الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ومنهجه في التعليم


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم وسلك سبيلهم إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام! إنها لساعة محببةٌ إلى القلوب أن نجتمع فيها إلى علمائنا، ونأخذ عنهم، ونلتف حولهم. وإن سير العلماء لمن أفضل ما تكلم فيه المتكلمون، فإن سير العلماء مدارس يستقى منها الفضل والقدوة الحسنة. نستضيف في هذه الليلة فضيلة وسماحة شيخنا العلامة الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين الذي يعد نجماً وكوكباً لامعاً في سماء الرياض بدروسه ومحاضراته، نسأل الله أن يرفع درجاته في الدنيا والآخرة. يحدثنا سماحة شيخنا عن شيخه العلامة الكبير محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ عالم عصره ومفتي مِصره، وفضيلة شيخنا عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين حينما يتحدث عن الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ، ومنهجه في التعليم، فإنما يحدثنا عن كثب، ويتكلم عن معرفة؛ لأنه من أبرِ وأكبرِ تلاميذِ سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ، ومن ألصقهم به. وأترك المجال لسماحة شيخنا ليحدثنا الحديث العذب الذي تشتاقه نفوسنا، ألا وهو الحديث عن الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ ومنهجه في التعليم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: سأحدثكم بما أعرفه ولا أتكلف ما لا أعرفه؛ وذلك لأن الشيخ: محمد بن إبراهيم رحمه الله قد تتلمذ عليه مئات، وربما يكونون ألوفاً: الذين قرءوا عليه .. والذين أخذوا مسيرته، وعملوا بها والذين تعلموا عليه علوم العقيدة، وعلوم الأحكام، وعلوم الآداب.

ذكر لنا الشيخ -رحمه الله- في بعض الدروس: أنه كان يقرأ على مشايخ منهم: أعمامه وأبوه، كان يقرأ عليهم بعض الدروس ويحفظ، وذلك قبل أن يكف بصره، ولما أصيب ببصره اشتغل بحفظ القرآن، وأكب على حفظه حتى حفظه. وقد كانوا يعتنون أولاً: بحفظ القرآن قبل البدء في العلوم، وذكر لنا عجائب من حفظه ومن جهده واجتهاده. وللشيخ مشايخ وتلاميذ كثيرون لن أتكلم عن مشايخه، ولا عن تلاميذه، ولا عن مولده ووفاته، فإن ذلك قد كتب عنه كثيراً، وقد ألفت في سيرته عدة مؤلفات، وكتبت في ذلك عدة رسائل؛ تكلمت عن منهجه في التعليم، وعن اختياراته، وما يتعلق بسيرته. ونحن نتكلم على أطرافٍ مما أدركناه، ولست أنا أكبر تلاميذه، ولا أخصهم، فتلاميذ الشيخ كثر، ومن أخصهم ابناه الموجودان: عبد العزيز وإبراهيم ، فإنهما قرءا عليه كثيراً، وكذلك زميله في الإفتاء: عبد الله بن سليمان بن منيع، فقد اشتغل في الإفتاء كثيراً، وأيضاً من زملائه: إسماعيل بن عتيق، الذي اشتغل معه كثيراً في الإفتاء، ومن تلاميذه الذين قرءوا عليه كثيراً: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، وغيرهم وهم كثيرون لا حاجة إلى أن أعدهم، فهم مشهورون ومعروفون.

الذي سمعته عن أول بدئه في التدريس وفي الإمامة: أنه كان تلميذاً لعمه عبد الله بن عبد اللطيف ، وكان عبد الله هو الإمام والخطيب في هذا المسجد، الذي عرف بمسجد عبد الله ، ثم عرف بعد ذلك بمسجد الشيخ محمد والذي لا يزال في وسط البلد، وكان صغيراً ثم وسع، وكان إمامه الشيخ عبد الله رحمه الله، ولما مرض استناب ابن أخيه الذي هو محمد بن إبراهيم بعد ما كف بصره، ولما توفي الشيخ عبد الله ؛ ترك الشيخ محمد الإمامة، فقيل: لا تتركها؟ فقال: إن الذي أنابني قد مات، ولا ألي شيئاً لست أهلاً له، ولم أكن نائباً عن صاحبه، قال ذلك من باب الورع، كأنه يقول: عمي هو الذي وكلني، وحيث إني كنت وكيلاً عنه في هذه الإمامة، وحيث إنه قد توفي فأنا لا أقوم بهذه الإمامة؛ لأن الذي وكلني قد مات، وكان ذلك في سنة تسعٍ وثلاثين، ولما سمع بذلك الملك عبد العزيز استشار من الأولى بإمامة هذا المسجد؟! فعند ذلك قالوا: لا نعلم أكفأ من محمد بن إبراهيم ، فأمر بأن يكون هو الإمام، وتولى إمامة هذا المسجد لمدة خمسين سنة، أي: من تسعٍ وثلاثين إلى أن مات سنة تسعٍ وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة؛ كان هو لإمام لهذا المسجد، إلا أنه كان لا يخطب به، فقد كان يخطب في الجامع الكبير، ويوكل أحدَ إخوته للخطبة بمسجده. وأما جلوسه للتعليم فأنا ما أدركت أول ذلك، ولكن أدركت تلاميذه الذين أخبروني بجلوسه، فكان جلوسه رحمه الله للطلاب من حين تولى هذه الإمامة -أي: من سنة تسعٍ وثلاثين- بعد موت عمه، حيث جلس للتدريس مع أن هناك من هم أكبر منه سناً، بل منهم في درجة مشايخه الكبار كالشيخ: سعد بن عتيق ، والشيخ: سليمان بن سحمان ، والشيخ: حمد بن فارس، وكذلك عمه الشيخ محمد بن عبد اللطيف الذي عُمِّر إلى أن مات سنة ثمان وستين، فرفع الله مكانة الشيخ محمد بن إبراهيم فتولى هذا التدريس.

كان الشيخ لا يَمل من التدريس، وكان وقته للدراسة وللقراءة، ويدل على ذلك سماعه لفتاوى المشايخ التي جمعها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله، وهي هذا المجموع الكبير الذي سماه: الدرر السنية، فإنه قرأها عليه، وكتب الشيخ في مقدمتها: لقد قرأ علي أخونا عبد الرحمن بن قاسم هذه الرسائل، فبعضها مرتين، وبعضها أكثر من ذلك، يقرأها عليه للتصحيح، وهي رسائل أئمة الدعوة ونصائحهم، ومسائل سئلوا عنها، فرتبها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله على الأبواب، فهذه المجموعة المكونة من اثني عشر مجلداً قرأها عليه وسمعها كلها. وأما قراءة القراء عليه، فذكروا أنه كان يجلس بعد الفجر مباشرةً غالباً، فيقرأ عليه إلى أن تطلع الشمس، ثم بعد ذلك ينصرف إلى بيته لتناول القهوة ونحوها، فإذا ارتفعت الشمس فتح بابه للطلاب فتوافدوا عليه، وقرءوا عليه في المطولات ككتب التفسير، وكتب الحديث، وشروح الحديث، فقد قرئت عليه الشروح الكبيرة كفتح الباري وغيره من الشروح، ومن كتب التفسير: تفسير ابن جرير، وتفسير ابن كثير، وتفسير البغوي، وهذه قرئت عليه مراراً، ولكن كان أكثر اهتمامه بكتب العقيدة وكتب التوحيد؛ وذلك لأن آباءه وأجداده أولوها اهتماماً، فكان حريصاً على تكرارها، وكان حريصاً على حفظها، وعلى تكليف الطلاب بحفظها. وهكذا إلى أن يَقرُبَ وقت القيلولة فيأذن لهم بالانصراف -قبل الظهر بساعةٍ أو نحوها-، ثم بعد صلاة الظهر يتوافدون إليه إلى المسجد، ويقرءون -هذا فيما أذكر وفيما نقل إليَّ- نحو ساعة أو قريباً منها. وكذلك بعد العصر يدرسون عليه أيضاً ساعة أو أكثر منها، وهكذا أيضاً بعد المغرب -أي: بين العشائين-، فيعمر وقته رحمه الله بهذه الدروس، وكان يهتم بالمتون ويوصي بها تلاميذه، فاستفادوا منه كثيراً. ولعلكم قرأتم في مقدمة : (الفوائد الجلية) للشيخ: ابن باز قوله: إني استفدت أكثرها من تقريضات شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.

كان الشيخ إذا رأى نجابة الطالب الذكي فإنه يحبه، ويرفع مكانته، ويشجعه على الدراسة وعلى الحفظ، كما حصل لتلميذه الأمثل الشيخ: ابن باز -رحمهما الله جميعاً-، فإن الشيخ ابن باز رحمه الله كان دائماً يعترف بفضله عليه، وبتقديمه له، وكلما ذكره هملت عيناه دمعاً؛ لاعترافه بفضله، وفي هذا دليلٌ على أنه كان يشجع كل من يرغب في التتلمذ عليه، وحدثني بعض المشايخ كالشيخ عبد الرحمن بن عويمر رحمه الله أنه قرأ عليه زاد المستقنع مرتين أو ثلاثاً، وكذلك قرأ عليه كتاب بلوغ المرام حفظاً، وقرأ عليه زملاء له كانوا يجتهدون في حفظه، وقد أدركنا بعضهم يحفظون الزاد كاملاً حفظاً متقناً. أدركنا شيخاً لنا هو تلميذٌ للشيخ محمد يقال له: صالح بن مطلق رحمه الله كان يحفظ الزاد، وكان قد قرأه على الشيخ، وسمع شرحه عليه، وكذلك غيره من المشايخ، وأدركت شيخاً يقال له: عبد الله بن مرشد يحفظ الزاد، وكان ضريراً، وكنت مرةً في مسجدٍ له، وكان هو الإمام، وكان يوم مطر، فابتدأ يقرأ من وسط الزاد، حتى قرأ نحو ساعة أو ساعتين قراءة متواصلة! ثم سئل فقال: إني حفظته وقرأت شرحه على الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.

عندما أتيت إلى الرياض في سنة أربعٍ وسبعين، وذلك بعدما فتح المعهد العلمي، وانتظم فيه خلقٌ كثير، وبقي آخرون أغلبهم من المكفوفين لم يلتحقوا بالمعهد؛ وذلك لأن فيه علوماً لا تناسبهم وتصعب عليهم؛ لكونهم مكفوفي الأبصار، فعزم الشيخ رحمه الله على أن يفتح معهداً خاصاً، وسماه: معهد إمام الدعوة، ولما عزم على فتحه كان أول جلسة جلسها بعد الفجر، وذكر فيها فتحه لهذا المعهد، وأن سبب فتحه: أن هناك من لا يرغب في دراسة التقويم ولا الحساب ولا الجبر ولا الهندسة ونحوها من العلوم الجديدة، وإننا نريد أن يكون هذا المعهد معهداً شرعياً خاصاً، وذكر أنه يدرس فيه عشر موادٍ، وأخذ يعددها بأصابعه -ونحن ننظر- فقال: الفقه، وأصول الفقه، والحديث، ومصطلح الحديث، والتفسير، وأصول التفسير، والتوحيد، والعقيدة، والنحو، والفرائض، فهذه العشرة كلها دروس دينية، وهي التي قررها في ذلك المعهد عندما فتح في سنة أربعٍ وسبعين، ولما فتح للسنة الأولى كانت الدراسة في المسجد، فتولى تدريس حلقتين، حيث قسمهم إلى أربع سنوات، سنة رابعة: فيها المتقدمون الذين معهم تمكن، وسنة ثالثةٌ: دونهم في الرتبة، ولكن معهم سابق علم، وسنةٌ ثانية: دونهم كذلك، وسنة أولى: وهم الأكثرية، وهم المبتدئون، وإن كان فيهم أيضاً بعض التلاميذ المتفوقين. التزم الشيخ بتدريس السنة الرابعة، وبتدريس السنة الأولى الذين هم الأكثرية، وكنت أنا في السنة الرابعة، واستمر يدرسنا لمدة ثمان سنوات، قرأنا عليه فتح المجيد بأكمله فيما يتعلق بالتوحيد، وقرأنا عليه الفتوى الحموية في العقيدة، وكذلك العقيدة الواسطية، وقرأنا عليه كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وقرأنا عليه شرح الطحاوية، وكان يشرحه شرحاً متوسطاً، وكان يعلق على الجملة أو على المقطع تعليقاً خفيفاً؛ وذلك لأنه يثق بأنه ظاهر، وأن هذا الكتاب إن شرحه شرحاً موسعاً فسيطول، وبالأخص كتاب الإيمان لسعته، وما أشبه ذلك. وكان رحمه الله تعالى متوغلاً في علم التوحيد، وحضرنا له درساً في السوق، كان إذا انتصف الضحى -أي: قبل الظهر بساعتين- جاء إلى السوق -الذي هو مجتمع الناس- وقرءوا عليه باباً من أبواب كتاب التوحيد، ثم يشرحه شرحاً واسعاً، ويتوسع في ذلك الباب، وقد أعطي ذكاءً وفقهاً في هذا الكتاب، حتى إنه يستخرج منه فوائد عديدة زيادة على المسائل التي استنبطها منه المؤلف، ويشرح الجمل شرحاً بليغاً، ويطبقها على الواقع، وأتذكر أنه قُرئ عليه باب احترام أسماء الله تعالى، وتغيير الاسم لأجل ذلك، وفيه حديث أبي شريح؛ أنه كان يكنى أبا الحكم ، فبعد ما شرح الباب قال: إن الناس يتساهلون في هذه الأسماء، فيسمون بما يقرب من أسماء الله تعالى، ثم قال: إن من الناس من يسمي عبد العزيز: عِزَيِّز، ويسمون عبد الرحمن: دِحَيِّمْ، وأخذ يمثل بمثل هذه الأسماء.. وهذا لا يجوز، فإن ذلك تغيير لأسماء الله، وأسماء الله يجب أن يكون لها مكانتها. ولما تكلم على باب ما جاء في المصورين، كان التصوير قد ظهر في ذلك الوقت، فأخذ ينكر على الذين يتوسعون في التصوير، بأي نوعٍ من أنواع التصوير، ثم استطرد وذكر ما انتشر من الكتب المليئة بالصور، فذكر أنها كتب لا فائدة فيها، ولا أهمية لها، ومع ذلك يوجد في جوانبها كثير من الصور، وكذلك المجلات، وأخذ ينكرها، وقد استجاب لذلك كثير من الذين سمعوهُ، فرجعوا ومزقوا ما عندهم من الصور. وبالنسبة إلى تدريسه للسنة الأولى، فقد درسهم الثلاثة الأصول، والأربعين النووية، ودرسهم في النحو: الآجرومية، وكنا نحضر له في درس ثلاثة الأصول، فكان يشرحه ويأتي بفوائد عجيبة يستنبطها من ذلك المتن، وهكذا أيضاً في شرحه للأربعين النووية.

بالنسبة إلى الدروس الواسعة فقد درسنا عليه متن وشرح زاد المستقنع، وكان يكلفنا بحفظه، وإن كان بعضنا قد يعجز، ويكلفنا أيضاً: بحفظ البلوغ؛ لأنا قرأنا عليه الروض المربع مرتين، مرة في المرحلة الثانوية: وهي أربع سنين، ومرة في القسم العالي -الذي هو التخصص، وكان يوازي الجامعة- أربع سنين، فقرأنا هذين الكتابين، وقرأنا من كتب التوحيد، ومن كتب العقيدة. وكنا نلاحظ عليه في الفقه أنه لا يخالف ما في الكتاب إلا قليلاً، وكان الذي يقرأ عليه شيخ زميلٌ لنا، وهو عبد الرحمن بن محمد بن مقرن آل سعود رحمه الله الذي توفي في نحو اثنين وتسعين أو قريباً منها، وكذلك أحد التلاميذ الموجودين وهو: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، كان إذا قرأ عليه القارئ يأمره أن يقرأ جملةً من الروض المربع، وإذا قرأ الجملة شرحها، فأحياناً يكون منبسط البال، فيتوسع في الشرح، وأحياناً تكثر عليه الواردات فيختصر ولا يتوسع، وإذا توسع فإنه يأتي بأمثلة توضح تلك الجملة، ويبين ما يتعلق بها وما يلحق بها، وكذلك إذا شرح حديثاً من بلوغ المرام، يحرص على أن يتوسع في شرحه، ويبين ما يتصل بذلك الحديث، وتعرفون أن بلوغ المرام فيه بعض الأحاديث الضعيفة، فكان لا يتوسع في شرحها، وتعرفون أيضاً أن في آخره ستةَ أبوابٍ تتعلق بالأدب، وليست من الفقه، وقد شرحه لنا مرتين، وكان يتوسع في شرحه شرحاً غالباً. ولم يكن في ذلك الوقت قد تواجدت أجهزة التسجيل إلا قليلاً، فلم يكن أحدٌ يسجل كلامه فيما أذكر، ولكن كان أكثرهم يكتبون ما يستفيدونه منه، وكان من أكثر الطلاب عناية بكتابة فوائده زميلنا الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله، والذي توفي قبل أكثر من سنة إثر حادثٍ حصل له، فقد كان سريع الكتابة، ولكن كتابته لا يعرفها إلا هو؛ لأنه لا ينقط الحروف، ولأنه يسرع فيها، وغالباً لا يفوته إلا القليل من كلام الشيخ، وكانت طريقة الشيخ رحمه الله في الإلقاء متوسطة، فكان يتكلم كلاماً متوسطاً، ولا يسرع في إلقاء الجمل، بحيث إن من يريد أن يتابعه يستطيع أن يتابعه ويلحقه. ذكر لنا محمد بن القاسم رحمه الله أنه كتب ثمانية وعشرين دفتراً على شرح الفتوى الحموية، والدفتر عشرون ورقة، فمعنى ذلك أنه لو نسخ لكان مجلداً كبيراً، ويظهر أن الشيخ محمد بن القاسم رحمه الله لم يتفرغ لنسخه، وكان يتابعه في الشروح: في شرح الزاد، وفي شرح الحديث، ونحو ذلك؛ لاهتمامه بإثبات ما يقدر عليه من الفوائد، أما نحن فكنا نعلق بين الأسطر من بلوغ المرام أو في هامش الروض المربع: الفوائد الغريبة، والفوائد الجديدة، وبالنسبة للروض المربع كان مطبوعاً في ثلاثة مجلدات، وعليه حاشيةٌ للشيخ العنقري رحمه الله، ومع ذلك كنا نعلق في الهوامش وفي الحواشي ما يتيسر لنا من الفوائد، وكذلك أيضاً: قد يأخذ أحدنا دفتراً، ويعلق فيه ما تيسر من الفوائد.

لم يكن الشيخ يخالف ما في كتاب الفقه إلا قليلاً، لا يخالفه فعلياً ولا قولياً إلا نادراً، فمرة كان يتكلم في الكلام على نية الصلاة، وأنها من شروط الصلاة، فصاحب الروض -كأصحاب المذهب- تأثروا بكتب الشافعية، فقال صاحب الروض: ويستحب التلفظ بها سراً، فأنكر الشيخ هذه الجملة، وقال: لا يستحب؛ وذلك لأنكم كما تعرفون في ثلاثة الأصول، وما ذكر في آخرها من شروط الصلاة؛ أنه ذكر النية وقال: (ومحلها القلب، والتلفظ بها بدعة)، فقال: إن التلفظ بالنية سراً أو جهراً كله بدعةٌ منكرة، ولا دليلُ على ذلك، وأخذ يبين أنه لا دليلَ على أن التلفظ بها مشروع. ومما ذكره الفقهاء: أنه لا يجوز استقبال النار ولو سراجاً، يقولون: ولا يجوز استقبال نارٍ ولو سراجاً، وبعد أن جاءت هذه الإنارة الكهربائية قال: لا تجعلوها أمام المصلي -أي: لا يستقبل المصلون نوراً كهربائياً- قالوا: كيف نفعل؟ قال: اجعلوها على رءوسهم على السواري، وكان في المسجد ستة صفوف من السواري، فكانوا يجعلون على رأس السارية واحدة من اللمبات، حتى لا يستقبلونها، وكانوا أحياناً يصلون في الرحبة التي في شرق المسجد، والتي توصف بالخلوة، وكانت هناك لمبةٌ يقرءون عليها قبل الصلاة -في وقت العشاء- وكذلك إذا كان هناك درسٌ، فإنهم يقرءون عليها، وكانت ملصقةً بخشبةٍ قرب المحراب؛ فإذا أقيمت الصلاة كان يقول: أطفئوا هذه اللمبة، ولا تشوشوا على المصلين، وهذا من تشدده رحمه الله بالعمل بما نص عليه الفقهاء: من أنه لا يجوز استقبال نارٍ ولو سراجاً، ولما جاءت هذه الكهرباء التي عمت المساجد، توسع في ذلك المشايخ وبالأخص الشيخ: عبد العزيز بن باز رحمه الله فقالوا: إنه لا مانع من استقبالها وجعلها أمام المصلي. ولما عمر المسجد الكبير في سنة سبعين، وركب فيه جهاز المكبر، أنكره بعض الناس الذين حوله، وقالوا: إن هذا بدعة؛ لأنه لم يكن معروفاً، وكيف نصلي ونحن لا نقتدي بصوت القارئ ولا بصوت الإمام؟ لا حاجة لنا في هذا، أما الشيخ فقد قبل ذلك، وقال: هذا فيه فائدة، وهو تكبير للصوت، وإرساله إلى مكان بعيد، ولكن لما كان هناك كثيرون لا يصلون فيه معه، قال لهم: لا تركبوا هذا المكبر في المسجد القديم، الذي هو مسجد آل الشيخ، واستمر المسجد ليس فيه مكبر إلى قبل وفاته بنحو أربع أو خمس سنين فيما أذكر، فركب فيه هذا المكبر، وكان قد اقتنع بأنه لا بأس به، وأنه جائز لما فيه من الفائدة: وهي تكبير الصوت، وإرسال الصوت إلى الأماكن البعيدة، وقد كانوا لا يسمعون المؤذن وهم بجوار البيوت، فاقتنعوا وقنعوا.

بالنسبة إلى الأمور المستجدة فقد عرف الشيخ بغيرته على أمور العقيدة، وألف رسالةً طبعت في ذلك الوقت، ثم طبعت مع مجموع رسائله، في إثبات أن القرآن عين كلام الله، وأنه كلام الله حقاً، وأن الذين قالوا: إنه حكاية أو عبارة فهم في الحقيقة ينكرون كلام الله. وكان بعضهم يعرب بعض السور فمر على قوله تعالى: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس:17]، مع أن التلاميذ يعرفون أن هذا الحرف يفيد التعجب، وكان المدرس أشعرياً، فأنكر صفة العجب، وقال: لا يوصف الله تعالى بالعجب، فرفعوا الأمر إلى الشيخ، فعند ذلك أحضره وأقنعه وبين له: أن هذا يتعلق بالعقيدة، وأن الله تعالى موصوفٌ بصفات الكمال، وقد وصف الله نفسه بهذا في قوله: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد:5]، وكذلك في الأحاديث، فكان غيوراً على مثل هؤلاءِ. وأذكر أنه في حدود سنة خمس وسبعين طلب منا أن نقرأ على بعض المشايخ، فتوقف بعض زملائنا، وأشدهم الشيخ محمد بن قاسم ، وقالوا: لا يمكن أن نقرأ على هؤلاء، فأقنعهم، بأننا قد أقنعناهم وأنهم قد اقتنعوا بما نحن عليه، فامتنع الزملاء، وعند ذلك صرفنا إلى قراءة أصول الفقه فقال: اقرءوا على الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أصول الفقه، وكذلك اقرءوا على الشيخ فلان في النحو، فالحاصل أنه كان يتنزل على رغبة الطلاب الذين يخافون أن يدخل في عقيدتهم شيءٌ من التغير. وبالنسبة إلى غيرته رحمه الله، فقد كان غيوراً على المحرمات، وكان من الإخوان الذين يحبون أن يغيروا الشيخ: عبد الرحمن بن ريان رحمه الله والشيخ فهد بن حمين شفاه الله والشيخ: عبد الرحمن بن مقرن رحمه الله وغيرهم من التلاميذ الذين عندهم قدرة على الإنكار والإقناع، فكانوا كلما سمعوا بمنكر جاءوا إليه وبينوا له، وأكثر ما كانوا ينكرون على أهل اللعب -أهل المباريات- ونحوها، ويقولون: إنه يحضرها أناسٌ، وإنهم لا يؤدون صلاة العصر جماعة، ولا صلاة المغرب، فأصدر أمره: أنهم لا يأتون إلا بعد صلاة العصر، وأن ينصرفوا قبل صلاة المغرب، إذا كانت هناك مبارياتٌ أو ما أشبه ذلك. وكذلك إذا أنكروا نشرة من النشرات، فإنهم يأتون إليه، فإذا أخبروه فإنه يغار على ذلك، ويرد على ذلك المتكلم في تلك النشرة، ولعل بعضكم يذكر ما قاله الشيخ ابن باز رحمه الله في مسألة دوران الأرض، حيث نشر نشرةً، وذكر قول الله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [يس:38] ، وقال: من أنكر جريان الشمس على ما ذكر الله، فإنه قد رد كلام الله، ويكون بذلك مرتداً، فرد عليه الشيخ المعروف بـالصواف رداً طويلاً، وأخذ ينشره في الصحف، ولما نشر في ثلاثةِ أعدادٍ أمر الشيخ محمد رحمه الله بإيقافه، وعدم نشره لبقيةِ ما عنده، ولكنه نشر بعد ذلك كتابٍاً أو رسالةً سماها: (المسلمون وعلم الفلك)، وهي التي رد عليها الشيخ حمود التويجري رحمه الله، وحاولوا أن يقنعوا الصواف بذلك، ولكنه أصر على عقيدته وعلى ما هو عليه في هذه المسألة. وكذلك كان الإخوان يفزعون إليه إذا رأوا منكراً، وكان المنكر في ذلك الوقت يستنكر ولو كان يسيراً، وكان يوجد في أقصى الرياض شرقاً: مطعم أو قهوة، وكان فيه هذا الجهاز الذي يسمى -السينما-، وانكب عليه الجهلة يزدحمون على النظر والتفكر في تلك الصور التي تعرض، ففزع الإخوان إليه، وأنكروا ذلك، وأمر بإقفاله فيما يظهر أو عدم استعمال هذا الجهاز لما فيه من الفتنة. ولما خرج جهاز التلفاز المعروف، فزع إليه الإخوان وقالوا: إنه تظهر فيه منكرات، وإنه فيه مفاسد، فأكد على المسئولين: ألاَّ تظهر فيه صورة امرأة -أي: صورة الوجه- فإذا كانوا في حاجةٍ إلى إخراج كلامها فيكون كلاماً بدون صورة، فكانت المرأة لا يبدو شيءٌ من بدنها إلا كيدها، وأما الرأس والوجه فلا يظهر طوال بقائه رحمه الله، وبعدما توفي توسعوا كما هو الواقع، وقد عرف أن هذا فتنة.

كان الشيخ رحمه الله يقتدي بآبائه وأجداده في أعماله، فبالنسبة إلى الإمامة كان رحمه الله يمد صوته بتكبيرة الإحرام، وإذا كبر للركوع فإنه يختصر التكبير: (الله أكبر)، وكذلك إذا سجد، ولكونه ضريراً كان ينحني حتى يصل إلى الأرض، فإذا وصل إلى الأرض ولم يبقَ بينه وبين الأرض إلا قدر تكبيرة، قال: الله أكبر، لماذا؟ يخشى أنهم يسابقونه، فتبطل صلاتهم بهذه المسابقة. وبالنسبة إلى الخطب كان رحمه الله لا يخرج عن خطب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وقد كانت مطبوعة في رسالة مفردة، وكان يحفظها ويخطب بها، وكانت على طريقة الخطباء القدامى، كانت مسجوعةً غالباً، فيقف على كل جملةٍ ويرتلها، والخطبة الثانية: قد يدخل فيها أيضاً بعض التنبيهات والأشياء الجديدة. وأذكر مرةً أنه كان أمام المسجد شارعٌ واسع يسمى شارع آل سويلم ، فمرت سيارة وهو في الخطبة، وعند ذلك نبه -وهو في الخطبة- وقال: إن هؤلاء الذين يمرون والناس يصلون، إن كانوا نصارى فيجب منعهم، وصرح بلعنهم -لعنهم الله-، وإذا كانوا متهاونين فيجب إقفال الأبواب عنهم، فبعد تلك الخطبة جاء الأمر من الملك في ذلك الوقت: الملك سعود بإقفال الشارع إذا أذن المؤذن الأذان الأخير للجمعة، ويمنع المرور أمام ذلك الشارع، حتى لا يشوش على المصلين، فيوقف الشارع من هنا ومن هنا، وهذا من حماسه وغيرته رحمه الله. وسيرته معروفةٌ ومعلومة، ومن أراد التوسع فيها فليرجع إلى ما كتبه تلاميذه في ذلك. نسأل الله أن يتغمده برحمته، وأن يفسح له في قبره، ونسأله سبحانه أن يرفع درجاته ويجزيه عن الإسلام والمسلمين أفضل الجزاء، وأن ينفع بعلمه، وأن يبارك في تلاميذه وفي خلفه، وأن يجعلهم قدوةً حسنة لمن بعدهم، إنه على كل شيءٍ قدر، والله أعلم، وصلى الله على محمد.