 1805 استماع
كتاب التوحيد - شرح مقدمة فتح المجيد [1] 1732 استماع