خطب ومحاضرات
صفحة صدق
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أما بعد: عباد الله! اتقوا الله واعلموا أن المحن محك لايخطئ، وميزان لا يظلم؛ يكشف عما في القلوب؛ ويظهر مكنونات الصدور؛ ينتفي معه الزيف والرياء؛ وتنكشف معه حقيقة الصدق بجلاء.
إن المحن تطهير ليس معه زيف ولا دخل، وتصحيح لا يبقى معه غبش ولا خلل؛ إنها لتفتح في القلب منافذ ما كان ليعلمها المؤمن من نفسه لولا المحن.
قد يظن الإنسان في نفسه قبل المحن التجرد والنزاهة؛ فإذا وقعت الواقعة تبين من بكى ممن تباكى، تميز الغبش من الصفاء، والهلع من الصبر، والصدق من الكذب، والثقة من القنوط، عندها يدرك المرء أنه بحاجة إلى تمحيص ومراجعة، فمن الخير له أن يستدرك نفسه قبل أن يكون عبرة ويقع ضحية: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [آل عمران:154].
بالمحن تستيقظ الضمائر، وترق القلوب، وتتوجه إلى بارئها؛ تضرع إليه وتطلب رحمته وعفوه معلنةً تمام العبودية والتسليم الكامل له، لا حول ولا قوة إلا به، لا مهرب منه إلا إليه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا معقب لحكمه، لا إله إلا هو
باقٍ فلا يفنى ولا يبيد ولا يكون غير ما يريد |
منفرد بالخلق والإرادة وحاكم جل بما أراد |
سبحانه وبحمده!
عباد الله: وصور المحن والمنح في السيرة كثيرة وجليلة، وجديرة بالتملي والتأمل، والحديث كما تعلمون بل كما تشعرون عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحبه، حديث تحبه وتجله النفوس المؤمنة، تأنس به قلوب بالإيمان هانئة مطمئنة، حبه في شغاف القلوب والأفئدة، وتوقيره قد أُشْرِبَتْ به الأنفس، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
فَهَلُمَّ هَلُمَّ عباد الله! لنتصفح ونتفحص صفحة صدق بيضاء ونقية لنرى من خلالها المحنة بكل صورها -وبالصدق تتخطى- لنعلم عبرها وعظاتها؛ فقد مُلِئَتْ عِبَرَاً وعَبَرَات، وفكراً ونظرات، دموعاً حَارة وحسرات، هجر الأقربين فيها شديد المظاظة، ومع ذلك بارز وظاهر، وتزلف المناوئين والمنافقين فيها مشرئبٌ زاخر.
صفحة مُلِئَت بأحداثٍ تذرف منها الدموع، وتخشع لها القلوب.
صفحة جسدت الصدق والإخلاص والقدوة في الصبر على الضراء والشكر على السراء تطبيقاً عملياً ماثلاً.
إنها صفحة بُدِئَت باستنفار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه لملاقاة من؟
لملاقاة الروم يوم تحركوا بعسكرهم وفكرهم ودسائسهم ليطفئوا نور الله بأفواههم: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
إنه استنفار وأي استنفار! في أيام قائظة، وظروف قاسية، في جهد مضنٍ ونفقات باهظة، طابت الثمار، واستوى الظلال، وعندها بدأ الامتحان؛ ليسطر في آيات الكتاب بإفاضة واستيعاب.
أفاضت آيات الله في أنباء الطائعين والمثبطين، واستوعبت أنباء المخلصين والقاعدين، فيالها من مشاهد وأحداثٍ في تنوع مثير!
يجيء المعذرون لِيؤذن لهم، ويقعد الذين كذبوا الله ورسوله، ويتولى الذين لم يجدوا ما يحملون عليه بفيض دموعهم حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، ويرجف المرجفون: لا تنفروا في الحر ونار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون، والساقط في الفتنة يقول: ائذن لي ولا تَفْتِنِّي وفي الفتنة وقع، ( فر من الموت وفي الموت وقع).
وآخرون يلمزون ويسخرون من المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله.
ومنهم رجال تخلفوا عن ركب المؤمنين لا عن شكٍ ولا عن نفاق، لكن غلبتهم أنفسهم، وأدركهم ضعفهم البشري، مع سلامة إيمانهم ومعتقدهم رضي الله عنهم وأرضاهم على رأس هؤلاء صحابي جليل، مجاهد نحرير، لن يبلغ ألف رجل منا بالقول ما بلغه مرة واحدة بالفعل، لكنه بشر -تبقى له بشريته- غير معصوم.
لنقف مع صفحة من صفحات حياته، صفحة تتضمن قصة الخطيئة، وحقيقة التوبة؛ أهي قول باللسان، أم هي الندم الدافع لعمل الجوارح والأركان، والتأثر البالغ في النفس والجنان؟
صفحتنا مثبتة في الصحيحين ، راويها صاحب المعاناة فيها، فاسمع إليه عبد الله ،تجد كلامه يدخل الأذن بلا إذن، أصغ إليه وهو يتحدث عن نفسه ويخبرنا عن (سوف) كيف صنعت به، فيقول وقد تخلف عن تبوك : وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت راحلتان عندي قبلها قط، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا وَرَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزاة في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً وعدواً كثيراً، فجلىَّ للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد.
والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرٌ؛ لا يكاد يجمعهم كتاب، فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى ما لم ينزل وحي الله فيه، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه.
التسويف هو سبب تخلف كعب بن مالك
قال: فلم يزل بي ذلك حتى أسرعوا وتدارك الغزو وفات، وهممت أن أرتحل فأدركهم -ويا ليتني فعلت- فلم يقدر لي ذلك ويأخذ ذلك من كعب مأخذه، ويبلغ الحزن مبلغه، وتبلغ المحاسبة مبلغها. ولسان حاله يقول:
ندمت ندامةً لو أن نفسي تُطاوِعني إذًا لقطعت خمسي |
عباد الله: إن كعباً رضي الله عنه يعيش كل يوم مع (سوف)، وهذه والله ليست مشكلة كعب فحسب؛ إنها مشكلة كبيرة في أمة الإسلام: مشكلة التسويف؛ استطاع الشيطان أن يلج إلينا من هذا الباب الواسع ونحن لا نشعر، حال به بيننا وبين كثير من الأعمال قد عزمنا على فعلها وقلنا: سوف نعملها ولم نعمل، كم من مذنب قال: سوف أتوب وداهمه الموت وما تاب! كم من باغ للخير عازم عليه وأدركه الموت ولم يستطع ذلك؛ حال بينه وبينه الموت!
كم من عازم على الخير سوفه، كم ساع إلى فضيلة (سوف) ثبتطه وقيدته، فالحزم الحزم في تدارك الأمور وترك التسويف! فإن (سوف) جندي من جنود إبليس
فاطرح سوف وحتى فإنهما داء دخيل |
يقول كعب : فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحزنني ألا أرى أسوة لي إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذره الله من الضعفاء والذين لا يجدون ما ينفقون، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال -وهو جالس بين أصحابه-: {ما فعل
يا أيها المسلمون: إن معاذاً رضي الله عنه لم يسعه السكوت وهو يرى من ينال من عرض أخيه المسلم فبادر بالإنكار، لم تغلبه المجاملة فيسكت كما يفعل البعض، كيف يسكت وهو يعلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه}، {من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة} ويعلم أيضاً أن الساكت كالراضي والراضي كالفاعل؟!
كعب بن مالك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من تبوك
والله -يا رسول الله- ما كان لي من عذر، والله ما كنت أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك
}.صِدْقٌ ووضوحٌ وصراحةٌ، لا التواء ولا مراوغة.
علم كعب أن نجاته في الدنيا والآخرة إنما هي بالصدق، وقد هدي ووفق إلى الرشد والصواب، والموفق من وفقه الله.
يقول كعب : فقمت وسار رجال من بني سلمة، فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك -يا كعب - قد أذنبت ذنباً مثل هذا، أوقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر له المخلفون؟ قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك: يقول: فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع، فأُكذِّب نفسي.
عباد الله: ما أشد خطر صديق السوء! كاد يهلك كعب بسبب بني عمومته الذين يظهرون بمظهر الناصح المشفق وهم يدفعون به إلى وادٍ سحيق من الهلاك، هلك فيه جمع كبير من المنافقين.
إنها مقالة ويا لها من مقالة! كثيراً ما تتكرر في مجالسنا! يتهمون الصادق بأنه طيب القلب غِرٌ لا يحسن المراوغة ولا المخارج، ويصفون الكاذب بالذكي الألمعي العبقري، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم! أرأيت هؤلاء عندما وصفوا الأمر لـكعب بأنها أول كذبة ولا ضير فيها، وسيعوضها استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وكل ذلك وسائل لتزيين الباطل؛ يبهرجها قرين السوء من حيث شعر أو لم يشعر.
فمن العداوة ما ينالك نفعه ومن الصداقة ما يضر ويؤلم |
يقول: فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: سوف أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئاً.
قال: فلم يزل بي ذلك حتى أسرعوا وتدارك الغزو وفات، وهممت أن أرتحل فأدركهم -ويا ليتني فعلت- فلم يقدر لي ذلك ويأخذ ذلك من كعب مأخذه، ويبلغ الحزن مبلغه، وتبلغ المحاسبة مبلغها. ولسان حاله يقول:
ندمت ندامةً لو أن نفسي تُطاوِعني إذًا لقطعت خمسي |
عباد الله: إن كعباً رضي الله عنه يعيش كل يوم مع (سوف)، وهذه والله ليست مشكلة كعب فحسب؛ إنها مشكلة كبيرة في أمة الإسلام: مشكلة التسويف؛ استطاع الشيطان أن يلج إلينا من هذا الباب الواسع ونحن لا نشعر، حال به بيننا وبين كثير من الأعمال قد عزمنا على فعلها وقلنا: سوف نعملها ولم نعمل، كم من مذنب قال: سوف أتوب وداهمه الموت وما تاب! كم من باغ للخير عازم عليه وأدركه الموت ولم يستطع ذلك؛ حال بينه وبينه الموت!
كم من عازم على الخير سوفه، كم ساع إلى فضيلة (سوف) ثبتطه وقيدته، فالحزم الحزم في تدارك الأمور وترك التسويف! فإن (سوف) جندي من جنود إبليس
فاطرح سوف وحتى فإنهما داء دخيل |
يقول كعب : فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحزنني ألا أرى أسوة لي إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذره الله من الضعفاء والذين لا يجدون ما ينفقون، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال -وهو جالس بين أصحابه-: {ما فعل
يا أيها المسلمون: إن معاذاً رضي الله عنه لم يسعه السكوت وهو يرى من ينال من عرض أخيه المسلم فبادر بالإنكار، لم تغلبه المجاملة فيسكت كما يفعل البعض، كيف يسكت وهو يعلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه}، {من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة} ويعلم أيضاً أن الساكت كالراضي والراضي كالفاعل؟!
يقول كعب : فلما بلغني أنه قد توجه قافلاً -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- حضرني همي -حضره بثه وحزنه- قال: فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بِمَاذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي؛ فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه. ويا له من رأي! وقدم صلى الله عليه وسلم، ثم جلس للناس، وجاءه المُخلَّفون يعتذرون إليه ويحلفون له، فقبل منهم صلى الله عليه وسلم علانيتهم، ووكَل سرائرهم إلى الله -وهذا هو منهجنا- وجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسُّم المغضب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال: {ما خلَّفك يا والله -يا رسول الله- ما كان لي من عذر، والله ما كنت أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك
صِدْقٌ ووضوحٌ وصراحةٌ، لا التواء ولا مراوغة.
علم كعب أن نجاته في الدنيا والآخرة إنما هي بالصدق، وقد هدي ووفق إلى الرشد والصواب، والموفق من وفقه الله.
يقول كعب : فقمت وسار رجال من بني سلمة، فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك -يا كعب - قد أذنبت ذنباً مثل هذا، أوقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر له المخلفون؟ قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك: يقول: فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع، فأُكذِّب نفسي.
عباد الله: ما أشد خطر صديق السوء! كاد يهلك كعب بسبب بني عمومته الذين يظهرون بمظهر الناصح المشفق وهم يدفعون به إلى وادٍ سحيق من الهلاك، هلك فيه جمع كبير من المنافقين.
إنها مقالة ويا لها من مقالة! كثيراً ما تتكرر في مجالسنا! يتهمون الصادق بأنه طيب القلب غِرٌ لا يحسن المراوغة ولا المخارج، ويصفون الكاذب بالذكي الألمعي العبقري، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم! أرأيت هؤلاء عندما وصفوا الأمر لـكعب بأنها أول كذبة ولا ضير فيها، وسيعوضها استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وكل ذلك وسائل لتزيين الباطل؛ يبهرجها قرين السوء من حيث شعر أو لم يشعر.
فمن العداوة ما ينالك نفعه ومن الصداقة ما يضر ويؤلم |
وأُعلِنَت المقاطعة لهذا ولصحبه؛ بل التربية النبوية العميقة، يقول كعب : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا -نحن الثلاثةَ- من بين كل من تخلَّف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت لي الأرض؛ فما هي بالأرض التي أعرف، ولبثنا على ذلك خمسين ليلة، وكنت أَشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف الأسواق، فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلِّم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرَّكَ شفتيْه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه صلى الله عليه وسلم فأسارقُه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إليَّ، وإذا الْتفتُّ نحوه أعرض عني.
بكاء كعب بن مالك من شدة المقاطعة
وانظر أخي في الله كيف تكاتف المجتمع المسلم بكامله وامتثل الأمر الموجه إليه، فلا أحد يكلمه حتى ولو كان ذلك في غيبة أعين الرقباء، نعم. إن الرقابة لله! حتى ولو كان ابن عمه، نعم. إن المراقبة لله! إن أضر شيء على المجتمع أن يجد أهل الفسق والفجور صدوراً رحبة تحتضنهم وترضى عنهم وتبجلهم وتقدرهم، ولو أن العصاة والمنحرفين وجدوا مقاطعة وازدراءً عاماً لكان دافعاً إلى أن يرشد الغاوي ويستقيم المعوج ويصلح الطالح.
انظر لذلك الأسلوب التربوي العميق المتمثل في تلك المقاطعة النفسية والاجتماعية التي شملت مختلف مجالات الحياة الاجتماعية في الأسواق وفي المساجد ومع الأصدقاء بل حتى مع بني العمومة بل مع الزوجة، فلم تترك منفذاً يمكن أن يخل بهذه المقاطعة أو يحول دون تحريك الغاية التربوية منها، كان لذلك تأثير عميق على النفوس الخيرة التي تعودت أن تألف وتؤلف، وذلك عين الحكمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقضي باللين في مكانه والشدة في مكانها، وهذا ما يحتاجه الناس في دعوتهم وتعاملهم وتربيتهم لمن تحت أيديهم.
ملك غسان يحاول استمالة كعب أيام محنته
يقول كعب : فبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبَطي من أنباط أهل الشام يسأل أهل السوق: من يدل على كعب ؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً؛ ممن؟ من مَلِك غسَّان؛ فإذا فيه: أما بعد: قد بلغني أن صاحبك -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد جَفَاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ومضيعة؛ فَالْحَقْ بنا نُواسِك.
قال: فلما قرأتُها قلت أيضاً: هذا من البلاء -هذا من الامتحان- ثم تيممت بها التَّنور، فسجرته بها -أحرقها يا عباد الله- هذا هو ديدن أعداء الله يتحسسون الأنباء ويترصدون الفرص والأخبار، وكم من أقدام في مثل هذا زلَّت وانزلقت.
إن المسلم قد يخطئ لكنه لا يعالج الخطأ بخطأ آخر؛ قد يخطئ فيتخلف عن الغزو في سبيل الله، لكنه لا يتبع هذا بخيانة الأمة وموالاة أعداء الله ومظاهرتهم على المؤمنين.
إن أداة المعصية حين تكون قريبة فإنها تذكر بالمعصية، وتفتح للشيطان باب الوسوسة والمراودة الكرةَ بعد الكرةَ، أما كعب فقد تخلص من هذه الأداة، فأحرقها حتى يغلق مثل هذا الباب رضي الله عنه وأرضاه، وهذا هو الحل.
إن آلة المعصية التي توجد في المنازل وفي المكاتب وفي غيرهما حين تترك -بعد العلم بضررها والتوبة منها- مدعاة لأن يضعف أمامها يوماً ما، ويعاود القرب منها والممارسة لها إلا من عصم الله، فلينتبه وليتخلص منها كما فعل كعب بالرسالة، يمم بها التنور فسجرها، ولا يزال البلاء والتمحيص بـكعب؛ حتى أمر باعتزال زوجته، فامتثل الأمر واعتزلها وطلب منها اللحاق بأهلها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
استمع المزيد من الشيخ علي بن عبد الخالق القرني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
صور وعبر | 2803 استماع |
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا | 2674 استماع |
هلموا إلى القرآن | 2497 استماع |
الإكليل في حق الخليل | 2496 استماع |
أرعد وأبرق يا سخيف | 2410 استماع |
هكذا علمتني الحياة [2] | 2408 استماع |
أين المفر | 2328 استماع |
اسألوا التاريخ | 2276 استماع |
حقيقة الكلمة | 2243 استماع |
الأمر بالمعروف | 2202 استماع |