ديوان الإفتاء [612]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد, الرحمة المهداة والنعمة المسداة، والسراج المنير، والبشير النذير, وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

إخوتي وأخواتي! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته, مرحباً بكم في حلقة جديدة, أسأل الله عز وجل أن يعلمنا علماً نافعاً، وأن يرزقنا عملاً صالحاً, وأن يوفقنا برحمته لما يحب ويرضى.

وقد مضى شيء من الكلام حول الآداب التي ينبغي أن يلتزمها الناس في حال الإفتاء والاستفتاء, وعرفنا أن الفتوى بيان لحكم الله عز وجل كونها جواباً على سؤال سائل، وأنها من الدين بمنزلة عظيمة, وقد تولاها رب العالمين جل جلاله بنفسه كما قال سبحانه: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ[النساء:127], وقال: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ[النساء:176], وكذلك تولاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في كثير من المواضع, لما سألوه عن الأطعمة، وسألوه عن كثير من الأمور, فكان يتولى الجواب بنفسه, وكذلك من بعده الصحابة رضوان الله عليهم, وكان هدي السلف من الصحابة والتابعين التورع في الفُتيا، ومراجعة النفس فيها؛ لأنهم علموا أن المفتي ترجمان عن الله عز وجل وموقع عنه, حين يقول: هذا حلال وهذا حرام, وقد شدد ربنا جل جلاله في أمر الفُتيا, فقال سبحانه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[الأعراف:33], وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أفتي بفُتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه ), ولذلك كان الواحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتورع في الفُتيا ويتورع في الحديث، كما قال عامر الشعبي رحمه الله: أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار لا يحدث أحدهم بحديث إلا ود لو أن أخاه كفاه, ولا يفتي أحدهم بفُتيا إلا ود لو أن أخاه كفاه.

إخوتي وأخواتي ! قد تساهل الناس في أمر الفُتيا، فخاض فيها من لا يحسنها، وتكلم في دين الله من لا علم له به, تارة بأنها مسألة سهلة معلومة, وتارة بأن الدين لا كهنوت فيه، وليس في الإسلام رجال دين, وتارة بدعوى أن باب الاجتهاد مفتوح لم يغلق, وتارة بدعوى مجاراة الواقع وهكذا.

شروط يلزم توافرها في المفتي

أقول: بأن الذي يتصدى للفُتيا لا بد له من شروط:

الشرط الأول: الإسلام، فلا يتصور أن يفتي الناس في دينهم كافر أصلي أو كافر مرتد, فإن هذا لا يؤتمن، والله عز وجل قال في الشهادة في الحقوق المالية وما كان مثلها: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ[البقرة:282], ولا شك أن الكافر غير مرضي؛ لكونه لا يؤمن بالله واليوم الآخر أصلاً، أو لكونه لا يؤمن بهما إيماناً على الوجه الصحيح, فلا بد من اشتراط هذا الشرط: أن يكون المفُتي الذي يتصدى لقول هذا حلال وهذا حرام أن يكون مسلماً.

الشرط الثاني: أن يكون مكلفاً, والمقصود بالتكليف: البلوغ والعقل, فلا يتصور أن يفتي الناس صبي صغير لم يبلغ الحلم، ولا يتصور أن يفتي الناس من في عقله خبال, بل لا بد أن يكون إنساناً عاقلاً، وتصرفاته موزونة.

الشرط الثالث: العدالة, فإن الفاسق لا يؤمن على الفُتيا, وهو الذي يرتكب الكبائر ويقترف الموبقات، ولا يبالي بانتهاك الحرمات، فهذا لا يؤمن على الفُتيا.

الشرط الرابع: لا بد أن تكون للمفتي نية, فمن لم تكن له نيه فليس على كلامه نور, بمعنى: أنه ينوي بالفتوى تبصير المسلمين, وإرشاد الغافلين, وهداية الضالين, ونشر العلم, وتبديد ظلمات الجهل, ينوي بفتياه الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحين من هذه الأمة، ممن تصدوا لهذه المهمة العظيمة والمنصب الجليل, ينوي بفتياه أن ينقل للناس هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن يعلمهم كلام الله عز وجل وأحكام الدين فهذه هي النية, فلا ينوي التصدر ولا أن يصيب من الدنيا جاهاً، ولا نحو ذلك من الأغراض التي تذهب بركة العلم ونوره.

الشرط الخامس: لا بد أن يكون للمفتي علم وحلم ووقار, لا بد أن يكون عنده علم, فرب إنسان -كما مضى معنا الكلام- يخوض فيما لا يعلم، ويتكلم فيما لا يحسن، ويهرف بما لا يعرف, ولا شك أن هذا يفسد على الناس دينهم ويحتقب من الأوزار شيئاً عظيماً, المفتي لا بد أن يكون عنده علم, لا بد أن يكون عنده حلم, سكينة, وقار, حيث أنه يحسن الاستماع لسؤال السائل، وتصور المسألة على وجهها, ثم بعد ذلك يبذل له الجواب المناسب الذي يدين الله عز وجل به.

الشرط السادس: لا بد أن تكون له كفاية وإلا مضغه الناس, كما قال الإمام أحمد رحمه الله، بمعنى: أن الإنسان المفتي لا بد أن يكون مكتفياً, لا يرجو من فتواه أن يصيب من الناس شيئاً من متاع الدنيا, وكما قال الحسن البصري رحمه الله: ولولا ذلك, أي: لولا ما عندي من المال لتمندل بنا الملوك, بمعنى: أن الإنسان المفتي إذا كان محتاجاً إلى بذل من السائل فإنه قد يميل بفتواه ذات اليمين أو ذات الشمال, وقد يدلس وقد يغير نعوذ بالله من تلك الحال.

الشرط السابع: لا بد أن يكون المفتي قوياً فيما يتكلم به, فيتصور المسألة تصوراً جيداً, تصوراً قوياً, تصوراً واضحاً, ثم بعد ذلك يبين في فتواه, فلا تكون الفتوى غامضة, ولا هي عبارة عن تحاويم يحوم حول الحمى, بل لا بد أن يكون قوياً في ما يصدر عنه.

الشرط الثامن: لا بد للمفتي أن تكون له معرفة بأحوال الناس, فهذا الذي يتصدر لأن يقول: هذا حلال وهذا حرام, لا بد أن يعرف حيل الناس وألاعيبهم، فإن بعض الناس قد يسأل سؤالاً لا يريد من المفتي إلا أن يجيبه بما تشتهيه نفسه, بعض الناس قد يسأل سؤالاً ليتوصل به إلى تحليل ما حرم الله عز وجل، أو تحريم ما أحل الله عز وجل, ولذلك ينبغي للمفتي أن يكون بصيراً بتلك الأحوال كلها.

إذا قلنا إخوتي وأخواتي! بأن المفتي لا بد أن يكون له: علم وحلم ووقار, لا بد أن يكون قوياً في تصوره للمسائل قوياً في فتياه, معنى ذلك أنه لا بد أن تكون له صلة وثيقة بالأصلين العظيمين، أعني: القرآن والسنة, فلا يتصور أن يفتي الناس من لا علم له بالقرآن، أو من لا معرفة له بالسنة, لا بد أن يكون له علم بالقرآن وتنزيله وتأويله, مكيه ومدنيه, محكمه ومتشابهه, ناسخه ومنسوخه, خاصه وعامه, مطلقه ومقيده, وعده ووعيده, أمره ونهيه، لا بد أن يكون له علم بالقرآن؛ من أجل أن يعرف مراد الله عز وجل من كلامه, لا بد أن يكون وثيق الصلة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوليةً وفعليةً وتقريريةً, من أجل أن يستدل لفتواه بصحيح السنة أو بحسنها, ولربما يستدل بالضعيف المنجبر, لكن لا يتصور من المفتي أن يتصدى للاستدلال بالحديث الذي ضعفه شديد, فضلاً عن الحديث الموضوع المكذوب المختلق المفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم لا بد أن يكون له معرفة بلغة العرب وتذوقها, من أجل أن يفهم كلام الله وكلام رسوله الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قال للنبي عليه الصلاة والسلام: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ[الشعراء:192-195], وقال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا[يوسف:2], إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا[الزخرف:3].

ثم أيضاً: المفتي إذا قيل في شروطه لا بد أن تكون له معرفة بالناس وأحوالهم وحيلهم وألاعيبهم, إذاً لا يتصور أن يفتي الناس من يعيش معزولاً عنهم في صومعة، بعيداً عن الناس، لا يخالطهم في مساجدهم، في أفراحهم، في أتراحهم، في أسواقهم، هذا لا يتصور منه أن يفتي الناس، وأن يبين لهم الحلال والحرام.

هذا الكلام إخوتي وأخواتي! أسوقه من أجل أن يعرف الناس أنه ليس كافياً أن يطلع الإنسان على بعض آيات من القرآن، أو بعض سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك يتصدى ليقول: هذا حلال وهذا حرام, بل لا بد من إسلام، وعدالة، وتكليف، ونية، وعلم، وحلم، ووقار، وكفاية، ومعرفة بأحوال الناس, ومخالطة لهم، وثقة وثيقة بالقرآن والسنة.

آداب يلتزمها المفتي

ثم بعد ذلك هناك آداب تلزم المفتي:

من هذه الآداب الأدب الأول: ألا يستنكف عن الإحالة على من هو أعلم منه, فمثلاً: لو أن الإنسان سئل في مسألة ليس عنده فيها كبير علم, فهذا يتصور بأن فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ[يوسف:76], ففي هذه الحالة ينبغي أن يحيل على من كان أعلم منه بالشيء الذي سئل عنه, هذه أمنا عائشة رضي الله عنها سُئلت عن المسح على الخفين فقالت للسائل: سل عن هذا علياً ، فإنه أعلم مني به, وقد كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهنا أمنا رضي الله عنها وجزاها خيراً أحالت على علي ؛ لأنه أعلم منها في هذه المسألة.

الأدب الثاني: أن يستشير إخوانه, ولا يستبد بالأمر, فهناك نوازل تطرأ، وغوامض من المسائل تعرض، وبعض الأمور تحتاج إلى استشارة؛ لأنها ليست من الواضحات البينات, وقدوتنا في ذلك عمر رضي الله عنه, فإنه كان يستشير الصحابة فيما يطرأ من النوازل, حتى لربما استشار صغار السن من أمثال عبد الله بن عباس و الحر بن قيس رضوان الله على الجميع, وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً.

الأدب الثالث: أن يفتي بما يدين الله عز وجل أنه الصواب, ويصر على الفتوى، رضي من الناس من رضي وغضب من غضب, فلا يغير أقواله, ويغير فتواه من أجل أن يرضي الناس.

الأدب الرابع: أن يرجع عن الخطأ متى ما تبين له, فكل بني آدم خطاء, وكل راد ومردود عليه, وما منا إلا من يخطئ ويصيب, فكل إنسان يخطئ ويصيب، خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء، فإنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله عز وجل, لكن بعد ذلك الخطأ وارد ومحتمل, لكن المفتي متى ما تبين له أنه أخطأ في تصور مسألة، أو في الفتوى فيها, فإنه يرجع عن الخطأ، كما قال عمر رضي الله عنه لـأبي موسى : فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

الأدب الخامس: أن يتقِي الله عز وجل في فتواه, فيفتي بما يراه صواباً دون النظر إلى الشخص السائل, قال الإمام شهاب الدين القرافي المالكي رحمه الله: وما ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان: أحدهما: بالتشديد والعزيمة, والآخر: بالتخفيف والرخصة, أن يفتي العامة بالتشديد وأن يفتي الخاصة من ولاة الأمور ونحوهم بما كان يسيراً, قال: فإن هذا تلاعب بالدين, وحب للدنيا ودليل على خلو القلب من الخوف من الله عز وجل وإجلاله وتعظيمه, واتخاذ الدين مطية للدنيا نعوذ بالله من حال الغافلين, القرافي رحمه الله يقول: بعض الناس إذا كان في المسألة قولان في أحدهما تيسير وفي الآخر تشديد يفتي عامة الناس والمساكين بالشدة, ثم بعد ذلك إذا استفتاه واحد من الخاصة من ذوي السلطان ونحوهم، فإنه يفتيه باليسير, يقول القرافي : هذا تلاعب بالدين وهو حال الغافلين, ودليل على خلو القلب من تعظيم الله عز وجل, وأن صاحبه متعلق بالدنيا.

أيها الإخوة والأخوات ! هذه أحكام وآداب تخص المفتي، لكن ثمة أحكاماً وآداباً تلزم المستفتي, وكما تعلمون هذا البرنامج المبارك شركة بين من يفتي ومن يستفتي, فإذا كان المفتي تلزمه أحكام وآداب فكذلك المستفتي، وهذا ما يأتي بيانه إن شاء الله في حلقة يوم الأربعاء.

أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من العالمين العاملين المخلصين, وأن يوفقنا لمرضاته, إنه خير المسئولين وخير المعطين.

أقول: بأن الذي يتصدى للفُتيا لا بد له من شروط:

الشرط الأول: الإسلام، فلا يتصور أن يفتي الناس في دينهم كافر أصلي أو كافر مرتد, فإن هذا لا يؤتمن، والله عز وجل قال في الشهادة في الحقوق المالية وما كان مثلها: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ[البقرة:282], ولا شك أن الكافر غير مرضي؛ لكونه لا يؤمن بالله واليوم الآخر أصلاً، أو لكونه لا يؤمن بهما إيماناً على الوجه الصحيح, فلا بد من اشتراط هذا الشرط: أن يكون المفُتي الذي يتصدى لقول هذا حلال وهذا حرام أن يكون مسلماً.

الشرط الثاني: أن يكون مكلفاً, والمقصود بالتكليف: البلوغ والعقل, فلا يتصور أن يفتي الناس صبي صغير لم يبلغ الحلم، ولا يتصور أن يفتي الناس من في عقله خبال, بل لا بد أن يكون إنساناً عاقلاً، وتصرفاته موزونة.

الشرط الثالث: العدالة, فإن الفاسق لا يؤمن على الفُتيا, وهو الذي يرتكب الكبائر ويقترف الموبقات، ولا يبالي بانتهاك الحرمات، فهذا لا يؤمن على الفُتيا.

الشرط الرابع: لا بد أن تكون للمفتي نية, فمن لم تكن له نيه فليس على كلامه نور, بمعنى: أنه ينوي بالفتوى تبصير المسلمين, وإرشاد الغافلين, وهداية الضالين, ونشر العلم, وتبديد ظلمات الجهل, ينوي بفتياه الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحين من هذه الأمة، ممن تصدوا لهذه المهمة العظيمة والمنصب الجليل, ينوي بفتياه أن ينقل للناس هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن يعلمهم كلام الله عز وجل وأحكام الدين فهذه هي النية, فلا ينوي التصدر ولا أن يصيب من الدنيا جاهاً، ولا نحو ذلك من الأغراض التي تذهب بركة العلم ونوره.

الشرط الخامس: لا بد أن يكون للمفتي علم وحلم ووقار, لا بد أن يكون عنده علم, فرب إنسان -كما مضى معنا الكلام- يخوض فيما لا يعلم، ويتكلم فيما لا يحسن، ويهرف بما لا يعرف, ولا شك أن هذا يفسد على الناس دينهم ويحتقب من الأوزار شيئاً عظيماً, المفتي لا بد أن يكون عنده علم, لا بد أن يكون عنده حلم, سكينة, وقار, حيث أنه يحسن الاستماع لسؤال السائل، وتصور المسألة على وجهها, ثم بعد ذلك يبذل له الجواب المناسب الذي يدين الله عز وجل به.

الشرط السادس: لا بد أن تكون له كفاية وإلا مضغه الناس, كما قال الإمام أحمد رحمه الله، بمعنى: أن الإنسان المفتي لا بد أن يكون مكتفياً, لا يرجو من فتواه أن يصيب من الناس شيئاً من متاع الدنيا, وكما قال الحسن البصري رحمه الله: ولولا ذلك, أي: لولا ما عندي من المال لتمندل بنا الملوك, بمعنى: أن الإنسان المفتي إذا كان محتاجاً إلى بذل من السائل فإنه قد يميل بفتواه ذات اليمين أو ذات الشمال, وقد يدلس وقد يغير نعوذ بالله من تلك الحال.

الشرط السابع: لا بد أن يكون المفتي قوياً فيما يتكلم به, فيتصور المسألة تصوراً جيداً, تصوراً قوياً, تصوراً واضحاً, ثم بعد ذلك يبين في فتواه, فلا تكون الفتوى غامضة, ولا هي عبارة عن تحاويم يحوم حول الحمى, بل لا بد أن يكون قوياً في ما يصدر عنه.

الشرط الثامن: لا بد للمفتي أن تكون له معرفة بأحوال الناس, فهذا الذي يتصدر لأن يقول: هذا حلال وهذا حرام, لا بد أن يعرف حيل الناس وألاعيبهم، فإن بعض الناس قد يسأل سؤالاً لا يريد من المفتي إلا أن يجيبه بما تشتهيه نفسه, بعض الناس قد يسأل سؤالاً ليتوصل به إلى تحليل ما حرم الله عز وجل، أو تحريم ما أحل الله عز وجل, ولذلك ينبغي للمفتي أن يكون بصيراً بتلك الأحوال كلها.

إذا قلنا إخوتي وأخواتي! بأن المفتي لا بد أن يكون له: علم وحلم ووقار, لا بد أن يكون قوياً في تصوره للمسائل قوياً في فتياه, معنى ذلك أنه لا بد أن تكون له صلة وثيقة بالأصلين العظيمين، أعني: القرآن والسنة, فلا يتصور أن يفتي الناس من لا علم له بالقرآن، أو من لا معرفة له بالسنة, لا بد أن يكون له علم بالقرآن وتنزيله وتأويله, مكيه ومدنيه, محكمه ومتشابهه, ناسخه ومنسوخه, خاصه وعامه, مطلقه ومقيده, وعده ووعيده, أمره ونهيه، لا بد أن يكون له علم بالقرآن؛ من أجل أن يعرف مراد الله عز وجل من كلامه, لا بد أن يكون وثيق الصلة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوليةً وفعليةً وتقريريةً, من أجل أن يستدل لفتواه بصحيح السنة أو بحسنها, ولربما يستدل بالضعيف المنجبر, لكن لا يتصور من المفتي أن يتصدى للاستدلال بالحديث الذي ضعفه شديد, فضلاً عن الحديث الموضوع المكذوب المختلق المفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم لا بد أن يكون له معرفة بلغة العرب وتذوقها, من أجل أن يفهم كلام الله وكلام رسوله الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قال للنبي عليه الصلاة والسلام: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ[الشعراء:192-195], وقال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا[يوسف:2], إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا[الزخرف:3].

ثم أيضاً: المفتي إذا قيل في شروطه لا بد أن تكون له معرفة بالناس وأحوالهم وحيلهم وألاعيبهم, إذاً لا يتصور أن يفتي الناس من يعيش معزولاً عنهم في صومعة، بعيداً عن الناس، لا يخالطهم في مساجدهم، في أفراحهم، في أتراحهم، في أسواقهم، هذا لا يتصور منه أن يفتي الناس، وأن يبين لهم الحلال والحرام.

هذا الكلام إخوتي وأخواتي! أسوقه من أجل أن يعرف الناس أنه ليس كافياً أن يطلع الإنسان على بعض آيات من القرآن، أو بعض سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك يتصدى ليقول: هذا حلال وهذا حرام, بل لا بد من إسلام، وعدالة، وتكليف، ونية، وعلم، وحلم، ووقار، وكفاية، ومعرفة بأحوال الناس, ومخالطة لهم، وثقة وثيقة بالقرآن والسنة.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
ديوان الإفتاء [485] 2822 استماع
ديوان الإفتاء [377] 2648 استماع
ديوان الإفتاء [277] 2534 استماع
ديوان الإفتاء [263] 2532 استماع
ديوان الإفتاء [767] 2506 استماع
ديوان الإفتاء [242] 2475 استماع
ديوان الإفتاء [519] 2464 استماع
ديوان الإفتاء [332] 2442 استماع
ديوان الإفتاء [550] 2406 استماع
ديوان الإفتاء [303] 2405 استماع