[08] أسباب علاجية للغضب المذموم - خطب مختارة
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
الخطبة الأولىأما بعد: حديثنا عن صفة من الصفات التي تظهر آثارها على سلوك الإنسان، ويحتاج المرء إلى اكتفاء شرها، حديثنا عن الغضب الذي هو صفة من صفات البشر، وهو ينقسم إلى قسمين: غضب محمود، وآخر مذموم، فأما المحمود فهو أن يغضب لله ولدين الله، وتلك صفة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، فإنه كان لا يغضب إلا لله، وإذا انتهكت محارم الله، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، لاَ امْرَأَةً، وَلاَ خَادِمًا، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عز وجل» [أخرجه مسلم:2328].
وأما الغضب المذموم فهو الغضب الذي يُخرج الإنسانَ عن وزن الأمور بالعدل، ويؤدي به إلى التعدي على الحقوق، وظلم العباد والانتقام للنفس.
إخوة الإيمان ، إن كثيرًا من الناس يتمنى أن يتخلص من هذا الغضب المذموم، وإنه والحمد لله في ديننا أسبابًا وقائية وعلاجية لهذا الغضب؛ من أخذ بها سلم من هذا الغضب المذموم وسلم من آثاره السيئة؛ وسنقف في هذه الخطبة مع خمسة عشر من هذه الأسباب الوقائية والعلاجية بإذن الله:
أولًا: العلم بأن الغضب نفخة من نفخات الشيطان الرجيم، لِيُهَيِّجَ الإنسان فيقع فيما لا تحمد عقباه، فعلى المسلم إذا أصابه شيء من ذلك استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، {وَإِمَّا يَنـزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36]، قال سليمان بن صُرَدٍ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَجُلاَنِ يَسْتَبَّانِ، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ:أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ،ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ» [صحيح البخاري :3282].
ثانيًا: تدريب وتعويد النفس على الصبر ، يقول صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» [ صحيح مسلم :1053].
ثالثًا: السكوت، قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ» [صحيح الجامع:693]، وذلك أن الغاضب إذا غضب تفوه بكلمات لا يحسب لها حسابًا، وقد تؤدي به أحيانًا إلى التهلكة سواءً في دينه أو دنياه، فكان أعظم علاج له السكوت.
رابعًا: تغيير هيئته ومكانه، فإن كان قائمًا فليجلس، وإن كان جالسًا فليضطجع، فإن غلبه الغضب وعلم أنه إذا بقي في مكانه استمر غضبه، ونشط شيطانه، وهامت نفسه في الغي، فعليه أن يفارق المكان الذي هو فيه إلى مكان تهدأ فيه نفسه، ويسكن فيه فؤاده، قال أبو ذر رضي الله عنه إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لنَا: «إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلاَّ فَلْيَضْطَجِعْ» [صحيح أبي داود:4782].
خامسًا: أن يحرص أن يكون حليمًا ليحظى بمحبة الله، يقول صلى الله عليه وسلم لأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ» [صحيح مسلم:17].
سادسًا: عِلم العبد أن كظم الغيظ من أعظم صفات المتقين، قال الله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ .
الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133-134].
كانت جاريةٌ تصب الماء على يدي جعفر الصادق رحمه الله تعالى فوقع الإبريق من يدها فانتثر الماء عليه، فاشتد غضبُه، فقالت له: يا مولاي: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظ}، قال: كظمت غيظي، قالت: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، قال: عفوت عنك، قالت: {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: أنت حرّة!! فانظر احترامهم لآيات القرآن وآدابه.
سابعًا: تذكرُ الفضلِ الذي رتبه الله لمن غضب؛ فكظم غيظه وهو قادر على إنفاذه، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ - دَعَاهُ اللَّهُ - عز وجل - عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ» [صحيح أبي داود:4777]، أن رجلًا جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ، قال له صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَغْضَبْ وَلَك الجَنَّة» [صحيح الجامع:7374].
ثامنًا: العلم واليقين بأن ردَّ الغضب اتباعٌ لوصية النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كظم الإنسان غضبه ولم ينفذه فإنه قد اتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: أوصني.
قال: «لاَ تَغْضَبْ؛ فَرَدَّدَ مِرَارًا، قالَ: لاَ تَغْضَبْ» [ صحيح البخاري :6116].
تاسعًا: العلم بأن في دفع الغضب ردًا للعدوان، وإغلاقًا لباب الفتنة ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "دخل الناسُ النار َ من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكًا في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته، وباب غضب أورث العداون على خلقه" (الفوائد:58).
عاشرًا: العلم بأن في دفع الغضب إثباتًا لشجاعة الشخص المالك لنفسه عند الغضب، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» [صحيح البخاري:6114]، فضبط النفس مقياسٌ لشجاعة الشخص، وقوةِ حلمه، وثباتِ قلبه، وشجاعتِه، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه" (إحياء علوم الدين :3/150)، أي أنك لا تعرف الإنسان إلا عند الغضب فعنده ينكشف حلمه وتظهر أخلاقه.
نكمل هذه الأسباب في الخطبة الثانية، وأستغفر الله.
الخطبة الثانية
الحادي عشر: امتثال أمر الله بدفع السيئة بالحسنة، فإنَّ هذه هي غاية مكارم الأخلاق ، ومحاسن الطباع، ومآل هذا الدفع إلى خير، يقول الله عز وجل: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34 ].
الثاني عشر: العلم واليقين بأن في مجاراة الغضب وعدم دفعة حصول الندامة - في الغالب - بعد ذهابه، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أوّلُ الغضبِ جنون، وآخره ندم، وربما كان العطب في الغضب" (الآداب الشرعية:1/205).
الثالث عشر: أن يعلم الشخص أن الغضب - في الغالب - يورث الحقد والحسد، والعداوة والبغضاء، والعدوان وحب الانتقام، وهو يؤول إلى التقاطع، فهو مفتاح الفتن والآثام، وبريد التفرق والانقسام، فالغضب مفتاح كل عداوة وشر، فجماع الخير في الحِلْمِ، وجماع الشر في الغضب، وإن نتائجه عظيمة، وعواقبه وخيمة؛ فكم دُمِّرت به أُسر، ومُزقت به بيوت، وقُطِّعت به أرحام، وأشعلت به فتن، وقامت بسببه محن، فهو يُغضب الرحمن، ويُفرِّق الإخوان، ويُعْمِي الأبصار، ويُصم الآذان.
الرابع عشر: كثرة الدعاء بأن يرزقك الله الحِلْمَ، وكلمةَ الحق في الغضب والرضا، فقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ» [صحيح النسائي:1304].
الخامس عشر: قراءة سِير من ابتلوا فصبروا، وأُغضبوا فكظموا، وأُوذوا فَحَلِمُوا، وأعظم سير هؤلاء سيرة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، ثم سيرة أصحابه ومن جاء بعدهم من أهل مكارم الأخلاق، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ -أي نوع من الثياب يصنع بنجران حافته غليظة- فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ؛ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النبي صلى الله عليه وسلم، فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ" (أخرجه البخاري ومسلم).
فعلينا أيها الإخوة إعادةُ النظر في هذه الأسباب من وقت لآخر، ونتأمل فيها، ونتعاون على استذكارها وتطبيقها، حتى نحظى بالخلق الرفيع الذي يؤدي إلى محبة الله وجزيل أجره، ومحبة الخلق.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق ...