تفسير من سورة الشمس إلى سورة الشرح


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فنسأل الله سبحانه أن يجعلني وإياكم من المقبولين.

سورة الشمس سورة مكية، اشتملت على خمس عشرة آية، وفيها أربع وخمسون كلمة، ومائتان وأربعون حرفاً، فمن وفقه الله لتلاوتها كتب الله له أربعمائة وألفي حسنة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

وهذه السورة المباركة افتتحت بالقسم، وقد تقدم أن في القرآن تسع عشرة سورة افتتحت بالقسم، وفي هذه السورة المباركة أقسم ربنا جل جلاله بسبعة من مخلوقاته: أقسم بالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض والنفس.

إقسام الله بالشمس وعظيم خلقها وأثرها

بدأ ربنا جل جلاله هذه السورة بقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا[الشمس:1].

فأقسم ربنا جل جلاله بالشمس؛ لأنها من عظيم مخلوقاته، وآية من آياته، كما قال سبحانه: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ[يس:37-40].

والشمس هي الآية التي حج بها إبراهيم عليه السلام النمرود بن كنعان الطاغية المستبد: قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ[البقرة:258].

والله عز وجل يقسم بالشمس لأنها عظيمة في خلقها وأثرها، عظيمة الحرارة والضوء على مر الزمان بلا انتقاص.

يقول العلامة الشيخ عطية رحمه الله في أضواء البيان: قال أهل العلم من أهل الفلك: لو أن الشمس اقتربت من الأرض قليلاً أو ابتعدت عن الأرض قليلاً ما أدت مفعولها ولا وظيفتها؛ فلو ابتعدت قليلاً تجمدت المخلوقات، ولو اقتربت قليلاً احترق العالم. ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ[يس:38].

فيقسم الله عز وجل بالشمس وضحاها، وضحى الشمس هو: انتشار لضوئها من حين طلوعها وارتفاعها قدر رمح -فيما يظهر للرائي- إلى قبيل الزوال بربع ساعة تقريباً.

وقال بعض أهل التفسير: الضحى المقصود به هاهنا وفي قوله تعالى: وَالضُّحَى[الضحى:1]: الساعة التي خر السحرة فيها ساجدين. بيانه: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى[طه:59] فأقسم ربنا بالشمس وضحاها.

إقسام الله بالقمر وعظيم خلقه وأثره

أقسم تعالى بالقمر، فقال: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا[الشمس:2]، وهو أيضاً من عظيم مخلوقات الله عز وجل، فيخفف ظلمة الليل، وجعله الله عز وجل ميقاتاً للناس في زكاتهم، وصيامهم، وإفطارهم، وحجهم، وحساب حول زكاتهم، وعدة المرأة إذا طلقت أو توفي عنها زوجها، وليس عندها ما تحسب به إلا هذا القمر، وقد أعلى الله عز وجل قدره فأقسم به في القرآن فقال: وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ[الانشقاق:17-18] أي: إذا اكتمل.

وقول الله عز وجل: كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ[المدثر:32-34].

فيقسم ربنا بالقمر إذا غربت الشمس، ثم ظهر القمر وتلاها وتبعها في بعض أيام الشهر، وعلى العكس في أيام أخرى.

قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: ابتدئ القسم في هذه السورة بالشمس إيماء لشأن الإسلام أنه سينتشر انتشار الشمس بحيث لا يترك للضلال مسلكاً، وإيماء لعموم نوره في الكون كما عَمَّ نور الشمس. ومصداق كلامه رحمه الله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار)، فأقسـم ربنا بالشمس وضحاها والقمر إذا تلاها.

إقسام الله بآيتي الليل والنهار

أقسم الله أيضاً بالنهار إذا جلاها فقال: وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا[الشمس:3] أي: النهار إذا جلى ضوء الشمس.

وقال ابن كثير رحمه الله: الضمير يرجع إلى الأرض وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا، أي: كشف الأرض بحيث ينتشر الناس آمنين.

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا[الشمس:4] فيغطي الأرض ويغطي الشمس.

فهاتان الآيتان لا ينتبه إليهما الناس، لكن الله عز وجل نبهنا إلى أن الليل والنهار آيتان من آيات الله كما أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله.

وربنا سبحانه وتعالى بين أنه لو لم ينعم علينا بنعمة الليل ومثلها نعمة النهار ما استطاع أحد أن يأتي بها: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[القصص:71-73]. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[الفرقان:62]

الليل آية من آيات الله، والنهار آية من آيات الله، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا[الفرقان:47]، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا[النبأ:10-11]، هذه آية من آيات الله.

إقسام الله بالسماء والأرض وعظيم بنيانهما

قال تعالى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا[الشمس:5].

قال بعض أهل التفسير: (ما) هنا بمعنى من، أي: السماء ومن بناها؟ والمقصود رب العزة جل جلاله، كما في قوله تعالى: وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[الكافرون:3]، أي: من أعبد جل جلاله؟

وقوله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ[النساء:3]، أي: من طاب لكم من النساء؟ فـ (ما) تقام مقام من أحياناً، وقال بعضهم: بل (ما) مصدرية، والمعنى: والسماء وبناءها.

فيقسم الله عز وجل بهذه السماء التي رفعها بغير عمد، والتي لفت إليها الأنطار في كثير من آيات القرآن فقال: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ[ق:6].

وفي سورة الملك أمرنا الله عز وجل بأن نكرر البصر إلى هذه السماء لننظر هل فيها من فطور؟ هل فيها من شقوق؟ لا، إنها من آيات الله جل جلاله.

وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا[الشمس:6] طحاها بمعنى دحاها، وكما في سورة النازعات: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا[النازعات:30] أي: كورها؛ لأن دحاها وطحاها بمعنى واحد.

معاني النفس في القرآن

قال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا[الشمس:7]

اعلموا بارك الله فيكم أن النفس في القرآن تطلق ويراد بها أربعة معاني:

كلمة النفس تطلق ويراد بها الروح، ومنه قول الله عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ[الأنعام:93]، أي: أرواحكم.

وتطلق النفس ويراد بها مجموع الروح والجسد مع بعضهما، كما في هذه الآية: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا[الشمس:7]، أي: سوى خلقتها فجعلها معتدلة مستقيمة، وسوى فطرتها فجعلها فطرة قويمة.

وتطلق النفس ويراد بها القلب، كما في قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ[الأعراف:205]، أي: في قلبك. تَضَرُّعًا وَخِيفَةً[الأعراف:205].

وقول الله عز وجل في شأن قصة يوسف: فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ[يوسف:77] أي: في قلبه.

وتطلق النفس على القوة المفكرة المدبرة، كما في قول الله عز وجل: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى[النازعات:40]، وقول الله عز وجل: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ[القيامة:2].

فيقسم ربنا بهذه النفس التي فيها عجائب وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا[الشمس:7] أي: ومن سواها جل جلاله أو وتسويتها.

إلهام الله للنفوس فجورها وتقواها

يقول ربنا سبحانه: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا[الشمس:8]، الإلهام علم يحصل من غير تعليم من الله جل جلاله.

فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا[الشمس:8] التقوى: الطاعة والخير، والفجور: المعصية والشر. وهذا كله بقدر الله.

روى الإمام مسلم عن أبي الأسود الدؤلي رحمه الله: أن عمران بن حصين رضي الله عنه سأله فقال له: أرأيت ما يسعى الناس فيه ويتكادحون، أأمر قدر عليهم فيما مضى وسبق، أم أمر يستقبلونه فيما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقلت: بل أمر قدره الله عليهم وسبق، فكل شيء بقدر، فقال: أترى ذلك ظلماً؟ قال: ففزعت فزعاً شديداً، وقلت له: ليس ظلماً بل الله عز وجل لا يسأل عما يفعل، فقال لي: سددك الله! إنما سألتك لأختبر عقلك.

وهذا يؤخذ منه: أن العالم يطرح السؤال على المتعلم من أجل أن يختبره، وإذا كان مخطئاً يسدده ويصححه. قال: إنما سألتك لأختبر عقلك، وإن رجلاً من مزينة أو جهينة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: يا رسول الله! أرأيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه، أأمر قد قضي فيما سبق وقدر أم أمر يستقبلونه وتقوم الحجة به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل أمر قد قدر. قال: ففيم الحساب؟ -إذا كان شيء مقدر وكتب الفجور وكتبت التقوى- قال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) .

فلاح الأنفس بالطاعات وخسرانها بالمعاصي

قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[الشمس:9] أي: من زكى نفسه وطهرها بالطاعات وبالإيمان، والتزكية في القرآن تنسب إلى الله بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ[النساء:49] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا[النور:21].

وأحياناً تنسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ[الجمعة:2]، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا[التوبة:103].

وأحياناً تنسب إلى الشخص، ومنه قوله في هذه الآية: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[الشمس:9].

تزكية النفس تكون بالطاعات، الصلاة، الطهارة، الزكاة، الصيام، ذكر الله، قراءة القرآن، الدعاء، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، الدعوة إلى الله.. كل هذا تزكية للنفس.

ثم كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) فالتزكية من الله عز وجل.

وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[الشمس:10] قال أهل التفسير: دساها بالمعاصي، دساها أخفاها.

قال الإمام القرطبي : فأولئك علوا أنفسهم وزكوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها، قال: وكذا الفاجر أبدا خفي المكان، فهو غامض الشخص، ناكس الرأس، زمر المروءة. أي: قليل المروءة. هذا هو الفاجر والعياذ بالله.

وقال بعض أهل التفسير: أخفاها في أهل الطاعات وهو ليس منهم.

(خاب من دساها) أي: يدس نفسه ويسلك بنفسه مع الصالحين وهو ليس منهم.. يسلك نفسه مع الصالحين ببعض المظاهر والأشكال، وهو يعلم من حاله أنه ليس صالحاً، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[ الشمس:9-10].

قتل ثمود لناقة الله

ذكر ربنا قصة أولئك القوم العتاة الجبابرة الذين ذكروا في سورة الفجر: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ[الفجر:9] جابوا: قطعوا، فقد كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين.

قال الله عز وجل: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا[الشمس:11]، أي: بسبب طغيانها وعتوها وجبروتها وكبرها.

إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا[الشمس:12] رجل اسمه قدار بن سالف عارم عزيز في قومه، كان معجباً بنفسه معتزاً برهطه، هذا الرجل انبعث فاعتدى على الناقة، وكانوا ثمود قد طلبوا من صالح آية. ما الآية التي تريدون؟ قالوا: نريد ناقة كوماء، أي: ضخمة، وكثيرة اللبن، فيكون لبنها في الشتاء دافئاً، وفي الصيف بارداً. هكذا طلبوا آية على مزاجهم، فدعا الله عز وجل فانشقت صخرة، وخرجت منها الناقة على الصفة المذكورة، قال لهم صالح: قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ[الشعراء:155]، هذه ناقة تشرب في يوم، ثم أنتم تشربون في اليوم الذي بعده. هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[الأعراف:73]، لكن القوم كانوا جبارين عتاة شياطين؛ فحرضوا هذا الخبيث قدار بن سالف، فانبعث أشقى القوم، وكان صالح عليه السلام قد حذرهم: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا[الشمس:13] (فقال لهم رسول الله) صالح. (ناقة الله) احذروا ناقة الله وسقياها، ولا تمسوها بسوء. قال أهل التفسير: الإضافة إلى الله للتشريف، ومعلوم بأن النوق كلها لله، لكن الإضافة للتشريف.. احذروا ناقة الله وسقياها.

فَكَذَّبُوهُ[الشمس:14] وقالوا: ائتنا بعذاب الله إن كنت من المرسلين، قال الله على ألسنتهم : ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ[الأعراف:77]. مثلما قال قوم لوط وقوم هود.

الراضي بالمنكر كالفاعل له

فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا[الشمس:14] مع أن العاقر واحد، وانتبهوا أن الله نسب الفعل للجميع؛ لأنهم كانوا راضين، فالمنكر إذا فعل ولم ينكره الإنسان لا بيده ولا بلسانه ولا كرهه بقلبه فحكمه حكم الفاعل، فلذلك الله عز وجل نسب الفعل للجميع، وأنزل العذاب على الجميع.

فَعَقَرُوهَا )) قال قتادة رحمه الله: بلغني أن الشقي ما عقرها إلا بعدما بايعه كبيرهم وصغيرهم وذكرهم وأنثاهم، بل كانوا يريدون أكثر من ذلك.. كانوا يريدون قتل صالح، قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ[النمل:49]، قال الله عز وجل: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ[النمل:50-51].

إهلاك الله لثمود

قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا[الشمس:14]، قال القرطبي رحمه الله: الدمدمة إهلاك مع استئصال، وبين ربنا جل جلاله صفة الإهلاك في آيات أخرى: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ[القمر:31] فكان هذا حالهم.

فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا[الشمس:14] سواها فيها تفسيران: فقيل: سوى بينهم في العقوبة. وقيل: سوى عليهم الأرض ودفنهم بعدما أرسل عليهم الصاعقة.

قال سبحانه: وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا[الشمس:15] الله أكبر، الله عز وجل يقول عن نفسه: أنا لا أخاف عاقبة الفعل، وقد قال في الحديث القدسي في صحيح مسلم من رواية أبي ذر : (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).

فالله عز وجل لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ[فصلت:46]، نسأل الله أن يجعلنا من المنتفعين.

بدأ ربنا جل جلاله هذه السورة بقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا[الشمس:1].

فأقسم ربنا جل جلاله بالشمس؛ لأنها من عظيم مخلوقاته، وآية من آياته، كما قال سبحانه: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ[يس:37-40].

والشمس هي الآية التي حج بها إبراهيم عليه السلام النمرود بن كنعان الطاغية المستبد: قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ[البقرة:258].

والله عز وجل يقسم بالشمس لأنها عظيمة في خلقها وأثرها، عظيمة الحرارة والضوء على مر الزمان بلا انتقاص.

يقول العلامة الشيخ عطية رحمه الله في أضواء البيان: قال أهل العلم من أهل الفلك: لو أن الشمس اقتربت من الأرض قليلاً أو ابتعدت عن الأرض قليلاً ما أدت مفعولها ولا وظيفتها؛ فلو ابتعدت قليلاً تجمدت المخلوقات، ولو اقتربت قليلاً احترق العالم. ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ[يس:38].

فيقسم الله عز وجل بالشمس وضحاها، وضحى الشمس هو: انتشار لضوئها من حين طلوعها وارتفاعها قدر رمح -فيما يظهر للرائي- إلى قبيل الزوال بربع ساعة تقريباً.

وقال بعض أهل التفسير: الضحى المقصود به هاهنا وفي قوله تعالى: وَالضُّحَى[الضحى:1]: الساعة التي خر السحرة فيها ساجدين. بيانه: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى[طه:59] فأقسم ربنا بالشمس وضحاها.

أقسم تعالى بالقمر، فقال: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا[الشمس:2]، وهو أيضاً من عظيم مخلوقات الله عز وجل، فيخفف ظلمة الليل، وجعله الله عز وجل ميقاتاً للناس في زكاتهم، وصيامهم، وإفطارهم، وحجهم، وحساب حول زكاتهم، وعدة المرأة إذا طلقت أو توفي عنها زوجها، وليس عندها ما تحسب به إلا هذا القمر، وقد أعلى الله عز وجل قدره فأقسم به في القرآن فقال: وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ[الانشقاق:17-18] أي: إذا اكتمل.

وقول الله عز وجل: كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ[المدثر:32-34].

فيقسم ربنا بالقمر إذا غربت الشمس، ثم ظهر القمر وتلاها وتبعها في بعض أيام الشهر، وعلى العكس في أيام أخرى.

قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: ابتدئ القسم في هذه السورة بالشمس إيماء لشأن الإسلام أنه سينتشر انتشار الشمس بحيث لا يترك للضلال مسلكاً، وإيماء لعموم نوره في الكون كما عَمَّ نور الشمس. ومصداق كلامه رحمه الله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار)، فأقسـم ربنا بالشمس وضحاها والقمر إذا تلاها.

أقسم الله أيضاً بالنهار إذا جلاها فقال: وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا[الشمس:3] أي: النهار إذا جلى ضوء الشمس.

وقال ابن كثير رحمه الله: الضمير يرجع إلى الأرض وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا، أي: كشف الأرض بحيث ينتشر الناس آمنين.

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا[الشمس:4] فيغطي الأرض ويغطي الشمس.

فهاتان الآيتان لا ينتبه إليهما الناس، لكن الله عز وجل نبهنا إلى أن الليل والنهار آيتان من آيات الله كما أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله.

وربنا سبحانه وتعالى بين أنه لو لم ينعم علينا بنعمة الليل ومثلها نعمة النهار ما استطاع أحد أن يأتي بها: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[القصص:71-73]. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[الفرقان:62]

الليل آية من آيات الله، والنهار آية من آيات الله، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا[الفرقان:47]، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا[النبأ:10-11]، هذه آية من آيات الله.

قال تعالى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا[الشمس:5].

قال بعض أهل التفسير: (ما) هنا بمعنى من، أي: السماء ومن بناها؟ والمقصود رب العزة جل جلاله، كما في قوله تعالى: وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[الكافرون:3]، أي: من أعبد جل جلاله؟

وقوله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ[النساء:3]، أي: من طاب لكم من النساء؟ فـ (ما) تقام مقام من أحياناً، وقال بعضهم: بل (ما) مصدرية، والمعنى: والسماء وبناءها.

فيقسم الله عز وجل بهذه السماء التي رفعها بغير عمد، والتي لفت إليها الأنطار في كثير من آيات القرآن فقال: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ[ق:6].

وفي سورة الملك أمرنا الله عز وجل بأن نكرر البصر إلى هذه السماء لننظر هل فيها من فطور؟ هل فيها من شقوق؟ لا، إنها من آيات الله جل جلاله.

وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا[الشمس:6] طحاها بمعنى دحاها، وكما في سورة النازعات: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا[النازعات:30] أي: كورها؛ لأن دحاها وطحاها بمعنى واحد.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد 2546 استماع
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر 2534 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] 2506 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] 2378 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] 2368 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] 2295 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] 2263 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] 2128 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] 2087 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] 2049 استماع