عبادة القلوب


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:

اعتذار الإمام أحمد لمن تكلم فيه

يقول ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد: حينما خرج من فتنة خلق القرآن يقول: كان رجل من المحدثين من أهل خُرسان يسمى منصور بن محمد -فيما أظن- فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله! أنكتب -يعني: أنسمع الحديث- عن منصور بن محمد؟ قال: فسكت أحمد ثم قال: اكتب عن منصور، فإذا لم تكتب عنه فعمن تكتب؟ قال الرجل: يا هذا! إنه يتكلم فيك، قال: فسكت أحمد، ثم أعاد السائل فقال: أبا عبد الله! أنكتب عن منصور بن محمد؟ قال: اكتب، فإذا لم تكتب عنه فعمن تكتب؟ قال: إنه يتكلم فيك، قال: فسكت، ثم أعاد السائل السؤال المرة الثالثة قال: يا أبا عبد الله! أنكتب عن منصور بن محمد؟ قال: يا هذا! اكتب، فإذا لم تكتب عنه فعمن تكتب؟ قال: إنه يتكلم فيك، قال: وكان أحمد يجلس جلسة القرفصاء فرفع رأسه وقال: -انظر ثقافة الاعتذار، انظر الرحمة بالخلق- يا هذا! رجل صالح ابتلي فينا، فماذا نصنع؟

وإنك لتعجب حينما تجد الواحد منا يجاهد نفسه عله أن يأتي إلى المسجد قبل الأذان، ولا يريد أن يضيع دقيقة أو دقيقتين ليكثر من قراءة القرآن فإذا جلس بجواره أحد من بعض أصحابه الذين ربما خالفوه في معاملة مالية، أو معاملة أسرية تجده يتجه إلى قبلته ولا يلتفت ذات اليمين ولا ذات الشمال حتى لا يسلم عليه، ففتش عن قلبك فربما كنت في واد ورفع الدرجات إلى الله في واد آخر، فقد ورد في الحديث: ( أنظرا هذين حتى يصطلحا ).

عفو الإمام أحمد عمن ضربه في فتنة خلق القرآن عدا أهل البدع

وهذا أحمد بن حنبل يقول ابنه صالح : من شدة ضرب السياط على ظهره إن كنت لأضع كفي على بعض فجوات أبي.

خرج من السجن وقد جُلد أكثر من ثمانية وعشرين شهراً، فكان لا يستطيع أن يتكئ من شدة الضرب وبينما الناس حوله في المسجد يسألونه، إذا رجل حسن البزة والهندام قد ابتعد عن الناس، فلما رأى الناس قد تركوا أحمد ، أقبل عليه وطأطأ رأسه وجثا على ركبتيه وقال: أبا عبد الله! السلام عليك، قال أحمد : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: أبا عبد الله! استغفر لي، قال: أُخي! مم ذاك؟ قال: كنت أحد الشُرط الذين يضربونك؛ لأجل خلق القرآن.

كان أحمد يضرب؛ لأجل بدعة أجمع أهل العلم على أن من قالها فهو كافر، وليست مسألة خلافية من مسائل الفروع التي ربما اختلف الواحد منا مع أخيه، وحاول جاهداً أن يجعل المسألة عقدية حتى يقبل الناس خصومته مع صاحبه.

قال: كنت أحد الشُرط الذين يضربونك؛ لأجل خلق القرآن، قال: فسكت أحمد ، قال صالح : فرأيت أبي قد وضع رأسه بين فخذيه ثم رفع رأسه وقال: يا هذا! أحدث لله توبة -يعني: تب إلى الله- قال: أبا عبد الله ! والله ما جئتك إلا مستغفراً من ذنبي، مستسمحك لحق المخلوق عليّ، قال: فسكت أحمد وطأطأ رأسه، قال صالح : فرأيت لأبي نشيجاً، يعني: بكاء، ثم رفع رأسه وإذا لحيته تخضب دمعاً، ثم قال: قم قد غفرت لك، إني لا أحب أن يؤذى مسلم بسببي، إني جعلت كل من آذاني في حل إلا أهل البدع فإن أمرهم إلى الله.

وهذا من الأسباب التي جعل الله سبحانه وتعالى بها محبة في قلوب العباد لهؤلاء الأئمة.

حب الإمام الشافعي لمن اختلف معه

وهذا الشافعي رحمه الله، يقول عنه يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي ، اختلفت أنا وإياه ثم لقيني وإذا هو يبتسم، ورأى في اكفهراراً فقال: يا يونس! ألا يستقيم أن نتحاب وإن اختلفنا في مسألة!

عفو شيخ الإسلام ابن تيمية ودعاؤه لمن عاداه

والواحد منا إذا أراد أن يرجح قوله يقول: وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد وضع له القبول في الأرض، حتى إن بعض الذين يخالفون ابن تيمية في بعض مسائل الاعتقاد تجدهم الآن في مسائل المعاملات العصرية لا يجدون بداً من موافقة أبي العباس ابن تيمية بل تجدهم يثنون عليه.

يقول ابن القيم في مدارج السالكين في مسألة سلامة القلب: ولم تر عيناي أحداً حقق مثل هذا الأصل مثل ما رأيت من شيخنا أبي العباس ابن تيمية، والله ما رأيته دعا على أحد من أعدائه بل كان يثني عليهم، ويدعو لهم، حتى قال بعض أقرانه: وددت أن أصحابي عاملوني كما يعامل ابن تيمية أعداءه.

ويقول ابن القيم: ولقد توفي ألد أعداء شيخ الإسلام فجئته مسرعاً مستبشراً جذلان، فقلت: أبا العباس! أبشر أبشر، قال: ما ذاك؟ قلت: قد أهلك الله عدوك فلان بن فلان، قال: فتنكر وتغير وجهه، وقال: اسكت، ثم استرجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم ذهب إلى أهل الميت وعزاهم في ميتهم وقال لهم: أنا لكم بمنزلة الوالد، ومتى احتجتم إلى شيء فأنا بمنزلة والدكم. فاستحسنوا ذلك منه.

و ابن مخلوف من علماء المالكية، وكان يسمى إذ ذاك بقاضي القضاة يقول لـابن طولون: اسجن ابن تيمية فإن كان ثمة ذنب فأنا أتحمله عنك يوم القيامة.

يقول ابن تيمية: و ابن مخلوف هذا مهما عصى الله فيّ فلن أزيده إلا أن أطيع الله فيه.

والعبد كلما سامح الخلق لله عفا الله عنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل يُنظر المعسر ويخفف عنه، فكان يقول لغلامه: خفف عنه وأنظره قال: فخفف الله عنه وأنظره)، وهذا من جزاء الإحسان، و هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60].

عفو الإمام النووي عمن سرق نعليه ووهبهما له

يا أُخي! إنك لتعجب حينما تجد الواحد من سلف هذه الأمة يحاول جاهداً عله أن يجد عذراً لإخوانه لئلا يصابوا بذنب يوم القيامة.

وهذا محيي الدين النووي الذي لو حلف الواحد منا أنه لا يعلم مسجداً من مساجد هذه البلاد إلا وقد قُرئ فيها كتاب رياض الصالحين لما حنث، كل ذلك دلالة على صدق إيمانه وإخلاصه في كتابه. فقد كان في أول طلبه للعلم يرى -كما في بعض أقوال الشافعية- أن الهبة لا تقبل من الواهب حتى يقول الموهوب له: قد قبلت، وحدث أنه اشترى رحمه الله نعلين حسنتين -أعزكم الله- فذهب إلى المسجد فوضع نعليه في مكان النعال، ثم صلى، فلما سلم خرج فوجد رجلاً قد أخذ نعليه حين رأى أنها أحسن النعال، فهرب مسرعاً، فلما رآه النووي رحمه الله ومعه حذاؤه، أسرع وراءه وجعل يقول له: أُخي! على رسلك، على رسلك قد وهبتهما لك. قل: قبلت، يخشى أن يعذب يوم القيامة بسببه، ولكن اللص ليس بفقيه، فقد ذهب مسرعاً لا يلوي على شيء. فظهر على النووي أثر الحزن رحمه الله رحمة واسعة.

إشهاد الفضل بن عياض الناس على هبته نعليه للص

وهذا الفضيل بن عياض -كثيرون لا يعلمون عن الفضيل إلا عبادته- لقد كان يعالج قلبه بين الفينة والفينة، وكان أصحابه يتمنون أن يروا الفضيل يقبل على دنياه، فحصل له قريباً مما حصل للنووي رحمه الله فخرج من المسجد ولم يجد نعليه، فوجد رجلاً قد أخذ النعال وهرب، فلحقه الفضيل يريد أن يقبضها منه ويعطيه إياها، ولكنه لم يستطع، فظهر أثر الحزن على الفضيل فقال أصحابه: اليوم نجد على الفضيل حُب الدنيا، فلما اقتربوا منه وجدوا أثر الحزن عليه، فقالوا: أبا سعيد! كل ذلك حباً في الدنيا! قال: والله إني في واد وأنتم في واد، والله ما أحزنني إلا أني أخشى أن أقف أنا وإياه بين يدي الله بسبب نعلين، أشهدكم أني وهبتها له، أشهدكم أني وهبتها له.

يقول ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد: حينما خرج من فتنة خلق القرآن يقول: كان رجل من المحدثين من أهل خُرسان يسمى منصور بن محمد -فيما أظن- فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله! أنكتب -يعني: أنسمع الحديث- عن منصور بن محمد؟ قال: فسكت أحمد ثم قال: اكتب عن منصور، فإذا لم تكتب عنه فعمن تكتب؟ قال الرجل: يا هذا! إنه يتكلم فيك، قال: فسكت أحمد، ثم أعاد السائل فقال: أبا عبد الله! أنكتب عن منصور بن محمد؟ قال: اكتب، فإذا لم تكتب عنه فعمن تكتب؟ قال: إنه يتكلم فيك، قال: فسكت، ثم أعاد السائل السؤال المرة الثالثة قال: يا أبا عبد الله! أنكتب عن منصور بن محمد؟ قال: يا هذا! اكتب، فإذا لم تكتب عنه فعمن تكتب؟ قال: إنه يتكلم فيك، قال: وكان أحمد يجلس جلسة القرفصاء فرفع رأسه وقال: -انظر ثقافة الاعتذار، انظر الرحمة بالخلق- يا هذا! رجل صالح ابتلي فينا، فماذا نصنع؟

وإنك لتعجب حينما تجد الواحد منا يجاهد نفسه عله أن يأتي إلى المسجد قبل الأذان، ولا يريد أن يضيع دقيقة أو دقيقتين ليكثر من قراءة القرآن فإذا جلس بجواره أحد من بعض أصحابه الذين ربما خالفوه في معاملة مالية، أو معاملة أسرية تجده يتجه إلى قبلته ولا يلتفت ذات اليمين ولا ذات الشمال حتى لا يسلم عليه، ففتش عن قلبك فربما كنت في واد ورفع الدرجات إلى الله في واد آخر، فقد ورد في الحديث: ( أنظرا هذين حتى يصطلحا ).


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شركات المساهمة 2615 استماع
مسائل فقهية في النوازل 2445 استماع
التأصيل العلمي 2088 استماع
عبادة القلب 2044 استماع
البطاقات الائتمانية - بيع المرابحة للآمر بالشراء 1948 استماع
أعمال القلوب 1930 استماع
العبادة زمن الفتن 1927 استماع
كتاب التوحيد - شرح مقدمة فتح المجيد [2] 1863 استماع
الرزق الحلال وآثاره 1807 استماع
كتاب التوحيد - شرح مقدمة فتح المجيد [1] 1736 استماع