أرشيف المقالات

ضعف الثقة واليقين بنصر الله تعالى

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
ضعف الثقة واليقين بنصر الله تعالى

يعاني بعض المسلمين اليوم من ضعف الثقة واليقين الجازم بنصر الله تعالى، ولعل هذا الضعف يعود لأسباب وعوامل تاريخية واجتماعية ونفسية وتربوية كثيرة مرت على الأمة المسلمة عبر سني تقهقرها، ليس هنا مجال للخوض فيها، ولكن ما نؤكده : إن الإيمان الصادق هو المحرك القوي للإنسان المسلم نحو الثقة بالله تعالى والنصر والتمكين.
 
إن المسلم الحق إذا قوي إيمانه وصدق يقينه وأخذ بالأسباب المعينة، تحركت مكامن الخير والعمل الصالح فيه، فتتفتق الأفكار ويتخطى الصعاب، ويتم الوصول إلى مكامن وأسرار التقدم والرقي وتتحقق لأمتنا ما تأمله ويليق بمكانتها وعزها.
 
والقرآن الكريم هو المنهج القويم الذي يُضيء لنا مسار الطريق، فنجده يؤكد ويقرر بتوجيهاته السامية أن نصر الله تعالى لن يتحقق إلّا بنصره تعالى، قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7] [1].
 
قال السعدي - رحمه الله - : "هذا أمر منه تعالى للمؤمنين، أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، والقصد بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم الله وثبت أقدامهم، فهذا وعد من كريم صادق الوعد، أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر، من الثبات وغيره"[2].
 
كما أن الهداية إلى الخير والفلاح تتحقق من خلال مجاهدة المسلم في سبيل كل أمر مشروع يرومه، قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69] [3].
 
قال القرطبي - رحمه الله - : "إن الجهاد في الآية جهاد عام في دين الله تعالى وطلب مرضاته، وأن الله سبحانه مع المجاهد بالنصرة والمعونة والحفظ والهداية"[4].
 
إن سيرة خير البرية صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وسلف الأمة الصالح - رضي الله عنهم - أنموذج يحتذى في الثقة واليقين بالله تعالى، والحديث في هذا الباب طويل جداً، ولعلي أكتفي بالإشارة إلى موقف واحد فقط حكاه القرآن الكريم[5] وأورده البخاري - رحمه الله - في صحيحه عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ فَرَأَيْتُ آثَارَ الْمُشْرِكِينَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، قَالَ: "مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا" [6].
 
الله أكبر..
أي ثقة ويقين يتجلى في هذا الموقف الإيماني العظيم، وكلنا يعلم مدى رجاحة عقل وإيمان أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، ولكن مهما بلغ في يقينه وثقته بالله تعالى فلن يبلغ في ذلك مبلغ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فهو صاحب المقام المحمود والمنزلة الرفيعة وأكثر الخلق معرفة بربه.
 
قال الشيخ عطية سالم - رحمه الله - : "وهذا الموقف آية من آيات الله، اثنان أعزلان يتحديان قريشاً بكاملها، بعَددها وعُددها، فيخرجان تحت ظلال السيوف، ويدخلان الغار في سُدْفة الليل، ويأتي الطلب على فم الغار بقلوب حانقة، وسيوف مصلته، وآذان مرهفة حتى يقول الصديق رضي الله عنه: والله يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت نعليه لأبصرنا، فيقول صلى الله عليه وسلم وهو في غاية الطمأنينة، ومنتهى السكينة: (ما بالك باثنين الله ثالثهما)"[7].
 
وسجل القرآن الكريم هذا الموقف الإيماني في قول الله تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [8].
 
ولا شك أن التربية الإيمانية للناشئة والشباب، ولعموم الناس من أولوياتها غرس الثقة واليقين في قلوب المسلمين، ومن ثم السعي إلى تآلف القلوب وتوحيد الصفوف حتى يصبحوا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، ويتأتى ذلك من خلال ترسيخ عظمة الخالق سبحانه وتعالى والخوف منه ومراقبته في السر والعلن، بالوسائل التربوية والدعوية المناسبة لكل مرحلة عمرية ابتداءً من الأسرة ومروراً بالمدرسة والجامعة، وكافة الوسائط التربوية الأخرى، مثل: (المسجد، والنادي، والإعلام بوسائله المختلفة).

[1] سورة محمد، الآية رقم: 7.

[2] السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ج1، ص 507.

[3] سورة العنكبوت، الآية رقم: 69.

[4] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 13 ، ص 364-365.

[5] للتوسع في ذكر مواقف تتجلى فيها الثقة بالله تعالى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وللصحابة وللسلف الصالح - رضي الله عنهم - يرجع للفصل الثاني من كتاب المؤلف: ضعف وضوح الرؤية لحقائق وأحكام الدين، مطابع الصفا، مكة المكرمة، 1431هـ.

[6] البخاري، صحيح البخاري، كتاب: كتاب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم، حديث رقم: 4295.

[7] عطية سالم، تتمة أضواء البيان، ج8، ص 179.

[8] سورة التوبة، الآية رقم: 40.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١