تفسير من سورة القدر إلى سورة العاديات


الحلقة مفرغة

سورة القدر مكية في قول بعض المفسرين، ومدنية في قول الأكثرين، وفيها خمس آيات وثلاثون كلمة، ومائة واثنا عشر حرفاً، وهذه السورة المباركة هي واحدة من ثلاث وعشرين سورة في القرآن افتتحت بالجمل الخبرية، كقوله سبحانه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ[الأنفال:1] وقوله تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ[التوبة:1]، ونحو ذلك.

قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ[القدر:1].

(إنا) هذا ضمير التعظيم، فالله عز وجل يعظم ذاته العلية، وتكرر هذا في القرآن كثيراً، كقوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9]، وقوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ[النساء:105]، وقوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ[الكوثر:1]، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ[ق:43]، وقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ[القمر:49]، ونحو ذلك من الآيات.

وفي بعض الآيات الله عز وجل يتحدث عن نفسه بضمير الإفراد، كما في قوله سبحانه: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[البقرة:30]، فالله سبحانه يعظم نفسه متى شاء، فهو العظيم وهو الكبير وهو المتعالي سبحانه وتعالى.

قوله تعالى: إنا أنزلناه)) الضمير في قوله سبحانه: (أنزلناه) بإجماع المفسرين يرجع إلى القرآن، أي: أنزلنا القرآن، قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وفي الإتيان بالضمير بدلاً من الاسم الظاهر إيماء إلى أنه مستقر في أذهان المسلمين؛ لشدة اشتغالهم به وشغفهم بقراءته. يعني لم يقل الله عز وجل: إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، وإنما قال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ )) اكتفى بذكر الضمير، فقوله: إنا أنزلناه)) هذه الجملة إشارة إلى أنه من الله سبحانه، أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وكان المشركون يقولون: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ[النحل:103] وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجلس إلى غلام نصراني اسمه جبر ، أو اسمه يسار ، وكان قيناً أي: حداداً يصنع السيوف، فقال المشركون: إن قرآن محمد يتعلمه من هذا الغلام النصراني، فقال الله عز وجل: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ[النحل:103] أي: هذا النصراني أعجمي وهذا القرآن عربي مبين، وكما في الآية الأخرى قال الله عز وجل: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ[الشعراء:192-195].

أقوال العلماء في سبب تسمية القدر بهذا الاسم

قوله: (( فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ )) ذكروا في تسمية ليلة القدر بهذا الاسم أقوالاً ثلاثة:

الأول: قولهم: فلان ذو قدر، أي ذو شرف ومكانة، فسميت ليلة القدر؛ لشرفها ومكانتها، كما قال مجاهد ؛ لأن الله تعالى أنزل فيها كتاباً ذا قدر، على رسول ذي قدر، على أمة ذات قدر، فأخذت الليلة شرفها من نزول القرآن فيها.

الثاني: سميت ليلة القدر بهذا الاسم؛ لأنه تقدر فيها المقادير، والآجال، والأرزاق، والأعمال، كما قال ربنا سبحانه: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ[الدخان:4]، كل شيء يقدر في هذه الليلة، خلال عام كامل، يكتب من يولد ومن سيموت، من سيؤمن ومن سيكفر، من سيهتدي ومن سيضل، يكتب ما يكون من مطر، ومن جدب، ومن وعطاء، ومن منع، ومن حياة، ومن موت، ومن صحة، ومن سقم، قالوا: حتى أسماء الحجيج تكتب فلا يزيدون واحداً ولا ينقصون واحداً، ونسأل الله أن يجعلنا من المكتوبين منهم.

الثالث: سميت ليلة القدر بهذا الاسم من القدر الذي هو التضييق، كما مر معنا في قول الله عز وجل: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ[الفجر:16] أي ضيق؛ لأن الملائكة ينزلون في تلك الليلة فيضيقون فجاج الأرض وأفواه السكك.

كيفية نزول القرآن في ليلة القدر

قوله: ((أنزلناه)) أي: القرآن، إما أن يكون المقصود ابتداء التنزيل، كما مر معنا في قول الله عز وجل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[العلق:1]، وهو أن هذه الآيات نزلت على قلب محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر.

وإما أن يكون كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم بعد ذلك نزل به الملك منجماً على حسب الوقائع والأحداث، كما قال الله عز وجل: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا[الإسراء:106]، وقال عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا[الفرقان:32].

قوله: (( فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ )) ذكروا في تسمية ليلة القدر بهذا الاسم أقوالاً ثلاثة:

الأول: قولهم: فلان ذو قدر، أي ذو شرف ومكانة، فسميت ليلة القدر؛ لشرفها ومكانتها، كما قال مجاهد ؛ لأن الله تعالى أنزل فيها كتاباً ذا قدر، على رسول ذي قدر، على أمة ذات قدر، فأخذت الليلة شرفها من نزول القرآن فيها.

الثاني: سميت ليلة القدر بهذا الاسم؛ لأنه تقدر فيها المقادير، والآجال، والأرزاق، والأعمال، كما قال ربنا سبحانه: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ[الدخان:4]، كل شيء يقدر في هذه الليلة، خلال عام كامل، يكتب من يولد ومن سيموت، من سيؤمن ومن سيكفر، من سيهتدي ومن سيضل، يكتب ما يكون من مطر، ومن جدب، ومن وعطاء، ومن منع، ومن حياة، ومن موت، ومن صحة، ومن سقم، قالوا: حتى أسماء الحجيج تكتب فلا يزيدون واحداً ولا ينقصون واحداً، ونسأل الله أن يجعلنا من المكتوبين منهم.

الثالث: سميت ليلة القدر بهذا الاسم من القدر الذي هو التضييق، كما مر معنا في قول الله عز وجل: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ[الفجر:16] أي ضيق؛ لأن الملائكة ينزلون في تلك الليلة فيضيقون فجاج الأرض وأفواه السكك.

قوله: ((أنزلناه)) أي: القرآن، إما أن يكون المقصود ابتداء التنزيل، كما مر معنا في قول الله عز وجل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[العلق:1]، وهو أن هذه الآيات نزلت على قلب محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر.

وإما أن يكون كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم بعد ذلك نزل به الملك منجماً على حسب الوقائع والأحداث، كما قال الله عز وجل: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا[الإسراء:106]، وقال عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا[الفرقان:32].

قال الله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ[القدر:2].

هذا استفهام للتفخيم والتعظيم، قال الفراء و سفيان بن عيينة : كلما كان في القرآن (وما أدراك) فقد أدراه، وما كان في القرآن (وما يدريك) فلم يدره. يعني: ذكرت جملة (وما يدريك) في القرآن ثلاث مرات:

الأولى: قول الله عز وجل في الأحزاب: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا[الأحزاب:63].

الثانية: قوله في الشورى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ[الشورى:17].

الثالثة: قوله في سورة عبس: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى[عبس:3].

(وما أدراك) وردت في عشرة مواضع، كلها في المفصَّل في قصار السور:

الأول: قوله تعالى: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ[الحاقة:1-3].

الثاني: قوله تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ[المدثر:26-27].

الثالث: قول الله عز وجل في سورة المرسلات: لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ[المرسلات:13-14].

الرابع والخامس: قول الله عز وجل في سورة الانفطار: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ[الانفطار:17-18].

السادس والسابع: قوله تعالى في المطففين: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ[المطففين:8]، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ[المطففين:19].

الثامن: قول الله عز وجل: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ[البلد:11-12].

التاسع: قول الله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ[القارعة:3].

العاشر: قوله هنا في سورة القدر: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ[القدر:2]، كل هذه أخبر الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وسلم وأدراه بها.

فالسؤال للتفخيم: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ[القدر:2] أي: هل عرفت خبرها؟ وهل أتاك نبؤها.

قال الله تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ[القدر:3].

يقول العلامة الشيخ عطية رحمه الله: تنزيل القرآن بالليل، وجعل كتابة الأقدار بالليل دليل على أن لليل خاصية ومزية؛ ولذلك قال الله عز وجل في القرآن: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا[الإسراء:1]، وقال: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ[الإسراء:79]، وقال: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ[ق:40]، وقال: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا[الإنسان:26]، وقال: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا[المزمل:6].

ثم قال: دل ذلك على أن الليل هو وقت التجليات، ونزول الرحمة، ونزول الفيوضات؛ لسكونه وهدأته، وسكون الأصوات والحركات فيه؛ ولذلك فإن الموفقين من عباد الله يلتمسون الخير في الليل.

لقد كرر الله عز وجل هذه الكلمة ثلاث مرات حيث قال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ[القدر:1-2]، وكان من الممكن أن يقول سبحانه: هي خير من ألف شهر، لكن الله عز وجل كرر وقال: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ[القدر:3] قال المفسرون: إن الإظهار في مقام الإضمار يكون للتفخيم والتعظيم وهو مزيد من العناية والاهتمام، كما قال سبحانه: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ[آل عمران:78] فكرر كلمة الكتاب ثلاث مرات.

قال أهل التفسير ومنهم مجاهد بن جبر رحمه الله: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني إسرائيل، لبس السلاح في سبيل الله ثمانين سنة ما عصى الله طرفة عين، فقال الصحابة: ومن يطيقه يا رسول الله؟ فأنزل الله عز وجل هذه السورة فيها عطية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم).

فمن وفق لعبادة الله عز وجل في هذه الليلة، فهو خير ممن عبد الله ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وألف شهر تعدل ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر؛ ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه ويقول لهم: (قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، افترض الله عليكم صيامه، فيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم).

وبعض المفسرين قالوا: ليس المقصود الألف وإنما المقصود التكثير، كما في قول العرب: فلان بألف رجل، يعنون: أنه عالي الهمة، عظيم القدر، ومنه قول الله عز وجل: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ[البقرة:96] وليس المقصود الألف، وإنما المقصود طول العمر، فهنا قالوا: المقصود تفخيم هذه الليلة، وليس المقصود أنها تعدل بالضبط ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر.

قال الله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ[القدر:4].

ليلة القدر هذه ليلة مباركة تتنزل فيها الملائكة بأنوارها وبركاتها ويتنزل فيها جبريل عليه السلام إلى هذه الأرض.

قوله: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ )) أي: بأمر ربهم، الباء إما أن تكون باء السببية، أي: بسبب أمر ربهم وإذنه جل جلاله، وإما أن تكون باء المصاحبة، أي: مصحوبين بأمر ربهم.

قوله: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ )) أي: بكل أمر؛ لأن (من) هنا بمعنى الباء، ومنه قول الله عز وجل: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ[الرعد:11] أي: يحفظونه بأمر الله، بأمر ربهم، والأمر إما أن يكون واحد الأمور أي: الأشياء، أو واحد الأوامر وكلاهما مراد، كما في قول الله عز وجل: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ[الدخان:4-5] فقوله: فيها يفرق كل أمر)) أي: واحد الأمور وقوله: أمراً من عندنا)) واحد الأوامر.

قال الله تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ[القدر:5].

قوله: سَلامٌ هِيَ )) أي: لا يستطيع الشيطان أن يتصرف فيها بسوء، ولا أن يصيب أحداً بأذى؛ لأنها ليلة سالمة من الآفات، وسالمة من البلايا والرزايا.

قال بعض أهل التفسير: المراد تسليم الملائكة على المؤمنين، أي: أنهم ينزلون فيسلمون على المؤمنين في مساجدهم واحداً واحداً.

قوله: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ معلوم بأن الليلة تنتهي بطلوع الفجر، لكن الله عز وجل عيَّنها فقال: هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ )) من أجل أن يحفزنا على عبادته فيها؛ لأن هذه ليلة محدودة، وساعاتها معدودة، فاجتهدوا فيها.

قال الإمام القرطبي رحمه الله: أكثر أهل العلم على أنها ليلة سبع وعشرين؛ لما رواه مسلم في صحيحه من حديث زر بن حبيش رحمه الله قال: قلت لـأبي بن كعب : (إن أخاك عبد الله بن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر) أي: من يقوم الليل خلال السنة كلها يصيب ليلة القدر، (فقال أبي بن كعب : يرحم الله أبا عبد الرحمن ! والله إنه ليعلم أي ليلة هي، ولكن أراد ألا تتكلوا -يعني: ابن مسعود يعرف أنها ليلة سبع وعشرين، لكن أراد من الناس أن يقوموا السنة كلها لا ليلة سبع وعشرين فقط- والله الذي لا إله غيره إنها ليلة سبع وعشرين، قلت له: بأي شيء تقوله؟ فقال: بالعلامة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس تخرج في صبيحتها ولا شعاع لها) يعني: تخرج باهتة، هذه رواية.

وأيضاً الرواية الأخرى: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للصحابة رضي الله عنهم: ترى أي ليلة هي ليلة القدر؟ فقال عبد الله بن عباس : إن عندي منها علماً. فقد كان عبد الله بن عباس جريئاً رضي الله عنه جرأة العالم الواثق، حتى كان يقول في قول الله عز وجل: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ[الكهف:22] كان يقول: أنا من ذلك القليل. وحق له رضي الله عنه.

قال لـعمر : وما ذاك؟ قال له: هي لسبعة تبقى أو لسبعة تمضي-أي: إما ليلة ثلاث وعشرين، أو ليلة سبع وعشرين- قال له: بأي شيء قلت هذا؟ قال له: خلق الله السماوات سبعاً، والأرضين سبعاً، والأيام سبعاً، والشهر يدور على سبع، والإنسان خلق من سبع، وطعامهم من سبع، كما قال الله عز وجل: فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا[عبس:24-28] إلى آخر الآيات، فـعمر رضي الله عنه قال له: فطنت لما غفلنا عنه). وهنا يرجح ابن عباس أن ليلة القدر إما ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين.

وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأواسط من رمضان، قال: فخرج علينا ليلة عشرين، صلوات ربي وسلامه عليه، فقال: أيها الناس! من كان ملتمساً ليلة القدر فليلتمسها في العشر الأواخر، وإني أريت أني أسجد صبيحتها في ماء وطين، يقول أبو سعيد : وما في السماء قزعة، فهطلت السماء بالمطر، وكان سقف المسجد من جريد النخل، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما انفتل من صلاته حتى رأيت أثر الطين والماء في جبهته وأنفه عليه الصلاة والسلام، وكانت ليلة إحدى وعشرين).

والذي عليه الأئمة الثلاثة مالك و الشافعي و أحمد وكثير من أهل العلم أنها متنقلة، وليست ثابتة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أريت أني أسجد صبيحتها في ماء وطين) يعني: في تلك السنة.

وقول أبي بن كعب رضي الله عنه: (إنها ليلة سبع وعشرين) يحمل ذلك على الغالب، لكن ليس على أنها في ليلة سبع وعشرين لا تتخلف عنها.

ولذلك جاء في الحديث: (أنها في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى، في ثالثة تبقى، في واحدة تبقى) هذه الخمس ليالي الوتر، هي أكثر مظنة لالتماس ليلة القدر فيها.

أما ما قاله بعض العلماء: إنها في ليلة سبع وعشرين؛ لأن قوله تعالى: سَلامٌ هِيَ[القدر:5] رقم سبع وعشرين، فهذا لا يعول عليه كثيراً، وكذلك من قالوا: بأن ليلة القدر من تسعة أحرف، وتكررت ثلاث مرات في السورة، فحاصل ضرب التسعة في الثلاثة يساوي سبعة وعشرين، كل هذا كما قال ابن عطية : من ملح التفسير، وليس من متين العلم.

كثير من الناس يهتم بأن يتتبع ما يقوله الناس في اليوم الذي بعده، أو يهتم بالليل هل يسمع نباح كلب، ويترقب العلامات؛ من أجل أن يعرف هل هذه ليلة القدر، أم ليست ليلة القدر، ليس هذا مهماً، فالعلماء رحمهم الله قالوا: هي ليلة ساجية ساطعة، كأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة، هادئة، بلجة، مضيئة، وذكروا أيضاً حديثاً ثبت بأن في صبيحتها تخرج الشمس لا شعاع لها، وهذه العلامة تكون بعد وقوعها، ولا فائدة من معرفة هذه العلامة، ولذلك ينبغي للإنسان أن يجتهد في ليلة القدر في عبادة الله عز وجل، وجزى الله أمنا عائشة رضي الله عنها خيراً، فقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تقول فيها؟ فقال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) فهذا الدعاء ينبغي أن نكرره وأن نحرص عليه.

وأسأل الله أن يوفقنا لإصابة ليلة القدر.