مسائل فقهية في النوازل


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن لا يجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً.

فأشكر جامع عثمان بن عفان على اهتمامهم بطلاب العلم، وتطبيقهم لوصية محمد صلى الله عليه وسلم، التي ذكرها ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وقد رويت مرفوعة وموقوفة وإن كان الموقوف أصح ( أنه أوصى ابن مسعود بالاهتمام بطلاب العلم )، وأحسب أن جامع عثمان بن عفان له نصيب وافر من هذه الوصية.

أما موضوعنا فهو مسائل فقهية في النوازل، وليس غرضنا أن نذكر المسائل التي نزلت بالمسلمين، وما أكثرها! نسأل الله أن يلطف بنا، ولا أن نذكر النوازل الفقهية، فقد اهتم بها الباحثون من طلبة العلم في رسائل الماجستير والدكتوراه في جميع أبواب الفقه وهي كثيرة، لكن غرضنا هنا أن نعرج على معنى النازلة، والواجب على طالب العلم في النازلة، والذي ينبغي أن يتحلى به الفقيه من حيث النظر في نفسه، ومن حيث النظر في واقع الأمر، وما هي التطبيقات الخاطئة التي يقع فيها الباحثون جراء نظرهم في المعاملات؟ وعدم فهمهم لمصطلحات الأئمة وتقعيدات المجتهدين في كتبهم والنظر في مصطلحاتهم.

ولهذا يحسن بنا أن نعرف النازلة فنقول: النازلة تطلق في اللغة على المصيبة التي تنزل وتحل بالمسلمين، والشديدة من شدائد الدهر، ولهذا يقال: أخفها نازلة، وحادثة، ونائبة، فإن كانت شديدة، سميت: آبدة، وداهية، وباقعة، وإن كانت أشد، سميت: بائقة، وحاطمة، وفاقرة، وإن كانت أشد سميت: غاشية، وواقعة، وقارعة، وإن كانت أشد، سميت: حاقة، وطامة، وصاخة، فهذه هي المصائب التي تنزل بالناس، سواء في دنياهم أو في أخراهم، وأشدها: هي الصاخة، والطامة، والحاقة.

أسباب عدم ذكر تعريف النازلة عند المتقدمين

وأما النازلة في اصطلاح الفقهاء المتقدمين، فإنهم لم يذكروا للنازلة تعريفاً يخصها كما في تعريفاتهم للأبواب الفقهية المعروفة كالنجش، ومتلقي الركبان، ونحو ذلك من الأبواب الفقهية التي عرفها المتقدمون، فلم يكن للنازلة بهذا المصطلح اسم إلا عند ذكرهم في مشروعية القنوت للنازلة إذا نزلت بالمسلمين، كما قال صاحب المقنع: ولا يستحب القنوت إلا في الوتر، إلا أن ينزل بالمسلمين نازلة، وإن كان المعنى الشرعي عندهم لا يفارق ولا يخالف المعنى اللغوي.

ولعل عدم ذكر تعريف النازلة عند المتقدمين يرجع إلى أمور:

الأمر الأول: أن الفقهاء المتقدمين لم يكونوا مولعين بالتعاريف والحدود، كما هو شأن الأصوليين، فإذا كانت الكلمة معروفةً عند جمهورهم تداولاً وعملاً وتطبيقاً، فلا يكترثون لتعريفها، ولهذا نجد عامة المتقدمين رضوان الله تعالى عليهم لا يعرفون الشيء إلا بمرادفه، أو بالرسم كما يقول الأصوليون، فلا يعرفونه بالتعريف المنطقي الذي يقولون عنه: إنه لا بد أن يكون جامعاً مانعاً، فهذا المصطلح إنما هو من استعمال المناطقة، وقد تأثر علماء الأصول بهم؛ فجعلوا الحد هو غاية أمرهم، حتى إنك تجد بعض الباحثين والمدرسين يبالغ فيذكر في محاضرة أو محاضرتين أو ثمان محاضرات تعريفاً لشيء والمراد بهذا التعريف، وليس هذا من غرض المتقدمين رضوان الله تعالى عليهم، وطريقة المتقدمين في التعريف بالرسم أو بالمرادف هي طريقة الوحيين، حيث إن الشارع لا يعرف الشيء إلا بلازمه أو بمرادفه، واقرأ إن شئت في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف الكبر ببطر الحق وغمط الناس )، وهذا تعريف بلازمه الظاهر لكل أحد، كما تفسر ألفاظ القرآن والحديث بمرادفاتها، ولهذا قال الإمام الشاطبي رحمه الله: وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف، ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية، علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين، لكن من غير ترتيب متكلف، ولا نظم مؤلف، بل كانوا يرمون الكلام على عواهنه، ولا يبالون كيف وقع في ترتيبه، إذا كان قريب المأخذ سهل الملتمس.

الأمر الثاني: أن الفقهاء المتقدمين لم يعولوا على تعريف النازلة؛ لكونهم استعملوا كلمات مرادفة لها، وهي تؤدي نفس الغرض عندهم مثل قولهم: الأقضية، أو المسائل، أو الأجوبة، ولعل استعمالهم لهذه المصطلحات أغنى عن ذكر كلمة النازلة، ولهذا تجد أن أكثر من اهتم بهذه المصطلحات من الأئمة هم: المالكية، فقد اهتموا بذلك حينما ذكروا كتاب الأقضية أو كتاب المسائل، أو كتاب الأجوبة، ومن براعتهم في اهتمامهم بذلك أن كتبوا أيضاً في النازلة، كما في كتاب القاضي عياض المسمى: مذاهب الحكام في نوازل الأحكام.

الأمر الثالث: وهو مهم جداً: أن الذين كتبوا من الأئمة رحمهم الله في مسائل النازلة، لم يهتموا بالألفاظ والمباني، وإنما اهتموا بحقيقة الأمر والمعاني، فجعلوا غايتهم وكبير اهتمامهم هو في البحث عن نفس النازلة، والاهتمام بها من حيث التقعيد، ومن حيث النظر والاستدلال، ولهذا تجد أن أخطاء العلماء رحمهم الله فيما بينهم في المسائل أقل بكثير، بل نقول: إنه لا يوجد بينهم اختلاف على طريقة المتأخرين؛ لأنك تجد أن المسألة الواقعة في هذا الزمان من العلماء من يقول فيها بالحرمة ومنهم من يقول بالحل، والذي قال بالحل له تصور في المسألة يختلف جذرياً عن نظر من قال بالتحريم، والذي يقول بالتحريم له نظر يختلف جذرياً عن نظر من قال بالحل، وسوف نذكر أمثلة واقعية في تطبيقات المعاصرين على بعض المسائل، وتكلفهم جر كلام الفقهاء للواقعة التي يذكرونها.

إذاً تعريف النازلة في اصطلاح المتأخرين هي: الوقائع والقضايا التي تنزل بالشخص أو بالأمة في مجال العبادات أو المعاملات ونحوها، والتي يبحث لها عن حكم شرعي، ولم يسبق فيها إلى نص أو اجتهاد، أو يتطلب فيها اجتهاد بسبب لوازمها أو بعض أحكامها، هذا من حيث تعريف النازلة.

وأما النازلة في اصطلاح الفقهاء المتقدمين، فإنهم لم يذكروا للنازلة تعريفاً يخصها كما في تعريفاتهم للأبواب الفقهية المعروفة كالنجش، ومتلقي الركبان، ونحو ذلك من الأبواب الفقهية التي عرفها المتقدمون، فلم يكن للنازلة بهذا المصطلح اسم إلا عند ذكرهم في مشروعية القنوت للنازلة إذا نزلت بالمسلمين، كما قال صاحب المقنع: ولا يستحب القنوت إلا في الوتر، إلا أن ينزل بالمسلمين نازلة، وإن كان المعنى الشرعي عندهم لا يفارق ولا يخالف المعنى اللغوي.

ولعل عدم ذكر تعريف النازلة عند المتقدمين يرجع إلى أمور:

الأمر الأول: أن الفقهاء المتقدمين لم يكونوا مولعين بالتعاريف والحدود، كما هو شأن الأصوليين، فإذا كانت الكلمة معروفةً عند جمهورهم تداولاً وعملاً وتطبيقاً، فلا يكترثون لتعريفها، ولهذا نجد عامة المتقدمين رضوان الله تعالى عليهم لا يعرفون الشيء إلا بمرادفه، أو بالرسم كما يقول الأصوليون، فلا يعرفونه بالتعريف المنطقي الذي يقولون عنه: إنه لا بد أن يكون جامعاً مانعاً، فهذا المصطلح إنما هو من استعمال المناطقة، وقد تأثر علماء الأصول بهم؛ فجعلوا الحد هو غاية أمرهم، حتى إنك تجد بعض الباحثين والمدرسين يبالغ فيذكر في محاضرة أو محاضرتين أو ثمان محاضرات تعريفاً لشيء والمراد بهذا التعريف، وليس هذا من غرض المتقدمين رضوان الله تعالى عليهم، وطريقة المتقدمين في التعريف بالرسم أو بالمرادف هي طريقة الوحيين، حيث إن الشارع لا يعرف الشيء إلا بلازمه أو بمرادفه، واقرأ إن شئت في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف الكبر ببطر الحق وغمط الناس )، وهذا تعريف بلازمه الظاهر لكل أحد، كما تفسر ألفاظ القرآن والحديث بمرادفاتها، ولهذا قال الإمام الشاطبي رحمه الله: وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف، ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية، علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين، لكن من غير ترتيب متكلف، ولا نظم مؤلف، بل كانوا يرمون الكلام على عواهنه، ولا يبالون كيف وقع في ترتيبه، إذا كان قريب المأخذ سهل الملتمس.

الأمر الثاني: أن الفقهاء المتقدمين لم يعولوا على تعريف النازلة؛ لكونهم استعملوا كلمات مرادفة لها، وهي تؤدي نفس الغرض عندهم مثل قولهم: الأقضية، أو المسائل، أو الأجوبة، ولعل استعمالهم لهذه المصطلحات أغنى عن ذكر كلمة النازلة، ولهذا تجد أن أكثر من اهتم بهذه المصطلحات من الأئمة هم: المالكية، فقد اهتموا بذلك حينما ذكروا كتاب الأقضية أو كتاب المسائل، أو كتاب الأجوبة، ومن براعتهم في اهتمامهم بذلك أن كتبوا أيضاً في النازلة، كما في كتاب القاضي عياض المسمى: مذاهب الحكام في نوازل الأحكام.

الأمر الثالث: وهو مهم جداً: أن الذين كتبوا من الأئمة رحمهم الله في مسائل النازلة، لم يهتموا بالألفاظ والمباني، وإنما اهتموا بحقيقة الأمر والمعاني، فجعلوا غايتهم وكبير اهتمامهم هو في البحث عن نفس النازلة، والاهتمام بها من حيث التقعيد، ومن حيث النظر والاستدلال، ولهذا تجد أن أخطاء العلماء رحمهم الله فيما بينهم في المسائل أقل بكثير، بل نقول: إنه لا يوجد بينهم اختلاف على طريقة المتأخرين؛ لأنك تجد أن المسألة الواقعة في هذا الزمان من العلماء من يقول فيها بالحرمة ومنهم من يقول بالحل، والذي قال بالحل له تصور في المسألة يختلف جذرياً عن نظر من قال بالتحريم، والذي يقول بالتحريم له نظر يختلف جذرياً عن نظر من قال بالحل، وسوف نذكر أمثلة واقعية في تطبيقات المعاصرين على بعض المسائل، وتكلفهم جر كلام الفقهاء للواقعة التي يذكرونها.

إذاً تعريف النازلة في اصطلاح المتأخرين هي: الوقائع والقضايا التي تنزل بالشخص أو بالأمة في مجال العبادات أو المعاملات ونحوها، والتي يبحث لها عن حكم شرعي، ولم يسبق فيها إلى نص أو اجتهاد، أو يتطلب فيها اجتهاد بسبب لوازمها أو بعض أحكامها، هذا من حيث تعريف النازلة.

ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يبحث عن مسألة فقهية أو نازلة فقهية أو غيرها أن تتوفر فيه أمور واعتبارات، هذه الاعتبارات مقسمة إلى أنواع:

العلم بالكتاب وصحيح السنة وضعيفها

أولاً: اعتبار من حيث الناظر نفسه، الذي هو هنا طالب العلم، وحينما نتحدث عن طالب العلم الناظر في هذه المسألة، فإننا نقول: لابد أن يتوفر في طالب العلم آلة العلم، والمقصود بها -كما قال الإمام الشافعي في الرسالة، والإمام أحمد رحمه الله وغيرهما ممن كتب في آداب طالب العلم-: أن يكون عالماً بالقرآن وبلغة القرآن، عالماً بمتشابهه وناسخه ومنسوخه، عالماً بصحيح السنة وسقيمها، عالماً بأقوال الأئمة قبله.

ونقول: أن يكون عالماً بالكتاب؛ لأنه يشين طالب العلم أن يسأل عن مسألة من المسائل، فيذكر حديثاً ضعيفاً، والمسألة فيها نص من الكتاب أو من السنة الصحيحة، ولا ينبغي لطالب العلم أن يبرز للفتوى حتى يكون عنده جملة من الأحاديث التي يعرف صحيحها من سقيمها، قيل لأحمد : أيتصدر للفتوى وقد حفظ ألف حديث؟ فقال بيده، يعني: لا، قيل: فألفي حديث؟ قال: لا، قيل: فثلاثة آلاف؟ قال: لا، قيل: فأربعة آلاف؟ قال: لا، قيل: فخمسة آلاف؟ فحرك بيده يعني: قد يكون.

والمقصود خمسة آلاف مع رواياتها، وإلا فإن الإمام الذهبي رحمه الله ذكر أن الأحاديث الصحيحة ربما لا تتجاوز عشرة آلاف حديث إلا بشيء قليل، والمقصود مع رواياتها: معرفة سقيمها من صحيحها؛ ولهذا يشين طالب العلم الفقيه أن لا يعرف الحديث الصحيح، وطرق تصحيحه وتضعيفه، فقد تجده فقيهاً، ولكنه يقلد العلماء المعاصرين في التصحيح والتضعيف، وربما كان محدثاً، ولكنه لا يعلم قواعد الترجيح والقواعد الفقهية والأصولية.

ولهذا ينبغي لطالب العلم -إذا أراد أن يكون إماماً يقتدى به- أن يلازم حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنه لا يوجد إمام من أئمة الإسلام قد جمع سنة محمد صلى الله عليه وسلم كلها، فقد تخفى عليه بعض السنن، وإن كان ابن تيمية ، و الخطابي رحمهما الله يقولان: لا تكاد توجد سنة، إلا ولـأحمد رحمه الله فيها قول، يعني: رواية، وهذا من شديد حرصه وعنايته بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

بل إنه أحياناً يذكر في مسائله أحاديث أو آثاراً لا توجد في الكتب المطبوعة، وهذا يدل على سعة باعه رحمه الله واطلاعه على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه سئل ستين ألف مسألة كلها يجيب عنها بقوله: حدثنا فلان عن فلان عن فلان، مما يدل على سعة حفظه ومعرفته بصحيح الحديث وضعيفه؛ ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون عالماً بالسنن.

العلم بالقواعد الأصولية والفقهية

ينبغي لطالب العلم أن يكون عالماً بالقواعد الأصولية والفقهية، ومن الخطأ: استدلال بعض طلاب العلم بالعمومات، أو بالقواعد الأصولية البحتة، والعلماء رحمهم الله لا يقصدون ظاهرها على الإطلاق، أذكر لك مثالاً: من المعروف عند العلماء أنهم اختلفوا في الأمر المجرد، هل يقتضي الوجوب أم لا؟ والأصل في الأوامر -إذا لم تقترن بقرائن صارفة- الوجوب، هذا هو الراجح والله أعلم، واستدل العلماء على ذلك بأدلة.

لكن تجد أن بعض طلاب العلم حينما يذكر هذه القاعدة، يتطلب لها دليلاً أو قرينةً صارفة من الوجوب إلى الاستحباب عن طريق نص شرعي، وهذا لا يقصده الأئمة، بل يقرون أن مجرد وجود قرينة يصرفها عن الوجوب، وإن لم تكن القرينة نصاً شرعياً.

مثاله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين )، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( إذا أمن الإمام فأمنوا )، فقد نقل أبو عمر بن عبد البر إجماع أهل العلم على أن التأمين سنة، غير أن بعض أهل الظاهر -جرياً على قاعدتهم وبعض طلاب العلم- يرون أن قول: آمين واجب.

والأئمة إنما أجمعوا على سنيته؛ لأن لديهم قرائن منها أولاً: أن قول: (آمين) ليست من القرآن، والله يقول: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20]، ومن المعلوم أن الواجب في القراءة هو الفاتحة، وقول: آمين دعاء معناه: اللهم استجب، فليس من المعقول أن يوجب الأئمة قول: (آمين) ولا يوجبوا قراءة ما تيسر غير الفاتحة.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أمن الإمام فأمنوا )، وقال في بعض الروايات: ( وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين )، فإذا لم يجب على الإمام أن يقول: آمين، وقد جاء في حديث آخر أنه يقوله، فكذلك المأموم، وهذه القرائن ربما قد لا تكون مقتنعاً بها يا طالب العلم! لكنها عند الأئمة رحمهم الله صارفة عن الوجوب.

وكذلك الأكل من الهدي، هدي القران والتمتع، استحب الأئمة رحمهم الله الأكل منها، كما قال الله تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:36]، في حين أنك تجد بعض طلاب العلم يرى أن الأكل منها واجب، وقد نقل غير واحد من أهل العلم على أن الأكل من الهدي مستحب، ونقلوا أن الصارف إلى الاستحباب آثار، وكذلك تفسير الآية فإنهم قالوا: إن قول الله تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:36]. إنما هو رحمة ورأفة بهذه الأمة، فإنه كان محرماً على الأمم قبلنا الأكل من الهدي، فكان هذا على قاعدة الأمر بعد الحظر يدل على الإباحة، أو على رجوع الأمر إلى ما كان عليه في السابق؛ ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعرف قواعد الأئمة والقواعد الأصولية.

ومن الطريف: أن بعض طلاب العلم قرأ على أحد المشايخ حديث ابن مسعود في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثم يخرج من النار قوماً لم يعملوا خيراً قط، فيقال: هؤلاء الجهنميون أدخلهم بغير عمل عملوه ) فقال: لم يعملوا خيراً، نكرة في سياق النفي، فتعم كل خير، فيلزم من ذلك أنه يجوز أن يدخل الله الجنة من لم يعمل خيراً قط ولو كانت الشهادتين.

وهذا لا يعقل ولا يصلح؛ لأن الله قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:48]، وقال: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة:72]، فلا يسوغ هذا التقعيد.

كذلك يجب أن تعلم أن مصطلحات الأصول عند علماء الكلام تختلف عن المصطلحات الشرعية التي اقتبس الأئمة منها قواعد الأصول، فبعض علماء الأصول اهتموا على طريقة علماء الكلام بالقاعدة، والاستدلال لها، دون النظر إلى الفروع الفقهية الموجودة في الوحيين، أو الموجودة عند الأئمة، ولهذا تجدهم أحياناً يذكرون القواعد، وإذا قلت: ما الدليل؟ قال: ولو قال السيد لعبده ولو قال الوالد لولده، في حين أن بعض المسائل موجودة في القرآن أو في السنة تخالف هذا التقعيد.

ولعلي أذكر لذلك مثالاً: اللفظ المشترك عند الأئمة هو: اللفظ الذي يحتمل أكثر من معنى، وهذان المعنيان فأكثر إما أن يكونا متضادين، وإما أن يكونا مترادفين، مثل: القرء لفظ مشترك، يحتمل الطهر، ويحتمل الحيض، والعلماء رحمهم الله اختلفوا: هل يمكن حمل اللفظ المشترك أو المشكك على جميع معانيه؟ فبعض علماء الأصول رأى المنع، في حين أن تطبيقات الشرع ترى الجواز، إذا أمكن حمل اللفظ على جميع معانيه من غير تضاد.

أما مثال من غير تضاد: فقولنا: ثلاثة قروء، فالشارع أطلق القرء مرةً على الطهر ومرةً على الحيض، ولا يمكن أن نحمل معنى ثلاثة قروء، على المعنيين.

وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن حزم : ( لا يقرأ القرآن إلا طاهر )، حينما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكتاب إلى عمرو بن حزم وهو في اليمن، فتجد أن بعض الفقهاء يقول: هذا اللفظ مجمل، ولا يمكن أن يستدل به؛ لأنه غير مبين، والقاعدة عند الأصوليين: أن المجمل يبقى على إجماله حتى يأتي ما يبينه. فإذا قلنا له: إن القرآن لا يجوز أن يقرأه غير الطاهر قال: ما الدليل؟ قلنا: الدليل حديث عمرو بن حزم ، بغض النظر عن صحته من عدمه، قال: هذا لفظ مشترك مجمل، يحتمل هذا ويحتمل هذا، فيبقى على الإجمال حتى يأتي ما يبينه.

ونقول: حينما جاء هذا الكتاب إلى عمرو بن حزم ، هل فهم من مراد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً أم لم يفهم؟ إما أن نقول: فهم، وإما أن نقول: لم يفهم، فإن قلنا: لم يفهم، فيحتمل أنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بالمراد، ويحتمل أنه لم يخاطب، فإن كان لم يخاطب، فيبعد أن يكون عمرو بن حزم يترك قول النبي صلى الله عليه وسلم من غير تطبيق، ويبعد أن يفهم عمرو بن حزم فهماً غير الفهم الذي يفهم منه؛ لأنه يكون قد ولى نبينا صلى الله عليه وسلم عمرو بن حزم وجعله إماماً للناس في هذا الصقع أو الإقليم وهو لا يفقه، وهذا لا يكون.

فدل ذلك على أن عمرو بن حزم فهم من هذا النص: ( لا يمس القرآن إلا طاهر )، جميع معانيه، إما طاهر من الحدث الأكبر، وإما طاهر من الحديث الأصغر، واللفظ المشترك إذا أمكن حمل اللفظ على جميع معانيه جاز، وهذا منها.

فنجد أن الفقهاء -رحمهم الله من الحنفية- يهتمون بالفروع، ثم يطبقون عليها الأصول، فإذا خالفت الأصول الفروع لا يعولون عليها، في حين أن المتكلمين ينظرون إلى الأصول والقواعد دون النظر إلى الفروع، وإذا خالف الفرع تركوه أو استثنوه منها أو جعلوه شاذاً عن القاعدة.

والأقرب -والله أعلم- الوسط، وهو طريقة السلف رضوان الله تعالى عليهم.

العلم بمقاصد الشريعة

لابد من النظر في مقاصد الشريعة لطالب العلم، وأنتم تعلمون كلام الفقهاء رحمهم الله، في أن العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وأكثر الأئمة رحمهم الله يرون أن الأصل هو النظر في المقاصد والمعاني، وإن كان الشافعية خالفوا في ذلك، ولهذا ذكر السيوطي في الأشباه والنظائر هذه القاعدة بهل، مما يدل على أنها ليست عندهم محل قطع.

والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يهتمون بالألفاظ، لكن دون منأى عن المقصد، فالمقصد عندهم يهتم به، وهذا مثال على ذلك.

روى الدارقطني رضي الله عنه أن امرأة غضبت فقالت: إن مالها كله في رتاج الكعبة، أي: في كسوة الكعبة، إن إماءها وعبيدها كلهم عتقاء، إن لم تفرق بين هذا العبد وزوجته فلما هدأ غضبها ندمت على ما قالت، وحزنت أن تفرق بين هذا العبد وزوجته وهي تملكهم، فأرادت أن تفتدي بمالها كله، لأنها علقت، فجاء زوجها وقال: يكفيك أن تتصدقي، يعني كفارة يمين، فقالت: لا، فذهب إلى ابن عمر ، فقال ابن عمر: مرها فلتتصدق، فأبت، فذهب بها زوجها إلى ابن عمر، فقال ابن عمر: يكفيك أن تكفري كفارة يمين فـابن عمر رضي الله عنه اهتم بالمقصد، فمقصد المرأة هو حض نفسها على هذا الأمر، ولم تقصد الألفاظ التي ذكرتها، وليس ابن عمر فقط من أفتى بهذا، بل روي أيضاً عن ابن عباس ، وهو قول سعيد بن المسيب وغيرهم من كبار الأئمة، كما حكى ذلك أبو العباس ابن تيمية في كتابه المعروف: قاعدة في العقود.

كذلك روى أبو داود و الدارقطني مرفوعاً وموقوفاً والصواب وقفه ( من نذر نذراً يطيقه فليوف، ومن نذر نذراً لم يطقه فليكفر كفارة يمين )، قوله: ( من نذر نذراً لم يطقه )، فإذا نظرنا من حيث اللفظ أمرناه أن يهتم باللفظ وأن يلتزم به، وإن نظرنا إلى مقصده: وهو منع نفسه، أو حض نفسه، نظرنا إلى المقصد.

فـابن عباس رضي الله عنه قال في الذي يقول مثلاً: لله علي أن لا أفعل هذه المعصية المحرمة، وإن فعلت فعلي صوم شهرين متتابعين، هذا عند العلماء يسمونه نذراً، فإن قلنا: هو نذر الطاعة، أوجبنا عليه الوفاء بالنذر، وإن قلنا: إنما قصد به نذر اللجاج والغضب، لم نأمره أن يوفي بنذره؛ لأننا لم نر أنه اهتم بالمحكوم عليه، إنما نظر إلى منع نفسه وحضها، وهذا قول ابن عباس ، وهو اختيار ابن تيمية ، والإمام أحمد وغيرهم.

وكذلك الحلف بالطلاق فجمهور السلف -وهو قول أحمد ، واختيار ابن تيمية رحمهم الله- عولوا على الحلف بالطلاق بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، فإذا قال الرجل لامرأته: إن خرجت إلى أهلك فأنت طالق، أو إن خرجت إلى السوق فأنت طالق، فنحن نعلم أن مقصده المنع، فلا ينبغي لطالب العلم أن يسأل العامي ويقول له: ماذا تقصد بالطلاق؟ فإن العامي يقصد بالطلاق الطلاق المعروف، فإذا قال له: تقصد أن تطلق قال العامي: أقصد أن أطلق، فيقول له: تطلق عليك زوجتك، في حين أنه لم يقصد وقوع الطلاق، وإن فهم مراد اللفظ من الطلاق، والفرق بينهما كبير.

فأنت حين تسأل العامي، يظن أنك تسأله: هل تعني أو تفهم معنى لفظ الطلاق؟ فيقول لك: نعم، أنا أقصد الطلاق، فإذا قلت له: هل تحب أن تقع زوجتك في الطلاق؟ قال: لا أحب، يقول ابن تيمية : فإذا كان لا يرغب وقوع الحكم بعد وجود السبب، دل ذلك على أنه لم يرد اللفظ، فهذه من حيث النظر إلى المجتهد أو الفقيه، والأمثلة في هذا الباب كثيرة جداً.

العلم بالمصطلحات الفقهية للأئمة

يجب أن يعلم طالب العلم المصطلحات الفقهية لدى الأئمة، وإنه ليشين طالب العلم أن يذكر حكم مسألة معينة، وينسبها للأئمة في حين أن الأئمة رحمهم الله لم يقصدوا مراده، مثال ذلك: مسائل الحج نجد أن المالكية يطلقون بعض الألفاظ، كأن يقولوا: المبيت بمنى سنة، ولو تركها فعليه دم، فتجد بعضهم يقول: كيف تقول سنة وعليه دم؟! فيجيبه: إذا كان الأصل سنة، فعليه دم من باب الاستحباب، إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، وهذا فهم عن الأئمة لم يريدوه، مع أن المراد بالسنة عند المالكية هي: كل أمر ثبت مشروعيته بدليل ظني، وليس بدليل قطعي، فكل أمر ثبتت مشروعيته بدليل ظني، يقولون عنه: سنة، ويأثم تاركه.

وكذلك المكروه عند الأئمة، ومنهم متقدمة الحنفية فقد ذكر الكمال ابن الهمام أن المكروه عند الأئمة: ما ثبتت حرمته أو نهي عنه بدليل ظني، وبعضهم يقولون: مكروه كراهة تحريم، فإذا صرفه دليل من الحرمة سموه مكروهاً كراهة تنزيه.

إذاً من الخطأ أن تجد بعض طلاب العلم يقرأ كتب الأئمة وينسب إليهم أقوالاً لم يريدوها بسبب جهله بمصطلحاتهم. مثلاً التورق، والتورق عند الأئمة هو: أن يشتري المرء السلعة بآجل ثم يبيعها حالاً لغير البائع الأول، فهذا يسمى تورقاً؛ لأن صاحبه قصد الورق وهو المال، وكلمة تورق لم تذكر بهذا اللفظ إلا عند مذهب واحد من الأئمة، هو مذهب الحنابلة، والحنبلية غير الحنابلة، فالحنابلة هم الفقهاء، والحنبلية هم أبو الحسن التميمي و الزاغوني الذين لهم مذهب في الاعتقاد بالغوا فيه في الإثبات على غير منهج أحمد رحمه الله، لكن فقههم على مذهب أحمد ، كما قرر ذلك أبو العباس ابن تيمية ، أما الحنابلة فالمقصود بهم المذهب المعروف، أو أصحاب أحمد . فالتورق لم يذكر بهذا اللفظ إلا في مذهب الحنابلة، أما الشافعية فلهم تسمية أخرى للتورق وهي الزرنقة، كما ذكر ذلك الأزهري رحمه الله، وهو من علماء الشافعية، أما غيرهم فيسمونها من أنواع العينة.

ومن الأخطاء: أنك تجد بعض طلاب العلم حينما يسأل عن العينة ويبحثها، فيجد أن المالكية سموها بيوع الآجال أو بيوع العينة، فيقول: العينة محرمة، التورق محرم، وهو مذهب المالكية ثم يستدل قال مالك في المدونة، وقال مالك في مواهب الجليل، مع أن العينة عند المالكية منها المباح ومنها المحرم، والعينة بالمصطلح المعروف عند الحنابلة فقط، وهي: أن يبيع السلعة إلى أجل، ثم يقوم بشرائها منه حالاً بأقل مما باعها منه، هذه هي العينة بالمصطلح المعروف عند الحنابلة، أما المالكية فيسمونها بيوع الآجال أو بيوع العينة.

فمما يشين طالب العلم: أن ينسب إلى المالكية أنها محرمة، في حين أن المالكية لا يحرمون التورق.

بل هو عندهم جائز وهو أن يكون الشخص مالكاً للسلعة، ثم يقوم ببيعها على شخص آخر ليقوم الشخص الآخر ببيعها إلى جهة ثالثة ليحصل على الورق وهو النقد، هذا هو التورق، وهو من بيوع العينة عند مالك وهو جائز، لكن مالكاً رحمه الله يرى أن الذي يذهب إلى السوق ويشتري السلعة ليبيعها على شخص معين بآجل كأن يقول الشخص: اذهب فاشتر لي السلعة، وبعها علي بالآجل فهذه يسميها العلماء في الواقع المعاصر بيع المرابحة للآمر أو للواعد بالشراء فهذه محرمة عند مالك ، وجوزها الأئمة الثلاثة رحمهم الله، فلابد لطالب العلم أن يعرف مصطلحات الأئمة. والأمثلة في هذا الباب كثيرة.

الأدلة على مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا على مراده هو واجتهاده

لا ينبغي لطالب العلم إذا بحث مسألة، وجاءته أحاديث ظاهرها التعارض أن يحمل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على غير وفق مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يجب عليه أن يحمل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على ما أراده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في نفس الأمر، لا على ما أراده المجتهد أو الفقيه كما يقول أبو العباس ابن تيمية في المجلد السابع.

ومن الأخطاء: أن بعض الباحثين حينما يرجح قولاً في مسألة يقول: وأما أدلة القول الثاني، فالدليل الأول: يحتمل كذا، ويحتمل كذا، ويحتمل كذا، والحديث إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، وهذه قاعدة دائماً تجد طلاب العلم في البحوث الفصلية يذكرونها مع أنه لا يسوغ أن يؤول الحديث إلا على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم فإن لم تستطع اجمع بين الأحاديث، أو قل: هذا عام وهذا خاص، لكن لا تؤوله، وربما قال بعضهم كلمات لا تليق، مثل قول بعضهم في مسألة: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد بذلك المزحة والمزاح، وهذا خطأ ولا يسوغ؛ لأنك تؤول كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على غير مرادهما.

ولهذا كان أحمد رحمه الله إذا رجح قولاً وهناك حديث بخلافه فإنه من تعظيمه للنص يسكت ولا يؤوله، وربما يأخذ به إذا سئل مرة أخرى كل ذلك احتراماً للنص وإبقاء على هيبته ووقاره، وهذا من الأدب الذي ينبغي أن يكون عليه طالب العلم، وبعض طلاب العلم يذكر بعض الأحاديث فيؤولها على غير مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ويظن أنه قد نجا من مغبة الترجيح الخاطئ، ونقول: هذا هو الخطأ، وطلب بعض المشايخ من الطلاب أن يرجحوا جعل الطالب يرجح كيفما اتفق؛ ولهذا ينبغي الأدب حين الترجيح.

يقول ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل: ولا يلزم في حق المجتهد أن يرد على كل شبهة، وليس من غرض المجتهد إذا رجح قولاً أن يرد على كل شبهة.

لأنك أحياناً قد ترجح أحد القولين على الآخر، ولو كان القول الآخر له حظ من النظر، وهذه نقطة مهمة لطالب العلم، إذا أردت أن تبحث مسألة من المسائل فاعلم أنه ليس ثمة مائة بالمائة صحيح، ومائة بالمائة خطأ، كما قال الإمام الشافعي: قول غيري خطأ يحتمل الصواب، وقولي صواب يحتمل الخطأ.

فإذا كنت أمام قضيتين، يجب أن تنظر إليهما أولاً من حيث المسألة، ثانياً من حيث المصالح والمفاسد وما يترتب على ذلك.

ولهذا ينبغي لطالب العلم إذا نظر إلى المسألة أن يعلم جميع الأدلة، ولا يلزم أن يرد على كل شبهة.

يقول أحمد رحمه الله: كنت أقول بأن طلاق السكران يقع، ثم تأملته، فرأيت لو أني أوقعته؛ لوقعت في ثلاثة محاذير، وإني لو لم أوقعه؛ لوقعت في محذورين، ولأن أقع في محذورين أحب إلي من أن أقع في ثلاثة. فلا يظن طالب العلم أنه يلزم إذا اختار قولاً أن لا يكون للقول الآخر حظ من النظر، أو لم يكن ثمة مفاسد بالأخذ بهذا القول فلابد من ذلك، ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله: كلما ابتعد الناس عن عصر النبوة خفيت المصلحة والمفسدة.

وهناك أمثلة واقعية في واقعنا المعاصر مثل: الأسهم، فأنتم تعرفون كلام الأئمة فيها، وكلام العلماء المعاصرين، فإن السهم إذا كان فيه نسبة من الحرام، منهم من يجوزه ما لم تكثر، ومنهم من يحرمه.

ومنهم من يجوز الأسهم التي لم تتعامل بالربا قرضاً أو اقتراضاً، ومنهم من يحرمها مطلقاً؛ لأنها لا تخلو من محذور، مثل قول بعضهم: إن الشركة إذا كانت لا تتعامل بالربا قرضاً أو اقتراضاً، ولكنها وضعت أموالها في بنك ربوي، ولو لم تأخذ عليها فوائد؛ فهو محرم، وهذا مدعاة إلى أن نحرم كل تعاملات الناس، حتى صاحب البقالة، إذا أراد أن يفتح بقالةً لا بد أن يقع في بعض المحاذير، فإن مما سيبيعه للناس أشياء فيها صور مرسومة باليد، وصور نساء، لكن هذا مما هو مغتفر عند الأئمة رحمهم الله؛ لأن المصلحة أعظم من هذه المفسدة.

ولهذا ينبغي للذي ينظر في مسألة الأسهم، أن لا يفتي فيها بالحرمة؛ لأنها لا تخلو من إشكال، ونقول: هب أننا حرمنا على الناس الأسهم، ولو لم يكن ثمة تعامل بالربا فما الواجب؟ فإن قال: يبيع بعضهم بعضاً، قلنا: هب أنه باع بعضهم بعضاً بمائة ألف، أو بمليون، أو بمائة مليون، أو بمليار، أو بعشرة مليار، أين توضع الأموال الباقية؟ وقد ناقشت بعض طلاب العلم في هذا، فقلت له: من عنده ثلاثون ملياراً؛ لأن بعض التجار عنده ثلاثون ملياراً، وكذلك بعض المؤسسات ماذا يصنع؟ فأجاب ذهبت وسيجمعها مرة ثانية وهذا ليس جواباً علمياً، فيجب أن يعرف طالب العلم أنه لا توجد مسألة، إلا وقد بين الله حكمها، ورفع الحرج فيها عن الأمة، ولا يسوغ أن نذكر الحكم الشرعي، ولا نرى ما يترتب عليه لدى المطبق.

ولهذا حينما تغافل العلماء والباحثون عن بعض المعاملات المستجدة وبيان حكمها، تقحم بعض الناس فيها ظناً منهم أن العلماء لا يعرفون حكمها، كما في المسائل المصرفية القديمة التي جعلت بعض الناس يقع في حرمة الربا؛ لأنه يظن أن ذلك مباح.

أولاً: اعتبار من حيث الناظر نفسه، الذي هو هنا طالب العلم، وحينما نتحدث عن طالب العلم الناظر في هذه المسألة، فإننا نقول: لابد أن يتوفر في طالب العلم آلة العلم، والمقصود بها -كما قال الإمام الشافعي في الرسالة، والإمام أحمد رحمه الله وغيرهما ممن كتب في آداب طالب العلم-: أن يكون عالماً بالقرآن وبلغة القرآن، عالماً بمتشابهه وناسخه ومنسوخه، عالماً بصحيح السنة وسقيمها، عالماً بأقوال الأئمة قبله.

ونقول: أن يكون عالماً بالكتاب؛ لأنه يشين طالب العلم أن يسأل عن مسألة من المسائل، فيذكر حديثاً ضعيفاً، والمسألة فيها نص من الكتاب أو من السنة الصحيحة، ولا ينبغي لطالب العلم أن يبرز للفتوى حتى يكون عنده جملة من الأحاديث التي يعرف صحيحها من سقيمها، قيل لأحمد : أيتصدر للفتوى وقد حفظ ألف حديث؟ فقال بيده، يعني: لا، قيل: فألفي حديث؟ قال: لا، قيل: فثلاثة آلاف؟ قال: لا، قيل: فأربعة آلاف؟ قال: لا، قيل: فخمسة آلاف؟ فحرك بيده يعني: قد يكون.

والمقصود خمسة آلاف مع رواياتها، وإلا فإن الإمام الذهبي رحمه الله ذكر أن الأحاديث الصحيحة ربما لا تتجاوز عشرة آلاف حديث إلا بشيء قليل، والمقصود مع رواياتها: معرفة سقيمها من صحيحها؛ ولهذا يشين طالب العلم الفقيه أن لا يعرف الحديث الصحيح، وطرق تصحيحه وتضعيفه، فقد تجده فقيهاً، ولكنه يقلد العلماء المعاصرين في التصحيح والتضعيف، وربما كان محدثاً، ولكنه لا يعلم قواعد الترجيح والقواعد الفقهية والأصولية.

ولهذا ينبغي لطالب العلم -إذا أراد أن يكون إماماً يقتدى به- أن يلازم حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنه لا يوجد إمام من أئمة الإسلام قد جمع سنة محمد صلى الله عليه وسلم كلها، فقد تخفى عليه بعض السنن، وإن كان ابن تيمية ، و الخطابي رحمهما الله يقولان: لا تكاد توجد سنة، إلا ولـأحمد رحمه الله فيها قول، يعني: رواية، وهذا من شديد حرصه وعنايته بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

بل إنه أحياناً يذكر في مسائله أحاديث أو آثاراً لا توجد في الكتب المطبوعة، وهذا يدل على سعة باعه رحمه الله واطلاعه على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه سئل ستين ألف مسألة كلها يجيب عنها بقوله: حدثنا فلان عن فلان عن فلان، مما يدل على سعة حفظه ومعرفته بصحيح الحديث وضعيفه؛ ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون عالماً بالسنن.