شرح عمدة الأحكام [57]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله: [باب اللقطة:

عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب أو الورق، فقال: اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعةً عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه، وسأله عن ضالة الإبل، فقال: مالك ولها! دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها، وسأله عن الشاة، فقال: خذها فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب)]

هذا الحديث يتعلق باللقطة، واللقطة: هي المال الذي سقط من مالكه، سواء كان متاعاً أو نقداً أو آنيةً أو نحو ذلك مما يتملك، وقد ذكر في هذا الحديث أنه يعرف، ومعنى تعريفه: أنه ينادى عليه: من له مال أو من له متاع، أو نحو ذلك.

شرط تعريف اللقطة

اشترط الفقهاء لتعريف اللقطة: أن يكون المال المفقود مما تتبعه همة أوساط الناس، فأما الأشياء الطفيفة الرخيصة التي لا يهتمون بطلبها، فلا حاجة إلى تعريفها، فإذا وجد الإنسان مثلاً رغيفاً أو قطعة حلواء أو عصا أو حذاءً مستعملاً رخيصاً أو قلنسوة -يعني طاقية- أو ريالاً ونحوه مما لا يهتم أغلب الناس بطلبه؛ فمثل هذا لا يحتاج إلى أن يعرفه، بل يملكه آخذه؛ لكون صاحبه في الغالب قد تركه أو قد أيس منه، ولو أحس بفقده؛ ولكنه لا يرجع ويسأل عنه، ولا يهمه أن يفقده.

والناس بحسب ما يفقد منهم ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الفقراء والضعفاء ونحوهم، ولاشك أن أحدهم يهمه إذا سقط منه ريالٌ أو قرشٌ أو نحو ذلك؛ لكونه يجد له موقعاً، ويؤثر في اقتصاده وفي ماله، فمثل هؤلاء قليلٌ، ولا يعتد بطلبهم لهذه الأشياء الساقطة أو القليلة.

القسم الثاني: الأثرياء أهل الأموال الطائلة، فهؤلاء لو سقط من أحدهم مائة أو مائتان أو نحو ذلك، فالغالب أنهم لا يهتمون بطلب هذا، ولا يطلبونه؛ لكونه لا يؤثر في اقتصادهم، ولكون أموالهم طائلةً لا يحسون بفقد المائة أو المئات أو ما أشبهها. ولكن ننظر إلى أغلب الناس، وهم الوسط الذين يهتمون للعشرة وللعشرين وللثلاثين ونحوها، وهؤلاء هم أغلب الناس، فنعد هذه لقطةً تحتاج إلى تعريف.

أنواع اللقطة

اللقطة ثلاثة أنواع:

الأول: المتاع والنقود ونحوه.

الثاني: ما لا يحوز التقاطه من بهيمة الأنعام وهي الإبل ونحوها.

الثالث: ما يجوز التقاطه من بهيمة الأنعام كالغنم ونحوها.

فإذا وجدت نقوداً من ذهبٍ أو من فضةٍ أو ما قام مقامها من الأوراق النقدية سواء كانت نقوداً سعودية، أو لدولةٍ أخرى لها قيمة، فهذه النقود لها قيمتها عند أهلها، فماذا يجب عليك أن تفعله قبلها؟

وجوب تعريف اللقطة وكيفيته

يقول في هذا الحديث: اعرف عفاصها ووكاءها وعددها، ثم عرفها سنةً، فإن جاء صاحبها وإلا فاستنفقها، فإذا جاء صاحبها يوماً من الدهر فادفعها إليه.

عفاصها: هي الخرقة التي تكون فيها، فاكتب أو أثبت أنها موجودةٌ في غلاف لونه كذا، أو بخرقةٍ لونها كذا، أو إناء لونه كذا.

وكذلك الوكاء: وهو الخيط الذي تربط به، فاكتب ما كانت مربوطة به من خيط أو سلك أو ما قام مقامه مما تربط به النقود ونحوها.

واعرف أيضاً عددها، يعني: مقدارها من النقود، فمثلاً في بلادنا هذه اعرف ما أنواعها، هل هي من فئة خمسمائةٍ أو من فئة خمسة أو من فئة خمسين أو نحو ذلك، فاكتب عددها، وأنها فئة كذا وكذا حتى ينتبه لها صاحبها؛ وكذلك اعرف موضعها الذي سقطت فيه، أنها سقطت في المكان الفلاني.

كذلك أيضاً اعرف زمنها، أنك وجدتها في اليوم الفلاني، في الساعة الفلانية، كل ذلك تثبته، ولكن إذا عرّفتها فلا تذكر هذا كله؛ لأنه قد يدعيها من ليس بأهل لها، بل تقول: من له الدراهم التي ضلت منه في يوم كذا وكذا؟ أو تقول: وجدت في مكان كذا كذا، فإذا جاءك إنسان وقال: هي لي، فسله واستخبره كم عددها؟ فإذا ذكر عددها فاسأله: ما ألوانها؟ وما وعاؤها الذي هي فيه؟ فإذا وصفها وصفاً دقيقاً عرفت أنه صاحبها، فعند ذلك تدفعها إليه، فإذا لم يطابق وصفه لها، فاعلم أنه متقولٌ أو له لقطةٌ أخرى.

ما هي كيفية التعريف؟ يقول العلماء: إنه في الأسبوعين الأولين يعرفها في كل يوم، أما فيما بعد فيعرفها مثلاً في كل يومين، ثم في كل أسبوع كأيام الجمع والمجتمعات، ثم بعد ذلك يقتصر على تعريفها في المجتمعات كأيام الجمع في كل شهر مرتين أو ثلاث مرات أو ما أشبه ذلك.

ما هي أماكن التعريف؟ لا يجوز تعريفها في المسجد، كما لا يجوز أيضاً إنشاد الضالة في المسجد، فلا يجوز أن تقول في المساجد: من له ضالة؟ أو من فقد ضالة كذا وكذا؟ حتى ولو كانت قليلة القيمة أو كثيرة القيمة، حتى ولو كانت حذاءً مثلاً أو عمامةً أو ما أشبه ذلك، بل يكون التعريف عند أبواب المساجد، فيقف عند باب المسجد، ويقول: من له ضالة؟ من فقد ضالةً من نوع كذا وكذا .. حذاءً.. ثوباً.. نقوداً؟ فإذا جاءه صاحبها ووصفها أعطاه إياها.

وإذا كنت لست من الذين يجرءون على التعريف، فإنك توكل من يعرف وينادي عند أبواب المساجد وفي المجتمعات، فإذا قال: أنا لا أنادي إلا بأجرة، فإنك تعطيه أجرته منها يعني: بشيء تحدده له ولو مثلاً ثلثها أو ربعها وما أشبه ذلك، فتقول: هذا مقدارها، ولك منها كذا وكذا.

حكم اللقطة بعد تعريفها سنة

إذا عرفتها ولم تجد صاحبها، وأنت قد قمت بهذا التعريف قياماً كاملاً، فلك أن تستنفقها أي: تدخلها في مالك، وذهب بعضهم إلى أنها تدخل في ملكه، وتصير له، وورد في بعض الروايات: (فإن جاء صاحبها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء)، وفي بعض الروايات: (فإن علمت وإلا فهي لك)، ومعناه: أنها أصبحت مملوكة لك، حيث إنك الذي وجدتها، وحيث إنك الذي ناديت عليها، وصبرت على النداء لها، فأنت أحق أن تملكها وتدخل في ملكك.

ولكن لا تدخلها في مالك ألا بعد أن تعرف أوصافها، وقيمتها إذا كانت متقومة، فإذا كانت لها قيمةٌ كالمتاع، كأن تكون قدراً أو ثوباً أو كيساً أو علبةً أو ما أشبه ذلك مما له قيمة؛ فقدر قيمتها عند تمام الحول، واستنفقها وأدخلها في مالك، واكتب أوصافها في ذمتك، فربما يأتيك صاحبها في السنة الثالثة، أو في السنة الخامسة، أو بعد عشر سنين؛ لأنك لا تزال تنشدها، ولا تزال تخبر عنها في المجتمعات، وتقول: إني وجدت من الذهب كذا وكذا، أو وجدت من الفضة كذا، أو جدت كذا من الأواني أو الأمتعة أو الأطعمة أو الفواكه أو ما أشبه ذلك.

وإذا كانت مما لا يبقى سنةً فتباع، فلو وجدت مثلاً علبةً طعام لا يمكن بقاؤها، أو وجدت قطعة لحمٍ، فإنها لا تبقى في العادة، أو وجدت خضرة أو فواكه أو ما أشبه ذلك مما يفسد إذا بقي مدة، أو يحتاج إلى تجميد أو نحوه بأجرة، فهذا لا يبقى، بل تقومه في حينه وتقدر قيمته، ثم تستنفقه أو تبيعه أو تحفظ قيمته، وتعرفه حتى تتم المدة.

حكم ضالة الإبل والبقر والخيل

قال عن ضالة الإبل: (مالك ولها! معها سقاءها وحذاءها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها)، الإبل تمتنع من السبع، تمتنع من الذئب، ومن الضبع، ومن السباع الصغيرة، وقد تجتمع عليها الذئاب الكثيرة وتفترسها، أو قد يسلط عليها سبعٌ كبير كالأسد والنمر، ولكن ذلك نادر، فلأجل ذلك نعمل بالأصل، فنقول: إن الأصل امتناعها. ويلحق بها أيضاً البقر، فالبقر في الغالب تمتنع من السباع، وتقدر أن تتخلص إذا هاجمها ذئب أو نحوه.

ويلحق بها أيضاً الخيل، فهي تمتنع لعدوها أو قوتها من صغار السباع وما أشبه ذلك، فهذه الأصل لا تلتقط، فلا يجوز إذا وجدت بعيراً أو فرساً أو ثوراً كبيراً يمتنع أن تلتقطه، بل يترك إلى أن يجده صاحبه، أو يرد على صاحبه، فالغالب أنه يعرف الأماكن ويعرف الطرق، ويذهب إلى أهله، ويرد المياه التي قد اعتاد ورودها، فلا يجوز تعرضك لهذه الدواب ونحوها، لكن إذا وجدتها قد تردت، فلك أن تأخذها، إذا وجدت مثلاً بعيراً يكاد أن يموت من الظمأ، أو وجدته قد هزل وبرك ولم يكن باستطاعته أن يقوم، فأنقذته وعلفته وسقيته، ففي هذه الحال يكون لقطة، لك أن تأخذه وتملكه، وكذلك إذا وجدته قد عيي وتركه أهله لعيه ولهزاله، وعرفت أنهم لا يريدونه ولا يرغبون فيه، ففي هذه الحال أيضاً لك أن تلتقطه وتملكه لمعرفتك بأن أهله قد زهدوا فيه.

وأولاد البقر وأولاد الإبل تلتقط، ولد الإبل الصغير يسمى فصيلاً، وولد البقر يسمى عجلاً، وولد الخيل يسمى فلواً، فهذه لا تمتنع؛ فلأجل ذلك يجب التقاطه إذا خيف أن يعتدي عليه السبع، وكان في مهلكة ولم يكن مع غيره، والعادة أن البقر إذا اعتدى عليها السبع فإنها جميعاً تتحامل وتطرد السبع، وتنتصر منه، فلا يجوز التقاط مثل هذا.

أما الذي يجوز التقاطه فهو ما لا يمتنع كأولاد البقر الصغار إذا كانت وحدها، أو أولاد الإبل الصغار إذا كانت وحدها، وكذلك الغنم معروف أنها لا تمتنع، وأن السبع يعتدي عليها ويفترسها.

حكم ضالة الغنم وصغار الإبل والبقر

إذا وجدت شاة ضالةً، وعرفت أنه ليس حولها أهلها؛ فإن لك أن تلتقطها، ولهذا قال في هذا الحديث: (خذها فإنها لك أو لأخيك أو للذئب)؛ إما أن تحفظها لأخيك الذي هو صاحبها الذي افتقدها، وإما أن تتركها فيفترسها الذئب غالباً، وإما أن تأخذها ولا تجد صاحبها فتكون ملكاً لك، وإذا أخذها الملتقط فإنه يبقيها عنده، ويعمل فيها كما يعمل في اللقطه، بمعنى أنه يعرفها.

ومعلوم أنها تحتاج إلى نفقه، وتحتاج إلى من يرعاها، وتحتاج إلى من يسقيها إذا كانت تسقى ولا ترد الماء، وتحتاج علفاً فمثل هذه عليه أن يعلفها إن كان قادراً أو يقدر قيمتها ويدخلها في ملكه، أو يبيعها ويحفظ قيمتها بعد ما يحفظ أوصافها، فإذا لم يجد صاحبها وأدخلها مع غنمه، أو أدخل الفصيل مع إبله أو العجل مع بقره، ثم إنه تنامى وتوالد، وحصل له أولاد، فلمن هؤلاء الأولاد الذين تفرعوا عن هذه الشاة أو عن هذا العجل أو عن هذا الفصيل؟ ومن يملكهم؟

نقول: إذا جاء صاحبها بعد خمس سنين، وقد أصبحت خمساً أو عشراً فليس له إلا الأولى التي وجدت ضالةً منه، وأولادها الذين ولدوا عندك وأنت الذي ربيتهم ورعيتهم وحفظتهم وسقيتهم وعلفتهم، ولدوا في ملكك بعدما دخل في ملكك؛ فأنت أولى بها.

حكم من وجد لقطة فأخفاها

كثير من الناس من يجد اللقطة ولكن يخفيها، وتبقى عنده سنة ويأكلها، ثم بعد ذلك يندم ويسأل ويقول: إني وجدتها ولكني لم أعرفها، هل ينفع أن أعرفها بعد سنتين أو بعد ثلاث سنين؟

نقول: لا ينفع؛ وذلك لأن أصحابها غالباً قد يئسوا منها، فلا يهتمون بطلبها، ولا يسألون عنها، وقد اعتقدوا أنها اختلست منهم أو أخذت سرقة من مكانها، فأنت غررت بهم حيث أخفيتها هذه المدة.

فحينئذ نقول له: لا تملكها والحال هذه سواء كانت من بهيمة الأنعام، وجدتها في طريق أو متأخرة من دواب أو نحو ذلك؛ فأخفيتها وجعلتها مع غنمك، أو كانت نقوداً أخفيتها وجعلتها مع مالك، أو كانت متاعاً أخفيته ككيس وجدته أو علبةً أو كرتوناً أو نحو ذلك، أخفيته إلى أن مضى عليه مدة، وأيس منه أصحابه، ففي هذه الحال نرى أنه لا يملكها، ولكن يبيعها ويقدر ثمنها ثم يتصدق به إذا أيس من أصحابها، وتكون صدقةً مضمونة، بمعنى أنه لو جاء صاحبها بعد سنة أو سنين فيخبره ويقول: أنا وجدت هذا المال، ولكني أخطأت في إخفائه ولم أعرفه في حينه، وبعدما مضت المدة أو زادت تصدقت به، فالآن أنت بالخيار: إما أن يكون أجر الصدقة لك، وإما أن يكون الأجر لي، وأعطيك قيمتها، وإذا لم يفعل أو خاف فله أن يسلمها إلى من يتصدق بها مضمونةً، أو إلى بيت المال إذا كانت ذات قيمة.

وكذلك نقول: في بهيمة الأنعام التي يجدها كثير من الناس أو الأمتعة التي توجد على الطرق ساقطةً من أصحاب السيارات أو نحوهم، فمن يأخذها ويخفيها مدة، ثم بعد ذلك يندم، وكذلك في كل الأموال المجهولة، وكثير من الناس قد يكون عنده دين لإنسان أو أمانة لإنسان أو أجرة عمل أو نحو ذلك، وتبقى عنده مدةً، ويغيب عنه صاحبها ولا يجدها، أو يشتري من بقالة ثم يأتي بعد مدةً ويجد صاحب البقالة قد تغير أو قد نقل أو أن ذلك العامل تنتهي مدة إقامته ويرحل فلا يجده، فما تصنع بالمال الذي عندك؟ نقول: عليك أن تحرص على البحث عن أصحابه، فإن وجدتهم وإلا فتصدق به مضموناً أو أعطه من يتصدق به مضموناً.