الرزق الحلال وآثاره


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا راد لقضائه سبحانه وتعالى, فهو سبحانه وتعالى المنعم المتفضل, إن أراد لعبده الهداية هداه وبين له سبل الخيرات، وإن أراد لعبده الضلالة والغواية أغواه بقدرته سبحانه وتعالى ومشيئته, وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30], ومع هذا فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل للعبد إرادة قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:9-10]. أما بعد:

فقد بين أهل العلم أن أعظم اهتمام يجب على المسلم أن يهتم به هو اهتمامه بقلبه, والقلب وإن تأثر بما يتأثر به, إلا أن تأثره بالمال الحرام كبير، ولهذا قيل للإمام أحمد رحمه الله: يا أبا عبد الله ، ما علاج مرض القلب؟ قال: الكسب الحلال.

وقيل لإمام من أئمة الإسلام: اكتب لنا شيئاً في الزهد والورع، فكتب كتاب البيوع، فقالوا: يرحمك الله. سألناك عن الزهد والورع، وكتبت لنا في الكسب والبيع؟! فقال رحمه الله: إن من طاب أكله ورزق الرزق الحلال فقد تورع حقاً. وعلى هذا: فالورع والزهد ليس كلمات تقال، أو تصرفات تفعل، أو سلوكيات تقتدى، والقلب خاو وفاض من الأكل الطيب.

وكثيرون هم الذين يجاهدون أنفسهم على صيام النهار وقيام الليل, وكثيرون هم الذين يجاهدون أنفسهم على أن يتصدقوا بأموالهم، غير أننا نرى هؤلاء ربما لم يفتشوا عن أرزاقهم، ولم يبحثوا عن أموالهم، ولم يبحثوا عن مدخراتهم, فتش عن جيبك فلربما كان فيه بعض البطاقات الائتمانية المحرمة التي فيها شرط ربوي، فقد تقوم بين يدي الله تسأله الدعاء والمغفرة فلا يستجيب لك.

من منا لم تنله هذه الدنيا بلأوائها ونصبها وكدحها ومع ذلك يريد النجاة، ويريد أن تزول عنه هذه الهموم؟ بيد أنه ربما تضرع وأخبت وانكسر ثم لا يجد باباً مفتوحاً؛ لأنه قد تعامل بمعاملة ربوية، ( وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه )، والعياذ بالله.

صور من حياة السلف في طلب الرزق الحلال والابتعاد عن الحرام

ولقد كان سلف هذه الأمة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم يخافون أشد الخوف من أكل المال الحرام, وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ( يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء أمن الحلال أخذ أم من الحرام ) رواه البخاري ، وهذا هو الواقع مع الأسف الشديد, بعض الناس يقول: أنا أريد أن أحصل على مائة ألف، أو مليونٍ، أو مبلغٍ من المال، أياً كان طريقه من الحرام أم من الحلال, وربما استسهل العقوبة، وما علم أن الله شديد العقاب.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن كنا لنترك تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام.

حتى إن الواحد منهم لو أخذ شيئاً محرماً بشبهة أو جهل، أو اعتقاد خاطئ، أو اجتهاد لا يبرر لنفسه أو يسوغ لنفسه الوقوع فيه, مع أن أهل العلم نصوا رحمهم الله: أن كل من تعامل بمعاملة محرمة باجتهاد أو تقليد أو تأويل فما أخذه من المال فهو حلال عليه، لقوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [البقرة:275], كما حقق ذلك أبو العباس ابن تيمية رحمه الله.

لكنهم -أعني سلف هذه الأمة- لا يأخذون بالرخص, فقد جاء عند البخاري أن غلاماً لـأبي بكر الصديق , وهذا الصحابي الإمام لم ينل الصديقية لأجل فعل فعله فقط، بل لأجل شيء وقر في القلب وصدقه العمل, فقد جاء الغلام بطعام لـأبي بكر فأكل أبو بكر ، حتى إذا استقر شيء مما أكله في بطنه قال الغلام: يا أبا بكر ! لم تسألني عن هذا الشيء مم هو؟ فتوقف أبو بكر . فقال الغلام: كنت قد تكهنت لإنسان في الجاهلية، فلقيني في بعض أزقة المدينة فأعطاني الذي ترى، قال: فأدخل أبو بكر رضي الله عنه أصبعه في فيه فقال الغلام: مه مه أبا بكر ؟ حتى خرج كل ما أكل، ثم قال: والله لو لم تخرج إلا بخروج روحي لأخرجتها, سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: ( كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ) والله المستعان, لقد كان جائزاً لـأبي بكر رضي الله عنه بعد ما استقر الطعام في بطنه أن يتركه، وأن يسوغ لنفسه بعض الأدلة ويقول: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195], ولن يجد أبو بكر صعوبة في تبرير عمله، ولكنه رضي الله عنه أحب أن يأخذ بالعزائم, وكم نحن بحاجة إلى مثل هذه النفس الأبية, مما يدل دلالة صريحة أن الجسد يتأثر بأكل المال الحرام، بل إن الجسد يتأثر بطبائع ما يأكله.

ولهذا قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: إن من حكم نهي الشارع عن أكل ما له ناب من السباع: أن السباع فيها من هبوب الوحوش وشياطين الجن ما لا يخفى، فنهى العباد عن الأكل منها خشية التأثر بطبائعها, وبين عليه الصلاة والسلام أن الإبل خلقت من الجن, فقال: ( أرأيتم إلى نفورها إذا نفرت؟ ) وأمر بالوضوء منها؛ لأن الغضب من الشيطان، والجان يطفأ بالماء, وهذا من حكم التشريع حينما أمر الشارع بالوضوء من لحم الجزور.

وقد كانت المرأة من سلف هذه الأمة إذا خرج زوجها لطلب الرزق تأخذ بثوبه، وتقول له: يا عبد الله، اتق الله فينا، فوالله إنا لنصبر على الجوع، ولا نصبر على النار.

ولا يوجد مِن نساء اليوم من تصنع هذا مع زوجها؛ لأن القضية عندهن أن يأتي الزوج بكل الكماليات التي تريدها الزوجة، حتى إن بعض الزوجات إذا قالت لزوجها: أحضر لي شيئاً، فقال: ما عندي شيء، قالت: ابحث, تدين, اصنع, المهم أن أعيش مثل فلانة، وأن أتكيف مثل علانة، وربما اضطر الزوج إلى بعض التصرفات التي فيها بعض الشبه جراء ذلك.

ولأجل ذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما يحصل في الوقوع في الحرام من الأذية للملائكة وللناس جميعاً، فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها )؛ وذلك لأن الغالب على الباعة أنهم يتورعون من الحلف الكاذب، ولا يتورعون من الأقوال الكاذبة التي يخادعون بها الناس.

ولهذا جاء عند الإمام أحمد وأبي داود والنسائي و ابن ماجه و الترمذي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على التجار, -يقول الراوي: وكنا يومئذ نسمى بالسماسرة- فقال: يا معشر التجار! قال: فالتفتنا فقلنا: لبيك يا رسول الله! قال: إن التجار هم الفجار، إلا من اتقى وأصلح وبر ). وأخبر عليه الصلاة والسلام أن التاجر إذا تخلى عن هذه الصفة -أي: صفة الفجور، وطبق سنة نبيه صلى الله عليه وسلم- فإن له أجراً عظيماً، قال عليه الصلاة والسلام: ( إن التاجر الأمين الصدوق مع الأنبياء يوم القيامة ), أو كما قال صلى الله عليه وسلم, وهذا لعظم فضل الأمانة، وعدم أكل المال الحرام.

ويقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: لئن أتورع عن درهم فيه شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف ثم مائة ألف ثم مائة ألف.

واليوم يقول بعضهم: أدخل في الشركات المشبوهة التي فيها ربا وأتطهر، وما علم أن مثل هذا التطهر لا يمكن أن يتم؛ لأن الشركة ما زالت مستمرة في الإثم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( الإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس، وإن أفتاك الناس وأفتوك ).

ولو سألك إمام من أئمة الإسلام: يا فلان! هل اكتتبت في شركة فيها ربا وأنت تكتتب؟ لقلت: لا, ولم تحب أن يراك في هذا الأمر؛ لأن الإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس, وعلى هذا فبدلاً من التصدق والتخلص من الأموال احرص على أن لا تأكل إلا طيباً، ولا يدخل جيبك إلا حلال.

والمشكلة أن كثيراً من الناس لا يتورعون, فكثيرون هم الذين يفتحون محفظة استثمارية، أو حساباً جارياً لدى بعض البنوك، وثمة شروط لأجل فتح هذه المحفظة، أو لأجل فتح حساب جارٍ، محرمة، ويقول المسكين لموظف البنك: أشّر على المكان الذي ترى أن أوقع فيه، ولا يجد لنفسه مندوحةً أو مسوغاً أن يقرأ الشروط والعقود، وهذا مع الأسف كثير, ثم يأتي ويقول: يا شيخ! ما حكم هذا العقد؟ والأصل أن يسأل قبل أن يبرم العقد.

فنقول: لماذا لم تكلف نفسك أن تصور مثل هذا العقد لتعطيه بعض طلبة العلم، أو بعض العلماء الذين يعرفون مثل هذه المعاملات ليروك الأمر على حقيقته وعلى بصيرته؟

فنلاحظ أن الناس ربما تساهلوا في مثل هذه الأمور، بيد أنهم إذا أرادوا أن يشتروا شيئاً لبيوتهم، أو يبرموا عقوداً لفللهم وقصورهم احتاطوا وفكروا وقدروا ثم نظروا ثم دخلوا في مثل هذه العقود, أما بعض المعاملات التي ربما يكون فيها شيء من الحرام فهو لا يبحث عن حكمها، إنما يبحث عن النسبة قلت أم كثرت, وهل هذا البنك الفلاني نسبته كثيرة أم قليلة, لكنه لا ينظر إلى نفس المعاملة، وهذا يدل على أن ثمة خللاً يحتاج منا إلى وقفة تبصر وروية.

تأثير الرزق الحرام على إجابة الدعاء

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] ).

ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حالةً فيها من مسوغات إجابة الدعاء, ما لو وجدت حالة منها في شخص لكان حرياً أن يستجاب له، أما هذا فلم يجمع واحدة ولا اثنتين ولا ثلاثاً ولا أربعاً، بل أكثر من ذلك، ومع ذلك لم يستجب له, قال: ( ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام, ومشربه حرام, وملبسه حرام, وغذي بالحرام, فأنى يستجاب لذلك؟ ), فذكر (الرجل يطيل السفر) مما يدل على أن المسافر يكون في حال انكسار وضعف، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما عند أهل السنن: ( أن دعوة المسافر لا ترد ), فهذا قد حقق موجباً من موجبات إجابة الدعاء، ولم يسافر فقط، بل كان كثير السفر، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه (أشعث أغبر)، مما يدل على أن التواضع والانكسار والإخبات بين يدي الله من أسباب الإجابة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء )؛ لأنها حالة فيها نوع من الانكسار والافتقار بين يدي الله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( رب رجل ذي طمرين مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره ), فالتواضع من البذاذة والبذاذة من الإيمان, ومع ذلك حقق أمراً أكثر من ذلك, (يمد يديه إلى السماء)، فإن رفع اليدين من الأسباب الموجبة لإجابة الدعاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله ليستحي من عبده أن يمد يديه، فيردهما صفراً خائبتين ) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى.

وقد ذكر السيوطي أن رفع اليدين في الدعاء مما تواترت به الأحاديث، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء لينال سرعة الإجابة.

ولم يكتف بذلك بل زاد أمراً رابعاً فكان يقول: (يا رب.. يا رب!) وقد ذكر الإمام مالك بن أنس وسفيان الثوري أن من الأسباب الجالبة لإجابة الله سبحانه وتعالى دعاء العبد: أن يكثر من قول: يا رب! ولو تأملت دعاء الأنبياء في القرآن ستجد أن أكثره فيه قول: ربنا! ربي! يا رب! فدل ذلك على أن ذكرها من أسباب الإجابة, فهذه الأمور كلها توفرت في هذا العبد المسكين، المنكسر المنطرح بين يدي الله, لكن ثمة أمور منعته من الإجابة: (مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له), والله إنك لتعجب حينما ترى رجلاً قد أخذه الشيب، وعلاه الرهق والتعب والكلفة من هذه السنين التي تحملها، ثم يدخل إلى بنك ربوي ليبرم صفقة ربوية، وما علم المسكين أنها ربما تمنعه من إجابة الدعاء، أو ربما ينال بسببها نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى [الليل:14-15]، والعياذ بالله.

المال الحرام سبب للعذاب

وقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه أن من أكل مالاً حراماً فإنه سوف يعذب بطنه يوم القيامة، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10], وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من حفظ فمه عن أكل الحرام فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ضمن له الجنة، فقال: ( من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين فخذيه أضمن له الجنة ), أي: فلا يأكل إلا حلالاً، ولا يشرب إلا حلالاً، وكلما تورع المرء عن ذلك فهذا دليل على صدق اللجأ إلى الله، وصحة الاستقامة، وعنوان الإيمان والتقوى.

ولقد كان سلف هذه الأمة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم يخافون أشد الخوف من أكل المال الحرام, وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ( يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء أمن الحلال أخذ أم من الحرام ) رواه البخاري ، وهذا هو الواقع مع الأسف الشديد, بعض الناس يقول: أنا أريد أن أحصل على مائة ألف، أو مليونٍ، أو مبلغٍ من المال، أياً كان طريقه من الحرام أم من الحلال, وربما استسهل العقوبة، وما علم أن الله شديد العقاب.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن كنا لنترك تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام.

حتى إن الواحد منهم لو أخذ شيئاً محرماً بشبهة أو جهل، أو اعتقاد خاطئ، أو اجتهاد لا يبرر لنفسه أو يسوغ لنفسه الوقوع فيه, مع أن أهل العلم نصوا رحمهم الله: أن كل من تعامل بمعاملة محرمة باجتهاد أو تقليد أو تأويل فما أخذه من المال فهو حلال عليه، لقوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [البقرة:275], كما حقق ذلك أبو العباس ابن تيمية رحمه الله.

لكنهم -أعني سلف هذه الأمة- لا يأخذون بالرخص, فقد جاء عند البخاري أن غلاماً لـأبي بكر الصديق , وهذا الصحابي الإمام لم ينل الصديقية لأجل فعل فعله فقط، بل لأجل شيء وقر في القلب وصدقه العمل, فقد جاء الغلام بطعام لـأبي بكر فأكل أبو بكر ، حتى إذا استقر شيء مما أكله في بطنه قال الغلام: يا أبا بكر ! لم تسألني عن هذا الشيء مم هو؟ فتوقف أبو بكر . فقال الغلام: كنت قد تكهنت لإنسان في الجاهلية، فلقيني في بعض أزقة المدينة فأعطاني الذي ترى، قال: فأدخل أبو بكر رضي الله عنه أصبعه في فيه فقال الغلام: مه مه أبا بكر ؟ حتى خرج كل ما أكل، ثم قال: والله لو لم تخرج إلا بخروج روحي لأخرجتها, سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: ( كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ) والله المستعان, لقد كان جائزاً لـأبي بكر رضي الله عنه بعد ما استقر الطعام في بطنه أن يتركه، وأن يسوغ لنفسه بعض الأدلة ويقول: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195], ولن يجد أبو بكر صعوبة في تبرير عمله، ولكنه رضي الله عنه أحب أن يأخذ بالعزائم, وكم نحن بحاجة إلى مثل هذه النفس الأبية, مما يدل دلالة صريحة أن الجسد يتأثر بأكل المال الحرام، بل إن الجسد يتأثر بطبائع ما يأكله.

ولهذا قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: إن من حكم نهي الشارع عن أكل ما له ناب من السباع: أن السباع فيها من هبوب الوحوش وشياطين الجن ما لا يخفى، فنهى العباد عن الأكل منها خشية التأثر بطبائعها, وبين عليه الصلاة والسلام أن الإبل خلقت من الجن, فقال: ( أرأيتم إلى نفورها إذا نفرت؟ ) وأمر بالوضوء منها؛ لأن الغضب من الشيطان، والجان يطفأ بالماء, وهذا من حكم التشريع حينما أمر الشارع بالوضوء من لحم الجزور.

وقد كانت المرأة من سلف هذه الأمة إذا خرج زوجها لطلب الرزق تأخذ بثوبه، وتقول له: يا عبد الله، اتق الله فينا، فوالله إنا لنصبر على الجوع، ولا نصبر على النار.

ولا يوجد مِن نساء اليوم من تصنع هذا مع زوجها؛ لأن القضية عندهن أن يأتي الزوج بكل الكماليات التي تريدها الزوجة، حتى إن بعض الزوجات إذا قالت لزوجها: أحضر لي شيئاً، فقال: ما عندي شيء، قالت: ابحث, تدين, اصنع, المهم أن أعيش مثل فلانة، وأن أتكيف مثل علانة، وربما اضطر الزوج إلى بعض التصرفات التي فيها بعض الشبه جراء ذلك.

ولأجل ذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما يحصل في الوقوع في الحرام من الأذية للملائكة وللناس جميعاً، فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها )؛ وذلك لأن الغالب على الباعة أنهم يتورعون من الحلف الكاذب، ولا يتورعون من الأقوال الكاذبة التي يخادعون بها الناس.

ولهذا جاء عند الإمام أحمد وأبي داود والنسائي و ابن ماجه و الترمذي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على التجار, -يقول الراوي: وكنا يومئذ نسمى بالسماسرة- فقال: يا معشر التجار! قال: فالتفتنا فقلنا: لبيك يا رسول الله! قال: إن التجار هم الفجار، إلا من اتقى وأصلح وبر ). وأخبر عليه الصلاة والسلام أن التاجر إذا تخلى عن هذه الصفة -أي: صفة الفجور، وطبق سنة نبيه صلى الله عليه وسلم- فإن له أجراً عظيماً، قال عليه الصلاة والسلام: ( إن التاجر الأمين الصدوق مع الأنبياء يوم القيامة ), أو كما قال صلى الله عليه وسلم, وهذا لعظم فضل الأمانة، وعدم أكل المال الحرام.

ويقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: لئن أتورع عن درهم فيه شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف ثم مائة ألف ثم مائة ألف.

واليوم يقول بعضهم: أدخل في الشركات المشبوهة التي فيها ربا وأتطهر، وما علم أن مثل هذا التطهر لا يمكن أن يتم؛ لأن الشركة ما زالت مستمرة في الإثم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( الإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس، وإن أفتاك الناس وأفتوك ).

ولو سألك إمام من أئمة الإسلام: يا فلان! هل اكتتبت في شركة فيها ربا وأنت تكتتب؟ لقلت: لا, ولم تحب أن يراك في هذا الأمر؛ لأن الإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس, وعلى هذا فبدلاً من التصدق والتخلص من الأموال احرص على أن لا تأكل إلا طيباً، ولا يدخل جيبك إلا حلال.

والمشكلة أن كثيراً من الناس لا يتورعون, فكثيرون هم الذين يفتحون محفظة استثمارية، أو حساباً جارياً لدى بعض البنوك، وثمة شروط لأجل فتح هذه المحفظة، أو لأجل فتح حساب جارٍ، محرمة، ويقول المسكين لموظف البنك: أشّر على المكان الذي ترى أن أوقع فيه، ولا يجد لنفسه مندوحةً أو مسوغاً أن يقرأ الشروط والعقود، وهذا مع الأسف كثير, ثم يأتي ويقول: يا شيخ! ما حكم هذا العقد؟ والأصل أن يسأل قبل أن يبرم العقد.

فنقول: لماذا لم تكلف نفسك أن تصور مثل هذا العقد لتعطيه بعض طلبة العلم، أو بعض العلماء الذين يعرفون مثل هذه المعاملات ليروك الأمر على حقيقته وعلى بصيرته؟

فنلاحظ أن الناس ربما تساهلوا في مثل هذه الأمور، بيد أنهم إذا أرادوا أن يشتروا شيئاً لبيوتهم، أو يبرموا عقوداً لفللهم وقصورهم احتاطوا وفكروا وقدروا ثم نظروا ثم دخلوا في مثل هذه العقود, أما بعض المعاملات التي ربما يكون فيها شيء من الحرام فهو لا يبحث عن حكمها، إنما يبحث عن النسبة قلت أم كثرت, وهل هذا البنك الفلاني نسبته كثيرة أم قليلة, لكنه لا ينظر إلى نفس المعاملة، وهذا يدل على أن ثمة خللاً يحتاج منا إلى وقفة تبصر وروية.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] ).

ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حالةً فيها من مسوغات إجابة الدعاء, ما لو وجدت حالة منها في شخص لكان حرياً أن يستجاب له، أما هذا فلم يجمع واحدة ولا اثنتين ولا ثلاثاً ولا أربعاً، بل أكثر من ذلك، ومع ذلك لم يستجب له, قال: ( ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام, ومشربه حرام, وملبسه حرام, وغذي بالحرام, فأنى يستجاب لذلك؟ ), فذكر (الرجل يطيل السفر) مما يدل على أن المسافر يكون في حال انكسار وضعف، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما عند أهل السنن: ( أن دعوة المسافر لا ترد ), فهذا قد حقق موجباً من موجبات إجابة الدعاء، ولم يسافر فقط، بل كان كثير السفر، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه (أشعث أغبر)، مما يدل على أن التواضع والانكسار والإخبات بين يدي الله من أسباب الإجابة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء )؛ لأنها حالة فيها نوع من الانكسار والافتقار بين يدي الله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( رب رجل ذي طمرين مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره ), فالتواضع من البذاذة والبذاذة من الإيمان, ومع ذلك حقق أمراً أكثر من ذلك, (يمد يديه إلى السماء)، فإن رفع اليدين من الأسباب الموجبة لإجابة الدعاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله ليستحي من عبده أن يمد يديه، فيردهما صفراً خائبتين ) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى.

وقد ذكر السيوطي أن رفع اليدين في الدعاء مما تواترت به الأحاديث، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء لينال سرعة الإجابة.

ولم يكتف بذلك بل زاد أمراً رابعاً فكان يقول: (يا رب.. يا رب!) وقد ذكر الإمام مالك بن أنس وسفيان الثوري أن من الأسباب الجالبة لإجابة الله سبحانه وتعالى دعاء العبد: أن يكثر من قول: يا رب! ولو تأملت دعاء الأنبياء في القرآن ستجد أن أكثره فيه قول: ربنا! ربي! يا رب! فدل ذلك على أن ذكرها من أسباب الإجابة, فهذه الأمور كلها توفرت في هذا العبد المسكين، المنكسر المنطرح بين يدي الله, لكن ثمة أمور منعته من الإجابة: (مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له), والله إنك لتعجب حينما ترى رجلاً قد أخذه الشيب، وعلاه الرهق والتعب والكلفة من هذه السنين التي تحملها، ثم يدخل إلى بنك ربوي ليبرم صفقة ربوية، وما علم المسكين أنها ربما تمنعه من إجابة الدعاء، أو ربما ينال بسببها نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى [الليل:14-15]، والعياذ بالله.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شركات المساهمة 2615 استماع
عبادة القلوب 2462 استماع
مسائل فقهية في النوازل 2445 استماع
التأصيل العلمي 2088 استماع
عبادة القلب 2044 استماع
البطاقات الائتمانية - بيع المرابحة للآمر بالشراء 1948 استماع
أعمال القلوب 1929 استماع
العبادة زمن الفتن 1926 استماع
كتاب التوحيد - شرح مقدمة فتح المجيد [2] 1863 استماع
كتاب التوحيد - شرح مقدمة فتح المجيد [1] 1736 استماع