أرشيف المقالات

رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد غنيا ثريا ولم يعش فقيرا

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد غنيًّا ثريًّا ولم يعش فقيرًا
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومَن تبِع هداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد شاع على ألسنة الناس أن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ولِد فقيرًا معدمًا، وأن المرضعات من بني سعد رفضنَ أن يأخذنَه أولًا ليُتمه وفقره، وأن حليمة السعدية ما أخذته إلا بعد أن أيست من الحصول على طفل ترضعه، فأخذته على مضض، وهذا انتشر في بعض كتب السيرة قديمًا وحديثًا، إلا أنه ضرب من خيال القصاص والرواة؛ لأن عبد المطلب جده كان معروفًا بثرائه عند بني سعد، وكان يرسل كل طفل من أبنائه إليهم، وبعضهم كان موجودًا وقت ولادة رسول الله مثل حمزة بن عبدالمطلب والعباس رضي الله عنهما، والرواية الصحيحة تقول: إنه هو الذي التمس له المراضع، ففي رواية ابن إسحاق: "فَلَمَّا وَضَعَتْهُ أُمُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَتْ إلَى جَدِّهِ عَبْدِالْمُطّلِبِ أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ لَك غُلَامٌ فَأْتِهِ فَانْظُرْ إلَيْهِ، فَأَتَاهُ فَنَظَرَ إلَيْهِ...
أَخَذَهُ فَدَخَلَ بِهِ الْكَعْبَةَ، فَقَامَ يَدْعُو اللهَ وَيَشْكُرُ لَهُ مَا أَعْطَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ إلَى أُمِّهِ فَدَفَعَهُ إلَيْهَا، وَالْتَمَسَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرُّضَعَاءَ؛ (انظر كتاب الروض الأنف، ج2، ص،101، لعبدالرحمن بن عبدالله بن أحمد السهيلي (المتوفى: 581هـ)).

وقال ابن إسحاق أيضًا: "فاسْتَرْضَعَ لَهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، يُقَالُ لَهَا: حَلِيمَةُ ابْنَةُ أَبِي ذُؤَيْبٍ؛ (انظر كتب الروض الأنف، ج2، ص 101)، وسبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (ج1، ص 395)، لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي (المتوفى: 942هـ)، وسيرة ابن هشام (1/ 160).

كما أنه صلى الله عليه وسلم ورث عن أبيه خادمة وخمسة جمال، ومجموعة من الغنم، ونصيب والده في التجارة، فكيف إذًا يكون فقيرًا؟! وكونه يتيمًا لا يجعل النسوة تعرض عنه؛ لأنه معروف أن الطفل اليتيم يلقى من أهله من العناية ما لا يلقاه غيره؛ انظر خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم لأبي زهرة (1/ 109)، والتاريخ المعتبر في أنباء من غبر (1/ 66) لمجير الدين العليمي (ت سنة 928).

وقد قال القاضي أبو يعلى الفراء وهو يعدِّد ممتلكاته صلى الله عليه وسلم: ذكر الواقدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورث من أبيه عبدالله أم أيمن الحبشية، واسمها بركة وخمسة أجمال، وقطعة من غنم، ومولاه شقران وابنه صالحًا، وقد شهد بدرًا، وورث من أمه آمنة بنت وهب دارها التي وُلِد فيها بمكة...
وورث من زوجته خديجة بنت خويلد دارها بمكة بين الصفا والمروة خلف سوق العطارين، وأموالًا؛ (انظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء: ص: 201).

فكيف يقال عن طفل رضيع يمتلك تلك الأموال أنه فقير، ومعلوم أن من كان يمتلك خمسة جمال يعد غنيًّا وتؤخذ منه زكاة المال؛ (إذ نصاب الإبل خمسة)، فضلا عن الموالي الثلاثة (بركة وشقران وصالح)، ودار أمه وقطعة الغنم.

وكونه يتيمًا لا يجعل النسوة المرضعات تعرض عنه؛ لأنه معروف أن الطفل اليتيم يلقى من أهله من العناية ما لا يلقاه غيره، وقد رأينا كيف فرح به عبدالمطلب فرحًا شديدًا إذ رآه عوضًا عن ابنه عبدالله الذي توفِّي في ريعان شبابه.

ولم يقتصر الفرح على عبدالمطلب بل امتد لأولاده؛ إذ تذكُر الروايات أن أبا لهب لَمَّا بشرته إحدى إمائه بمولد رسول الله، أعتقها في الحال، فهل يضحي بجارية ثمنها بمئات الدراهم ويضن على ابن أخيه بأجرة المرضعة لو احتاج إلى ذلك.

بل إن إرساله إلى بادية الطائف لهو الدليل على غناه؛ لأن إرسال الأطفال الرضع إلى بني سعد كان من عادة أثرياء قريش فقط؛ إذ اعتادوا أن يرسلوا أولادهم إليها فور ولادتهم؛ حيث الهواء النقي، والطبيعة الغناء، والحياة الساكنة، واللغة الفصيحة، ولأن تنشئة الأولاد في البادية في كنف الطبيعة الصافية أدنى إلى تزكية الفطرة، وإنماء الأعضاء والمشاعر، وإطلاق الأفكار والعواطف، ولإتقانهم اللسان العربي الفصيح في مهدهم منذ نعومة أظفارهم، كما تتيح بيئة البادية للأطفال حرية الحركة دون قيد أو عائق؛ مما يجعل الطفل ينشأ سويًّا في عقله، صحيحًا في بدنه، مرهفًا في إحساسه، سليمًا في تفكيره، معتدلًا في مزاجه، وكل هذا كان له تأثيره الإيجابي في حياته صلى الله عليه وسلم.

ولعل ما جعل هؤلاء يحسبون أن رسول الله ولِد فقيرًا معدما هو ما ذكرته الرويات أنه أقبل على العمل وهو صغير، ولكن ذلك كان دأب القرشيين في مكة مع أطفالهم وهو واحد منهم، إذ كانوا يرون من إيجابية الطفل مهما كان مرفهًا أو مدللًا أن يعمل، وأن يشارك في أمور الحياة، فبدأ صلى الله عليه وسلم يعمل برعي الغنم، وقال بعد بعثته: "كنت أرعى الغنم على قَرَارِيطَ لأهلِ مكَّةَ"؛ (رواه البخاري).

ولا يظنَّن ظان أنه لجأ إلى ذلك للحاجة، أو لأن عمه أبا طالب كان قليل المال، فقد كان عنده من الأولاد من يكفونه مؤونة الطفل اليتيم، في مجتمع بدائي تقل فيه نفقات الأولاد.

ولذا أؤكد أن ما ألجأه إلى ذلك العمل هو أن المجتمع المكي كان مجتمعًا عمليًّا، لدرجة أنه كان لا يسمح للطفل فقيرًا أو غير فقير أن يُعزل عن الحياة بحجة أنه صغير، وإنما أتاحوا له أن يمارس من الأعمال ما يناسب قدراته حتى ينشأ عنصرًا فعالًا، لا يعجِز إذا شب عن مواجهة الحياة ومتطلباتها، فضلًا عن صاعبها وتقلباتها.

ثم عمل وهو في الثانية عشرة من عمره في مجال التجارة التي كانت تعد أوسع أبواب الرزق في مكة؛ حيث كانت تقع في طريق التجارة الذي يربط بين الشام واليمن، وملتقى الحجاج من سائر الجزيرة العربية.


وقد دلت الروايات على أن عمه أبا طالب قد اصطحبه معه في هذا السن المبكر مع قافلة تجارية إلى الشام، ربما ليدربه على أسلوب التعامل التجاري، وطرق البيع والشراء خارج الجزيرة العربية، بعد أن رأى في ذكائه ومواهبه الفطرية ما يؤهله لذلك، ثم كثر تردده بعد ذلك بين اليمن والشام للتجارة حتى مبعثه.

وأظن أنه صلى الله عليه وسلم لم يعمل في مجال الرعي والتجارة فقط لأنهما أفضل المهن، وإنما لأنهما الأكثر انتشارًا في بيئته، وإن كان الله سبحانه وتعالى قد وفقه للعمل فيهما؛ حيث الأولى من شأنها تربية الإنسان على الصبر، ومن صبر على رعاية الأغنام كان على رعاية البشر أصبر وأجدر، ومن رحم الحيوان كان بالبشر أرحم وأرأف، أما العمل في التجارة فقد يكسب الإنسان القدرة على التعامل مع الناس والتعرف على أخلاقهم وطبائعهم، وعلى اختلاف أجناسهم، ويجعل الناس تتعرف على صدقه وأمانته.

وهذا ما جعله صلى الله عليه وسلم يعرف بين قومه بالصادق الأمين، وهو أيضًا ما جعل خديجة ـ رضي الله عنها ـ إحدى الثريات الفضليات بمكة ترغب في الزواج به، وتؤثره على سادة مكة، وتبادر بالإرسال إليه بذلك، وكان قد عمل في تجارتها فترة من الزمن، ورأت من حسن خلقه وتعامله ما لم تر في غيره.


وأخيرًا أذكر أن من نسبوا الفقر للنبي صلى الله عليه وسلم كانوا بذلك يبررون الفقر للناس، وهذا يتعارض مع رسالة الإسلام تمامًا التي حثت على الغنى، وحثت على السعي في طلب الرزق، وحثت على جمع المال من الحلال، فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للعبدالصالح"؛ شعب الإيمان للبيهقي (2/ 446)، وقال: "اليد العليا"، خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول"؛ رواه البخاري، واليد العليا هي التي تمتلك تنفق والسفلى التي تسأل وتأخذ..

بل إن رسول الله وقرنه في دعائه بالكفر، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذُ بك من الكفرِ والفقر"؛ (سنن أبي داود 7/ 421).

وقد قرن صلى الله عليه وسلم الفقر بالكفر؛ لأن الفقير قد يضجر فينقم على قضاء الله وتَضعُف ثقتُه به، كما أنه قد يلجأ إلى السرقة، أو قد يلجأ إلى الرشوة، أو قد يلجأ إلى التخلي عند قيمه ومبادئه ودينه من أجل المال، بل قد يلجأ إلى القتل إن لم يجد وسيلة للحصول على المال إلا به.

كما أن الفقر يجلب الهوان والمذلة، ووسيلة من وسائل الضعف والقلة، فكم من أناس ألجأهم الفقر إلى إذلال النفوس وطأطأة الرؤوس، وكم من الناس من اضطروا اضطرارًا إلى أن يهينوا أنفسهم، ويمدوا أيديهم إلى غيرهم.

والدليل على أن عمل رسول الله لم يكن لفقره، وإنما بسبب إيجابية المجتمع المكي، هو مشاركته الفعالة في قضايا مجتمعه التي لا يتكسب من ورائها؛ إذ لم يكن صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن القضايا الهامة التي تعرض لها مجتمعه في فترة شبابه، وإنما شارك فيها مشاركة إيجابية، فقد اشترك وهو في العشرين من عمره تقريبًا في المعركة التي سميت بـ"حرب الفجار"؛ نصرة للحق ودفعًا للمعتدين.

كما اشترك في حلف سُمِّي بحلف الفضول، وهو حلف عقد في مكة بدار رجل يسمى "عبدالله بن جدعان"، وتعاقدوا فيه على ألا يجدوا مظلومًا إلا نصروه.

وقال عن هذا الحلف بعد بعثته: "لو دعيت إلى مثله لأجبت، حتى يؤكد أن المسلم عليه أن يتعاون مع المدافعين عن الحق، بغض النظر عن ديانتهم، وأن ذلك من موجبات الإسلام، بل فيه ثواب لا يساويه أي من مكاسب الدنيا.

كما كان له دور كبير في حسم القضايا التي كادت أن توقع قتالًا بين قومه، فقد ذكرت كتب السيرة أن شيوخ مكة اختلفوا فيما بينهم على من يقوم بوضع الحجر الأسود في مكانه بالكعبة، بعد أن فرغوا من تجديدها حتى كادوا يقتتلون؛ لما في ذلك من الشرف الرفيع، وتنازعوا حتى كاد أن يتحول نزاعهم إلى حرب ضروس في أرض الحرم؛ إذ قربت بنو عبدالدار (إحدى القبائل المكية) جفنة مملوءة دمًا، وتعاقدت هي وبنو عديٍّ بن كعب بن لؤيٍّ على الموت، وأدخلوا أيديهم في تلك الجفنة، ومكثوا على ذلك أربع ليال أو خمسًا، ثم استقر رأيهم على أن يحكِّموا أول داخل عليهم من باب المسجد الحرام.

وشاء الله أن يكون الداخل هو محمد صلى الله عليه وسلم - وكان عمره إذ ذاك خمسة وثلاثين عامًا تقريبًا - فلما رأوه قالوا: هذا الصادق الأمين، رضينا به حكمًا، وما إن عرض عليه الأمر حتى قال: هلمَّ إليَّ بثوب فأُتي به، فأخذ الحجر فوضعه فيه ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوا جميعًا، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه بيده ثم بنى عليه؛ (ابن سيد الناس، عيون الأثر ج1 صـ 121).


ولم تكن هذه حوادث طارئة في حياته، بل تكررت مرارًا، فقد قد روي عن ابن خُثيم أنه كان يُتحاكم إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الجاهلية قبل الإسلام، وروي عن الزهري أنهم كانوا لا ينحرون جزورًا إلا التمسوه فيدعو لهم فيها.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣