هكذا علمتني الحياة [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله الواحد الأحد، تعالى عن الشريك والصاحبة والولد، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غُلفاً.

اللهم اجزِه عنا أفضل ما جزيت نبياً عن أمته، وأَعْلِ على جميع الدرجات درجته، واحشرنا تحت لوائه وزمرته، وأوردنا حوضه في الآخرة.

اللهم لا تجعل لقلوبنا -الآن- حوضاً تَرِدُه إلا كتابك وسُنة نبيك صلى الله عليه وسلم أفضل صلاة وأتم سلام وأكمله وأعلاه.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

اللهم وبغض إلى قلوبنا البدعة والمبتدعين، وأرنا الحق حقاً، والباطل باطلاً، ووفقنا لاتباع الحق والعمل به، والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه، ابتغاء وجهك وطلباً لمرضاتك: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ آل عمران:193-194].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته:

وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم! أن يجمعنا وإياكم على الإيمان والذكر والقرآن، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله ثم يجمعنا أخرى سرمدية أبدية في دار:

قصورها ذهب والمسك طينتها      والزعفران حشيش نابت فيها

أحبتي في الله: لقاؤنا الليلة يتجدد مع الجزء الثاني من محاضرة: هكذا علمتني الحياة.

لكم غُنْم هذه المحاضرة، وعليَّ غُرْمها، لكم صفْوُها، وعلي كدرُها، هذه بضاعتي -وإن كنت قليل البضاعة- تُعرض عليكم، وهذه بنات أفكاري تُزفُّ إليكم؛ فإن صادفت قبولاً فإمساك بمعروف، وإن لم يكن فتسريح بإحسان، والله المستعان. ما كان من صواب فمن الله الواحد المنَّان، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، والله بريء منه ورسوله -والله المستعان- وأنا العبد الفقير القليل الضعيف المهوان.

نُبَذٌ مما سنح لي من المعارف تحت ظل العقيدة، أسأل الله أن يجعلها لي ولكم ذخراً في يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وأسأله أن يجعلها من صالحات الأعمال وخالصات الآثار، وباقيات الحسنات إلى آخر الأعمار.

رباه رباه!

يظنُّ النَّاسُ بي خيراً وإنِّي     لشرُّ النَّاسِ إنْ لم تعفُ عني

ومالي حيلةٌ إلا رجائي     وعفوك إن عفوتَ وحُسْن ظَنِي

اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي مالا يعلمون.

وهكذا علمتني الحياة .

علمتني الحياة في ظل العقيدة: أنه لا خير ولا أفضل ولا أجمل ولا أحسن من كلمة طيبة: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم:24-25].

أُخيَّ إنَّ البرَ شيءٌ هينُ      وجهٌ طليقٌ وكلامٌ لينُ

أمثلة توضح أهمية الكلمة الطيبة

هاهو أعرابي -كما يُروى- يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فيمسكه بتلابيبه، ويهزُّه ويقول: {أعطني من مال الله الذي أعطاك، لا من مال أبيك ولا من مال أمك، فيقوم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون أن يؤدبوا من يعتدي على شخص محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: على رِسلكم، المال مال الله}. أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ثم يأخذ هذا الأعرابي ويداعبه، ويلاطفه، ويذهب به إلى بيته صلى الله عليه وسلم، فيقول: {خذ ما شئت ودع ما شئت} لكن ماذا يأخذ من بيت محمد صلى الله عليه وسلم، بيت لا توقد فيه النار شهرين ولا ثلاثة أشهر، بيت لم يشبع أهله من خبز الشعير، ولم يشبعوا من دَقَل التمر ورديء التمر، بيت يأتي السائل يسأل فلا يوجد -يوماً من الأيام- فيه سوى عنبة، وفي يوم من الأيام لا يوجد في بيته صلى الله عليه وسلم سوى تمرة واحدة، لكنه خير بيت وجد على وجه الأرض، بأبي وأمي صاحب ذاك البيت صلى الله عليه وسلم، ما ملك الأعرابي إلا أن قال: {أحسنت وجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. قال: إن أصحابي قد وجدوا عليك -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- فاخرج إليهم، وقل لهم ما قلت لي الآن، فخرج، وجاء إليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: هل أحسنت إليك يا أعرابي؟ قال: نعم وجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشد أنك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال صلى الله عليه وسلم: إنما مثلي ومثلكم ومثل هذا الأعرابي كرجل كانت له دابة فنفرت منه، فذهب يُطاردها، فجاء الناس كلهم وراءه يطاردون؛ فما ازدادت الدابة إلا نفاراً وشراداً، فقال: دعوني أنا ودابتي، أنا أعلم بدابتي، فأخذ من خشاش الأرض ولوَّح به لهذه الدابة؛ فما كان منها إلا أن انساقت إليه، وجاءت إليه، فأمسك بها.

أما إني لو تركتكم على هذا الأعرابي لضربتموه، فأوجعتموه؛ فذهب من عندكم على كفره، فمات، فدخل النار}.

أرأيتم الكلمة الطيبة يا أيها الأحبة؟

فلا إله إلا الله! لا أفضل من دفع السيئة بالحسنة، إنها آسرة القلوب والأرواح، إنها مُسْتلة الأضغان والأحقاد والسخائم من القلوب: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].

المؤمن الحق -يا أيها الأحبة- كالشجرة المثمرة، كلما رُجمت بالحجارة أسقطت ثمراً طيباً؛ فيا له من قمة! ويا لها من مُثل!

هاهو يهودي معه كلب -واليهود لطالما استفزوا المسلمين يريدون أن يوقعوهم في شَرَكِهم- يمر على إبراهيم بن أدهم عليه رحمة الله ذلكم المؤمن، فيقول له: ألحيتك -يا إبراهيم- أطهر من ذنب هذا الكلب، أم ذنب الكلب أطهر من لحيتك؟

فما كان منه إلا أن قال -بهدوء المؤمن الواثق بموعود الله عز وجل-: إن كانت في الجنة فهي أطهر من ذنب كلبك، وإن كانت في النار لذنب كلبك أطهر منها. فما ملك هذا اليهودي إلا إن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء: وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35].

أقول هذا لعموم الناس، أما نحن -الدعاة وطلبة العلم والمفترض في الحاضرين أن يكونوا طلبة علم- ليس لنا أن ننزل عن مستوى دعوتنا إلى التراشق برديء الكلام، ليس لنا أن ننزل إلى سفاسف الأمور، ولو حاول غيرنا جرَّنا إلى هذه الأمور، ليكن تحركنا ذاتياً، فلا يحركنا غيرنا؛ لئلا نُجرَّ إلى معارك وهمية خاسرة -ولا شك- ثم علينا ألا نغضب لأنفسنا، بل علينا أن نسمو بأنفسنا، عن كل بذيء، وعن كل ساقط.

لَو كلُ كلبٍ عَوى أَلقَمته حجراً     لأَصبحَ الصخرُ مثقالاً بِدِينار

ومنْ عاتبَ الجُهَال أتعب نفسه      ومنْ لام مَنْ لا يعرف اللوم أفسدَا

توضيح لحقيقة الكلمة الطيبة

وليس معنى ذلك أن نستسلم فلا ندافع، لكن المدافعة أحياناً -يا أيها الأحبة- تكون بالسكوت، والمدافعة أحياناً تكون بالاختفاء، والمدافعة أحياناً تكون بالإعراض عن الجاهلين.

في يوم أحد -وما أدراكم ما يوم أحد- يوم أصاب المسلمين ما أصابهم، نادى أبو سفيان -وكان لا زال مشركاً- رضي الله عنه وأرضاه: هل فيكم محمد؟ فلم يرد صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر أحداً بالرد.

هل فيكم أبو بكر ؟ هل فيكم عمر ؟ فلم يُجبه أحد. مع أن الجواب قد كان أغيظَ له، لكن الموقف كان يستلزم السكوت من باب قول القائل:

إذا نطقَ السَّفيه فلا تُجْبهُ      فَخَير من إجابته السكوتُ

فإنْ كلمْتَه فرَّجت عنهُ     وإنْ خَلَّيته كمداً يموتُ

ومن باب قول الآخر :

والصَّمتُ عنْ جاهلٍ أو أحمق شرفٌ     وفيه أيضاً لصونِ العِرضِ إصلاحُ

أما تَرى الأُسْد تُخْشى وهي صامتةٌ      والكَلْبُ يُخْزى لعَمر الله نبَّاحُ

هاهو الإمام أحمد عليه رحمة الله في مجلسه وبين تلاميذه، ويأتي سفيه من السفهاء فيسبُّه ويشتمه ويقرعه بالسب والشتم، فيقول طلابه وتلاميذه: يا أبا عبد الله ! رُدّ على هذا السفيه. قال: لا والله! فأين القرآن إذاً؟ (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً الفرقان:63]

إذا سبني نَذلٌ تزايدتُ رفعةً     وما العيبُ إلا أن أكونَ مُساببه

ولو لم تكن نَفْسِي عليَّ عزيزةً     لمكنْتُها من كلِ نذل تُحاربه

استخدام الكلمة الطيبة في الدعوة إلى الله

هاهو مصعب بن عمير-سفير الدعوة الأول إلى المدينة النبوية- يأتيه أسيد بن حضير بحربته -وهو ما زال مشركاً- فيقول لـمصعب: ما الذي جاء بك إلينا؟ تسفه أحلامنا، وتشتم آلهتنا، وتُضيع ضعفاءنا، اعتزلنا إن كنت في حاجة إلى نفسك، وإلا فاعتبر نفسك مقتولاً. فما كان من مصعب -بهدوء المؤمن الواثق بموعود الله وبنصر الله لهذه الدعوة- إلا أن قال له -في كلمات هادئة-: أو تجلس فتسمع؛ فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره؟ قال: لقد أنصفت -وكان عاقلا لبيباً- فكلمه مصعب رضي الله عنه عن الإسلام، وقرأ عليه القرآن؛ فتهلَّل وجهه، وبرقت أسارير وجهه، واستهل وجهه، وقال: كيف تصنعون إذا أردتم الدخول في هذا الدين؟ -جاء ليقتله، والآن يريد أن ينهل مما نهل منه مصعب !- قال: اغتسل وتطهر، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أسلم الرجل وفي نفس الوقت أصبح داعية. يقول: إن وراءي رجلاً إن اتبعكم لم يتخلف عنه أحد من قومه -هو سعد بن معاذ - وذهب إلى هذا الرجل، واستفزه بكلمات معينة، فجاء هذا يركض إلى مصعب ، ويقول: إما أن تكف عنا وإما أن نقتلك، قال: أو تجلس فتسمع؛ فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن لم ترضَه كففنا عنك ما تكره؟ فجلس، فقام يخبره عن الإسلام ويبين له هذا الدين، فما كان منه إلا أن استهل وجهه، وبرقت أسارير وجهه، وقال: كيف يفعل من يريد الدخول في هذا الدين؟ قال: اغتسل وتطهر، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، ثم خرج من توِّه داعية إلى قومه، فذهب إلى بني عبد الأشهل، وقال: يا بني عبد الأشهل -وهم قومه-! كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأياً، وخيرنا، وأيمننا. قال: فإن كلامكم عليَّ حرام رجالكم والنساء حتى تؤمنوا بالله الذي لا إله إلا هو وتُصدقوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: فلم يبق رجل ولا امرأة في تلك الليلة إلا مسلم أو مسلمة.

فلا إله إلا الله! الكلمة الطيبة.. الكلمة الطيبة! الإحسان.. الإحسان، والله يحب المحسنين.

أَحسنْ إلى النَّاسٍ تَستعبدْ قلوبَهمُ     لطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

هاهو أعرابي -كما يُروى- يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فيمسكه بتلابيبه، ويهزُّه ويقول: {أعطني من مال الله الذي أعطاك، لا من مال أبيك ولا من مال أمك، فيقوم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون أن يؤدبوا من يعتدي على شخص محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: على رِسلكم، المال مال الله}. أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ثم يأخذ هذا الأعرابي ويداعبه، ويلاطفه، ويذهب به إلى بيته صلى الله عليه وسلم، فيقول: {خذ ما شئت ودع ما شئت} لكن ماذا يأخذ من بيت محمد صلى الله عليه وسلم، بيت لا توقد فيه النار شهرين ولا ثلاثة أشهر، بيت لم يشبع أهله من خبز الشعير، ولم يشبعوا من دَقَل التمر ورديء التمر، بيت يأتي السائل يسأل فلا يوجد -يوماً من الأيام- فيه سوى عنبة، وفي يوم من الأيام لا يوجد في بيته صلى الله عليه وسلم سوى تمرة واحدة، لكنه خير بيت وجد على وجه الأرض، بأبي وأمي صاحب ذاك البيت صلى الله عليه وسلم، ما ملك الأعرابي إلا أن قال: {أحسنت وجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. قال: إن أصحابي قد وجدوا عليك -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- فاخرج إليهم، وقل لهم ما قلت لي الآن، فخرج، وجاء إليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: هل أحسنت إليك يا أعرابي؟ قال: نعم وجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشد أنك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال صلى الله عليه وسلم: إنما مثلي ومثلكم ومثل هذا الأعرابي كرجل كانت له دابة فنفرت منه، فذهب يُطاردها، فجاء الناس كلهم وراءه يطاردون؛ فما ازدادت الدابة إلا نفاراً وشراداً، فقال: دعوني أنا ودابتي، أنا أعلم بدابتي، فأخذ من خشاش الأرض ولوَّح به لهذه الدابة؛ فما كان منها إلا أن انساقت إليه، وجاءت إليه، فأمسك بها.

أما إني لو تركتكم على هذا الأعرابي لضربتموه، فأوجعتموه؛ فذهب من عندكم على كفره، فمات، فدخل النار}.

أرأيتم الكلمة الطيبة يا أيها الأحبة؟

فلا إله إلا الله! لا أفضل من دفع السيئة بالحسنة، إنها آسرة القلوب والأرواح، إنها مُسْتلة الأضغان والأحقاد والسخائم من القلوب: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].

المؤمن الحق -يا أيها الأحبة- كالشجرة المثمرة، كلما رُجمت بالحجارة أسقطت ثمراً طيباً؛ فيا له من قمة! ويا لها من مُثل!

هاهو يهودي معه كلب -واليهود لطالما استفزوا المسلمين يريدون أن يوقعوهم في شَرَكِهم- يمر على إبراهيم بن أدهم عليه رحمة الله ذلكم المؤمن، فيقول له: ألحيتك -يا إبراهيم- أطهر من ذنب هذا الكلب، أم ذنب الكلب أطهر من لحيتك؟

فما كان منه إلا أن قال -بهدوء المؤمن الواثق بموعود الله عز وجل-: إن كانت في الجنة فهي أطهر من ذنب كلبك، وإن كانت في النار لذنب كلبك أطهر منها. فما ملك هذا اليهودي إلا إن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء: وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35].

أقول هذا لعموم الناس، أما نحن -الدعاة وطلبة العلم والمفترض في الحاضرين أن يكونوا طلبة علم- ليس لنا أن ننزل عن مستوى دعوتنا إلى التراشق برديء الكلام، ليس لنا أن ننزل إلى سفاسف الأمور، ولو حاول غيرنا جرَّنا إلى هذه الأمور، ليكن تحركنا ذاتياً، فلا يحركنا غيرنا؛ لئلا نُجرَّ إلى معارك وهمية خاسرة -ولا شك- ثم علينا ألا نغضب لأنفسنا، بل علينا أن نسمو بأنفسنا، عن كل بذيء، وعن كل ساقط.

لَو كلُ كلبٍ عَوى أَلقَمته حجراً     لأَصبحَ الصخرُ مثقالاً بِدِينار

ومنْ عاتبَ الجُهَال أتعب نفسه      ومنْ لام مَنْ لا يعرف اللوم أفسدَا

وليس معنى ذلك أن نستسلم فلا ندافع، لكن المدافعة أحياناً -يا أيها الأحبة- تكون بالسكوت، والمدافعة أحياناً تكون بالاختفاء، والمدافعة أحياناً تكون بالإعراض عن الجاهلين.

في يوم أحد -وما أدراكم ما يوم أحد- يوم أصاب المسلمين ما أصابهم، نادى أبو سفيان -وكان لا زال مشركاً- رضي الله عنه وأرضاه: هل فيكم محمد؟ فلم يرد صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر أحداً بالرد.

هل فيكم أبو بكر ؟ هل فيكم عمر ؟ فلم يُجبه أحد. مع أن الجواب قد كان أغيظَ له، لكن الموقف كان يستلزم السكوت من باب قول القائل:

إذا نطقَ السَّفيه فلا تُجْبهُ      فَخَير من إجابته السكوتُ

فإنْ كلمْتَه فرَّجت عنهُ     وإنْ خَلَّيته كمداً يموتُ

ومن باب قول الآخر :

والصَّمتُ عنْ جاهلٍ أو أحمق شرفٌ     وفيه أيضاً لصونِ العِرضِ إصلاحُ

أما تَرى الأُسْد تُخْشى وهي صامتةٌ      والكَلْبُ يُخْزى لعَمر الله نبَّاحُ

هاهو الإمام أحمد عليه رحمة الله في مجلسه وبين تلاميذه، ويأتي سفيه من السفهاء فيسبُّه ويشتمه ويقرعه بالسب والشتم، فيقول طلابه وتلاميذه: يا أبا عبد الله ! رُدّ على هذا السفيه. قال: لا والله! فأين القرآن إذاً؟ (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً الفرقان:63]

إذا سبني نَذلٌ تزايدتُ رفعةً     وما العيبُ إلا أن أكونَ مُساببه

ولو لم تكن نَفْسِي عليَّ عزيزةً     لمكنْتُها من كلِ نذل تُحاربه

هاهو مصعب بن عمير-سفير الدعوة الأول إلى المدينة النبوية- يأتيه أسيد بن حضير بحربته -وهو ما زال مشركاً- فيقول لـمصعب: ما الذي جاء بك إلينا؟ تسفه أحلامنا، وتشتم آلهتنا، وتُضيع ضعفاءنا، اعتزلنا إن كنت في حاجة إلى نفسك، وإلا فاعتبر نفسك مقتولاً. فما كان من مصعب -بهدوء المؤمن الواثق بموعود الله وبنصر الله لهذه الدعوة- إلا أن قال له -في كلمات هادئة-: أو تجلس فتسمع؛ فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره؟ قال: لقد أنصفت -وكان عاقلا لبيباً- فكلمه مصعب رضي الله عنه عن الإسلام، وقرأ عليه القرآن؛ فتهلَّل وجهه، وبرقت أسارير وجهه، واستهل وجهه، وقال: كيف تصنعون إذا أردتم الدخول في هذا الدين؟ -جاء ليقتله، والآن يريد أن ينهل مما نهل منه مصعب !- قال: اغتسل وتطهر، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أسلم الرجل وفي نفس الوقت أصبح داعية. يقول: إن وراءي رجلاً إن اتبعكم لم يتخلف عنه أحد من قومه -هو سعد بن معاذ - وذهب إلى هذا الرجل، واستفزه بكلمات معينة، فجاء هذا يركض إلى مصعب ، ويقول: إما أن تكف عنا وإما أن نقتلك، قال: أو تجلس فتسمع؛ فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن لم ترضَه كففنا عنك ما تكره؟ فجلس، فقام يخبره عن الإسلام ويبين له هذا الدين، فما كان منه إلا أن استهل وجهه، وبرقت أسارير وجهه، وقال: كيف يفعل من يريد الدخول في هذا الدين؟ قال: اغتسل وتطهر، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، ثم خرج من توِّه داعية إلى قومه، فذهب إلى بني عبد الأشهل، وقال: يا بني عبد الأشهل -وهم قومه-! كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأياً، وخيرنا، وأيمننا. قال: فإن كلامكم عليَّ حرام رجالكم والنساء حتى تؤمنوا بالله الذي لا إله إلا هو وتُصدقوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: فلم يبق رجل ولا امرأة في تلك الليلة إلا مسلم أو مسلمة.

فلا إله إلا الله! الكلمة الطيبة.. الكلمة الطيبة! الإحسان.. الإحسان، والله يحب المحسنين.

أَحسنْ إلى النَّاسٍ تَستعبدْ قلوبَهمُ     لطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن الاجتماع والألفة بين المؤمنين قوة، وأن التفرق والتشتت ضعف؛ فإن الإنسان قليل بنفسه، كثير بإخوانه.

وما المرءُ إلا بإخوانه كما تقبضُ الكفُ بالمِعْصمِ

ولا خيرَ في الكفِّ مقطوعةً ولا خيرَ في السَّاعد الأَجذمِ

يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[ ما أُعطي عبد بعد الإسلام خيراً من أخ صالح يذكره بالله؛ فإذا رأى أحدكم من أخيه ودّاً فليتمسك به]].

تمسَّك به مَسْكَ البخيلِ بماله وعضَّ عليه بالنواجذِ تَغْنم

ويقول الحسن عليه رحمة الله: [[إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا؛ لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا، وإخواننا يذكروننا بالآخرة، ويُعينوننا على الشدائد في العاجلة]].

إنْ يختلفْ نسبٌ يؤلفْ بيننا دينٌ أقمناه مقامَ الوالدِ

أو يختلفْ ماءُ الوِصَالِ فماؤنا عذبٌ تحدَّر منْ غمامٍ واحدِ

يقول عمر رضى الله عنه: [[والله! لولا أن أجالس إخوة لي ينتقون أطايب القول كما يُلتقط أطايب الثمر، لأحببت أن ألْحق بالله الآن]].

وهاهي جماعة من النمل تصادف بعيراً، فيقول بعضها: تفرقن عنه لا يحطمكنَّ بخفه، فقالت حكيمة منهن: اجتمعن عليه تقتلنه.

تأبى الرماحُ إذا اجتمعن تكسراً وإذا انفردت تكسرت آحادا

بنيان واحد.. جسد واحد.. أمة واحدة:

لو كبَّرت في جموع الصينِ مِئذنةٌ سمعت في الغربِ تهليلَ المصلينَ

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا [آل عمرن:103].

علمتني الحياة في ظل العقيدة: ألا تضيع فرصة في طاعة، فإن لكل متحرك سكوناً، ولكل إقبال إدباراً، ورحم الله أبا بكر ورضي الله عنه وأرضاه يوم يقول صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم : (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر : أنا. من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر : أنا. من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر : أنا. من تصدق اليوم على مسكين؟ قال أبو بكر : أنا. قال صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة).

من لي بمثلِ مشيك المعتدلِ      تمشى الهُوينا وتجي في الأولِ

صور من مبادرة أبي بكر في الطاعات

خرج أبو بكر من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن عمره في الإسلام بضعة أيام، وعاد وهو يقود الكتيبة الأولى من كتائب هذه الأمة، فعاد وقد أدخل في دين الله ستة من العشرة المبشرين بالجنة، يأتي يوم القيامة، وهم في صحيفة حسناته، وبعضنا يعيش عشرين عاماً وثلاثين عاماً وستين عاماً ومائة عام، وما هدى الله على يديْه رجلاً واحداً! إلى الله نشكو ضعفنا وتقصيرنا.

ليس هذا فحسب؛ بل يمر يوماً من الأيام على بلال رضى الله عنه وأرضاه وهو يُعذب في رمضاء مكة ، وبه من الجَهد ما به، وهو يقول: أَحَدٌ أحدٌ. فيقول: ينجيك الله الواحد الأحد.

ويرى أنها فرصة لا تتعوَّض لإنقاذ هؤلاء الضعفاء؛ لئلا يُفتنوا في دينهم فيصفي تجاراته، ويصفي أمواله، ويأتي إلى أمية بن خلف، ويقول: أتبيعني بلالاً ؟ قال: أبيعكه فلا خير فيه، فيعطيه خمس أواقٍ ذهباً، فيأخذ هذه الخمس، ويقول: والله لو أبيت إلا أوقية واحدة لبعتك بلالاً . قال: ووالله لو أبيت -يا أمية - إلا مائة أوقية لأخذته منك؛ لأن لـأبي بكر موازين ومقاييس ليست لهذا ولا لغيره من البشر، فرضي الله عنه وأرضاه. يقول أبوه: إن كنت ولابد منفقاً أموالك فأنفقها على رجالٍ أشداء ينفعونك في وقت الشدائد، فيقول: أبتاه! إنما أريد ما أريد. ماذا يريد أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه؟

إنه يريد ما عند الله ويريد وجه الله والدار الآخرة، يقول أناس: ما أعتق بلالاً إلا ليدٍ كانت له عند بلال ؛ يعني: لمعروف أسداه بلال إليه، فأراد أن يكافئَه بذلك، فيتولى الله سبحانه وتعالى الرد من فوق سبع سماوات: وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى الليل:19-21] رضي الله عنه وأرضاه، لقد كان سباقاً إلى كل فرصة يغتنمها.

وهاهو خيثمة بن الحارث كان له ابن يسمى سعد بن خيثمة بن الحارث ، ولما أراد المسلمون النفور إلى بدر ، وأرادوا الجهاد في سبيل الله؛ فما كان من هذا الرجل إلا أن قال لابنه: يا بني! تعلم أنه ليس مع النساء من يحميهن، وأريد أن تبقى معهن. ورأى هذا الشاب أن هذه فرصة لا تتعوض للجهاد في سبيل الله، قال: والله يا أبتاه! لا أجلس مع هؤلاء النساء. للنساء رب يحميهن، والله! ما في الدنيا شيء تطمع به نفسي دونك، والله! لو كان غير الجنة -يا أبتاه- لآثرتك به، ولكنها الجنة، والله لا أوثر بها أحداً.

ثم ذهب الشاب، وترك الشيخ الكبير مع هؤلاء النساء، ذهب يطلب ما عند الله، فاستشهد في سبيل الله -بإذن الله نحسبه شهيداً، ولا نزكي على الله أحداً- يقول أبوه بعد ذلك: والله! لقد كان سعدأعقل مني، أواه أواه! لقد فاز بها دوني، والله! لقد رأيته البارحة في المنام: يسرح في أنهار الجنة وثمارها، ويقول: أبتاه! الْحقْ بنا فإنَّا قد وجدنا ما وعد ربنا حقَّا.

موقف أبي خيثمة في غزوة تبوك

وهاهو أبو خيثمة يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت له زوجتان، جاءهما يوماً فوجد كل واحدة منهما قد رشَّت عريشها بالماء، وبردت له الماء، ووضعت له الطعام؛ فلما رأى ذلك بكى وقال: أواه أواه! يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحر والريح، وأبو خيثمة في الظل والماء البارد؟! والله! ما هذا بالنصف. ورأى أنها فرصة لو فاتته لعُدَّ من المنافقين، قال: والله! لا أذوق شيئاً حتى ألْحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. فهيَّأ زاده، وهيأ راحلته، وانطلق وحيداً في صحاري يبيد فيها البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد.

ولَحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فأدركه قرب تبوك ، ورآه الناس فقالوا: راكب مقبل يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: {كن أبا خيثمة! كن أبا خيثمة! قال الصحابة: هو أبو خيثمة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم} ففاز بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويا له من فوز!

مسارعة الحسن البصري في الدعوة إلى الله

وهاهو الحسن عليه رحمة الله: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُّفْتَرَى [يوسف:111] كانوا سباقين إلى الخير، لا يضيعون فرصة لطاعة الله عز وجل.

والٍ من الولاة في عهده بنى له بناء في واسط وزخرفه، وأكثر فيه من الزخرفة، ثم دعا الناس للفرجة عليه والدعاء له.

فما كان من الحسن يوم اجتمع الناس كلهم إلا أن رآها فرصة لا تُعوَّض أن يعظ الناس، ويذكرهم بالله، ويزهدهم في الدنيا، ويرغبهم فيما عند الله جل وعلا، فما كان منه إلا أن انطلق، ثم وقف بجانبهم هناك، فحمد الله وأثنى عليه، فاتجهت إليه القلوب والأبصار، ثم كان مما قال: لقد نظرتم إلى ما ابتنى أخبث الأخبثين فوجدنا أن فرعون بنى أعلى مما بنى، وشيَّد أعلى مما شيَّد، أليس هو القائل: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي) فأجرى الله الأنهار من فوق رأسه؟

ليته يعلم أن أهل السماء مقتوه، وأن أهل الأرض قد غرُّوه.. واندفع يتدفق في موعظته حتى أشفق عليه بعض السامعين من هذا الوالي، فقالوا: حسبك يا أبا سعيد ! حسبك. قال: لا والله! لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننَّه للناس ولا يكتمونه: {من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار}.

ويسمع ذلك الوالي، ويأتي لجُلاسه يتميز من الغيظ، ويدخل عليهم، ويقول: تباً لكم، وسحقاً، وهلاكاً لكم وبعداً، يقوم عبد من عبيد أهل البصرة فيقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد من يرده أو ينكر عليه، والله لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء! ثم أمر بالسيف والجلاد والنطع، وما كان منه إلا أن استدعى الحسن عليه رحمة الله. فجاء الحسن، ويوم رأى السيف ورأى الجلاد، تمتم بكلمات لم يعرف الحجاب والحُراس ماذا يقول؟

ويوم دخل، وقد خاف الله؛ خوَّف الله منه كل شيء، دخل على هذا الوالي فما كان منه إلا أن قال: أهلاً بك أيها الإمام! وقام يرحب به، ويقول: هاهنا هاهنا يا أبا سعيد ! حتى أجلسه على مجلسه، وعلى كرسيه، وجلس بجانبه، يسأله بعض الأسئلة ويقول له بعد ذلك: أنت أعلم العلماء يا أبا سعيد! انصرف راشداً. وهذا بعد أن طيَّب لحيته، فخرج من عنده فلَحِق به أحد الحجاب، وقال له: والله! لقد دعاك لغير ما فعل بك، فماذا كنت تقول؟ قال: دعني ونفسي. قال: أسألك بالله! ماذا كنت تقول وأنت داخل؟ قال: كنت أقول: يا وليّ نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته عليَّ برداً وسلاماً، كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.

اتصل بالله عز وجل ولم يضيع هذه الفرصة، وعلم الله صدقه، فأنجاه وأنقذه وحفظه: فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64].

فالحياة -يا أيها الأحبة- فرص من اغتنمها فاز، ومن ضيَّعها خسر: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ الحديد:20].

إذا هَبت رياحُك فاغْتنمها فإن لكل خافقةٍ سكون

ولا تغفل عن الإحسانِ فيها فلا تدري السكون متى يكونُ

وإن درَّت نياقُك فاحتلبها فلا تدري الفَصيل لمن يكونُ

أترجو أن تكون وأنت شيخٌ كما قد كنت أيام الشبابِ

لقد خدعتك نفسك ليس ثوب دريس كالجديد من الثياب

خرج أبو بكر من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن عمره في الإسلام بضعة أيام، وعاد وهو يقود الكتيبة الأولى من كتائب هذه الأمة، فعاد وقد أدخل في دين الله ستة من العشرة المبشرين بالجنة، يأتي يوم القيامة، وهم في صحيفة حسناته، وبعضنا يعيش عشرين عاماً وثلاثين عاماً وستين عاماً ومائة عام، وما هدى الله على يديْه رجلاً واحداً! إلى الله نشكو ضعفنا وتقصيرنا.

ليس هذا فحسب؛ بل يمر يوماً من الأيام على بلال رضى الله عنه وأرضاه وهو يُعذب في رمضاء مكة ، وبه من الجَهد ما به، وهو يقول: أَحَدٌ أحدٌ. فيقول: ينجيك الله الواحد الأحد.

ويرى أنها فرصة لا تتعوَّض لإنقاذ هؤلاء الضعفاء؛ لئلا يُفتنوا في دينهم فيصفي تجاراته، ويصفي أمواله، ويأتي إلى أمية بن خلف، ويقول: أتبيعني بلالاً ؟ قال: أبيعكه فلا خير فيه، فيعطيه خمس أواقٍ ذهباً، فيأخذ هذه الخمس، ويقول: والله لو أبيت إلا أوقية واحدة لبعتك بلالاً . قال: ووالله لو أبيت -يا أمية - إلا مائة أوقية لأخذته منك؛ لأن لـأبي بكر موازين ومقاييس ليست لهذا ولا لغيره من البشر، فرضي الله عنه وأرضاه. يقول أبوه: إن كنت ولابد منفقاً أموالك فأنفقها على رجالٍ أشداء ينفعونك في وقت الشدائد، فيقول: أبتاه! إنما أريد ما أريد. ماذا يريد أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه؟

إنه يريد ما عند الله ويريد وجه الله والدار الآخرة، يقول أناس: ما أعتق بلالاً إلا ليدٍ كانت له عند بلال ؛ يعني: لمعروف أسداه بلال إليه، فأراد أن يكافئَه بذلك، فيتولى الله سبحانه وتعالى الرد من فوق سبع سماوات: وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى الليل:19-21] رضي الله عنه وأرضاه، لقد كان سباقاً إلى كل فرصة يغتنمها.

وهاهو خيثمة بن الحارث كان له ابن يسمى سعد بن خيثمة بن الحارث ، ولما أراد المسلمون النفور إلى بدر ، وأرادوا الجهاد في سبيل الله؛ فما كان من هذا الرجل إلا أن قال لابنه: يا بني! تعلم أنه ليس مع النساء من يحميهن، وأريد أن تبقى معهن. ورأى هذا الشاب أن هذه فرصة لا تتعوض للجهاد في سبيل الله، قال: والله يا أبتاه! لا أجلس مع هؤلاء النساء. للنساء رب يحميهن، والله! ما في الدنيا شيء تطمع به نفسي دونك، والله! لو كان غير الجنة -يا أبتاه- لآثرتك به، ولكنها الجنة، والله لا أوثر بها أحداً.

ثم ذهب الشاب، وترك الشيخ الكبير مع هؤلاء النساء، ذهب يطلب ما عند الله، فاستشهد في سبيل الله -بإذن الله نحسبه شهيداً، ولا نزكي على الله أحداً- يقول أبوه بعد ذلك: والله! لقد كان سعدأعقل مني، أواه أواه! لقد فاز بها دوني، والله! لقد رأيته البارحة في المنام: يسرح في أنهار الجنة وثمارها، ويقول: أبتاه! الْحقْ بنا فإنَّا قد وجدنا ما وعد ربنا حقَّا.

وهاهو أبو خيثمة يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت له زوجتان، جاءهما يوماً فوجد كل واحدة منهما قد رشَّت عريشها بالماء، وبردت له الماء، ووضعت له الطعام؛ فلما رأى ذلك بكى وقال: أواه أواه! يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحر والريح، وأبو خيثمة في الظل والماء البارد؟! والله! ما هذا بالنصف. ورأى أنها فرصة لو فاتته لعُدَّ من المنافقين، قال: والله! لا أذوق شيئاً حتى ألْحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. فهيَّأ زاده، وهيأ راحلته، وانطلق وحيداً في صحاري يبيد فيها البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد.

ولَحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فأدركه قرب تبوك ، ورآه الناس فقالوا: راكب مقبل يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: {كن أبا خيثمة! كن أبا خيثمة! قال الصحابة: هو أبو خيثمة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم} ففاز بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويا له من فوز!

وهاهو الحسن عليه رحمة الله: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُّفْتَرَى [يوسف:111] كانوا سباقين إلى الخير، لا يضيعون فرصة لطاعة الله عز وجل.

والٍ من الولاة في عهده بنى له بناء في واسط وزخرفه، وأكثر فيه من الزخرفة، ثم دعا الناس للفرجة عليه والدعاء له.

فما كان من الحسن يوم اجتمع الناس كلهم إلا أن رآها فرصة لا تُعوَّض أن يعظ الناس، ويذكرهم بالله، ويزهدهم في الدنيا، ويرغبهم فيما عند الله جل وعلا، فما كان منه إلا أن انطلق، ثم وقف بجانبهم هناك، فحمد الله وأثنى عليه، فاتجهت إليه القلوب والأبصار، ثم كان مما قال: لقد نظرتم إلى ما ابتنى أخبث الأخبثين فوجدنا أن فرعون بنى أعلى مما بنى، وشيَّد أعلى مما شيَّد، أليس هو القائل: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي) فأجرى الله الأنهار من فوق رأسه؟

ليته يعلم أن أهل السماء مقتوه، وأن أهل الأرض قد غرُّوه.. واندفع يتدفق في موعظته حتى أشفق عليه بعض السامعين من هذا الوالي، فقالوا: حسبك يا أبا سعيد ! حسبك. قال: لا والله! لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننَّه للناس ولا يكتمونه: {من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار}.

ويسمع ذلك الوالي، ويأتي لجُلاسه يتميز من الغيظ، ويدخل عليهم، ويقول: تباً لكم، وسحقاً، وهلاكاً لكم وبعداً، يقوم عبد من عبيد أهل البصرة فيقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد من يرده أو ينكر عليه، والله لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء! ثم أمر بالسيف والجلاد والنطع، وما كان منه إلا أن استدعى الحسن عليه رحمة الله. فجاء الحسن، ويوم رأى السيف ورأى الجلاد، تمتم بكلمات لم يعرف الحجاب والحُراس ماذا يقول؟

ويوم دخل، وقد خاف الله؛ خوَّف الله منه كل شيء، دخل على هذا الوالي فما كان منه إلا أن قال: أهلاً بك أيها الإمام! وقام يرحب به، ويقول: هاهنا هاهنا يا أبا سعيد ! حتى أجلسه على مجلسه، وعلى كرسيه، وجلس بجانبه، يسأله بعض الأسئلة ويقول له بعد ذلك: أنت أعلم العلماء يا أبا سعيد! انصرف راشداً. وهذا بعد أن طيَّب لحيته، فخرج من عنده فلَحِق به أحد الحجاب، وقال له: والله! لقد دعاك لغير ما فعل بك، فماذا كنت تقول؟ قال: دعني ونفسي. قال: أسألك بالله! ماذا كنت تقول وأنت داخل؟ قال: كنت أقول: يا وليّ نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته عليَّ برداً وسلاماً، كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.

اتصل بالله عز وجل ولم يضيع هذه الفرصة، وعلم الله صدقه، فأنجاه وأنقذه وحفظه: فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64].

فالحياة -يا أيها الأحبة- فرص من اغتنمها فاز، ومن ضيَّعها خسر: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ الحديد:20].

إذا هَبت رياحُك فاغْتنمها فإن لكل خافقةٍ سكون

ولا تغفل عن الإحسانِ فيها فلا تدري السكون متى يكونُ

وإن درَّت نياقُك فاحتلبها فلا تدري الفَصيل لمن يكونُ

أترجو أن تكون وأنت شيخٌ كما قد كنت أيام الشبابِ

لقد خدعتك نفسك ليس ثوب دريس كالجديد من الثياب

علمتني الحياة في ظل العقيدة: ألا أعيب أحداً ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وأن أشتغل بإصلاح عيوبي، وإنها لكبيرة جِد كبيرة، أما يستحي من يعيب الناس وهو معيب؟!

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلُّها     كفى المرء نبلاً أن تُعَدَّ معايبه

من ذا الذي ما ساء قط      ومن له الحسنى فقط

تريد مبرأً لا عيب فيه      وهل نارٌ تَفوح بلا دُخَان

هاهو عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله ورضوانه، يختار جلاسه اختياراً، ويشترط عليهم شروطاً، فكان من شروطه: ألا تغتابوا، ولا تعيبوا أحداً في مجلسي حتى تنصرفوا.

السَّهل أسهلُ مسلكاً     فدع الطريق الأوعَرا

واحفظ لسانك تسترح     فلقد كفى ما قد جرى

هاهو ابن سيرين عليه رحمة الله كان إذا ذُكر في مجلسه رجل بسيئة بادر فذكره بأحسن ما يعلم من أمره، فيذب عن عرضه. فيذب الله عز وجل عن عرضه، سمع يوماً أحد جلاسه يسبّ الحجاج بعد وفاته، فأقبل مغضباً، وقال: صهٍ يا بن أخي! فقد مضى الحجاج إلى ربه، وإنك حين تقدم على الله ستجد أن أحقر ذنب ارتكبته في الدنيا أشد على نفسك من أعظم ذنب اجترحه الحجاج ، ولكل منكما -يومئذ- شأن يغنيه، واعلم يا بن أخي! أن الله عز وجل سوف يقتص من الحجاج لمن ظلمهم، كما سيقتص للحجاج ممن ظلموه، فلا تشغلن نفسك بعد اليوم بعيب أحد، ولا تتبع عثرات أحد:

ومن يتبع جاهداً كل عثرةٍ     يجدْها ولا يسلم له الدهر صاحبُ

يا عائب الناس وهو معيب! اتق الله، أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وخواص المسلمين هم العلماء، والوقيعة فيهم عظيمة جد عظيمة، لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالسب بلاه الله قبل موته بموت القلب:

وكم من عائبٍ قولا صحيحاً     وآفته من الفَهم السقيمِ

ومن يك ذا فمٍ مرٍ مريضٍ     يجدْ مُراً به الماءَ الزلالا

فإن عبت قوماً بالذي فيك مثْلُه     فكيف يعيبُ الناسُ من هو أعورُ؟

وإن عبت قوماً بالذي ليس فيهمُ     فذلك عند اللهِ والناس أكبرُ

من طلب أخاً بلا عيب صار بلا أخ، ألا فانظر لإخوانك بعين الرضا.

فعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلة     ولكن عين السخطِ تُبْدي المساويا

وكيف ترى في عين صاحبك القذى     ويخفى قذى عينيك وهو عظيمُ

بعض الإخوة ظلمة.. بعض الإخوة غير منصفين، يرون القذاة في أعين غيرهم، ولا يرون الجذع في أعينهم، فحالهم كقول القائل:

إن يسمعوا سُبّةً طاروا بها فرحاً     مني وما يسمعوا من صالحٍ دفنوا

صمٌ إذا سمعوا خيراً ذُكِرت به     وإنْ ذُكرت بسوءٍ عندهم أَذِنوا

إن يعلموا الخيرَ أخفوه وإن يَعلموا     شراً أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا

طوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب غيره، وكان حاله:

لنفسي أبكي لستُ أبكي لغيرها     لنفسي عن نفسي من الناسِ شاغلُ

(والكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأمانيّ).