العلاج الجيني ونقل الخلايا الجسدية لأغراض الوقاية والعلاج
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
العلاج الجيني[1] ونقل الخلايا الجسديةلأغراض الوقاية والعلاج
تقوم الهندسة الوراثية بدور بالغ الأهمية في تشخيص الأمراض الوراثية والكشف عنها، للوقاية منها، وعلاجها بأساليب حديثة؛ حيث إن معظم الأمراض الوراثية سببها جينات معتلة متنحية، يمكن إحلال جينات سليمة محلها، بحيث يقوم الجين البديل بنفس وظيفة الجين المعتل، وهكذا أمكن علاج الكثير من الأمراض، مثل: أمراض القلب، والأوردة الدموية، والأورام السرطانية، والأمراض العصبية، والتهاب الكبد الفيروسي، وسكر الدم، كما أمكن الحد من تشوهات المواليد الخلقية...
وغير ذلك.
ويقتصر حديثنا في هذا المجال على علاج الخلايا الجسدية، أما علاج الخلايا الجنسية (التناسلية) فقد صدر بشأنها قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم: 57 (8/6)[2]، وكذلك زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي[3].
والغرض من نقل الجين إلى الخلية الجسدية قد يكون للعلاج، بحيث يؤدي الجين السليم المنقول إلى خلايا المريض وظيفة الجين المتعطل حتى يعود العضو إلى أداء وظائفه المعتادة، وقد يكون لتحسين صفة معينة، فيجعله أسرع نموًّا، أو أشد ذكاء، أو يعدل بعض صفاته لمجرد التحسين.
وتعتمد تقنية نقل الجينات إلى الخلية الجسدية - للعلاج أو للتحسين - على الخلايا الجذعية (STEM CELLS)، التي يمكن أن تنتج مختلف أنواع الأنسجة والأعضاء؛ لأن لها قدرة فائقة على التكاثر بشكل متواصل، مما يجعلها مصدرًا مهمًّا لإنتاج العديد من الخلايا، مثل خلايا مخ العظام لمعالجة سرطان الدم، أو خلايا البنكرياس لمعالجة داء السكري، وأهم مصدر للخلايا الجذعية هو اللقائح الفائضة عن مشاريع أطفال الأنابيب، إلا أن هذه الخلايا لا تكفي لسد الحاجة البشرية المتزايدة؛ لذا أمكن نقل المكونات الحيوانية (الأعضاء والسوائل والأنسجة والخلايا) لتكون بديلاً عن الخلايا الجذعية البشرية، وقد ذكر الباحثون والأطباء أن من الحيوانات التي يستفاد منها في هذا المجال: الخنازير والقرود والفئران...
وغيرها.
حكم نقل الخلايا الجسدية لأغراض الوقاية والعلاج:
اختلف العلماء المعاصرون في حكم نقل الجين من خلية سليمة إلى خلية أخرى بقصد العلاج من الأمراض الوراثية، أو الوقاية منها.
• فمنهم من منع نقل الجين إلى الخلايا الجسدية؛ لأن في ذلك تغييرًا لخلق الله بالتدخل في التركيب الوراثي للإنسان؛ ولأن هذه العمليات لا تخلو من أضرار ومفاسد، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
• وأكثر العلماء والباحثين أجازوا عمليات نقل الجين إلى الخلية الجسدية، على ألا يؤدي ذلك إلى ضرر أعظم من الضرر الموجود فعلاً، وألا تكون هناك وسيلة أخرى لعلاج المرض، وأن تتحقق مصلحة المريض بهذا العلاج بعد الحصول على إذن المنقول منه والمنقول إليه الجين؛ وذلك لأن هذا العلاج يعيد العضو إلى أصل خلقته القويمة التي خلقه الله عليها؛ ولأنه يدخل في عموم التداوي المأذون به شرعًا، وقد أجاز العلماء نقل الدم والعمليات الجراحية؛ فالضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.
وقد جاء في توصيات ندوة الكويت (1419 - 1998) أن الندوة رأت جواز استعمال الهندسة الوراثية في منع المرض أو علاجه أو تخفيف أذاه، سواء بالجراحة الجينية التي تبدل جينًا بجين، أو تولج جينًا في خلايا مريض، وكذلك إيداع جين في كائن آخر للحصول على كميات كبيرة من إفراز هذا الجين؛ لاستعماله دواءً لبعض الأمراض، مع منع استخدام الهندسة الوراثية على الخلايا الجنسية؛ لِما فيه من محاذير شرعية.
ونحن ننضم إلى هذا الرأي، مع ملاحظة أن الأصل في العلاج أن يكون بمواد ووسائل مشروعة، ومن ثَمَّ لا يجوز نقل جينات الخنزير إلى جسد الإنسان إلا إذا تعيَّن علاجًا للمرض ولم يوجد بديل يؤدي نفس الوظيفة.
حكم نقل الخلايا لأغراض التجميل والتحسين:
اختلف العلماء في حكم نقل الجين إلى الخلية الجسدية لتغيير صفات الإنسان من اللون أو الشكل أو الذكاء أو القوة...
إلخ:
• فأكثر أهل العلم يرون عدم جواز نقل جين إلى الخلية الجسدية للحصول على صفات أحسن؛ لأن في ذلك عبثًا بمكونات الإنسان الوراثية وفقًا لشهوات الناس وأهوائهم، دون حاجة إلى علاج، أو وقاية من الأمراض، أو غرض صحيح شرعًا.
• ومنهم من أجاز نقل الجين إلى الخلية الجسدية للحصول على صفات مرغوبة؛ لأن تحصيل الصفات الحسنة من الأمور المحمودة شرعًا، ولا مانع من طلبها بالطرق المباحة؛ فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، والله تعالى جميل يحب الجمال.
• ونحن نرى أن الحكم بالحرمة على نقل الجين إلى الخلية الجسدية لغرض تحسيني يحتاج إلى أدلة قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، وهذه الأدلة غير متوافرة، فقد أجاز أكثر الفقهاء ثقب آذان البنات لوضع القرط أو الحلق، مع أنه أشبه ما يكون بتبتيك آذان الأنعام، ولا تقتضيه ضرورة ملجئة أو حاجة ملحة، ومثله ثقب الأنف لوضع الحلي الذي جرت به العادة في بعض المجتمعات، والحاجة الداعية لكل ذلك لا تزيد عن الرغبة في التحلي والزينة[4].
وقد اعتبر بعض الفقهاء أن تجمل المرأة يؤدي إلى حصول المصلحة من تحسين الزوجة لزوجها من غير مضرة[5].
وفي الإنصاف: "ويحرم نَمْصٌ ووَشْرٌ ووَشْمٌ على الصحيح من المذهب، وقيل: يجوز مع الكراهة"[6].
ولهذا: نرى أن عمليات نقل الجين - من غير الخنزير - إلى الخلايا الجسدية لغرض تحسيني مباحٌ شرعًا، إلا إذا ترتب عليه ضرر محقق، أو أدَّى إلى أن يخرج الجسم أو العضو عن خلقته السوية، أو يراد من إجراء هذه العمليات التنكر فرارًا من العدالة، ففي هذه الحالات وأشباهها ينتقل الحكم من الإباحة إلى الحرمة، والله أعلم.
[1] العصر الجديد للطب، خالص جلبي، العلاج الجيني واستنساخ الأعضاء البشرية، عبدالهادي مصباح، أهم الطرق الوقائية من الأمراض الوراثية، أيمن السليمان، بحوث ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني - الكويت، بحوث مؤتمر الهندسة الوراثية بين الشريعة والقانون - العين.
[2] مجلة المجمع (العدد السادس ج3 ص1975 )1410هـ.
[3] مجلة المجمع (العدد السادس ج 3 ص1739 ) 1410هـ، قرار رقم: 54 (5 /6)
[4] الأحكام الطبية المتعلقة بالنساء، محمد خالد منصور، ص 196.
[5] المغني لابن قدامة: 1 /131.
[6] الإنصاف للمرداوي، مع الشرح الكبير والمقنع: 1 /270.