صور وعبر


الحلقة مفرغة

الحمد لله المبدئ المعيد، الغني الحميد، ذي العفو الواسع والعقاب الشديد، من هداه فهو السعيد السديد، ومن أضله فهو الطريد البعيد، ومن أرشده إلى سبل النجاة ووفَّقه فهو الرشيد،

يعلم ما ظهر وما بطن، وما خفي وما علن، وما هَجُن وما حَسُن، وهو أقرب إلى الكل من حبل الوريد.

قسَّم الخلْق قسمين، وجعل لهم منزلتين، فريق في الجنة وفريق في السعير، إنَّ ربك فعال لما يريد: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]. أحمده وهو أهل الحمد والتحميد، وأشكره والشكر لديه من أسباب المزيد.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العرش المجيد، والبطش الشديد، شهادة تكْفُل لي عنده أعلى درجات أهل التوحيد، في دار القرار والتأييد.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، أشرف من أظلَّت السَّماء، وأقلَّت البِيدُ، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا وعلى آله وأصحابه أولي العون على الطاعة والتأييد، صلاةً دائمةً في كل حين تنمو وتزيد، ولا تنفد ما دامت الدنيا والآخرة ولا تبيد.

روحي الفداء لمن أخلاقه شهدت     بأنَّه خير مبعوثٍ من البشرِ

عمَّت فضائله كل البلاد كما     عمَّ البرية ضوء الشمس والقمرِ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته: أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذا الاجتماع ذخرًا لي ولكم في يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وأن يجعله من صالحات الأعمال، وخالصات الآثار، وباقيات الحسنات إلى آخر الأعمار.

اللهم اكتب لنا به أجرًا، وارفع به ذكرًا، واجعله لنا ذخرًا.

اللهم اجعل سرائرنا خيرًا من علانيتنا، وأعمالنا خيرًا من أقوالنا .. اللهم أنِرْ بصائرنا، وثبتنا على الحق حتى نلقاك، واجعل حديثنا حديث قلب لقلوب، أنت أكرم مسئول على الدوام، وأحق من يُرْتَجَى منه حسن الختام.

صور وعبر الحلقة الثانية: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يفْتَرَى [يوسف:111].

أحبتي في الله: إن الصحابة الأبرار -كما تعلمون- هم حملة الإسلام وحفظته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختارهم الله واصطفاهم لصحبة نبيه، ونشر رسالته من بعده .. عدَّلهم وزكَّاهم، ووصفهم بأوصاف الكمال في غير ما آية من كتابه، رضي الله عنهم ورضوا عنه .. نوعٌ فريد من الرجال، عدول ثقات صالحون، حازوا قَصبَ السبق في كل شيء، لم تعرف البشرية لهم نظيرًا .. قمة في التقوى والورع .. آية في التجرد والإخلاص .. مِشْعَل في العلم والعمل .. نِبْرَاس في الدعوة إلى الله.

تالله لقد وردوا الماء عذبًا زلالاً، وأيدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحدٍ مقالاً .. فتحوا القلوب بالقرآن، وفتحوا القرى والمدائن به وبالسنان .. هم أنصار الدين في مبتدأ نشأته، بذلوا المُهج يوم بخل أهل الدراهم بدراهمهم .. رجال المغارم يوم يندس المغرورون في ثيابهم، هم لله -عز وجل- قلوبًا وأبدانًا ودماءً وأموالاً.

لم يجعلوا همَّهم حشو البطون ولا      لبس الحرير ولا الإغراق في النعم

حفظوا الشرع من أهواء الزائغين، وحموا الملة من زحف المناوئين .. شهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل .. حملوا الوحْيَين، وحضروا البيعتين، وصلَّوا أو أغلبهم صلى إلى القبلتين.

كلهم له همٌّ، وهمهم رفعة لا إله إلا الله، وكلهم له قصد، وقصدهم الجليل في علاه .. خرجوا من أموالهم لله ولرسوله، فما شفا ذلك لهم غليلاً، فأبوا إلا أن يقدموا الجماجم، ويسيلوا الدماء، ويستعذبوا العذاب في ذات ربهم .. فرضي الله عنهم وأرضاهم، وأكرم في جنات الخلد مثواهم:

بيضُ الوجوه ترى بطون أَكُفِّهِم     تندى إذا اعتذر الزمانُ الممحلُ

من كان متأسيًا فليتأس بهم؛ فهم أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا، وأقومها هَدْيًا، وأحسنها حالاً.

همُ الرجال بأفياء الجهاد نَمَوْا     وتحت سقفِ المعالي والنَّدى وُلِدُوا

جباهُهم ما انحنت إلا لخالقها     وغير من أبدع الأكوان ما عبدوا

الخاطبون من الغايات أكرمها     والسابقون وغير الله ما قَصَدُوا

ومن هنا؛ فإن الكلام عن هؤلاء العظماء، وكشف الستار عن الصفحات الناصعة التي سطروها، واجب محتم علينا في هذا العصر الذي نعيش فيه معمعة الأفكار، واضطراب الموازين، وموالاة الكفار، والوقوع في الصحابة الأبرار.. واجب لردع أهل الهوى من الزنادقة والملاحدة، وأهل الكفر والابتداع الذين انتقصوا وسبُّوا خير جيل وطائفة وُجِدَت على وجه الأرض؛ لا لشيءٍ إلا لأنهم حَمَلة الإسلام، ورواة الأحاديث التي تهدم بِدَعهم، وتُظهر ضلالهم، وتُبْرز خُبْث طويتهم، قاتلهم الله! وقاتل كل من حادَ عن كتاب الله وسُنَّة مصطفاه، واتَّبع غير سبيل المؤمنين!

فهَلُمَّ هلم، وحيهلا بكم -أيها الأحبة- لنعيش الليلة معكم في ظلال محطة صور، ومائدة عبر، من حياة عَلَم آخر في سلسلة أعلام هذه الأمة المباركة .. علم يجب على الأمة أن تجعله وصحبه حديث شيوخها في السمر، وقصص أطفالها الذين لطالما أشغلوا بالقصص الهابط، والرسوم المتحركة، وحديث شبابها في منتدياتهم ونواديهم التي لطالما شُغلت بالحديث عن اللاعبين والفنانين والساقطين والساقطات.

إنه من أظهر إسلامه يوم كانوا يخفونه .. إنه من تقلَّد سيفه وتنكب قوسه، وأخرج أسهمه، وأتى الكعبة وأشراف قريش في فنائها، فطاف سبعًا رغم أنوفهم، وصلى ركعتين، وأتى حلقهم واحدة واحدة يقول: [[شاهت الوجوه، من أراد أن تثكله أمه، وييتم ولده، وترمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي]] فما تبعه أحد.

إنَّه مرقع القميص، وبين يديه الغالي والنفيس، إنَّه من يسلك الشيطان فجًا غير فجه، إنَّه الوقَّاف عند كتاب الله، المجاهد في سبيل الله، إنَّه القِيَم والمُثُل بعينها، وما أروع المثل يوم تكون رجالاً فتكون الأخلاق فِعالاً!

إنَّه العادل إنْ ذكر العادلون، هو من سهر لينام الناس، وجاع ليشبع الناس، هو من جعل كبير المسلمين أبًا، وأوسطهم أخًا وأصغرهم ولدًا.

هو من لا تأخذه في الله لومة لائم، هو قائل الحق ولو كان مرًّا، إنَّه من اشترى أعراض المسلمين من أحد الشعراء بثلاثة آلاف درهم، حتى قال ذلك الشاعر:

وأخذت أطراف الكلام فلم تدعْ     شَتْمًا يضر ولا مديحًا ينفعُ

ومنعتني عِرض البخيل فلم يَخَفْ     شتمي وأصبح آمنا لا يفزعُ

زلزل عروش الظالمين، ودكَّ قلاع الأكاسرة والقياصرة، وخضعت لعدالته الجبابرة والأباطرة، وهَوَت عناكب الظلم أمام رايات عدله الخفَّاقة وفتوحاته المظفرة، فَأَرْغَم أنوف الروم، وحطم كبرياء الفرس، وأخرج المغضوب عليهم -اليهود- من جزيرة العرب ؛ لغدرهم ونقضهم العهود، أخرجهم أذلةً صاغرين.

إنَّه الزاهد العالم العابد الغيور الخائف من الله وكفى. أظنكم قد عرفتموه، إنَّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولعنة الله على من أبغضه وعاداه.

نور أضاء سطور التاريخ، وغرة في جبين الزمان، أُمَّة في رجل، إمام همام، مميت الفتن، ومحيي السُّنَنَ.

عمر الذي لا يجهله أحد، وفي نفس اللحظة قلَّ أن يعرفه أحد في هذا العصر. يعرف بعضهم بعض أخباره، ونتفًا من نسبه وأعماله ، أما روح تلك الأخبار فلا يدركها إلا من تأملها من الأخيار، وإني لأرجو الله أن نكون وإياكم من أولئك الأبرار.

مراكبُ أهل الهوى أتخمت     نزولاً ومركبنا صاعدُ

إذا عدد الناس أربابهم     فنحن لنا ربنا الواحدُ

إلى صور ذات عبر من حياته، وعذرًا لن نفيه حقه في هذه العُجالة:

فأعلامُه في كل أرض خوافقُ     يدين بها شرقٌ ويخضع مغربُ

لكن حسبنا أن نقف عند بعض صور من حياته؛ وقفة عظة وتدبر واقتداء، ولأهل الهوى ردع وزجر.

هاهي محطتنا الليلة محطة عُمَريَّة ، فهل أنتم نازلون؟ وهذه مائدتنا فهل أنتم إليها مائلون؛ أم أنكم لا ترغبون؟ معذرة لأصحاب البطون؛ أعني: من لأجل رفع مستواهم المعيشي يكدون ويقلقون وفي الكلام عن المسكن والسيارة والأثاث والراتب لا يملون، وعلى هامش الحياة بلا رسالة يعيشون، بهائم في مسالخ البشر وهم لا يشعرون، هتافهم دائماً وأبداً: أين الصُحُون؟ مائدتنا تعتذرهم ثم تعتذرهم وتقول: إلي إليَّ أيها المتيقظون العاقلون المتدبرون، ومن بِسَلَف الأمة يقتدون، ومن عن التُرَّهات يترفَّعون، أنتم جميعًا مدعوون، وأنتم -إن شاء الله- رابحون: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]

يارب:

أنت العليم بظاهري وبباطني     بالسر بل أخفى وبالإعلانِ

أنت السميع لمنطقي وحروفه     أنت الخبير بموقفي ومكاني

إن لم أكن أهلاً لتوفيقٍ فمُن     فلأنت أهل المَنِّ والإحسانِ

يا رب أنت المُرتجى والمُبتَغَى     وأنا الفقير بذلتي وهواني

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحَزنَ إذا شئت سهلاً.

عظم شعور عمر بالمسئولية

الصورة الأولى: علم عمر-رضي الله عنه- أنَّ الخلافة أمانة لا استعلاء، وتكليف لا تشريف، وغُرْمٌ لا غُنْم، فقام يمشي في الأسواق بلا مواكب ولا مراكب، يطوف الطرقات، ويقضي حاجات الناس ويقضي بينهم، يَخْلُفُ الغزاة في أهلهم، يتفقد أحوال رعيته، همُّهم همُّه، وحزنهم حزنه، لينٌ قوي، حازم رحيم، راعٍ أمين، يقول تحت وطأة المسئولية -كما روى مجاهد عن عبد الله بن عمر - : [[لو مات جَدْيٌ بطرف الفرات لخشيتُ أن يحاسب الله به عمر يوم القيامة -وفي رواية- لو عثرت دابة بضفاف دجلة لخشيتُ أن يسألني الله عنها: لِمَ لمْ تُمهِّد لها الطريقَ يا عمر ؟]] يا لله! كلمات تدعو للتأمل في شخصية ذلك الرجل الذي ضربت به الأمثال في العدل والزُّهد والحرص على رعاية الأمة بالليل والنهار؛ فلا عبقري يفري فريه.

وبالمناسبة يذكر المؤرخون أن حمامة باضت في فسطاط عمرو بن العاص والي مصر آنذاك، فلما عزم على الرحيل أمر عماله أن يخلعوا الفسطاط، فلفت أنظارهم عش حمامة فيه بيض لم يفرخ بعد، فلم يُزْعِجُوا الحمامة، ولم ينتهكوا حرمة جوارها، بل أوقفوا العمل، وذهبوا إلى عمرو -رضي الله عنه- يعرضون عليه الأمر، ويأخذون رأيه فيها، فقال: [[ لا تُزْعِجُوا طائراً نزل بجوارنا، وحلَّ آمنًا في رحالنا، أجِّلُوا العمل حتى تَفْرُخَ وتطير ]].

فيا للعظمة! ويا للرحمة! حتى الطير ينعم في ظل الأمن والعدل مع العدول رضوان الله عليهم!

أيها الأحبة: إن المسلم وهو يستعرض مثل هذه المواقف ليأسى ويحزن يوم يصبح المسلم في عالمنا الإسلامي يتمنى أن يحظى بالاهتمام الذي كان يحظى به الحيوان والطير، في زمن عمرو وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما.

وأعود فأقول وأكرر مرارًا وتكرارًا: كل ذلك بما كسبت أيدينا، ويعفو الله عن كثير، من هادن الأفعى تجرع سمها يومًا ما.

ثم أثَنِّي فأقول: هنيئًا ثم هنيئًا لمن اكتحلت عيناه برؤية ذلك المجتمع وذلك الجيل، الذي عمَّ عدله الطير والحيوان، اللهم وقد حرمنا رؤيتهم في الدنيا فلا تحرمناها في الآخرة؛ في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

صورة أخرى: كان يرى مسئوليته عن كل فرد في سربه، وأيِّم في بيتها، ورضيعٍ في مهده، هو القائل: [[ما مثلي ومثل هؤلاء إلا كقومٍ سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم، فقالوا له: أنفق علينا، فهل له أن يستأثر منها بشيء؟ قالوا: لا يا أمير المؤمنين! قال: فكذلك مَثَلِي ومَثَلُكُم]].

جوع عمر في عام الرمادة

في عام الرَّمادة؛ وهو عام شديد القحط والجدب، ما قُدِمَت له لقمة طيبة فأكلها بل كان يؤثر بها الفقراء والمساكين، يوم زار الشام جِيء له بطعامٍ طيب، فنظر إليه وقال: [[ يا لله! كل هذا لنا، وقد مات إخواننا لم يشبعوا من خبز الشعير؟! والله! لا أطعمه ]].

إن جاع في شدةٍ قومٌ شركتهم     في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها

جوع الخليفة والدنيا بقبضته     في الزهد منزلة سبحان مُوليها

يتغير لونه في عام الرمادة من أبيض حتى يصبح مسودًّا من شدة الهمِّ بأمر المسلمين، يأكل الخبز بالزيت، ويمسح بطنه ويقول- كما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح- : [[والله! لتمرننَّ أيها البطن على الخبز والزيت مادام السمن يباع بالأواقي، والله! لا تشبع حتى يحيا الناس]] عقمت نساء الأرض أن يُنْجِبْن مثلك يا عمر .

يقول أسلم -كما في تاريخ عمر لـابن الجوزي -: كان يقوم يصلي من الليل، فيذكر ما حلَّ بالمسلمين فلا يدري ماذا يصلي، يقول: إني لأفتتح السورة فما أدري أنا في أولها أم في آخرها، لما أعلم مما يلاقي المسلمون من الشدة.

وحدث الواقدي قال: حدثنا هشام عن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما كان عام الرَمَادَة جاءت وفود العرب من كل ناحية فقدموا المدينة فأمر عمر رجالاً يقومون بمصالحهم، فسمعته يقول ليلةً من الليالي: أحصوا من يتعشى عندنا، فأحصوهم في القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجل.

أما المرضى والعيال الذين لا يحضرون تلك المائدة فقد بلغوا أربعين ألفًا، فكان يرسل إليهم عشاءهم في بيوتهم. فما برحوا حتى أرسل الله السماء، فوكل عمر بهم من يخرجهم إلى البادية ويعطيهم قوتًا وحملانًا ومتاعًا، وكان قد وقع الموت فيهم فأراه قد مات ثلثاهم، وقد كانت قدور عمر رضي الله عنه وأرضاه يقوم لها العمال من وقت السحر ليعملوا الطعام، ونفد ما في بيت المال، فلم يبق منه قليل ولا كثير.

عمر وتفقده للرعية ليلاً

يروي ابن كثير في تاريخه: أن عمر عس ذات ليلة في ذلك العام، وقد بلغ بالناس الجهد كل مبلغ فلم يسمع أحدًا يضحك، ولم يسمع متحدثًا في منزله كالعادة، ولم يرَ سائلاً يسأل، فتعجب وسأل فقيل: يا أمير المؤمنين! قد سألوا فلم يجدوا فقطعوا السؤال؛ فهم في همٍّ وضيق، لا يتحدثون ولا يضحكون، ولا يمزحون.

فيا لله! ماذا يفعل عمر ؟

قد نفد كل ما في بيت المال، فألزم نفسه ألا يأكل سمينًا؛ فكان إدامه الخل بالزيت حتى اسودَّ لونه، وتغير جسمه، وخُشي عليه خشية عظيمة - رضي الله عنه وأرضاه - وتبلغ الأمور ذروتها، وحينها يلجأ مضطرًا إلى الله عالمًا علم يقين أن رفع البلاء بالتوبة والاستغفار، لا بفصاحة المتشدقين، وتصدي المتبجحين.

فعن أبي وجزة السعدي عن أبيه قال: [[رأيت عمر خرج بنا عام الرمادة إلى المصلى يستسقي؛ فكان أكثر دعائه الاستغفار حتى قلت: لا يزيد عليه. ثم دعا الله وأوصى الناس بتقوى الله- عز وجل- فقال: اتقوا الله في أنفسكم، وما غاب عن الناس من أمركم، فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، فما أدري السَّخطة عليّ دونكم أو عليكم دوني، أو قد عمَّتكم وعمتني، فهلمُّوا فلندعُ الله أن يصلح قلوبنا، وأن يرحمنا، وأن يرفع عنا البلاء، فرُئِيَ يومها رافعًا يديه يدعو الله ويبكي، والناس يدعون وراءه ويبكون، ثم نزل فلم يزلْ هذا شأنه حتى جاءت الرحمة من الله ]] وأذن الله للناس بالغياث والفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، فله الحمد أولاً وآخراً، وظاهرًا وباطنًا.

أيها الأحبة: هذه مؤهلات الفرج، وهذه مؤهلات الغوث من رب العالمين؛ الجباه الساجدة لله، والعيون الدامعة من خشية الله، والأكف المتوضئة المرتفعة: يا رب يا رب ، ومطعمها حلال، ومشربها حلال ، وتغذيتها حلال فأنى يرد من هذا حاله؟

يقول أسلم : فلو لم يرفع الله المحل عام الرمادة؛ لظننا أن عمر يموت همًا بأمر المسلمين. رحم الله عمر ورضي عن ذلك النموذج، قد عرف مسئوليته تجاه رعيته، وراقب الله فيمن تحت ولايته، فأحبهم وأحبوه، ورضي عنهم ورضوا عنه، عفَّ فعفوا، وصدق فصدقوا، ولو رتع لرتعوا:

ما كان إلا الشمس يسطع ضوءها     والخصب في أرض الضلال الماحلِ

قف أيها التاريخ سجل صفحةً     غراء تنطق بالخلود الكاملِ

حَرِّك بسيرته القلوب وقد قست     وغدت بقسوتها كصُمِّ جنادلِ

عمر وموقفه مع امرأة فقيرة وعيالها

صورة أخرى: روى الإمام أحمد بإسناد حسن في الفضائل، قال: عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: [[خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقم، حتى إذا كنا بمرتفع إذ بنار بعيدة فقال عمر : يا أسلم إني لأرى هناك ركْبًا حبسهم الليل والبرد فانطلق بنا، قال: فخرجنا نُهَرْوِلُ حتى دنونا منهم، فإذا هي امرأة معها صبية صغار، وإذا بِقِدْر منصوبة على النار، وصبيانها يتضاغون، فقال: السلام عليكم يا أهل الضوء - وقد كره أن يقول: يا أهل النار- قالت: وعليكم السلام، قال عمر : أأدنو؟ قالت: ادْنُ بخير أو دع.

فدنا فقال: ما بكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال: فمالِ لهؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع. قال: فأي شيء في هذا القدر؟ قالت: ماء أُسْكِتهُم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر -كلمات يهتز لها قلب وجنان كل مؤمن، فما بالك بـعمر ؟- يقول: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولى أمرنا، ثم يغفل عنا، الله بيننا وبينه.

قال أسلم : فأقبل عليَّ عمر به ما به، يقول: انطلق. فأتينا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عِدلاً من دقيق، وكبَّة من شحم، ثم حملها عمر على ظهره، فقلت: أحملها عنك يا أمير المؤمنين! قال: لا أمَّ لك، أتحمل عني وزري يوم القيامة؟!

قال: فانطلقنا حتى أتيناها، فألقى العِدْل عندها، وأخرج من الدقيق شيئًا، وجعل يقول: ثرِّي عليّ وأنا أُحرِك، وجعل ينفخ تحت القدر، والدخان يتخلل لحيته، فلو رأيته لرأيت عجبًا، ثم أنزل القدر فأتته بصحفة فأفرغ فيها الطعام.

ثم جعل يقول لها: أطعميهم وأنا أسطح لهم؛ فلم يزل كذلك حتى شبعوا، ثم ترك عندها فضل ذلك الطعام، ثم قام وهي تقول: جزاك الله خيرًا. كنت أولى بهذا الأمر من عمر .

قال: قولي خيرًا قولي خيرًا، ثم تنحى عنهم ناحية واستقبلهم وقد رَبَضَ مَرْبَضًا يراقبهم، يقول أسلم : فقلت: إن له لشأنًا، وهو لا يكلمني حتى رأى الصبية يصطرعون، ثم ناموا، فقال يا أسلم: ما أسهرهم إلا الجوع، فأحببت ألا أنصرف حتى أرى ما رأيت]].

يا لها من كلمة! تكشف عن رهافة الحس ونقاء الضمير! كل ذلك قبل أن يعرف العالم حقوق الطفولة، وقبل أن تُنْشأ لها المنظمات العالمية، سبق الإسلام إلى تقرير حقوق الطفولة والأسرة، فرضي الله عن عمر وعن صحبه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قرر مثل هذه الحقوق.

عمر وتفقده لامرأة عمياء

أيها الأحبة: إن هذه الصورة لتذكرنا بصورة أخرى مضيئة في حياة عمر- رضي الله عنه وأرضاه- يذكر الأوزاعي أن عمر خرج في سواد الليل، فرآه طلحة فتبعه، فذهب عمر حتى دخل بيتًا، ثم خرج منه وطلحة يراقبه، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة.

فقال لها: ما بال هذا الرجل الذي يأتيك؟ قالت: إنه يتعهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، فجزاه الله عني خيرًا.

فيقول طلحة : ثكلتك أمك يا طلحة ، أعثرات عمر تتتبع؟

يا لله! هل يفعل الواحد منا مع أهله ما يفعله عمر مع رعيته؟

لا. إنه الإيمان الذي وقر في القلب وصدقه العمل، فلا والله! لا تنساه الأيامى والثكالى واليتامى مادام في الأرض أيْمٌ أو ثكلى أو يتيم، ولا والله ما تنساه البطون الجائعة والأكباد الظامئة ما دام في الأرض بطن جائع أو كبد ظمأى.

فمن يباري أبا حفصٍ وسيرتَه     ومن يحاول للفاروقِ تشبيها

ومن رآه أمام القدر منبطحًا     والنارُ تأخذ منه وهو يُذكيها

وقد تخلل في أثناء لحيته     منها الدخان وغاب فُوهُ فِي فِيهَا

رأى هناك أمير المؤمنين على     حالٍ تروع لعَمْرِ الله رائِيْهَا

يستقبل النارَ خوف النارِ في غَدِه     والعَيْنُ من خشيةٍ سالت مآقِيها

الصورة الأولى: علم عمر-رضي الله عنه- أنَّ الخلافة أمانة لا استعلاء، وتكليف لا تشريف، وغُرْمٌ لا غُنْم، فقام يمشي في الأسواق بلا مواكب ولا مراكب، يطوف الطرقات، ويقضي حاجات الناس ويقضي بينهم، يَخْلُفُ الغزاة في أهلهم، يتفقد أحوال رعيته، همُّهم همُّه، وحزنهم حزنه، لينٌ قوي، حازم رحيم، راعٍ أمين، يقول تحت وطأة المسئولية -كما روى مجاهد عن عبد الله بن عمر - : [[لو مات جَدْيٌ بطرف الفرات لخشيتُ أن يحاسب الله به عمر يوم القيامة -وفي رواية- لو عثرت دابة بضفاف دجلة لخشيتُ أن يسألني الله عنها: لِمَ لمْ تُمهِّد لها الطريقَ يا عمر ؟]] يا لله! كلمات تدعو للتأمل في شخصية ذلك الرجل الذي ضربت به الأمثال في العدل والزُّهد والحرص على رعاية الأمة بالليل والنهار؛ فلا عبقري يفري فريه.

وبالمناسبة يذكر المؤرخون أن حمامة باضت في فسطاط عمرو بن العاص والي مصر آنذاك، فلما عزم على الرحيل أمر عماله أن يخلعوا الفسطاط، فلفت أنظارهم عش حمامة فيه بيض لم يفرخ بعد، فلم يُزْعِجُوا الحمامة، ولم ينتهكوا حرمة جوارها، بل أوقفوا العمل، وذهبوا إلى عمرو -رضي الله عنه- يعرضون عليه الأمر، ويأخذون رأيه فيها، فقال: [[ لا تُزْعِجُوا طائراً نزل بجوارنا، وحلَّ آمنًا في رحالنا، أجِّلُوا العمل حتى تَفْرُخَ وتطير ]].

فيا للعظمة! ويا للرحمة! حتى الطير ينعم في ظل الأمن والعدل مع العدول رضوان الله عليهم!

أيها الأحبة: إن المسلم وهو يستعرض مثل هذه المواقف ليأسى ويحزن يوم يصبح المسلم في عالمنا الإسلامي يتمنى أن يحظى بالاهتمام الذي كان يحظى به الحيوان والطير، في زمن عمرو وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما.

وأعود فأقول وأكرر مرارًا وتكرارًا: كل ذلك بما كسبت أيدينا، ويعفو الله عن كثير، من هادن الأفعى تجرع سمها يومًا ما.

ثم أثَنِّي فأقول: هنيئًا ثم هنيئًا لمن اكتحلت عيناه برؤية ذلك المجتمع وذلك الجيل، الذي عمَّ عدله الطير والحيوان، اللهم وقد حرمنا رؤيتهم في الدنيا فلا تحرمناها في الآخرة؛ في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

صورة أخرى: كان يرى مسئوليته عن كل فرد في سربه، وأيِّم في بيتها، ورضيعٍ في مهده، هو القائل: [[ما مثلي ومثل هؤلاء إلا كقومٍ سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم، فقالوا له: أنفق علينا، فهل له أن يستأثر منها بشيء؟ قالوا: لا يا أمير المؤمنين! قال: فكذلك مَثَلِي ومَثَلُكُم]].

في عام الرَّمادة؛ وهو عام شديد القحط والجدب، ما قُدِمَت له لقمة طيبة فأكلها بل كان يؤثر بها الفقراء والمساكين، يوم زار الشام جِيء له بطعامٍ طيب، فنظر إليه وقال: [[ يا لله! كل هذا لنا، وقد مات إخواننا لم يشبعوا من خبز الشعير؟! والله! لا أطعمه ]].

إن جاع في شدةٍ قومٌ شركتهم     في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها

جوع الخليفة والدنيا بقبضته     في الزهد منزلة سبحان مُوليها

يتغير لونه في عام الرمادة من أبيض حتى يصبح مسودًّا من شدة الهمِّ بأمر المسلمين، يأكل الخبز بالزيت، ويمسح بطنه ويقول- كما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح- : [[والله! لتمرننَّ أيها البطن على الخبز والزيت مادام السمن يباع بالأواقي، والله! لا تشبع حتى يحيا الناس]] عقمت نساء الأرض أن يُنْجِبْن مثلك يا عمر .

يقول أسلم -كما في تاريخ عمر لـابن الجوزي -: كان يقوم يصلي من الليل، فيذكر ما حلَّ بالمسلمين فلا يدري ماذا يصلي، يقول: إني لأفتتح السورة فما أدري أنا في أولها أم في آخرها، لما أعلم مما يلاقي المسلمون من الشدة.

وحدث الواقدي قال: حدثنا هشام عن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما كان عام الرَمَادَة جاءت وفود العرب من كل ناحية فقدموا المدينة فأمر عمر رجالاً يقومون بمصالحهم، فسمعته يقول ليلةً من الليالي: أحصوا من يتعشى عندنا، فأحصوهم في القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجل.

أما المرضى والعيال الذين لا يحضرون تلك المائدة فقد بلغوا أربعين ألفًا، فكان يرسل إليهم عشاءهم في بيوتهم. فما برحوا حتى أرسل الله السماء، فوكل عمر بهم من يخرجهم إلى البادية ويعطيهم قوتًا وحملانًا ومتاعًا، وكان قد وقع الموت فيهم فأراه قد مات ثلثاهم، وقد كانت قدور عمر رضي الله عنه وأرضاه يقوم لها العمال من وقت السحر ليعملوا الطعام، ونفد ما في بيت المال، فلم يبق منه قليل ولا كثير.

يروي ابن كثير في تاريخه: أن عمر عس ذات ليلة في ذلك العام، وقد بلغ بالناس الجهد كل مبلغ فلم يسمع أحدًا يضحك، ولم يسمع متحدثًا في منزله كالعادة، ولم يرَ سائلاً يسأل، فتعجب وسأل فقيل: يا أمير المؤمنين! قد سألوا فلم يجدوا فقطعوا السؤال؛ فهم في همٍّ وضيق، لا يتحدثون ولا يضحكون، ولا يمزحون.

فيا لله! ماذا يفعل عمر ؟

قد نفد كل ما في بيت المال، فألزم نفسه ألا يأكل سمينًا؛ فكان إدامه الخل بالزيت حتى اسودَّ لونه، وتغير جسمه، وخُشي عليه خشية عظيمة - رضي الله عنه وأرضاه - وتبلغ الأمور ذروتها، وحينها يلجأ مضطرًا إلى الله عالمًا علم يقين أن رفع البلاء بالتوبة والاستغفار، لا بفصاحة المتشدقين، وتصدي المتبجحين.

فعن أبي وجزة السعدي عن أبيه قال: [[رأيت عمر خرج بنا عام الرمادة إلى المصلى يستسقي؛ فكان أكثر دعائه الاستغفار حتى قلت: لا يزيد عليه. ثم دعا الله وأوصى الناس بتقوى الله- عز وجل- فقال: اتقوا الله في أنفسكم، وما غاب عن الناس من أمركم، فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، فما أدري السَّخطة عليّ دونكم أو عليكم دوني، أو قد عمَّتكم وعمتني، فهلمُّوا فلندعُ الله أن يصلح قلوبنا، وأن يرحمنا، وأن يرفع عنا البلاء، فرُئِيَ يومها رافعًا يديه يدعو الله ويبكي، والناس يدعون وراءه ويبكون، ثم نزل فلم يزلْ هذا شأنه حتى جاءت الرحمة من الله ]] وأذن الله للناس بالغياث والفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، فله الحمد أولاً وآخراً، وظاهرًا وباطنًا.

أيها الأحبة: هذه مؤهلات الفرج، وهذه مؤهلات الغوث من رب العالمين؛ الجباه الساجدة لله، والعيون الدامعة من خشية الله، والأكف المتوضئة المرتفعة: يا رب يا رب ، ومطعمها حلال، ومشربها حلال ، وتغذيتها حلال فأنى يرد من هذا حاله؟

يقول أسلم : فلو لم يرفع الله المحل عام الرمادة؛ لظننا أن عمر يموت همًا بأمر المسلمين. رحم الله عمر ورضي عن ذلك النموذج، قد عرف مسئوليته تجاه رعيته، وراقب الله فيمن تحت ولايته، فأحبهم وأحبوه، ورضي عنهم ورضوا عنه، عفَّ فعفوا، وصدق فصدقوا، ولو رتع لرتعوا:

ما كان إلا الشمس يسطع ضوءها     والخصب في أرض الضلال الماحلِ

قف أيها التاريخ سجل صفحةً     غراء تنطق بالخلود الكاملِ

حَرِّك بسيرته القلوب وقد قست     وغدت بقسوتها كصُمِّ جنادلِ

صورة أخرى: روى الإمام أحمد بإسناد حسن في الفضائل، قال: عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: [[خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقم، حتى إذا كنا بمرتفع إذ بنار بعيدة فقال عمر : يا أسلم إني لأرى هناك ركْبًا حبسهم الليل والبرد فانطلق بنا، قال: فخرجنا نُهَرْوِلُ حتى دنونا منهم، فإذا هي امرأة معها صبية صغار، وإذا بِقِدْر منصوبة على النار، وصبيانها يتضاغون، فقال: السلام عليكم يا أهل الضوء - وقد كره أن يقول: يا أهل النار- قالت: وعليكم السلام، قال عمر : أأدنو؟ قالت: ادْنُ بخير أو دع.

فدنا فقال: ما بكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال: فمالِ لهؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع. قال: فأي شيء في هذا القدر؟ قالت: ماء أُسْكِتهُم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر -كلمات يهتز لها قلب وجنان كل مؤمن، فما بالك بـعمر ؟- يقول: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولى أمرنا، ثم يغفل عنا، الله بيننا وبينه.

قال أسلم : فأقبل عليَّ عمر به ما به، يقول: انطلق. فأتينا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عِدلاً من دقيق، وكبَّة من شحم، ثم حملها عمر على ظهره، فقلت: أحملها عنك يا أمير المؤمنين! قال: لا أمَّ لك، أتحمل عني وزري يوم القيامة؟!

قال: فانطلقنا حتى أتيناها، فألقى العِدْل عندها، وأخرج من الدقيق شيئًا، وجعل يقول: ثرِّي عليّ وأنا أُحرِك، وجعل ينفخ تحت القدر، والدخان يتخلل لحيته، فلو رأيته لرأيت عجبًا، ثم أنزل القدر فأتته بصحفة فأفرغ فيها الطعام.

ثم جعل يقول لها: أطعميهم وأنا أسطح لهم؛ فلم يزل كذلك حتى شبعوا، ثم ترك عندها فضل ذلك الطعام، ثم قام وهي تقول: جزاك الله خيرًا. كنت أولى بهذا الأمر من عمر .

قال: قولي خيرًا قولي خيرًا، ثم تنحى عنهم ناحية واستقبلهم وقد رَبَضَ مَرْبَضًا يراقبهم، يقول أسلم : فقلت: إن له لشأنًا، وهو لا يكلمني حتى رأى الصبية يصطرعون، ثم ناموا، فقال يا أسلم: ما أسهرهم إلا الجوع، فأحببت ألا أنصرف حتى أرى ما رأيت]].

يا لها من كلمة! تكشف عن رهافة الحس ونقاء الضمير! كل ذلك قبل أن يعرف العالم حقوق الطفولة، وقبل أن تُنْشأ لها المنظمات العالمية، سبق الإسلام إلى تقرير حقوق الطفولة والأسرة، فرضي الله عن عمر وعن صحبه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قرر مثل هذه الحقوق.

أيها الأحبة: إن هذه الصورة لتذكرنا بصورة أخرى مضيئة في حياة عمر- رضي الله عنه وأرضاه- يذكر الأوزاعي أن عمر خرج في سواد الليل، فرآه طلحة فتبعه، فذهب عمر حتى دخل بيتًا، ثم خرج منه وطلحة يراقبه، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة.

فقال لها: ما بال هذا الرجل الذي يأتيك؟ قالت: إنه يتعهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، فجزاه الله عني خيرًا.

فيقول طلحة : ثكلتك أمك يا طلحة ، أعثرات عمر تتتبع؟

يا لله! هل يفعل الواحد منا مع أهله ما يفعله عمر مع رعيته؟

لا. إنه الإيمان الذي وقر في القلب وصدقه العمل، فلا والله! لا تنساه الأيامى والثكالى واليتامى مادام في الأرض أيْمٌ أو ثكلى أو يتيم، ولا والله ما تنساه البطون الجائعة والأكباد الظامئة ما دام في الأرض بطن جائع أو كبد ظمأى.

فمن يباري أبا حفصٍ وسيرتَه     ومن يحاول للفاروقِ تشبيها

ومن رآه أمام القدر منبطحًا     والنارُ تأخذ منه وهو يُذكيها

وقد تخلل في أثناء لحيته     منها الدخان وغاب فُوهُ فِي فِيهَا

رأى هناك أمير المؤمنين على     حالٍ تروع لعَمْرِ الله رائِيْهَا

يستقبل النارَ خوف النارِ في غَدِه     والعَيْنُ من خشيةٍ سالت مآقِيها

صورة أخرى: كان -رضي الله عنه- عظيم التواضع للخلق والحق، وكل الصور تدل على ذلك. رفعه الله بتواضعه درجات في الجنة.

[[ فعن الفضل بن عميرة أن الأحنف بن قيس قدم على عمر في وفد من العراق في يومٍ صائفٍ شديد الحر وهو محتجز بعباءة، يهنأ بعيرًا من إبل الصدقة، فقال: يا أحنف ! ضع ثيابك، وهلم فَأَعِنْ أمير المؤمنين على هذا البعير؛ فإنه من إبل الصدقة، فيه حق لليتيم والمسكين والأرملة، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين! هلا أمرت عبدًا من عبيد الصدقة ليكفيك هذا.

قال عمر : ثكلتك أمك، وأُيُ عبدٍ هو أعبد مني ومن الأحنف؛ إنه من ولي أمر المسلمين فهو عبد المسلمين، يجب عليه ما يجب على العبد لسيده من النصيحة وأداء الأمانة ]].

فيا لله! ورب عمر إن مشهدًا كهذا خير من الدنيا وما فيها.

يقول عبد الله بن عمر بن حفص : إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يحمل القِرْبَة على عنقه، فيقال له في ذلك فيقول: إن نفسي أعجبتني فأردتُ أن أذلها. بل إنه لربما أخذ بيد الصبي يلقاه، فيقول له: ادْعُ لي؛ فإنك لم تذنب قط.

بل إن ابن عباس -رضي الله عنه- دخل عليه يوم طُعِنَ فقال: [[أبشر يا أمير المؤمنين! أسلمت حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله حين خذله الناس، وتوفيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك رجلان.

فقال عمر : أعد، أعد. فأعاد. فقال عمر : المغرور مَنْ غُرَّ. ولو أن لي ما على ظهرها من بيضاءَ وصفراءَ لافتديتُ به من هَوْلِ المطلع، وددتُ أني أنجو كَفافًا لا أجر لي ولا وزر]]. تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]. وكان متواضعًا للحق يقبله في السر والعلن، لقد كان بينه وبين رجل كلام في شيءٍ - كما أورد ابن الجوزي في تاريخه - فقال له الرجل: [[اتق الله يا أمير المؤمنين! فقال له رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين: اتق الله؟!

فقال له عمر على الفور: دعه، فليقلها لي، نِعْمَ ما قال؛ لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم]].

يا ليت هذه الكلمة تكون عنواناً ولجامًا يلجم به نفسه كل من ولي من أمر المسلمين شيئًا صَغُر أو كَبُر؛ إذًا لصلح الحال، وتغيرت الأحوال، وكسدت سوق النفاق،

ولكن

أشد عيوبنا أنَّا إذا ما      نُصِحْنَا خَدَّرتْنَا الكبرياء.

كان خوفه من الله عظيمًا، بل ما قاده وحداه لتلك الأعمال المُشْرِقَة الخالدة إلا خوفه من الله - عز وجل - كان يمر بالآية فيغلبه البكاء وهو يصلي بالناس، حتى يقول ابنه عبد الله : [[إني لأسمع حنينه من وراء ثلاثة صفوف، وإنَّه لينشج حتى أقول: اختلفت أضلاعه]].

بل ذُكِر أنَّه خرج يعس ليلة من الليالي فمر بدار رجل من الأنصار، فوافقه قائمًا يصلي -يوم كانت دور المسلمين تعمر بالقرآن لها دوي كدوي النحل- وقف يستمع لقراءته فقرأ: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:1-2] حتى بلغ: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [الطور:7-8] فقال عمر: قسم حق ورب الكعبة، ثم نزل عن حماره، واستند إلى حائط فمكث مليًا به ما به، ثم رجع إلى منزله فعاده الناس، لا يدرون ما مرضه.

هذه حاله مع آية من آيات القرآن. فما حالنا مع كتاب الله؟

عُمْيٌ عن الذكر والآيات تَنْدُبُنَا     لو كلَّم الذِّكْر جُلْمُودًا لأبكاهُ

كان شديد المحاسبة لنفسه، يقول أنس : [[خرجت مع عمر فدخل حائطًا، فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: عمر أمير المؤمنين! بخٍ بخٍ .. والله لتتقين الله أو ليعذبنك الله]]. فهلا خلا أحدٌ منَّا بنفسه يعاتبها ويحاسبها، علها أن تذكر الله فتسيل دمعة يستحق بها أن يكون ممن يستظل بظل الله يوم لا ظل إلا ظله. نشكو إلى الله قسوة قلوبنا وغفلتنا، ونسأله بعزته وقدرته أن يلين قلوبنا فيه حتى تكون ألين من الزبد. هو ولي ذلك والقادر عليه.