الأخوة في الله


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

نحمد الله تعالى -أيها الإخوة- أن جمعنا وإياكم في بيتٍ من بيوته عز وجل نذكره سبحانه وتعالى، ونتذاكر نعمه، ومنها نعمة الأخوة، قال تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11].نسأل الله عز وجل أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وأن يجعلنا وإياكم من الإخوة في الله المتآخين في سبيل الله ولا يجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً.

أيها الإخوة: كما سمعنا في الآيات الكريمة قول الله عز وجل: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ [آل عمران:103] لا بأي شيء آخر: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [آل عمران:103].

أيها الإخوة: لا يوجد في دين من الأديان، أو مذهب من المذاهب، أو مكان من الأمكنة شيءٌ اسمه الأخوة التي هي بهذا الطعم إلا في الإسلام، لا يمكن أن يوجد مطلقاً؛ لأن هذا الشعور -شعور الأخوة في الله والتآخي في الله- نعمة عظيمة لا يشعر بها إلا المسلمون، لا يشعر بها إلا الذين جعلهم الله إخوة: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [آل عمران:103].

والمجتمع الإسلامي يقوم على دعامتين أساسيتين: الإيمان والأخوة: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [آل عمران:103].

فلا يمكن أن يقوم المجتمع الإسلامي قياماً صحيحاً على سوقه كما أمر الله إلا بهاتين الدعامتين الأساسيتين: الإيمان والأخوة، ولذلك أمر الله بالتآخي، وعقد من عنده عز وجل عقد الأخوة بين المؤمنين، فقال عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] و(إنما) من فوائدها حصر الخبر في المبتدأ، أو المبتدأ في الخبر.. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] أي: ليس المؤمنون إلا إخوة، من عظم الأخوة أن الله جعلها هي الوصف الأكمل للمؤمنين، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الحجرات:10] المؤمنون عبارة عن أي شيء؟ عن إخوة: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] فالأخوة تنبثق من التقوى ومن الإسلام.

الأخوة في الله عبادة

ما هو أساس الأخوة؟ الاعتصام بحبل الله عز وجل، وبمنهج الله عز وجل، وبطريق الله تعالى.

والأخوة عبادة، ولابد أن نعرف أن الأخوة عبادة من العبادات التي نتقرب بها إلى الله عز وجل، فهي عبادة نتقرب إلى الله بها مثلما نتقرب إليه بالصلاة أو بالصيام، أو بالحج.. بالدعاء.. بالتوكل. فهي عبادة من العبادات الجليلة التي ركب الله تعالى عليها فضلاً عظيماً منه عز وجل، وهي نعمة عظيمة جداً، نعمة عظيمة لا يحس بها إلا من توافرت فيه شروط الأخوة، وإلا فأقول لكم بصراحة: إن كثيراً من الناس اليوم تجده يقول: فلان من أعز أصدقائي، أو هذا فلان صديق عزيز، أو هذا فلان كنت أنا معه من السنة الفلانية، أو من المرحلة الابتدائية، أو كنا معاً في حارة واحدة، هذا فلان من أعز أصدقائي، هذا الكلام -أيها الإخوة- لا يعني مطلقاً أن هذين الرجلين متآخيان في الله، لا. فقد تكون العلاقة بينهما هي علاقة تجاذب وتقارب وتوافق نفسي فقط، اثنين يرتاحان لبعض، أما الأخوة في الله فهي مسألة أعلى من ذلك بكثير، فهي مراتب وصفات لا يحس بها إلا من عرفها وذاق طعمها.

الأخوة والمحبة من سبل النجاة

ومن الأدلة على أن الأخوة في الله عز وجل لها فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم -وهذا يدلك على خطورتها وعلى عظمها ومنزلتها العالية -أن الله عز وجل وصف أهل الجنة بأنهم إخوة في الله، قال عز من قائل: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] إذا دخل أهل الجنة الجنة لا يزال في صدورهم بعض الأشياء العالقة من الدنيا، فإذا دخلوا الجنة نزع الله من صدورهم الغل فصارت عندهم أخوة نقية ما فيها شائبة واحدة.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضمن شروط الإيمان (أن يحب المرء لا يحبه إلا لله) إذا صارت هذه القضية فإن الله تعالى يظل هؤلاء المتحابين تحت ظل عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظله ((ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه) .

إذاً -أيها الإخوة- هذا الحديث الأخير الذي ذكرته الآن يوضح معنى الكلام الذي قلته قبل قليل، وهو أن الأخوة في الله مرتبة عالية، ولها شروط كثيرة، فلذلك ليس أي اثنين تحابا يظلهم الله في ظله، لا. بل لابد أن تكون الأخوة كما فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه) اجتمعا من أجل الله وعلى منهج الله، والطريق التي ارتضاها الله عز وجل، وتفرقا على نفس الشيء، ما تغيرت القضية بالمجلس، لما جلسوا ما تغيروا بل تفرقوا على مثلما جلسوا عليه، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، سواء في المجلس أو في مجالس متفرقة، أو كانت في الدنيا عموماً، اجتمعا عليه وفرق الموت بينهما وهما ما زالا على نفس العهد والميثاق الذي أخذه الله عليهما.

أيها الإخوة: نحن أحياناً لا ندقق في العبارات ولا ندقق في الآيات والأحاديث، لكنك لو دققت تجد أشياءً توضح لك لماذا القضية عظيمة (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن في صحيح الجامع (ما من مسلمين يلتقيان فيسلم أحدهما على صاحبه ويأخذ بيده لا يأخذ بيده إلا لله، فلا يفترقان حتى يغفر لهم) والآن نحن نلتقي كثيراً، وكثيراً ما يسلم بعضنا على بعض، لكن هل توافرت الشروط التي تجعل هذا الالتقاء ينتهي بمغفرة الذنوب لكلا الطرفين: (ما من مسلمين يلتقيان فيسلم أحدهما على صاحبه ويأخذ بيده لا يأخذ بيده إلا لله) لماذا نركز على هذا المفهوم؟ لأن الالتقاءات التي تحدث اليوم بين الناس -أيها الإخوة- ليست لله، ولا في الله، وإنما هي من أجل عرضٍ من الدنيا زائل.

الآن الناس يتلاقون فيسلم الواحد على الثاني، ويأخذ بيده ويصافحه، لكن إذا نظرت في الحقيقة لماذا يصاحبه؟ ولماذا يسلم عليه؟ ولماذا يأخذ بيده؟ تجد الغرض من وراء هذا كله مصلحة دنيوية، الآن الناس يلتقون لكن اللقاءات على الماديات الفانية: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] فلذلك لا يحس الواحد من هؤلاء طعماً مطلقاً، لا يجدون حلاوةً للقاء؛ لأن القضية فيها مصلحة، مسألة مصالح؛ ولذلك تجد الواحد يسلم على الثاني ويقابله ويبتسم بوجهه ويرحب به ويكيل له ألفاظ الثناء والمديح فإذا انصرفا وتفرقا، نزل فيه سباً وشتماً وغيبة، لماذا؟!

من الأسباب: أن أصل اللقاء فاسد، وما بني على فاسد فهو فاسد، فأصل اللقاء فاسد وهو الدنيا، فمن الطبيعي أن يتفرقوا على أشياء كثيرة من البغضاء والشحناء، وهذه الابتسامات والمودة الظاهرة هي من أجل متاع دنيوي، لذلك لا يمكن لهؤلاء الناس أبداً أن يرتاحوا بهذه العلاقة التي تنشأ بينهما.

أجور عظيمة على المحبة في الله

والحب في الله والأخوة في الله عميقة جداً جداً إلى أبعد ما يتصور الإنسان المسلم، وهي عبارة عن محبة متزايدة يدفعها إلى التزايد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تحاب اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه) انظروا -أيها الأخوة- محاسن الدين الإسلامي، محاسن الإسلام عظيمة جداً! أحياناً لا نتصور، نتكلم: الإسلام أحسن والإسلام أفضل والإسلام... لكن فسر كلامك: كيف الإسلام أحسن؟ لا تجد تفسيراً، لكن عندما ندقق في الآيات والأحاديث (إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه) معناه المحب في ازدياد، وكلما أحببت أخاك أكثر كلما ازددت فضلاً عند الله، فمعنى ذلك: أن الأفراد في المجتمع المسلم متلاصقون في غاية التلاصق، ويحب بعضهم بعضاً حباً جماً، هكذا يريد الله من المسلمين، ولذلك المجتمع الإسلامي مجتمع متماسك لا يمكن أن تتخلله الشائعات ولا الأشياء المغرضة ولا وشايات الأعداء ومخططاتهم؛ لأنه إذا كان الأفراد في تلاحم، فمن أين ينفذ الشر؟ وكيف ينفذ؟.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم موضحاً الأجر العظيم للمحبة في الله والأخوة في الله وبعض بنودها، يقول عليه الصلاة والسلام عن الله عز وجل في حديث قدسي (حقت محبتي للمتحابين فيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيَّ -صلة.. زيارة.. رسالة.. بالهاتف- وحقت محبتي للمتناصحين فيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيَّ -في سبيل الله- وحقت محبتي للمتباذلين فيّ) وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (المتحابون في الله على منابر من نور يغبطهم النبيون والصديقون والشهداء) هذا يبين عظم المحبة وفضلها ومنزلة المتحابين في الله عند الله عز وجل، يكونون في منابر مرتفعة من نور يغبطهم على هذا المكان النبيون والصديقون والشهداء، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) رواه مسلم .

الإخوان -أيها الإخوة- سلعة غالية جداً لا يمكن أن تجد لها بديلاً، ولو بذلت أعلى الأسعار.

إخوانكم لا شيء أغلى منهمُ      لا شيء يعدلهمْ من الأشياءِ

وفعلاً، لا يمكن أن تجد سعراً في الدنيا ولا عرضاً من الدنيا يوازي أو يساوي أخاً واحداً في الله، تتآخى أنت وهو في صدق على منهج الله عز وجل.

لنأخذ حالة من الحالات التي تبين لنا أهمية الإخوة في الله.

بالأخوة في الله نستطيع مواجهة الحياة

المرء -أيها الإخوة- قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، الواحد منا لوحده لا يقوى أبداً على مواجهة الحياة وظروفها ومشاكلها، والعقبات التي تكون في طريقه، فالمشاكل كثيرة جداً، والهموم عظيمة، والمهمات صعبة، فأنت الآن -أيها المسلم- مكلف بمهمات وستواجهك عقبات أثناء الطريق، إذا ما كنت في وسط إخوة في الله عز وجل ستذوب شخصيتك في هذه الحياة الدنيا الفانية، وستنهال عليك المصائب من كل جانب، ولا من معين.

وتظهر أهمية الأخوة في الله بدلائل كبيرة عندما يكون المسلمون في حالة ضعفٍ واضطهاد، وعندما يكون الإسلام متأخراً في نفوس الناس، وعندما ينحسر المد الإسلامي في العالم، ويحس المسلمون بالغربة؛ عند ذلك تنبع أهمية الأخوة في الله.

أيها الإخوة: إن ما يمر به المسلمون اليوم من ظروفٍ كالليل الحالك، وكالظلمة الشديدة، في خضم هذه الجاهليات العاتية التي تصدم المسلمين من كل جانب، يحتاج الفرد المسلم إلى تقوية نفسه، وإلى إيجاد شيءٍ يرتكز إليه عندما يواجه هذه المصاعب والتحديات، تحديات كثيرة تواجه المسلمين اليوم، لو لم تكن هناك أخوة في الله تثبت هذا المسلم على الدين لتزلزل بفعل العواصف التي تأتي من أعداء الإسلام.

والمسلمون الآن يعيشون في غربة، إذا ما كان هناك أخوة تسهل عليك هذه المصائب، وتزيل عنك هذه الوحشة التي تجدها في قلبك، فكيف يكون لك الاستمرارية في السير في هذا الطريق؟!

من هنا كانت الأخوة في الله مهمة جداً، مهمة جداً في طلب العلم، وفي الدعوة إلى الله، مهمة جداً في تربية النفس، مهمة جداً إذا نزلت بك مصائب وواجهتك عقبات.

إذا فكر الإنسان -أيها الإخوة- في مواجهة العالم وأعداء الإسلام لوحده يحس أنه لا شيء، ماذا يمكن أن يفعل لكي يغير الواقع، ماذا يمكن أن يفعل بمفرده؟

الجواب: لا شيء، عندما يفكر منطلقاً من إخوانه يحس أن هناك قوة كبيرة جداً تدفعه إلى الأمام، وتقوي هذه النفسية حتى تجعلها على مستوى التحديات، فتقاوم هذه التيارات وتشق طريقها بقوة، هذه النفسية التي تدعو إلى الله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وبدونها -أي: بدون الأخوة في الله- يشعر الإنسان بالإحباط، ويشعر باليأس ويفقد الأمل في تغيير الواقع.

وإذا أخذنا نموذجاً من النماذج التي كانت عليها حياة السلف في باب الأخوة في الله، كيف كانت مجتمعاتهم؟ كيف كانت جماعاتهم؟ كيف كانت بيئاتهم؟ كيف كانت مجالسهم العلمية؟

فاستمع معي لما يقوله الإمام أبو حازم الأعرج رحمه الله تعالى.

يقول رحمه الله: لقد رأيتنا عند زيد بن أسلم -زيد بن أسلم من العلماء- أربعين فقيهاً أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، وما رأيت في مجلسه -هذا الفقيه- متماريين -متجادلين- ولا متنازعين في حديثٍ لا ينفعنا. هكذا كانت مجالس السلف ، هذا هو العموم الشائع، لا يعني أنه لم تكن هناك مشاكل ولا أمراض، لكن هكذا كانت مجالسهم، أربعون على قلب رجلٍ واحد، لا توجد مشاكل بينهم.

ما هو أساس الأخوة؟ الاعتصام بحبل الله عز وجل، وبمنهج الله عز وجل، وبطريق الله تعالى.

والأخوة عبادة، ولابد أن نعرف أن الأخوة عبادة من العبادات التي نتقرب بها إلى الله عز وجل، فهي عبادة نتقرب إلى الله بها مثلما نتقرب إليه بالصلاة أو بالصيام، أو بالحج.. بالدعاء.. بالتوكل. فهي عبادة من العبادات الجليلة التي ركب الله تعالى عليها فضلاً عظيماً منه عز وجل، وهي نعمة عظيمة جداً، نعمة عظيمة لا يحس بها إلا من توافرت فيه شروط الأخوة، وإلا فأقول لكم بصراحة: إن كثيراً من الناس اليوم تجده يقول: فلان من أعز أصدقائي، أو هذا فلان صديق عزيز، أو هذا فلان كنت أنا معه من السنة الفلانية، أو من المرحلة الابتدائية، أو كنا معاً في حارة واحدة، هذا فلان من أعز أصدقائي، هذا الكلام -أيها الإخوة- لا يعني مطلقاً أن هذين الرجلين متآخيان في الله، لا. فقد تكون العلاقة بينهما هي علاقة تجاذب وتقارب وتوافق نفسي فقط، اثنين يرتاحان لبعض، أما الأخوة في الله فهي مسألة أعلى من ذلك بكثير، فهي مراتب وصفات لا يحس بها إلا من عرفها وذاق طعمها.

ومن الأدلة على أن الأخوة في الله عز وجل لها فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم -وهذا يدلك على خطورتها وعلى عظمها ومنزلتها العالية -أن الله عز وجل وصف أهل الجنة بأنهم إخوة في الله، قال عز من قائل: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] إذا دخل أهل الجنة الجنة لا يزال في صدورهم بعض الأشياء العالقة من الدنيا، فإذا دخلوا الجنة نزع الله من صدورهم الغل فصارت عندهم أخوة نقية ما فيها شائبة واحدة.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضمن شروط الإيمان (أن يحب المرء لا يحبه إلا لله) إذا صارت هذه القضية فإن الله تعالى يظل هؤلاء المتحابين تحت ظل عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظله ((ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه) .

إذاً -أيها الإخوة- هذا الحديث الأخير الذي ذكرته الآن يوضح معنى الكلام الذي قلته قبل قليل، وهو أن الأخوة في الله مرتبة عالية، ولها شروط كثيرة، فلذلك ليس أي اثنين تحابا يظلهم الله في ظله، لا. بل لابد أن تكون الأخوة كما فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه) اجتمعا من أجل الله وعلى منهج الله، والطريق التي ارتضاها الله عز وجل، وتفرقا على نفس الشيء، ما تغيرت القضية بالمجلس، لما جلسوا ما تغيروا بل تفرقوا على مثلما جلسوا عليه، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، سواء في المجلس أو في مجالس متفرقة، أو كانت في الدنيا عموماً، اجتمعا عليه وفرق الموت بينهما وهما ما زالا على نفس العهد والميثاق الذي أخذه الله عليهما.

أيها الإخوة: نحن أحياناً لا ندقق في العبارات ولا ندقق في الآيات والأحاديث، لكنك لو دققت تجد أشياءً توضح لك لماذا القضية عظيمة (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن في صحيح الجامع (ما من مسلمين يلتقيان فيسلم أحدهما على صاحبه ويأخذ بيده لا يأخذ بيده إلا لله، فلا يفترقان حتى يغفر لهم) والآن نحن نلتقي كثيراً، وكثيراً ما يسلم بعضنا على بعض، لكن هل توافرت الشروط التي تجعل هذا الالتقاء ينتهي بمغفرة الذنوب لكلا الطرفين: (ما من مسلمين يلتقيان فيسلم أحدهما على صاحبه ويأخذ بيده لا يأخذ بيده إلا لله) لماذا نركز على هذا المفهوم؟ لأن الالتقاءات التي تحدث اليوم بين الناس -أيها الإخوة- ليست لله، ولا في الله، وإنما هي من أجل عرضٍ من الدنيا زائل.

الآن الناس يتلاقون فيسلم الواحد على الثاني، ويأخذ بيده ويصافحه، لكن إذا نظرت في الحقيقة لماذا يصاحبه؟ ولماذا يسلم عليه؟ ولماذا يأخذ بيده؟ تجد الغرض من وراء هذا كله مصلحة دنيوية، الآن الناس يلتقون لكن اللقاءات على الماديات الفانية: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] فلذلك لا يحس الواحد من هؤلاء طعماً مطلقاً، لا يجدون حلاوةً للقاء؛ لأن القضية فيها مصلحة، مسألة مصالح؛ ولذلك تجد الواحد يسلم على الثاني ويقابله ويبتسم بوجهه ويرحب به ويكيل له ألفاظ الثناء والمديح فإذا انصرفا وتفرقا، نزل فيه سباً وشتماً وغيبة، لماذا؟!

من الأسباب: أن أصل اللقاء فاسد، وما بني على فاسد فهو فاسد، فأصل اللقاء فاسد وهو الدنيا، فمن الطبيعي أن يتفرقوا على أشياء كثيرة من البغضاء والشحناء، وهذه الابتسامات والمودة الظاهرة هي من أجل متاع دنيوي، لذلك لا يمكن لهؤلاء الناس أبداً أن يرتاحوا بهذه العلاقة التي تنشأ بينهما.

والحب في الله والأخوة في الله عميقة جداً جداً إلى أبعد ما يتصور الإنسان المسلم، وهي عبارة عن محبة متزايدة يدفعها إلى التزايد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تحاب اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه) انظروا -أيها الأخوة- محاسن الدين الإسلامي، محاسن الإسلام عظيمة جداً! أحياناً لا نتصور، نتكلم: الإسلام أحسن والإسلام أفضل والإسلام... لكن فسر كلامك: كيف الإسلام أحسن؟ لا تجد تفسيراً، لكن عندما ندقق في الآيات والأحاديث (إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه) معناه المحب في ازدياد، وكلما أحببت أخاك أكثر كلما ازددت فضلاً عند الله، فمعنى ذلك: أن الأفراد في المجتمع المسلم متلاصقون في غاية التلاصق، ويحب بعضهم بعضاً حباً جماً، هكذا يريد الله من المسلمين، ولذلك المجتمع الإسلامي مجتمع متماسك لا يمكن أن تتخلله الشائعات ولا الأشياء المغرضة ولا وشايات الأعداء ومخططاتهم؛ لأنه إذا كان الأفراد في تلاحم، فمن أين ينفذ الشر؟ وكيف ينفذ؟.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم موضحاً الأجر العظيم للمحبة في الله والأخوة في الله وبعض بنودها، يقول عليه الصلاة والسلام عن الله عز وجل في حديث قدسي (حقت محبتي للمتحابين فيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيَّ -صلة.. زيارة.. رسالة.. بالهاتف- وحقت محبتي للمتناصحين فيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيَّ -في سبيل الله- وحقت محبتي للمتباذلين فيّ) وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (المتحابون في الله على منابر من نور يغبطهم النبيون والصديقون والشهداء) هذا يبين عظم المحبة وفضلها ومنزلة المتحابين في الله عند الله عز وجل، يكونون في منابر مرتفعة من نور يغبطهم على هذا المكان النبيون والصديقون والشهداء، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) رواه مسلم .

الإخوان -أيها الإخوة- سلعة غالية جداً لا يمكن أن تجد لها بديلاً، ولو بذلت أعلى الأسعار.

إخوانكم لا شيء أغلى منهمُ      لا شيء يعدلهمْ من الأشياءِ

وفعلاً، لا يمكن أن تجد سعراً في الدنيا ولا عرضاً من الدنيا يوازي أو يساوي أخاً واحداً في الله، تتآخى أنت وهو في صدق على منهج الله عز وجل.

لنأخذ حالة من الحالات التي تبين لنا أهمية الإخوة في الله.

المرء -أيها الإخوة- قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، الواحد منا لوحده لا يقوى أبداً على مواجهة الحياة وظروفها ومشاكلها، والعقبات التي تكون في طريقه، فالمشاكل كثيرة جداً، والهموم عظيمة، والمهمات صعبة، فأنت الآن -أيها المسلم- مكلف بمهمات وستواجهك عقبات أثناء الطريق، إذا ما كنت في وسط إخوة في الله عز وجل ستذوب شخصيتك في هذه الحياة الدنيا الفانية، وستنهال عليك المصائب من كل جانب، ولا من معين.

وتظهر أهمية الأخوة في الله بدلائل كبيرة عندما يكون المسلمون في حالة ضعفٍ واضطهاد، وعندما يكون الإسلام متأخراً في نفوس الناس، وعندما ينحسر المد الإسلامي في العالم، ويحس المسلمون بالغربة؛ عند ذلك تنبع أهمية الأخوة في الله.

أيها الإخوة: إن ما يمر به المسلمون اليوم من ظروفٍ كالليل الحالك، وكالظلمة الشديدة، في خضم هذه الجاهليات العاتية التي تصدم المسلمين من كل جانب، يحتاج الفرد المسلم إلى تقوية نفسه، وإلى إيجاد شيءٍ يرتكز إليه عندما يواجه هذه المصاعب والتحديات، تحديات كثيرة تواجه المسلمين اليوم، لو لم تكن هناك أخوة في الله تثبت هذا المسلم على الدين لتزلزل بفعل العواصف التي تأتي من أعداء الإسلام.

والمسلمون الآن يعيشون في غربة، إذا ما كان هناك أخوة تسهل عليك هذه المصائب، وتزيل عنك هذه الوحشة التي تجدها في قلبك، فكيف يكون لك الاستمرارية في السير في هذا الطريق؟!

من هنا كانت الأخوة في الله مهمة جداً، مهمة جداً في طلب العلم، وفي الدعوة إلى الله، مهمة جداً في تربية النفس، مهمة جداً إذا نزلت بك مصائب وواجهتك عقبات.

إذا فكر الإنسان -أيها الإخوة- في مواجهة العالم وأعداء الإسلام لوحده يحس أنه لا شيء، ماذا يمكن أن يفعل لكي يغير الواقع، ماذا يمكن أن يفعل بمفرده؟

الجواب: لا شيء، عندما يفكر منطلقاً من إخوانه يحس أن هناك قوة كبيرة جداً تدفعه إلى الأمام، وتقوي هذه النفسية حتى تجعلها على مستوى التحديات، فتقاوم هذه التيارات وتشق طريقها بقوة، هذه النفسية التي تدعو إلى الله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وبدونها -أي: بدون الأخوة في الله- يشعر الإنسان بالإحباط، ويشعر باليأس ويفقد الأمل في تغيير الواقع.

وإذا أخذنا نموذجاً من النماذج التي كانت عليها حياة السلف في باب الأخوة في الله، كيف كانت مجتمعاتهم؟ كيف كانت جماعاتهم؟ كيف كانت بيئاتهم؟ كيف كانت مجالسهم العلمية؟

فاستمع معي لما يقوله الإمام أبو حازم الأعرج رحمه الله تعالى.

يقول رحمه الله: لقد رأيتنا عند زيد بن أسلم -زيد بن أسلم من العلماء- أربعين فقيهاً أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، وما رأيت في مجلسه -هذا الفقيه- متماريين -متجادلين- ولا متنازعين في حديثٍ لا ينفعنا. هكذا كانت مجالس السلف ، هذا هو العموم الشائع، لا يعني أنه لم تكن هناك مشاكل ولا أمراض، لكن هكذا كانت مجالسهم، أربعون على قلب رجلٍ واحد، لا توجد مشاكل بينهم.