تفسير سورة النحل (12)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.

وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل:63-66].

سر قسم الله عز وجل بنفسه في الآية الكريمة

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ [النحل:63] (تالله) معناها: والله، الله جل جلاله وعظم سلطانه يحلف؟ نعم والله، فما سر حلفه؟ سر حلفه: أنه يريد هداية عباده، والإنسان بفطرته إذا ألقي إليه خبر لا يقبله إلا إذا أكد له بالأيمان، من شأن الإنسان ومن فطرته أنه إذا أخبر بخبر عظيم يرتاب فيه ولا يوقن، فيحتاج عند ذلك إلى أن يحلف له المخبر حتى تسكن نفسه ويطمئن قلبه، ومن هنا حلف الله لعبادة رحمة بهم لكنه حلف بمن؟ حلف بنفسه.

حكم الحلف بغير الله تعالى

معاشر المستمعين! لا يجوز الحلف بغير الله قط، ولن تجد من يفتيك بجواز الحلف بغير الله؛ إذ لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله، والحلف تعظيم وإجلال وإكبار للمحلوف به ولا أكبر من الله ولا أجل منه تبارك وتعالى.

وقد كان العرب يحلفون بآلهتهم، يقول: واللات والعزى. ولما جاء الإسلام ودخلوا فيه بقي بعض الأفراد يجري على ألسنتهم الحلف بغير الله يقول: واللات. فأرشدهم الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى ما يقوم هذا الاعوجاج، فقال: ( من قال: واللات فليقل: لا إله إلا الله ) ليكفر السيئة بالحسنة، الحسنة لا إله إلا الله والسيئة الحلف بغير الله.

فإذا جرى على لسانك وقلت: والنبي أو والكعبة أو ورأسي أو وعزة فلان، فهذه والله سيئة تسيء إلى النفس البشرية وتخبثها، وتحتاج إلى مادة أخرى تطهرها وتغسلها وتنظفها، ولذا أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كلمة (لا إله إلا الله)، فإنها تمحو أثر تلك السيئة.

معاشر المستمعين والمستمعات! لقد شاع بين المسلمين قرونا عديدة الحلف بغير الله، فكانوا يحلفون بالأولياء، بالقباب والقبور، يحلفون بالرأس والحياة، يحلفون بالطعام فيقولون: والطعام الذي بيننا! ما تركوا شيئاً إلا حلفوا به، فما علة ذلك؟ إنه البعد عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد بعدوا عن مصدر العلم والمعرفة فكيف يعرفون؟ حتى إنك تجد القرية يمضي عليها مائة سنة ما يجتمع أهلها على آية يتدارسونها.

فكيف يعلمون والشياطين متهيئة للإفساد والإضلال؟ فمن ثم شاع الحلف بغير الله وأصبح عادياً، وأزيدكم برهنة وتدليلاً وهو أن بعض القضاة في العالم الإسلامي أيام الهبوط والسقوط كان إذا قضى بين اثنين باليمين يقول: خذه إلى سيدي فلان يحلف لك عنده! وإن لمته يعتذر فيقول: هذا يحلف بالله مليون مرة ويأكل أموال الناس، لكن إذا قلنا: احلف بسيدي فلان يخاف وترتعد فرائصه، فنحن مضطرون إلى أن نحلفه بغير الله، وهذا والله ما هو بعذر.

لقد وقف صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: ( ألا ) انتبهوا! ( ألا إن الله ورسوله ينهيانكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، ما عندنا إلا (الله)، لا إله إلا الله.

قسم الله تعالى بما شاء من مخلوقاته

وها هو ذا تعالى يحلف بنفسه ويقول: (تالله) كـ(بالله) و(والله)؛ لأن من ألفاظ القسم: بالله، والله، تالله، وقد حلف الجبار فقال: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:1-7]، وقال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [الليل:1-2]، وقال: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر:1-3]، وقال: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [الطارق:1]، وقال: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1]، أهذه أيمان الله أم لا؟ لم يحلف؟ ليطمئن البشر إلى صدق ما يلقى عليهم ويخبرهم به، لتسكن نفوسهم عند القضاء فلا تبقى مضطربة؛ إذ هكذا فطرنا من عهد آدم، إذا شككت فيما قلت أحلف لك بالله فتطمئن وتسكت.

بعض أهل العلم يقولون: حلف الله بالشمس وضحاها بمعنى: ورب الشمس وضحاها. والقول الأول هو الصحيح، وهو أنه تعالى يحلف لنا بمخلوقاته إذ هو خالقها وربها من أجل أن تسكن نفوسنا وتطمئن قلوبنا إلى ما يخبرنا به. وهنا أخبر بماذا؟ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ [النحل:63] يحلف للرسول صلى الله عليه وسلم لتطمئن نفسه ويذهب ذاك العناء الذي يعانيه من تكذيب المكذبين وكفر الكافرين ورد دعوته والصد عنه والصرف.

تقرير الآية الكريمة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ [النحل:63] ما أنت بأول من أرسلناه، بل قد أرسلنا قبلك رسلاً سواك، وهنا نذكر دائماً أن الرسل عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، وأما الأنبياء فهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، هكذا قال أهل العلم، عدد الرسل ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً على عدة أصحاب بدر وعدة قوم طالوت الذين قاتلوا وانتصروا بإذن الله، ففي هذا الخبر تقرير لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصفع لأولئك المكذبين المنكرين لها، والله يحلف لمحمدٍ أنه أرسل الرسل، فهو رسوله صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله تعالى: (فزين لهم الشيطان أعمالهم)

فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [النحل:63] زين الشيطان لأولئك الذين أرسل الله فيهم رسله الكفر والشرك والزنا والفجور والخيانة والكذب والباطل ليصروا عليه حتى لا تطهر نفوسهم ولا يتهيئون لعالم السماء ودخول الجنة.

بالأمس قلت لكم: إن الشياطين يريدون أن لا يدخل أحد الجنة أبداً من بني آدم، لماذا؟ لأنهم دخلوا النار بسبب آدم، قال الشيطان: كيف تدخلون الجنة وأنا أدخل النار، فحلف بالله: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، فلهذا ما يسمح لأحد أن يستقيم إلا إذا قهره وجاهده؛ لأنه ما يريد أن يدخل أحد الجنة أبداً.

إذاً قوله: فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [النحل:63] أي: الفاسدة من الشرك والكفر والكذب والخيانة وكل الأمور الفاسدة، حسنها وزينها لينغمسوا فيها ويقولوها ويعتقدوها، وهذا هو الذي حصل.

تولي الشيطان الكفرة في الدنيا وبراءته منهم في الآخرة

قوله تعالى: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ [النحل:63] من ولي الكافرين؟ من ولي المشركين؟ من ولي الزنادقة والمنافقين؟ الشيطان هو وليهم اليوم، لكن يوم القيامة أيتولاهم؟ لا، بل يتبرأ منهم، واسمعوا خطبته في النار، حين يوضع له في جهنم السرادق الذي يخطب عليه الخطباء، فيقول -والله- بالحرف الواحد، وأحلف لأن ربي قد أخبر بذلك، فوالله ما أخبر إلا بما هو واقع، يجب أن تكون عقيدتنا هكذا.

قال تعالى من سورة إبراهيم المكية: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22] سبحان الله! لو أعطيت المليارات أتستطيع أن تأتي بخطبة يخطبها إبليس في النار؟ من يستطيع أن يأتي بهذا؟

لو تجتمع البشرية كلها أتستطيع؟ الحمد لله أن رزقنا الله كتابه وبعث فينا رسوله وهدانا إلى ما فيه إكمالنا وإسعادنا، الحمد لله، خطبة إبليس مسجلة في القرآن، على سرادق من نار يخطب ليذل أهل النار ويخزيهم: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ [إبراهيم:22] تستصرخون أو تسكتون وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22] أيضاً.

إذاً فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ [النحل:63]، اليوم يحسن لهم الباطل ويزين لهم الخبث ويحملهم على الشرك والردة والكفر، هذا جهده.

هكذا يقول تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ [النحل:63] يا رسولنا يا محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا تقرير لنبوته ورسالته، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [النحل:63]الكريهة القبيحة السيئة من الشرك والكفر والمعاصي فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:63]، ولهم عذاب أليم يوم القيامة يوم يدخلون جهنم ويستقرون في النار، فهناك لهم عذاب أليم شديد الإيلام والوجع.

هذا خبر عظيم، من أخبرنا بهذا؟ الله جل جلاله، فلهذا ما نستطيع أن نكفر أبداً، أهل القرآن ما يكفرون وما يقوون على أن يكفروا.

النهي عن طاعة أولياء الشيطان من أهل الكتاب والتنبيه بشأن الطلاب المبتعثين إليهم

وإليكم برهنة أخرى من كتاب الله: جاء من سورة آل عمران في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وهذا خبر عظيم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:100-101]، هذه الآية يمكن أننا قرأناها -والحمد لله- آلاف المرات في هذا المسجد النبوي، ونقول: إن أبناءنا الذين نبعث بهم إلى روسيا وإلى فرنسا وأمريكا وبريطانيا والصين يتعلمون فيجلسون بين يدي أساتذة ليعلموهم قد لا يسلمون أبداً من السقوط.

نبعث شبيبة ناضجة فيجلسون أمام المدرسين أربع سنوات وهم يقررون لهم المسائل العلمية الصناعية، ومن وقت إلى وقت يلدغونهم كالعقرب بكلمة تمس العقيدة وتبطل الإيمان، فقد رجع أكثر من درس في الخارج هابطًا بإيمان صوري فقط، بل يسخر أحياناً ويضحك من المؤمنين.

والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:100] لبيك اللهم لبيك إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا [آل عمران:100] وهم الأساتذة والمعلمين، فريق خاص ما هو من عوام النصارى والكفار فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100] أي: اليهود والنصارى يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100].

أليس هذا كلام الله؟ أليس هذا إخبار الله؟ أيشك في كلام الله؟ وقد شاهدنا من درسوا في الخارج ونزلوا بلادنا -أرض المسلمين- يسخرون من المصلين ومن أصحاب اللحى ويستهزئون بهم.

ثم قال تعالى -وهذه هي المناعة والوقاية-: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، من أين يأتيكم الكفر؟

فلهذا طالبت المسئولين في العالم الإسلامي في رسالة وقلت: ينبغي إذا انتدبنا عشرة أو مائة من شبابنا إلى الخارج أن نبعث معهم عالماً ربانياً ورقيباً حفيظاً عليماً، ثم نعطيهم سكنًا يسكنون فيه مع بعضهم، فيدرسون في الصباح والمساء ويعودون إلى المركز الإسلامي لتلقي الحكمة والمعرفة والمحافظة على عقائدهم ودينهم.

أما أن نبعث بهم هكذا فأقل ما يقع الفجور، ثم يعودون فكيف يحكمون البلاد؟ كيف يربون؟ كيف يستقيمون؟

من أين أخذنا هذا؟ من قول الله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] من أين يأتي الكفر؟ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101].

فلذلك لو أننا أنشأنا مركزاً في بريطانيا أو فرنسا مثلاً يجتمع فيه طلبة بلدنا، في الليل يجلسون مع بعضهم وينامون ويتعلمون أمور دينهم ويعبدون الله، وفي النهار يتعلمون من الكفار المسائل الدنيوية فإنهم يسلمون وما يتسرب إليهم أبداً الباطل والشر، أما أن نهملهم ونتركهم فأقل ما يأتون أن يكونوا فجرة إلا من رحم الله.

وهكذا يقول تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:63] غداً يوم القيامة.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ [النحل:63] (تالله) معناها: والله، الله جل جلاله وعظم سلطانه يحلف؟ نعم والله، فما سر حلفه؟ سر حلفه: أنه يريد هداية عباده، والإنسان بفطرته إذا ألقي إليه خبر لا يقبله إلا إذا أكد له بالأيمان، من شأن الإنسان ومن فطرته أنه إذا أخبر بخبر عظيم يرتاب فيه ولا يوقن، فيحتاج عند ذلك إلى أن يحلف له المخبر حتى تسكن نفسه ويطمئن قلبه، ومن هنا حلف الله لعبادة رحمة بهم لكنه حلف بمن؟ حلف بنفسه.

معاشر المستمعين! لا يجوز الحلف بغير الله قط، ولن تجد من يفتيك بجواز الحلف بغير الله؛ إذ لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله، والحلف تعظيم وإجلال وإكبار للمحلوف به ولا أكبر من الله ولا أجل منه تبارك وتعالى.

وقد كان العرب يحلفون بآلهتهم، يقول: واللات والعزى. ولما جاء الإسلام ودخلوا فيه بقي بعض الأفراد يجري على ألسنتهم الحلف بغير الله يقول: واللات. فأرشدهم الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى ما يقوم هذا الاعوجاج، فقال: ( من قال: واللات فليقل: لا إله إلا الله ) ليكفر السيئة بالحسنة، الحسنة لا إله إلا الله والسيئة الحلف بغير الله.

فإذا جرى على لسانك وقلت: والنبي أو والكعبة أو ورأسي أو وعزة فلان، فهذه والله سيئة تسيء إلى النفس البشرية وتخبثها، وتحتاج إلى مادة أخرى تطهرها وتغسلها وتنظفها، ولذا أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كلمة (لا إله إلا الله)، فإنها تمحو أثر تلك السيئة.

معاشر المستمعين والمستمعات! لقد شاع بين المسلمين قرونا عديدة الحلف بغير الله، فكانوا يحلفون بالأولياء، بالقباب والقبور، يحلفون بالرأس والحياة، يحلفون بالطعام فيقولون: والطعام الذي بيننا! ما تركوا شيئاً إلا حلفوا به، فما علة ذلك؟ إنه البعد عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد بعدوا عن مصدر العلم والمعرفة فكيف يعرفون؟ حتى إنك تجد القرية يمضي عليها مائة سنة ما يجتمع أهلها على آية يتدارسونها.

فكيف يعلمون والشياطين متهيئة للإفساد والإضلال؟ فمن ثم شاع الحلف بغير الله وأصبح عادياً، وأزيدكم برهنة وتدليلاً وهو أن بعض القضاة في العالم الإسلامي أيام الهبوط والسقوط كان إذا قضى بين اثنين باليمين يقول: خذه إلى سيدي فلان يحلف لك عنده! وإن لمته يعتذر فيقول: هذا يحلف بالله مليون مرة ويأكل أموال الناس، لكن إذا قلنا: احلف بسيدي فلان يخاف وترتعد فرائصه، فنحن مضطرون إلى أن نحلفه بغير الله، وهذا والله ما هو بعذر.

لقد وقف صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: ( ألا ) انتبهوا! ( ألا إن الله ورسوله ينهيانكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، ما عندنا إلا (الله)، لا إله إلا الله.

وها هو ذا تعالى يحلف بنفسه ويقول: (تالله) كـ(بالله) و(والله)؛ لأن من ألفاظ القسم: بالله، والله، تالله، وقد حلف الجبار فقال: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:1-7]، وقال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [الليل:1-2]، وقال: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر:1-3]، وقال: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [الطارق:1]، وقال: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1]، أهذه أيمان الله أم لا؟ لم يحلف؟ ليطمئن البشر إلى صدق ما يلقى عليهم ويخبرهم به، لتسكن نفوسهم عند القضاء فلا تبقى مضطربة؛ إذ هكذا فطرنا من عهد آدم، إذا شككت فيما قلت أحلف لك بالله فتطمئن وتسكت.

بعض أهل العلم يقولون: حلف الله بالشمس وضحاها بمعنى: ورب الشمس وضحاها. والقول الأول هو الصحيح، وهو أنه تعالى يحلف لنا بمخلوقاته إذ هو خالقها وربها من أجل أن تسكن نفوسنا وتطمئن قلوبنا إلى ما يخبرنا به. وهنا أخبر بماذا؟ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ [النحل:63] يحلف للرسول صلى الله عليه وسلم لتطمئن نفسه ويذهب ذاك العناء الذي يعانيه من تكذيب المكذبين وكفر الكافرين ورد دعوته والصد عنه والصرف.

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ [النحل:63] ما أنت بأول من أرسلناه، بل قد أرسلنا قبلك رسلاً سواك، وهنا نذكر دائماً أن الرسل عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، وأما الأنبياء فهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، هكذا قال أهل العلم، عدد الرسل ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً على عدة أصحاب بدر وعدة قوم طالوت الذين قاتلوا وانتصروا بإذن الله، ففي هذا الخبر تقرير لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصفع لأولئك المكذبين المنكرين لها، والله يحلف لمحمدٍ أنه أرسل الرسل، فهو رسوله صلى الله عليه وسلم.




استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النحل (25) 4587 استماع
تفسير سورة النحل (4) 4008 استماع
تفسير سورة إبراهيم (9) 3687 استماع
تفسير سورة الحجر (12) 3609 استماع
تفسير سورة النحل (13) 3542 استماع
تفسير سورة النحل (3) 3503 استماع
تفسير سورة إبراهيم (12) 3462 استماع
تفسير سورة النحل (16) 3359 استماع
تفسير سورة النحل (1) 3227 استماع
تفسير سورة الحجر (6) 3158 استماع