حقيقة الكلمة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

أما بعد: عبد الله! عقلك عقلك، وسمعك وقلبك، أعرنيهما وأرعنيهما لحظات قد تطول؛ راجيًا أن يتسع صدرك احتسابًا لما أقول.

ثم حلِّقْ معي بخيالك متخيلاً ما هو واقع، ومتصوراً ما هو حقيقة على الحقيقة.

حقيقة الموقف وأهوال القيامة

تخيل وليداً عمره شهر واحد، قضى الله ألاَّ يعيش سوى هذا الشهر، فقبضه ديَّان يوم الدين، وقُبِرَ مع المقبورين.

وبينما هم في قبورهم إذ نُفِخ في الصور، وبُعثرت القبور، وخرج المقْبُور، وكان في من خرج ذلكم الصبي؛ ذو الشهر الواحد، حافياً عارياً أبهم، نظر! فإذا الناس حفاة عراة رجالاً ونساءً كالفراش المبثوث، والجبال كالعهن المنفوش.

السماء: انفطرت، ومارت، وانشقت، وفُتحت، وكُشطت، وطويت.

والجبال: سُيِّرت، ونسفت، ودكَّت.

والأرض: زلزلت، ومُدَّت، وألقت ما فيها وتخلَّت.

العِشَار عُطِّلت .. الوحوش حُشِرت .. البحار فُجِّرت وسُجِّرت.

الأمم على الرُّكب جثت، وإلى كتابها دُعيَتْ.

الكواكب انتثرت .. النجوم انكدرت .. الشمس كُوِّرت، ومن رءوس الخلائق أُدْنِيت.

الأمم ازدحمت وتدافعت .. الأقدام اختلفت .. الأجواف احترقت .. الأعناق من العطش وحرِّ الشمس ووهج أنفاس الخلائق انقطعت.

فاض العرق؛ فبلغ الحقوين، والكعبين، وشحمة الأذنين.

والناس بين مستظل بظل العرش، ومصهور في حرِّ الشمس.

الصحف نُشِرت، والموازين نُصِبَت، والكتب تطايرت، صحيفةُ كلٍ في يده، مخبرة بعمله، لا تغادر بليَّة كتمها، ولا مخبأة أسرَّها.

اللسان كليل .. القلب حسير كسير .. الجوارح اضطربت .. الألوان تغيرت لِمَا رأت .. الفرائص ارتعدت .. القلوب بالنداء قُرِعت .. والموءودة سُئلت .. والجحيم سُعِّرت .. والجنة أُزلِفَت.

عَظُم الأمر، واشتدَّ الهول، والمرضعة عما أرضعت ذُهِلَت، وكل ذات حمل حملها وضعت.

زاغت الأبصار وشخصت، والقلوب الحناجر بلغت.

وأحضروا للعرض والحساب     وانقطعت علائق الأنساب

وارتكمت سحائب الأهوال     وانعجم البليغ في المقال

وعنت الوجوه للقيوم     واقتُصَّ من ذي الظلم للمظلوم

وساوت الملوك للأجناد     وجيء بالكتاب والأشهاد

وشهد الأعضاء والجوارح     وبدت السوءات والفضائح

وابتُليت هنالك السرائر     وانكشف المخفي في الضمائر

هنا تخيل ذلك الوليد صاحب الشهر الواحد؟!

ما اقترف ذنباً، وما ارتكب جُرْماً، ااًلأهوال محدقة به؛ من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، تخيله مذعوراً قلبه، اشتعل رأسه شيباً في الحال؛ لهول ما يرى. فيالله لذلك الموقف:

يوم عبوس قمطرير شرُّه     وتشيب منه مفارق الولدان

هذا بلا ذنب يخاف مصيره     كيف المُصرُّ على الذنوب دهور؟!

قال الله عز وجل: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً [المزمل:17] .

عباد الله: في خِضَم هذه الأهوال التي تبيضُّ منها مفارق الولدان ما النجاة؟! وما المخرج؟!

المخرج والنجاة من أهوال يوم القيامة

إن النَّجاة والمخرج في أمر لا غير، لا يصلح قلب، ولا تستقيم نفس ولا تسعد إلا به، خُوطب به الخلق أجمعون، خُّصَّ به المؤمنون، أُوصِيَ به الأنبياء والمرسلون، وخاتمهم سيد ولد آدم أجمعين، عليه وعليهم صلوات وسلام رب العالمين.

أي أمر هذا أيها المؤمنون؟

إنه وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] تقوى الله وكفى، قال جلَّ وعلا: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61] ويقول تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72].

أي تقوى تنجي بين يدي الله؟

أهي كلمة تُنْتَقى وتُدَبَّج في مقال؟

أم هي شعار يُرفع بلا رصيد من واقع؟

كلا. ما كل منتسب للقول قوَّال.

لو أن أسباب العفاف بلا تقى     نفعت لقد نفعت إذاً إبليس

فهو القائل: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16] لا ينجي -والله- في تلك الأهوال إلا حقيقة التقوى؛ لُبّها .. كُنهها .. ماهيتها .. مضمونها.

فما حقيقة تلك الكلمة يا عباد الله؟

إنها هيمنة استشعار رقابة الله على حياتك أيها الفرد، حتى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وتلك أعلى مراتب الإيمان؛ وهي مرتبة الإحسان:

وثالث مرتبة الإحسان     وتلك أعلاها لدى الرحمن

وهي رسوخ القلب في العرفان     حتى يكون الغيب كالعيان

تخيل وليداً عمره شهر واحد، قضى الله ألاَّ يعيش سوى هذا الشهر، فقبضه ديَّان يوم الدين، وقُبِرَ مع المقبورين.

وبينما هم في قبورهم إذ نُفِخ في الصور، وبُعثرت القبور، وخرج المقْبُور، وكان في من خرج ذلكم الصبي؛ ذو الشهر الواحد، حافياً عارياً أبهم، نظر! فإذا الناس حفاة عراة رجالاً ونساءً كالفراش المبثوث، والجبال كالعهن المنفوش.

السماء: انفطرت، ومارت، وانشقت، وفُتحت، وكُشطت، وطويت.

والجبال: سُيِّرت، ونسفت، ودكَّت.

والأرض: زلزلت، ومُدَّت، وألقت ما فيها وتخلَّت.

العِشَار عُطِّلت .. الوحوش حُشِرت .. البحار فُجِّرت وسُجِّرت.

الأمم على الرُّكب جثت، وإلى كتابها دُعيَتْ.

الكواكب انتثرت .. النجوم انكدرت .. الشمس كُوِّرت، ومن رءوس الخلائق أُدْنِيت.

الأمم ازدحمت وتدافعت .. الأقدام اختلفت .. الأجواف احترقت .. الأعناق من العطش وحرِّ الشمس ووهج أنفاس الخلائق انقطعت.

فاض العرق؛ فبلغ الحقوين، والكعبين، وشحمة الأذنين.

والناس بين مستظل بظل العرش، ومصهور في حرِّ الشمس.

الصحف نُشِرت، والموازين نُصِبَت، والكتب تطايرت، صحيفةُ كلٍ في يده، مخبرة بعمله، لا تغادر بليَّة كتمها، ولا مخبأة أسرَّها.

اللسان كليل .. القلب حسير كسير .. الجوارح اضطربت .. الألوان تغيرت لِمَا رأت .. الفرائص ارتعدت .. القلوب بالنداء قُرِعت .. والموءودة سُئلت .. والجحيم سُعِّرت .. والجنة أُزلِفَت.

عَظُم الأمر، واشتدَّ الهول، والمرضعة عما أرضعت ذُهِلَت، وكل ذات حمل حملها وضعت.

زاغت الأبصار وشخصت، والقلوب الحناجر بلغت.

وأحضروا للعرض والحساب     وانقطعت علائق الأنساب

وارتكمت سحائب الأهوال     وانعجم البليغ في المقال

وعنت الوجوه للقيوم     واقتُصَّ من ذي الظلم للمظلوم

وساوت الملوك للأجناد     وجيء بالكتاب والأشهاد

وشهد الأعضاء والجوارح     وبدت السوءات والفضائح

وابتُليت هنالك السرائر     وانكشف المخفي في الضمائر

هنا تخيل ذلك الوليد صاحب الشهر الواحد؟!

ما اقترف ذنباً، وما ارتكب جُرْماً، ااًلأهوال محدقة به؛ من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، تخيله مذعوراً قلبه، اشتعل رأسه شيباً في الحال؛ لهول ما يرى. فيالله لذلك الموقف:

يوم عبوس قمطرير شرُّه     وتشيب منه مفارق الولدان

هذا بلا ذنب يخاف مصيره     كيف المُصرُّ على الذنوب دهور؟!

قال الله عز وجل: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً [المزمل:17] .

عباد الله: في خِضَم هذه الأهوال التي تبيضُّ منها مفارق الولدان ما النجاة؟! وما المخرج؟!

إن النَّجاة والمخرج في أمر لا غير، لا يصلح قلب، ولا تستقيم نفس ولا تسعد إلا به، خُوطب به الخلق أجمعون، خُّصَّ به المؤمنون، أُوصِيَ به الأنبياء والمرسلون، وخاتمهم سيد ولد آدم أجمعين، عليه وعليهم صلوات وسلام رب العالمين.

أي أمر هذا أيها المؤمنون؟

إنه وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] تقوى الله وكفى، قال جلَّ وعلا: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61] ويقول تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72].

أي تقوى تنجي بين يدي الله؟

أهي كلمة تُنْتَقى وتُدَبَّج في مقال؟

أم هي شعار يُرفع بلا رصيد من واقع؟

كلا. ما كل منتسب للقول قوَّال.

لو أن أسباب العفاف بلا تقى     نفعت لقد نفعت إذاً إبليس

فهو القائل: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16] لا ينجي -والله- في تلك الأهوال إلا حقيقة التقوى؛ لُبّها .. كُنهها .. ماهيتها .. مضمونها.

فما حقيقة تلك الكلمة يا عباد الله؟

إنها هيمنة استشعار رقابة الله على حياتك أيها الفرد، حتى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وتلك أعلى مراتب الإيمان؛ وهي مرتبة الإحسان:

وثالث مرتبة الإحسان     وتلك أعلاها لدى الرحمن

وهي رسوخ القلب في العرفان     حتى يكون الغيب كالعيان

بل هي هيمنة الدين على الحياة كلها؛ عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، خلقاً ونظاماً، رابطة وأخوة.

هيمنة كما أرادها الله تجعل الحياة خاضعة في عقيدة المسلم وتصوره لله، لا يندُّ منها شاردة ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة.

هيمنة تسلم النفس كلها لله حتى تكون أفكاراً ومشاعرَ وأحاسيس وسلوكاً محكومة بوحي الله، فلا تخضع لغير سلطانه، ولا تحكم بغير قرآنه، ولا تتبع غير رسوله، لا يحركها إلا دين الله، تأتمر بأمر الله، وتنتهي عن نهيه، متجردة عن ذاتها، متعلقة بربها، وحال صاحبها:

خضعت نفسي للباري فَسُدتُّ الكائنات     أنا عبد الله لا عبد الهوى والشهوات

فَهِمَ هذا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاغوه واقعاً حيّاً نابضاً انفعلت به نفوسهم، فتَرْجموه في واقع سلوكهم.

صرت ترى شرع الله يدبُّ على الأرض في صورة أُناسٍ يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق.

إذا ما دُعوا للهدى هرولوا     وإن تدعهم للهوى قرفصوا

روى الإمام البخاري عن أنس رضى الله عنه أنه قال: (كنت ساقي القوم في بيت أبي طلحة -يعني الخمر- وإني لقائم أسقي فلاناً وفلاناً وفلاناً، إذ جاء رجل، فقال: هل بلغكم الخبر؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: لقد حُرِّمت الخمر، وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منادياً ينادي: ألا إن الخمر حرمت! فقالوا: أهرق هذه القلال يا أنس -فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل- وما دخل داخل ولا خرج خارج حتى أهراق الشراب، وكسرت القلال، وتوضأ بعضهم، واغتسل بعضهم، ثم أصابوا من طِيب أم سليم ، ثم خرجوا إلى المسجد يخوضون في الخمر، قد جرت بها سكك المدينة)، فقد تواطأت المدينة كلها على تحريمها، فلما قُرئِت عليهم الآية: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:91] بعض القوم شَرْبته في يده فلم يرفعها إلى فيه، بل أراق ما في كأسه، وصبَّ ما في باطيته، وقال: انتهينا ربنا انتهينا.

لم يقولوا: تعودنا عليها منذ سنين، وورثناها عن آبائنا؛ كما يفعل بعض مسلمي زماننا.

ما تكونت عصابات لتهريب المخدرات؛ لأن الدين هيْمَن على حياتهم، فاستشعروا رقابة ربهم، فبادروا في يُسْرٍ إلى تنفيذه؛ امتثالاً لأمر الله، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر أهل المدينة ألا يكلموا كعباً حين تخلف عن تبوك ، فإذا الأفواه ملجمة لا تنبس ببنت شفة، وإذا الثغور لا تفتر حتى عن بسمة، بل إن ابن عمه وحميمه وصديقه؛ أبا قتادة لمَّا أتاه ليسلِّم عليه كعب ما ردَّ عليه السلام، فاستعبرت عينا كعب رضيَ الله عنه ورجع كسير البال، كاسف الحال.

فأمْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هؤلاء القوم فوق كل خُلة، ثم انظر إليهم لما نزلت توبة الله على هذا الرجل -على كعب رضي الله عنه وأرضاه- تتحرك المدينة وتنتفض عن بكرة أبيها إلى كعب ، فإذا الأفواه تلْهَج له بالتهنئة وكانت مُلْجَمَة، وإذا الثغور تفترُّ عن بسمات مضيئة صادقة وكانت عابسة، نفوس لا يحركها إلا دين الله، حالها:

ما بعث نفسي إلا لله عز وجلِّ     فمن تولى سواه يوله ما تولىَّ

إنهم لم يقفوا عند امتثال أمره واجتناب نهيه، بل تابعوا أفعال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ولاحظوا تصرفاته بكل دقة وشوق وحرص على الاقتداء، حتى إذا ما فعل شيئاً سارعوا إلى فعله مباشرة؛ لأنهم يعلمون أن سنته سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك.

ثبت عند أبي داود في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فألقاهما عن يساره، فلمَّا رأى ذلك أصحابه رضوان الله عليهم ألقوا نعالهم، فلمَّا قضى صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليْك فألقينا نعالنا).

توحيد في الاتباع.

فمن قلَّد الآراء ضلَّ عن الهدى     ومن قلَّد المعصوم في الدين يهتدي

بل كان الناس إذا نزلوا منزلاً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أسفاره تفرقوا في الشِّعاب والأودية، فقال لهم -صلى الله عليه وسلم-: (إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان، فما نزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضموا بعضهم إلى بعض، حتى لو وضع عليهم بساط لعمَّهم) تنفيذ في يُسْر، وطاعة وامتثال، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.

هم ذلك السلف الذين لسانهم     تنحطُّ عنه جميع ألسنة الورى

تلك العصابة من يَحُدْ عن سُبْلها     حقاً يقال لمثله أطْرق كرى

أطْرق كرى إنَّ النَّعام في القُرَى

مما سمعتم -أيها المؤمنون- يتجلى لنا مظهر أفراد المجتمع المسلم في ظل إدراكهم الصحيح لمفهوم الإسلام، فليست المسألة عندهم فرائض يفرضها هذا الدين على الناس بلا موجب إلا رغبة التحكم في العباد، بل هي مسألة وجود الإنسان إذا رغب أن يكون إنساناً حقاً، لا مجرد كائن يأكل الطعام، ويشرب الشراب، ويقضي أيامه على الأرض كيفما اتفق؟!

بل هي وضع للإنسان في وضعه الصحيح كإنسان، يستشعر رقابة المولى، وتلك حقيقة التقوى.

عباد الله: هل استشعر رقابة الله واتقى الله حقيقة من يشهد أن لا إله إلا الله، ويصبح دائباً مُجدّاً مجتهداً في مطعم حرام، وملبس حرام، وغذاء حرام؟

يصبح وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، ووقع في عِرْض ذاك وذا .

يصغر ذا بأراجيفه          ويرجو بذلك أن يكبرا

ولو عاش في عالم أمثل     لكان من الحتم أن يصغرا

هل استشعر رقابة الله من يجلب النار ليحرق بيته وأهله؟

من يخرب بيته بيده بوسائل لا تزال تمطره بوابل أو طلٍّ من أغانٍ وأفلام ماجنة، وقصص سافلة، وترويض للنفوس على الكذب والنفاق وقلب الحقائق؟

قائم على هدم بيته كالدودة التي تخرج من الميت، ثم لا تأكل إلا ذاك الميت.

ألم يستشعر أنه لو مات على حالته تلك؛ مات غاشّاً لرعيته، خائناً لأمانته، حاملاً وزره ووزر ما جلبه لبيته على ظهره يوم القيامة بقدر ما أفسدت هذه الوسائل في نفوس أبنائه وأهله من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً.

والله! لا يُعفيك من حساب الله، ولا من لوم الناس، ولا تأنيب الضمير أن تقول: أنا ضحية، وما البديل، وما البدل، وما المبدل منه، وبيتك حقلٌ لاستقبال الأفكار والأوضار والأقذار، تنبت فيه وتنمو وتترعرع، وأنت تسأل ماذا أفعل؟ لا يفلُّ الحديد إلا الحديد، والباب الذي يأتيك منه القبيح لا حيلة فيه إلا بسدِّه لتستريح.

ألا إن الشَّراب له إناءُ     فإن دنَّسته دَنِس الشَّراب

أَمَا في هذه الدنيا أمورٌ     سوى الشهوات تحرزها الطلاب

أما في هذه الدنيا أسودٌ     كما في هذه الدنيا كلاب

بلى.

يمنع الليث حِمَاه أن يرى     فيه كلباً عادياً إن زأرا

هل استشعر رقابة الله من يتعبد بأعمال ليس عليها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجته ازدياد الخير، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم من مريد للخير لا يصيبه؟

أي فتنة أعظم من أن ترى أنك خصِّصت بفضل لم يُخصّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

هل استشعر رقابة الله من ليله سَهَر على ما حرم الله، ويصبح مجاهراً بمعصية الله؟

من إذا وصل إلى بيئة أجنبية لا يُعرف أَمِن اليهود هو، أم من النصارى والمجوس والذين أشركوا؟

كلفظ ما له معنى     كتمثال من الجبس

يسير لغير ما هدف     ويصبح غير ما يمسي

حقيقة الكلمة: لَجَأٌ إلى الله، وتَعرَّفٌ عليه في الشدة والرخاء، لا على سواه، عرَّافاً كان أو ساحراً أو كاهناً أو مقبوراً:

لا قبة ترجى ولا وثن ولا     قبر ولا نصب من الأنصاب

الله ينفعني ويدفع ما بي

بالله ثق وله أنب وبه استعن     فإذا فعلت فأنت خير مُعَانٍ