كتاب التوحيد - شرح مقدمة فتح المجيد [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل. وبعد: فقد قال الإمام محمد بن عبد الوهاب: [قوله: الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1]، قال ابن جرير: حدثني السري بن يحيى حدثنا عثمان بن زفر سمعت العرزمي يقول: الرحمن: بجميع الخلق، والرحيم: بالمؤمنين. وساق بسنده عن أبي سعيد -يعني: الخدري- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن عيسى بن مريم قال: الرحمن: رحمان الآخرة والدنيا، والرحيم: رحيم الآخرة ). قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فاسمه (الله) دل على كونه مألوهاً معبوداً، يألهه الخلائق محبة وتعظيماً وخضوعاً، ومفزعاً إليه في الحوائج والنوائب. وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنتين لكمال الملك والحمد، وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله، إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أقواله وأفعاله. فصفات الجلال والجمال أخص باسم الله، وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة أخص باسم الرب، وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والرأفة واللطف أخص باسم الرحمن]. هذا الكلام من العلامة ابن القيم رحمه الله يفيد ما قرره السلف من أهل السنة والجماعة من أن أسماء الله مشتقة من صفاته، فكل اسم سمى به نفسه فهو متضمن كمال الصفة التي قد اشتق منها، وقد سبق أن الاشتقاق لا يلزم أن يكون معناه خروج هذا الفرع من أصل، وإنما هو للتكامل في المعنى، والله أعلم. وعلى هذا فإن معنى الرءوف أنه يرأف بعباده ويلطف بهم، فلا يسوغ لك ولا يجوز إذا أردت من الله سبحانه وتعالى أن يهلك الظلمة الفسقة الذين طغوا في البلاد أن تقول: يا رءوف! عليك بالطاغية فلان؛ لأن هذا استعمال للاسم في غير المسمى الذي اتصف به، بل قل: يا رءوف! ارأف بالمظلومين، يا جبار! عليك بالظلمة والطواغيت، وهذا هو المراد. فالله متضمن للألوهية التي هي معنى توحيد الألوهية، وأما الرزق والربوبية، وكمال النفع وزوال الضر فإنما هو من اسم الرب جل جلاله، ودعاء العبد لما يريد يكون على حسب أسمائه وصفاته، وعلى هذا فإن من وافق اسم الله الأعظم حاز شيئاً لم ينله أحد، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لـجويرية : ( ما زلت في المكان الذي فارقتك عليه؟ قالت: نعم. قال: لقد قلت بعدك كلمات لو وزنت بما قلت لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته )، فلما وافق صلى الله عليه وسلم مراد الله في أسمائه وصفاته، والتذلل والتعبد على حسبها، نال ما لم ينل كثير العبادة إذا لم يوافق مراد الله في أسمائه وصفاته. ولهذا قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله: من واظب أربعين مرة ما بين أذان الفجر إلى الصلاة على تكرار: يا حي! يا قيوم! لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، صار له حياة القلب والعقل. هذا كلام أبي العباس، يقول ابن القيم فيه: سمعت شيخنا مراراً يقول أكثر من مرة هذا الأمر، وهذا ليس معناه أن أربعين مرة حد، ولكنه يقصد أنه يقولها كثيراً، كأربعين أو أكثر، هذا هو المراد: أن الإنسان يتعبد الله بأسمائه وصفاته على حسب مراده، فهو لم يقصد أنها أربعين بعد معدود؛ لأنه هو الذي قرر قاعدة البدعة في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم)، فيبعد أن تخفى عليه مثل هذه المسائل، ولكنه قصد رحمه الله أن يداوم الإنسان على شيء كثير، وأنا قلت هذا المثال قصداً، والله أعلم. وقال بعض المشايخ: إن عدد أربعين مرة جاء فيه أحاديث، منها: ( من قال أربعين مرة: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات لم يبق في قلبه على إخوانه شيء )، أو كما قال، كما جاء بعضه عند الطبراني. وإنما خص هذا الدعاء؛ لأنه اشتمل على اسم الله الأعظم، الذي هو الحي القيوم. يقول ابن القيم رحمه الله عندما ذكر هذا عن شيخ الإسلام في المدارج، قال: ومن تجريبات السائلين التي جربوها فألفوها صحيحة، أن من لازم (يا حي! يا قيوم! لا إله إلا أنت أورثه ذلك حياة القلب والعقل، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه شديد اللهج بها جداً. و الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1] جاء تفسيرها عن السلف بمعان، وكلها بإذن الله لا يخالف بعضها بعضاً، فجاء أن الرحمن هو رحمان الخلق أجمعين، رحمان لمسلمهم وكافرهم، ذكرهم وأنثاهم، والرحيم خاص بالمؤمنين، فهي رحمة خاصة: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43]. وقال بعضهم: الرحمن صفة ذاتية، وهي الصفة التي اتصف الباري بها، وأما الرحيم فهي الصفة الفعلية التي يرحم بها عباده، وإن كانت بالمؤمنين أخص، ولا خلاف بين القولين، والله أعلم، لأن الرحمن رحمان الخلق أجمعين؛ لأنه سبحانه متصف بها فكان من لازمها رحمته للخلق أجمعين، والله أعلم. قال المؤلف رحمه الله: [وقال رحمه الله أيضاً: الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم]. فعلى هذا الرحمن صفة ذاتية، والرحيم صفة فعلية؛ لأنها متعلقة بالمرحوم، والله أعلم. قال المؤلف رحمه الله: [وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43]، إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:117]، ولم يجئ قط رحمان بهم. وقال: إن أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت، فإنها دالة على صفات كماله، فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية، فالرحمن اسمه تعالى ووصفه، فمن حيث هو صفة جرى تابعاً لاسم الله، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع; بل ورد اسماً علماً كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، انتهى ملخصاً]. هذا كما قلت هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للمعتزلة الذين يقولون: هو اسم بلا مسمى، هو عليم بلا علم، سميع بلا سمع، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فهم وصفوا الله بأسماء مجردة خالية من معانيها، وقالوا: إننا لو قلنا: سميع له سمع للزم من ذلك تعدد الآلهة، نقول: لا يلزم، فالإنسان يوصف بصفات كثيرة، فيقال: فلان شجاع وقوي وكريم وجواد، وهو واحد فإذا جاز ذلك في المخلوق فصفات الكمال المطلق لله أولى، ولله المثل الأعلى، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة:2]، معناه الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على وجه التعظيم. فمورده: اللسان والقلب. والشكر يكون باللسان والجنان والأركان. فهو أعم من الحمد متعلقاً، وأخص منه سبباً; لأنه يكون في مقابلة النعمة]. الآن عندنا الحمد وعندنا الشكر، فالحمد والشكر بينهما عموم وخصوص وجهي، فالحمد أعم من وجه وأخص من وجه، والشكر أعم من وجه وأخص من وجه، فإذا جئنا إلى سبب هذا وجدنا أن الحمد أعم، فإن الإنسان يحمد ربه لأمرين: الأمر الأول: لما أنعم عليه من النعم، وأسدى إليه من جزيل الثواب والكرم. الأمر الثاني: لما هو سبحانه متصف به من صفات الكمال المطلق، فإنك تحمده لكمال صفاته وعظيم جلاله، وهو يحب منك أن تمدحه، ويحب منك أن تثني عليه، ولهذا فمن وقع في المعصية فإن الله يغضب منه حينما يعصيه، فكان مما يطفئ غضب الرب هو أن تكثر من ثنائه، وأن تكثر من حمده، وأن تكثر من اللهج بثنائه سبحانه، ولهذا أشار كل نبي من أولي العزم: ( إن الله قد غضب اليوم غضباًَ لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله )، فكل واحد من الأنبياء يقول: ( نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، فيأتون الذي هو بربه أعلم، وبربه أدرى صلى الله عليه وسلم، فيقولون له: يا محمد! أنت خاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: أنا لها أنا لها، ثم يقول: فأقع تحت العرش ساجداً لربي، فيلهمني الله من محامده، وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد قبلي، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع، فيقول: ربي! أمتي أمتي ). فالله سبحانه وتعالى شفع في سيد الأنبياء والمرسلين للخلق أجمعين بسبب كثرة ثنائه وإلهامه بهذا الأمر، وهذا يدل على أن الإنسان ينبغي له أن يكثر من الثناء. وحينئذ يقال: أيهما أفضل الاستغفار أم التسبيح؟ وهذا سؤال دائم، الأصل أن الاستغفار من لازمه الثناء، لأنك حينما تستغفر تعلم أنه لا يغفر الذنب ولا يأخذ بالذنب إلا الله، فكان من لازمه إثبات صفات الكمال، ولكن الحمد متضمن لطلب المغفرة، فكان الحمد والثناء والتسبيح أعظم من الاستغفار، والله أعلم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( خير ما قلت أنا والأنبياء من قبلي يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )؛ لأن الحمد متضمن للمغفرة، وأما طلب المغفرة فمن لازمها كمال الحمد والثناء، ولهذا كان التسبيح أفضل، والله أعلم. أما الشكر فإنك لا تشكره إلا لأجل أنه أكرمك وشفاك وأنعم عليك أو أعطاك من جزيل العطايا, فلا يكون إلا لسبب واحد، وهو أنه أنعم عليك. أما المتعلق: يعني بما يكون الحمد؟ وبما يكون الشكر؟ فإن الشكر حينئذ يكون أعم من الحمد، فإن الحمد يكون باللسان والقلب، أما الشكر فيكون باللسان، ويكون بالقلب، ويكون أيضاً بالجوارح، وفي الصحيحين من حديث أنس أعد النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها )، ففي هذا الحديث الحث على الحمد، وهو يكون باللسان، وأما شكرك لنعم الله عليك فلا يكون فقط بلسانك؛ بل يكون أيضاً بجوارحك؛ بأن تنعم على الفقير، وتطعم الجائع، وتواسي المحتاج، فهذا من أعظم الشكر: ( عبدي! استطعمتك فلم تطعمني؟ قال: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان استطعمك، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي )، فهذا من أخص الشكر. قال رحمه الله: [ والحمد أعم سبباً وأخص متعلقاً; لأنه يكون في مقابلة النعمة وغيرها، فبينهما عموم وخصوص وجهي]. يعني: يكون في مقابلة النعمة؛ لأنه أسدى إليك، ولأجل أنه متصف بصفات الكمال المطلق، والله أعلم. قال المؤلف رحمه الله: [يجتمعان في مادة، وينفرد كل واحد عن الآخر في مادة]، هذا معنى العموم والخصوص الوجهي.

قال المؤلف رحمه الله: [ قوله: وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم: أصح ما قيل في معنى صلاة الله على عبده ما ذكره البخاري رحمه الله تعالى عن أبي العالية ، قال: صلاة الله على عبده ثناؤه عليه عند الملائكة، وقرره ابن القيم رحمه الله ونصره في كتابيه: (جلاء الأفهام)، و(بدائع الفوائد)]. الصحيح أن اسمه (جِلاء الأفهام) بكسر الجيم، وليس (جَلاء الأفهام) بفتحها، و(بدائع الفوائد) هذا الكتاب العظيم كتبه ابن القيم مما يذكره من فوائده وفرائده، أو ما يذكره من كتب أهل العلم من اللغة والتوحيد والحديث وغير ذلك. قال المؤلف رحمه الله: [قلت: وقد يراد بها الدعاء، كما في المسند عن علي مرفوعاً: ( الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه )]. أما الصلاة، فإن كانت صلاة الله على عبده فإن معناها ثناؤه سبحانه عليه في الملأ الأعلى، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً )، يعني: من دعا للنبي بالصلاة والمغفرة فإن الله يثني عليه في الملأ الأعلى، وهذا هو المراد. وأما الملائكة فالصحيح أن الملائكة كالبشر، فصلاتهم يعني: دعاؤهم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( اللهم صل على آل أبي أوفى )، يعني: صلاة دعاء، ومعناه: اللهم أثن على آل أبي أوفى.

ثم قال: [قوله: وعلى آله، أي: أتباعه على دينه، نص عليه الإمام أحمد هنا، وعليه أكثر الأصحاب، وعلى هذا فيشمل الصحابة وغيرهم من المؤمنين. كتاب التوحيد: (كتاب) مصدر كتب يكتب كتاباً وكتابة وكتباً، ومدار المادة على الجمع، ومنه: تكتب بنو فلان، إذا اجتمعوا، والكتيبة لجماعة الخيل، والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف، وسمي الكتاب كتاباً لجمعه ما وضع له. والتوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وتوحيد في الطلب والقصد، وهو توحيد الإلهية والعبادة]. هذا التوحيد له طريقتان في القسمة: الطريقة الأولى: هي الطريقة التي تحدث عنها علماء الكلام وأهل السنة والجماعة، وهي أن يقال: التوحيد توحيد المعرفة والإثبات. والثاني: توحيد الطلب والقصد. فيكون القسم الأول شاملاً لتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات. والنوع الثاني: توحيد الطلب والقصد، وهو توحيد الألوهية. الطريقة الثانية: تقسيمه إلى ثلاثة أنواع: توحيد الربوبية: وهو توحيد الله بأفعاله. وتوحيد الأسماء والصفات: وهو توحيد الله بأسمائه وصفاته. وتوحيد الله بأفعال العباد: وهو توحيد الألوهية. وهذه القسمة لا مشاحة فيها، وليس ثمة جديد، فإن هذا من استقراء السلف للكتاب والسنة، فكما أنهم استقرءوا فوجدوا أن الفاعل مرفوع، وأن المفعول منصوب، وأن الفعل مبني، فهذا إنما استقرءوه من لغة العرب كما في الكتاب والسنة أيضاً، فكذلك استقرءوا هذا، وليس ثمة بدعة، والله أعلم. قال رحمه الله: [قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد. فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح; كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك]. الأول الشبهة فيه بالعلم والجحود. وأما الثاني فالشبهة فيه بعدم الانقياد والتهاون، ولهذا لم يكن الخلل في توحيد الألوهية موجوداً في عهد الصحابة، ولا في عهد التابعين، ولا في عهد أتباع التابعين، والحمد لله، وذلك لأن الرسول أساساً إنما جاء لبيان توحيد الألوهية، فهو متقرر عندهم عقلاً وقلباً، فلهذا ما جاء أحد لينفي توحيد الألوهية، إنما جاء لينفي توحيد المعرفة والإثبات، الذي هو توحيد الأسماء والصفات، والربوبية في بعض تصرفاتهم.

بداية الانحراف في التوحيد في هذه الأمة

وفي أواخر المائة الثالثة أو المائة الثانية نشأ ما نشأ من الخلل في توحيد الألوهية، ولهذا لم نجد نصوصاً للأئمة، كـأبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد في من سجد للصنم أو للقبر أو دعا غير الله؛ لأنه لم يكن هذا متوقعاً أصلاً؛ لوضوح ذلك عندهم، فلم يكن هذا موجوداً إلا حينما دخل الصوفية في الفلسفة، فأرادوا أن يجمعوا بين السلوك الذي أرادوه، وبين ما اعتقدوه في فلسفتهم، فجاءوا بأشياء. و ابن تيمية في رده على البكري ، عندما أراد أن يبين أن التوسل بالنبي نوعان: توسل بجاهه، وتوسل بدعائه. يقول: ولما ألف كتابه هذا أداره على بعض علمائه، فلم يجد من وافقه على هذا؛ لأن هذا انحراف، فلا هو صحيح من حيث اللغة، ولا من حيث العلم والإدراك، فصار هذا انحرافاً أكثر من أن يكون علماً، ويكون النوع الثاني من التوحيد بالانقياد وتركه. أما في هذا الزمان والعياذ بالله فقد ظهرت الإمبريالية والليبرالية أعني بها الليبرالية المفرطة، التي لا هي في توحيد المعرفة والإثبات، ولا هي في توحيد الألوهية، ولهذا المعتزلة والأشاعرة وغيرهم من الطوائف نفوا بعض الصفات أو الصفات كلها، كل ذلك تنزيهاً للرب كما يقولون، فما بالك في هذا الزمان بمن يستنقص الذات الإلهية، ويستنقص محمداً صلى الله عليه وسلم، فهذا لا تعظيم عندهم في توحيد المعرفة ولا الإثبات ولا انقياد عندهم، ولكنهم أرادوا إزالة التعظيم الذي في قلوب الخلق، وأنا دائماً أقول: ذكر هؤلاء على الملأ يقلل من خشوع القلب وكمال الانقياد؛ لأنك حينما تسمع من يصف الله ببعض الصفات غير اللائقة يقشعر جلدك، فإذا سمعتها مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً وعشراً هل يقشعر جلدك؟ لا يقشعر جلدك، ولأجل هذا كان محمد بن سيرين والحسن البصري وغيرهم إذا مروا بـعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء يضعون أصابعهم في آذانهم؛ لأجل ألا تستقر شبهة وليس عندهم ما يدفعها، ولكن قبل الدفع يريدون أن يبقى القلب سليماً، والله أعلم. ثم قال المؤلف رحمه الله: [النوع الثاني: ما تضمنته سورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وقوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]، وأول سورة: تنزيل الكتاب وآخرها]. يعني سورة غافر. قال المؤلف رحمه الله: [ وأول سورة المؤمن ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد، شاهدة به داعية إليه، فإن القرآن إما خبر عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته وأمره ونهيه، فهو حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد. فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم. انتهى].

علاقة التوحيد بالولاء والبراء

قال المؤلف رحمه الله: [ قال شيخ الإسلام : التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده؛ بأن يشهد أن لا إله إلا الله، لا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله]. وهذا إنما يكون إذا استقر في القلب، ولا يمكن أن يستقر في القلب ثم يعادي حزب أهل الإيمان، فإذا رأيت من يعادي بعض أهل الإسلام أو من فيه إسلام، بمعنى أنه وإن وقع في بعض الكبائر، فإذا رأيته يحارب هؤلاء فاعلم أن التوحيد لم يستقر تمام الاستقرار في قلبه، وإلا فلو استقر كمال التوحيد في قلبه لعظم جانب التوحيد الذي في قلب أخيه، ولهذا انظر إلى كمال التوحيد في قلب محمد صلى الله عليه وسلم حينما جاءه عبد الله بن حمار فكان يقيم عليه الحد فلما سبه أحد الصحابة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تلعنوه؛ فإنه يحب الله ورسوله )، فإذا كانت محبة الله ومحبة رسوله سبباً لمدافعة النبي عن عرضه، ومحبته له وقربه منه، دل ذلك أن كمال التوحيد في قلب العبد لا يكون إلا إذا نافح عن أهل الإيمان واغتفر لهم، ولهذا تجد أن في كل كتب أهل الإيمان، في العقائد يذكرون في آخر الكتاب أن أهل السنة والجماعة هم أرحم الخلق بالخلق، فإذا رأيت من لا يرحم الخلق فاعلم أن كمال التوحيد ليس في قلبه؛ لأن كمال التوحيد متضمن رحمة الخلق. إما رحمتهم لموافقتهم لما عنده: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43]، وإما رحمته لهم لفقد التوحيد أو كماله في قلوبهم فهو يشفق، ويتودد ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يعطيهم ما أعطاه، فهذا هو الكمال، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم حينما فتح الله له مكة، كان صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي مطأطئ الرأس؛ لئلا يكون ذلك فخراً ولا خيلاء. ولهذا عندما قال سعد بن عبادة : ( اليوم يوم الملحمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذب سعد بن معاذ، اليوم يوم الرحمة ). فهذا يدل على عطفه صلى الله عليه وسلم بمن لم يكن معه التوحيد الكامل أو ليس معه التوحيد أصلاً، ولهذا قال: ( ما ترون أني صانع بكم، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: انطلقوا، فأنتم الطلقاء ).

المقصود بالتوحيد عند أهل البدع

قال المؤلف رحمه الله: [وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، قال تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، وقال تعالى: وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل:51]، وقال تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]. وأخبر عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وقال: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4]، وقال عن المشركين: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:35-36]، وهذا في القرآن كثير. وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية: وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد، فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحداً حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، والإله: هو المألوه المعبود الذي يستحق العبادة]. ولهذا تجد كثيراً من المفكرين يستهويه كلام بعض العلماء الذين لم يدخلوا في الإسلام، ولكنهم انبهروا بعظيم جلاله، وحسن صنيعه في خلقه، فإذا كتبوا ذلك، قال: فلان أسلم؛ لأنه شهد توحيد المعرفة، وهذا ليس بإسلام، بل الإسلام مع هذا انقياد وإفراد الله بالإلهية، ومن دون ذلك فليس بمسلم، ولو وحد الله توحيد المعرفة؛ لأنه لابد مع توحيد المعرفة من توحيد الألوهية. والعجيب أن بعض أهل الطوائف كالصوفية والأشاعرة بالغوا في إثبات توحيد الربوبية حتى فسروا معنى (لا إله إلا الله) التي عرفها أبو جهل أنها إفراد الله بالعبادة والتأله- قالوا: لا خالق إلا الله، ولا موجود إلا الله، ففسروها بتوحيد المعرفة والإثبات، ولم يفسروها بتوحيد الطلب والقصد. نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.