تفسير من سورة القارعة إلى سورة الهمزة


الحلقة مفرغة

سورة القارعة سورة مكية، وعدد آياتها إحدى عشرة آية، في ست وثلاثين كلمة، وهذه السورة المباركة اشتملت على مائة وخمسين حرفاً، فلقارئها (1500) من الحسنات، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.

إن موضوعها افتتح بما اختتم به سورة العاديات، وسورة العاديات فيها حديث عن يوم القيامة في قوله تعالى: (إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ))[العاديات:9-10]، وسورة القارعة من أولها إلى آخرها تتكلم عن ذلك اليوم، وسميت بالقارعة وهو اسم من أسماء القيامة، قال الإمام القرطبي رحمه الله: ومهيع كلام العرب أن الشيء كلما عظم قدره كلما كثرت أسماؤه، ألا ترى أنهم جعلوا للسيف خمسمائة اسم، فالسيف لما كان أثره عظيماً جعلوا له أسماء كثيرة، وكذلك الأسد سموه أسداً وسموه سبعاً وسموه ليثاً وسموه أسامة، وسموه أبا الحارث وغير ذلك من الأسماء، وكذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن نفسه: (أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي محا الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على إثري، وأنا العاقب فلا نبي بعدي)، عليه الصلاة والسلام، فكثرت أسماؤه؛ لأنه أعظم البشر وأعلاهم عند الله قدراً.

كذلك يوم القيامة أحصى له الإمام السيوطي ، والإمام الغزالي ، والإمام القرطبي وغيرهم أكثر من خمسين اسماً من القرآن، فسماه الله عز وجل: يوم القيامة وهو أشهر الأسماء، وقد ورد في أكثر من سبعين آية، وسماه الله: اليوم الآخر، ويوم البعث، ويوم التناد، ويوم النشور، ويوم الحسرة، ويوم الآزفة، ويوم الخروج، ويوم الخلود، والقارعة، والحاقة، والصاخة، والطامة.. وغيرها من الأسماء.

قال الله تعالى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ[القارعة:1-3]، القارعة مشتقة من القرع وهو الضرب بشدة، ومنه قول القائل:

العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الملامة

ومن ذلك قول الله عز وجل: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ[الرعد:31]، وتطلق القارعة على المصيبة الشديدة، فالله عز وجل سمى يوم القيامة القارعة؛ لأنها تقرع الناس بأهوالها كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الهول يبدأ من القبر في قوله: (من مات قامت قيامته)، فالذي في القبر يرى ما لا عهد له به، أما المؤمنون فإن الله يثبتهم، قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)[إبراهيم:27]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا[الأنبياء:101-102] أي: حسيس النار وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ[الأنبياء:102-103]، نسأل الله أن يجعلنا منهم.

قوله تعالى: مَا الْقَارِعَةُ )) الاستفهام هنا للتهويل والتعظيم.

قوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ هذا خطاب موجه إلى غير معين؛ لزيادة التهويل.

يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وفي هذه الآيات عدة مؤكدات تبين هول ذلك اليوم، أولها: الافتتاح بالجملة الاسمية الْقَارِعَةُ[القارعة:1].

ثانيها: الاستفهام الذي يفيد التهويل.

ثالثها: الإظهار في مقام الإضمار لأول مرة.

يعني: قال الله عز وجل: الْقَارِعَةُ )) ثم قال: مَا الْقَارِعَةُ ))، وفي غير القرآن يمكن أن يقال: القارعة، ما هي؟ لكن الله عز وجل أظهر في مقام الإضمار: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ )) ثم الاستفهام الثاني وتوجيه الخطاب إلى غير معين، ثم الإظهار في مقام الإضمار مرة ثانية، فلم يقل: وما أدراك ما هي؟ بل قال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ فتكرر اسم القارعة ثلاث مرات، وهذا كله من باب التهويل والتفخيم والتعظيم لما يحصل في ذلك اليوم.

ثم بدأ ربنا جل جلاله يفصل بقوله: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ[القارعة:1-3] فبعد أن اشتاقت الأسماع وتهيأت الأذهان لمعرفة ما يكون في ذلك اليوم قال الله عز وجل: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ[القارعة:4-5] يعني: يوم يكون الناس وتكون الجبال، الكون الأول كون تحول، والكون الثاني كون اضمحلال.

قوله تعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ[القارعة:4]، الفراش واحدته فراشة، وهي دواب صغار تطير وتحوم دائماً حول النور، أو حول النيران، والحديث في صحيح مسلم ومسند أحمد عن جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وما مثلي ومثل الناس إلا كفراش يحوم حول النار ليقع فيه، فأنتم تريدون أن تقعوا في النار وأنا آخذ بحجزكم عنها)؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله الله عز وجل حجاباً وحاجزاً يمنعنا من الوقوع في النيران، كما قال سبحانه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[الأنفال:33]، وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء:107]، وقوله تعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ[القارعة:4]، وقوله عز وجل: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ))[القمر:6-7]، وفي سورة القارعة شبه الناس بالفراش، وهنا شبههم بالجراد، قال أهل التفسير: ولا تعارض في هذا فهم في أول خروجهم من القبور يكونون كالفراش متخبطين لا يهتدون إلى مكان، ولا يقر لهم قرار، ثم بعد ذلك إذا سيقوا إلى المحشر، وكانت النار خلفهم تطردهم، فإنهم يكونون كالجراد المنتشر؛ لأن الجراد يسير أسراباً نحو هدف مقصود، أما الفراش فإنها تتخبط دون هدف معين.

قوله تعالى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ[القارعة:5]، هذه الجبال آية عظيمة من آيات الله، جعلها الله للأرض أوتاداً، وجعل خلقها عظيماً كما مر معنا في قوله تعالى: وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ[الغاشية:19]، فإذا بها تصير كما قال الله: كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ )) والعهن كما قال بعض أهل التفسير: هو الصوف مطلقاً، وقال بعضهم: هو الصوف الأحمر، وقال بعضهم: هو الصوف المصبوغ، وفي آية أخرى قال الله عز وجل: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ[المعارج:8-9]، وفي آية ثالثة قال الله عز وجل: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً)[الكهف:47]، وقال في أخرى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا[النبأ:20]، وقال أيضاً يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا[الطور:9-10]، وفي آية أخرى يقول تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا[المزمل:14]، الكثيب: مجتمع الرمل، والمهيل: هو الذي إذا أخذت بعضه سقط كله، ولا تعارض بين هذه الآيات، فالجبال في أول أمرها تكون كالعهن المنفوش، تنتفش نتيجةً لتغير أحوال الكون كله في ذلك اليوم، كما قال الله عز وجل: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ[التكوير:1-2] يعني: طمس ضوءها، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ[التكوير:3-4]، العشار هي: النوق الحوامل أي: عطلت عن حملها، وقيل: العشار هي البلاد العامرة تعطل من عمرانها، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ[التكوير:5-6]، هذه البحار الباردة تصبح نيراناً تتأجج، وفي آية أخرى: وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ[الانفطار:3] أي: تتفجر وتخرج منها الأهوال.

كما قال الشاعر:

مثل لنفسك أيها المغرور

يوم القيامة والسماء تمور

هذا هو حال الدنيا في ذلك اليوم، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات.

فهذه الجبال تصير كالعهن المنفوش، ثم بعد ذلك تصير مسيرةً: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ[الكهف:47]، ثم بعد ذلك تصير سراباً كأن لم تكن، ويخرج الناس من قبورهم وليس هناك جبال، ولا بنيان، ولا أشجار، ولا معالم ولا شمس ولا قمر، الكل خسف به وذهب ضوءه، ثم بعد ذلك يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرص الخبز النقي الذي ليس فيه نخالة، فقرصة النقي لا معلم فيها لأحد.

قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ[القارعة:6-9].

بعد هذه الأهوال اجتمع الناس في عرصات القيامة، فنصبت الموازين، قال عز وجل: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا[الأنبياء:47].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: الميزان له لسان وكفتان، وهو ميزان حقيقي توزن فيه الأعمال، وتوزن فيه الصحف، ويوزن فيه الأشخاص، كما جاء في آخر سورة الكهف قول الله عز وجل: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا[الكهف:105] أي: هؤلاء المتكبرون المتغطرسون، الذين كان أحدهم إذا تكلم مال بفمه ذات اليمين وذات الشمال، وإذا مشى يمشي على الأرض مختالاً متكبراً، يتبختر في مشيته يوم القيامة، فهؤلاء يحشرون كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم كأنهم ذباب أو بعوض لا قيمة لهم.

والله عز وجل ينصب تلك الموازين ثم ينقسم الناس مع تلك الموازين إلى قسمين: الأول: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ[القارعة:6] أي: من ميزانه ثقيل بالحسنات وبالأعمال الصالحات، فجزاؤه كما قال الله: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ[القارعة:7].

الثاني: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ[القارعة:8] أي: ليس فيها حسنات، فجزاؤه كما قال الله: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ[القارعة:9].

أما كيف يثقل الميزان أو يخف فإن أبا بكر لما كان في سكرات الموت أوصى عمر رضي الله عنه وقال له: واعلم يا عمر أنه ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا، وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلاً يوم القيامة، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا، وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً يوم القيامة.

وأكثر ما يثقل به الميزان كلمة لا إله إلا الله، من قال هذه الكلمة موقناً بها خالصاً من قلبه، معتقداً حقيقتها، بأنه لا معبود بحق إلا الله، وأنه لا يستحق العبادة إلا الله، فميزانه ثقيل يوم القيامة، وقد ذكر الرسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- قصة الرجل الذي ينادى به يوم القيامة على رءوس الأشهاد، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فيها سيئاته وخطيئاته، فتوضع هذه السجلات فيقول الله عز وجل له: (يا ابن آدم! هل ظلمك الكرام الكاتبون؟ يقول: لا يا رب، هل نقصوا من حسناتك شيئاً؟ يقول: لا يا رب، هل لك من حسنة ترجوها؟ فالرجل يتردد فيقول الله عز وجل: بلى إن لك عندنا حسنة لا ظلم اليوم، فتنشر له بطاقة مكتوب فيها: لا إله إلا الله توضع في كفة حسناته، فتطيش تلك السجلات وترجح بهن لا إله إلا الله).

وليس معنى ذلك أنه قالها بلسانه دون اعتقاد وعمل، لكنه قال: لا إله إلا الله موقناً بها معتقداً حقيقتها عاملاً بما استطاع، لكن غلبته نفسه وغلبت عليه شقوته وشهوته فنجاه إخلاصه.

وهذا يفسر به قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)، أي: قالها مخلصاً، فثقلت موازينه بلا إله إلا الله وبالطاعات.

قوله تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ قال أكثر المفسرين: هذا من المجاز، والمعنى فهو في عيشة مرضي عنها، فهو راض عن عيشته هذه، وكيف لا يرضى بها وفيها سرر مرفوعة تتواضع له، فلا يحتاج معها إلى سلم، بل هي تتواضع له، كذلك تكون الأشجار عالية، فإذا اشتهى من قطوفها شيئاً تدلت إليه ولا يحتاج إلى أن يصعد فيتعرض لجرح أو لأذى، كذلك الأنهار تمشي معه حيث مشى، قال الله عز وجل: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا[الإنسان:6] يعني: المؤمن هو الذي يفجر الأنهار، وإذا اشتهى طيراً من طيور الجنة خرَّ مشوياً بين يديه.

وقال بعضهم: بل العيشة راضية حقيقة لا مجازاً، ودليل ذلك أن كل شيء في هذه العيشة راض عن المؤمن الساكن فيها، فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب يقولون: سلام عليكم بما صبرتم، والحور العين راضيات عن المؤمن، قال الله عز وجل: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ[الرحمن:56]، (قاصرات) أي: حابسات أعينهن عن غير أزواجهن، وفي آية أخرى: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ[الرحمن:72]، محبوسات في الخيام، فهي حابسة ومحبوسة، ولا تحبس طرفها إلا إذا كانت راضية عن زوجها في الجنة، ولذلك أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الرجل من أهل الجنة يذهب إلى سوق الشمال يوم الجمعة فتحثو عليهم ريح الجنة في وجوههم وفي ثيابهم، فيرجع الواحد إلى زوجته فتقول له: والله لقد ازددت بعدنا حسناً وجمالاً، فيقول لها: وأنت والله لقد ازددت حسناً وجمالاً) فهذا يعبر عن رضاهن بهم، ورضاهم بهن، ولا يتأفف بعضهم من بعض، فليس في الجنة تأفف ولا غيره، قال عز وجل: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا[الواقعة:25-26]، رضاً تام.

قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ[القارعة:8-9] الهاوية فيها تفسيران:

قيل: الهاوية اسم من أسماء جهنم، أو دركة من دركاتها، ونسب إليها؛ لأنها صارت مستقره، كما يقال للأرض: أم، قال أمية بن أبي الصلت :

والأرض معقلنا وكانت أمنا منها خلقنا وفيها ندفن

فالأرض تسمى أماً باعتبار قرارنا عليها، كذلك جهنم -والعياذ بالله- صارت أماً لهذا الإنسان، باعتبار قراره فيها.

وقيل: المراد بالهاوية، أي: أنه يسقط على أم رأسه نسأل الله العافية، كما أخبرنا ربنا في القرآن بأنهم ينكسون في جهنم والعياذ بالله، وقد جاء عن أبي هريرة و أنس بن مالك رضوان الله عليهما أنهما قالا: (إن روح المؤمن إذا قبضت، يُذْهَبُ بها إلى أرواح المؤمنين، وأرواح المؤمنين في أعلى عليين، فيقول المؤمنون بعضهم لبعض: روِّحوا على أخيكم؛ فإنه كان في نكد الدنيا، فيسألونه عن أهل الدنيا حتى يقولون: ما فعل فلان؟ فيقول: أو ما جاءكم -يعني: أن فلاناً هذا قد مات فيقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله، ذُهِبَ به إلى أمه الهاوية).

قوله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ[القارعة:10]، أصل الكلمة في اللغة: ما أدراك ما هي؟ لكن جيء بهاء السكت.

قال الله تعالى: نَارٌ حَامِيَةٌ[القارعة:11]، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ناركم هذه جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم)، وقال في الحديث الذي في الصحيح: (إن أهون أهل النار عذاباً من يوضع في أسفل قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه)، وقال أيضاً في الحديث: (إن الله أوقد النار ألف عام حتى ابيضت، ثم أوقدها ألف عام حتى احمرت، ثم أوقدها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة)، نسأل الله أن يجيرنا منها برحمته.

سورة التكاثر سورة مكية، وعدد آياتها ثمان، وكلماتها ثمان وعشرون كلمة، وحروفها عشرون ومائة حرف.

أما سبب نزولها فهو كما قال مقاتل بن سليمان الكلبي : أن حيين من قريش افتخرا: وهم بنو عبد مناف وبنو سهم ، كل حي منهما قال: نحن أعز نفراً، وأكثر كاثراً، حتى بلغ بهم الحال أن بني عبد مناف كثروا على بني سهم فذهبوا إلى المقابر وأخذوا يعدون موتاهم ويقول كل حي للآخر: أفيكم مثل فلان؟ ويشيرون إلى قبره، أفيكم مثل فلان؟ حتى كثر بنو سهم على بني عبد مناف.

وقيل: بل نزلت في حيين من الأنصار: وهم بنو الحارث وبنو حارثة.

وقيل: بل نزلت في حيين من يهود: وهم بنو النضير وبنو قريظة.

على كلٍّ فقد نزلت الآية لمعالجة خلل في النفس الآدمية، وهذا الأمر قد تكرر في القرآن، فقد حكى ربنا جل جلاله عن ذلك الخاسر الشقي الذي قال لصاحبه وهو يحاوره: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا[الكهف:34]، وحكى الله جل جلاله عن الوليد بن المغيرة ، ذاك الذي آتاه الله مالاً ممدوداً، وبنين شهوداً، ومهد له تمهيداً، ثم بعد ذلك ظن أن الله أعطاه هذا كله؛ لأنه كريم على الله، وظن نفسه أهلاً للنبوة وللرسالة، فكانت عاقبته كما قال الله عز وجل: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا[المدثر:17] أي: سأكلفه أن يصعد جبلاً في جهنم، كلما بلغ قمته خر إلى قاعه.

وقد بين عز وجل في القرآن أن التكاثر يكون في شيئين: في الأموال والأولاد، وهذا كله سماه الله عز وجل: لهواً ولعباً كما في قوله تعالى: أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[الحديد:20]، وقوله تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[العنكبوت:64]، وقوله تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ[الأنعام:32]، وبين ربنا جل جلاله أنما عنده خير وأبقى، كما قال سبحانه: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ[الجمعة:11].

فالله عز وجل أنكر على هؤلاء الناس الذين يتكاثرون بالأموال والأولاد وبالعشيرة وبالأنساب.

قال الله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ[التكاثر:1] (ألهاكم): أي: شغلكم التكاثر بالأموال والأولاد وأنساكم طاعة ربكم، والمسارعة في مرضاة مولاكم.

يقول ابن القيم رحمه الله: التكاثر تفاعل بين اثنين، كل منهما يدعي أنه أكثر من صاحبه فيما يكاثره به، ثم يقول رحمه الله: ولو كانت كثرة من غير تكاثر لم تضر.

يعني: لو كان الإنسان عنده مال كثير، وعنده أولاد وعشيرة ورهط، ولكنه لم يكاثر غيره بها لم يضره ذلك كما كان الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كان بعضهم ذوي كثرة ولم تضره تلك الكثرة، كـأنس بن مالك رضي الله عنه لما قال: وحدثتني ابنتي أُمَينة أني دفنت بيدي هاتين مائة من ولدي، وقد كان أبو بكر و الزبير بن العوام و طلحة بن عبيد الله و عثمان بن عفان رضوان الله عليهم من أصحاب الأموال الكثيرة، ولم تضرهم، لكن من كاثر بالدنيا سيندم يوم القيامة، فسيسأله ربه جل جلاله عما آتاه فلا يجد جواباً، وحينها يقول: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ[المؤمنون:99-100].

روى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يجاء بالعبد يوم القيامة كأنه بذج -واحد البذجان وهو ولد الضأن- فيقول الله عز وجل له: قد أعطيتك وخولتك فما صنعت؟ يقول: يا رب قد أخذته ونميته وكثرته حتى تركته أوفر ما كان، رب ارجعني أنفقه في سبيلك، فيمضى به إلى النار)، وهذا حال من لم يعرف حق الله عز وجل في ماله.

روى الإمام مسلم عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه رضي الله عنهما قال: (انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ[التكاثر:1]، فقال: يقول ابن آدم: مالي مالي، وليس له من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأبقى).

وجاء في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله)، فهذا هو الذي ينفعه.

إن التنافس المحمود هو ما يكون في أمور الآخرة، فلو أن الإنسان يراقب غيره فلا تطمئن نفسه، ولا يهدأ باله إذا وجد غيره أغزر منه علماً أو أكثر منه عملاً، أو أحسن منه حالاً في علاقته مع ربه، فهكذا كان حال الصحابة رضوان الله عليهم؛ ولذلك لما جاء الفقراء يشكون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلى، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال عليه الصلاة والسلام: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به، إن لكم بكل تسبيحه صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، فذهبوا ثم جاءوا فقالوا : يا رسول الله! سمع إخواننا بما قلت لنا فعملوا مثل ما عملنا، فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).

وكما كان يتنافس أبو بكر ، و عمر ، وعندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالنفقة قال عمر : (اليوم أسبق أبا بكر ، فيذهب رضي الله عنه فيأتي بمال كثير، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ما تركت لولدك؟ يقول: تركت لهم مثله، فيأتي أبو بكر بمال كثير فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تركت لولدك؟ يقول: تركت لهم الله ورسوله، فيقول عمر : والله لا أسابقك بعدها).

وكذلك المكاثرة بين الأوس والخزرج رضوان الله عليهم، فقد كان الخزرج لا يسمعون بخير فعله الأوس إلا فعلوا مثله، وكذلك الأوس لا يسمعون بخير فعله الخزرج إلا فعلوا مثله، ولذلك لما قتل الأوسُ الشريرَ الخبيثَ اللعينَ كعبَ بن الأشرف النضري ، بادر الخزرج رضوان الله عليهم إلى قتل أبي رافع تاجر الحجاز الذي كان يعادي الله ورسوله.

إذاً: التكاثر في أمور الآخرة مطلوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها).




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد 2546 استماع
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر 2534 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] 2506 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] 2378 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] 2368 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] 2295 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] 2263 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] 2128 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] 2087 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] 2049 استماع