الأزمات والمشكلات في العالم اليوم


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن الناس في الحياة الدنيا يغفلون عن الله جل جلاله، وينشغلون بأمورهم، ويؤثرون أمر العاجلة على أمر الآجلة، فيذكرهم الحكيم جل جلاله بأيامه الخالية في الناس، وبأخذه الوبيل لأعدائه، وبنعمه التي لا يحصونها، وتذكيره لهم فيه مصالح كثيرة للبشرية، فهو سبب بتوبة التائبين ورجوع الآيبين إلى الله جل جلاله، وسبب للاتعاظ في هذه الحياة لعل ذلك يؤدي إلى توبة نصوح وإخلاص لله، وسبب كذلك لإصابة وإهلاك الذين يكرههم الله ويمقتهم من خلقه، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين ).

وهذه الأزمات والمشكلات التي يعيشها العالم من حولنا اليوم، وإن تنوعت تنوعاً كبيراً هي من أمر الله سبحانه وتعالى وتدبيره، وله الحكمة البالغة لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] وقد جاءت كثير من النصوص المؤذنة بكثير من المشكلات والضيق على المسلمين امتحاناً وابتلاء لهم، وبكثير من القوارع التي تصيب الكافرين أخذاً لهم فقد قال الله تعالى في شأن ابتلائه للمؤمنين: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186]، وفي أخذه للكفار يقول: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد:31].

وهذه السنن الكونية التي يسير الله بها هذا العالم وهذا الكون كله هي من تعرفه على عباده، وهي من كمال قدرته وتدبيره ونفوذ ملكه وأمره جل شأنه؛ فلذلك لا يمكن أن ترفع إلا إذا أخذ بما أمر الله به مما يرفعها من الأسباب.

الأزمة الاقتصادية التي تعصف باقتصاد العالم القوي، وقد أكلت الأخضر واليابس، وبدأ كثير من الشركات في تسريح الموظفين، وكذلك كثير من الحكومات في العالم بدأت تشكوا العجز عن القيام بمهماتها وتدبير شئونها، والذين كانوا يفخرون على العالم بأن اقتصادهم جبار لا يهزم، تراجعوا اليوم عن ذلك فأصبحوا يعلنون الإفلاس والتراجع في كل حين، كل ذلك من النذر التي ينذر الله بها ويبينها لعباده ليتقوه.

تحذير الكتاب والسنة من أسباب ظهور الفساد والأزمات

وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عدد كثير من الأحاديث يشير إلى هذه الأزمات الاقتصادية، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: ( يوشك ألا يجبى إلى العراق قفيز ولا درهم، قيل: من أين؟ قال: من قبل الروم )، وكذلك بين أنه سيقع بعد حصار العراق حصار الشام، وبين أنه من قبل العجم، وقد شوهد ذلك.

ثم إن الله سبحانه وتعالى أوعد عند ظهور الفساد في البر والبحر وانتشاره بهذه الأزمات، فقد قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، وبين أن هذا عام للناس كلهم، وهذا الفعل الماضي وهو (ظهر الفساد)، لا يقصد به في زمن محدد ماض، وإنما يقصد عندما يتكرر ذلك فستأتي هذه العقوبة، فيدل هذا على أنه كلما ظهر الفساد في البر والبحر بما كسب أيدي الناس نبههم الله على أخطائهم لعلهم يعودون إليه ويرجعون عنها.

وقد جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عند ابن ماجه و الحاكم في مستدركه، و أحمد في المسند، و ابن حبان و ابن خزيمة في صحيحهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً: فما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا وظهرت فيهم الأوجاع والأمراض التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وعسف السلطان ونقص المئونة، ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم )، فهذه سنن ماضية بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن هذا العقاب مترتب على هذا الذنب، فمتى حصل هذا الذنب فلينتظر العقاب فإنه آن على أثره لا محالة، وهذه العقوبات الدنيوية ليست جزاء لهذه الذنوب ولذلك تصيب الكافة، فيتضرر الحيتان في البحر، ويتضرر بها الطير في الهواء والبهائم في الأرض؛ لأن العقوبة الحقيقة على الذنوب إنما هي العقوبة الأخروية، فالدنيا دار عمل ولا جزاء، والآخرة دار جزاء ولا وعمل، وما يناله المسلم والمحسن من جراء عمله الصالح في الحياة الدنيا ليس من جزاء عمله وإنما هو من بركة عمله، وما يناله العاصي المسرف في الحياة الدنيا من الأذى ليس من عقاب عمله وجزائه، وإنما هو من شؤم سيئاته، فهذا الشؤم هو الذي يتعدى صاحبه فيتصل الضرر به إلى أهل الأرض جميعاً، فيكون الإنسان من إسرافه على نفسه أن يصل ضرره إلى غيره، فتتأثر به البهائم والصبيان وغيرهم من الذين لا مشاركة لهم في ذلك الأمر ولا رضا لهم به، لكن شؤم ذلك الذنب يصيبهم.

أثر التعامل بالربا في حدوث الأزمة الاقتصادية

والأزمة الاقتصادية اليوم ليست مثل الأزمات الماضية التي كانت يشكو منها الفقراء دون الأغنياء، بل قد أصبحت شكاية الأغنياء اليوم أكبر من شكاية الفقراء، فالفقراء لا يبالون كثيراً بالتضخم الاقتصادي، وإنما ينظرون إلى ارتفاع أسعار المواد الأساسية، ويرون أنه مشكل حقيقي يهدد سلامتهم، ولكن الأغنياء ينظرون إلى الانكماش والتراجع في النمو كله مما ينذر بخطر داهم، وسببه إنما هو هذه المعصية المنتشرة، وبالأخص في انتشار الربا، فإنه انتشر على وجه الأرض حتى لم يعد إنسان يستطيع السلامة منه، فمن لم ينل منه نال من غباره كما بين النبي صلى الله عليه وسلم.

فاقتصاد الدول الإسلامية اليوم يعصف به الربا عصفاً شديداً، ثم بعد ذلك يأتي ما يترتب على هذا الربا من المحسوبية والرشوة والفساد الإداري، وهذا منتشر في البلاد الإسلامية بدرجة كبيرة، وحدث ولا حرج عنها.

فبعض المؤسسات الحكومية ذات النفع العام في البلاد الإسلامية تقترض قروضاً ربوية لحاجتها، فإذا اقترضتها كان الربا أضعافاً مضاعفة لأولئك التجار الكبار الهوامير، ويضاعف مضروباً في الزمن، فإذا جاءت الحكومات وكانت لها نية صادقة صالحة تريد أن تقضي أولئك التجار هذا الدين يزعمونه أنه لهم، والواقع أن الذي لهم منه هو رأس مالهم فقط، وأن ما زاد على ذلك وهو أضعاف مضاعفة إنما هي من أملاك اليتامى والفقراء والضعفة، وهذا ظلم سافر بين، وهو يخرج في صورة عدل وإنصاف، فكثير من الحكومات تفعل هذا وتفتن به أنها قضت الديون ودفعت الأموال إلى التجار الذين كانوا قد باعوا هذه السندات، أو دفعوا هذه الأموال إلى المؤسسات الحكومية، ويكون الواقع خلاف ذلك؛ لأن الذي دفعته رباً أضعافاً مضاعفة هو من أموال اليتامى والفقراء والضعفة، وقد شاهدنا هذا في بلادنا وفي بلاد أخرى من بلاد العام الإسلامي في كثير من المؤسسات، وتتكرر هذه التجربة دائماً، فلا بد أن نتوقع أن يأتي إنذار من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله جل جلاله لا يمكن إلا أن يعم عدله، ولا يمكن أن يؤاخذ أقواماً فيعمل آخرون نفس العمل ولا يؤاخذهم عليه فهو الحكم العدل جل جلاله، وهو أسرع الحاسبين فلا يمكن أن يفوته شيء من خلقه يعلم السر وأخفى.

أثر نهب المال العام في حدوث الأزمة الاقتصادية

وكذلك ما يحصل لكثير من الذين يبسطون أيديهم على المال العام، فإنهم ينهبونه نهباً ويبددونه تبديداً، ويحابون به أوليائهم وأقاربهم، ويحابون به من بينهم وبينه معاملة، ويكونون بذلك قد أفسدوا في الأخلاق وأفسدوا في القيم بالإضافة إلى الإفساد المالي والإفساد العام في المجتمع، فإن من تعود على أخذ الرشوة فسد خلقه فأصبح عضواً فاسداً في المجتمع يستحق البتر، ومن تعود على المحسوبية وأنه يحابى ويعطى من المال العام، أو يمنح المنح والقطع الأرضية، أو يعطى ما لا يستحقه فإنه يكون مريض النفس صاحب هوى ومطامع.

وشر الأدواء والأمراض الطمع فلا يعرف مرض في العالم أخطر ولا أضر من الطمع، والذي يعود قريبه أو من هو في فلكه على الطمع قد أعطاه داءً عضالاً وأصابه بمرض سيئ فستترتب عليه آثاره في المستقبل، ويكون الضرر به ماحقاً وسيلحق بمن حوله.

أثر الاحتباس الحراري في حدوث الأزمات والكوارث

ومن الأخطار العالمية العظيمة التي يتحدث عنها الناس الآن ما يتعلق بالاحتباس الحراري وارتفاع المطر، وهلاك الحرث بسبب الفيضانات التي حصلت في أماكن مختلفة كالولايات المتحدة الأمريكية وغيرها، وهذا كله من أمر الله جل جلاله وقد أخبر: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [المرسلات:25-26]، وأنه ضمن للخلائق أرزاقهم فقال: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6]، فما يأخذه الله من ذلك إنما يفعل ذلك لحكمة بالغة وابتلاء وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].

تأثير بعض الدول الكبرى في الأزمات الاقتصادية وارتفاع أسعار السلع

والمجاعات التي تتهدد العالم اليوم، ويتصور كثير من الناس أنها ربما قضت على خلائق لا يحصرون في القارات كلها، من أسبابها التي يعول عليها في الدراسات الحديثة ما يتعلق بندرة الحبوب، وارتفاع أسعارها، فما تشهدون اليوم من ارتفاع سعر الأرز والقمح وغيرهما من الحبوب هو داء عالمي مستشر، وقد يكون من أسبابه أن بعض الدول الكبرى تريد أن يكون لها تأثير بالغ في العالم فتفسد المحاصيل عمداً لترتفع أسعار هذه المواد ويكثر الطلب عليها، وكذلك ما يتعلق بالطاقة البديلة أو الطاقة البيئية أو الآمنة كما يزعمون، وهي طاقة تستنج من الحبوب وبالأخص من القمح فتكون بديلة للنفط، وهي غير ملوثة للبيئة كما يزعمون، ويستهلك فيها من القمح أضعاف ما يستهلكه البشر والدواب، فالإنتاج الذي يحصل منها في اليوم قليل جداً بالمقارنة مع ما يستهلك فيها من الحبوب.

موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الأزمات الاقتصادية وتعامله معها

ولا شك أن أزمة الغذاء من الأزمات المتكررة في تاريخ البشر، ففي حديث أنس في السنن قال: ( غلا السعر على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فأتيناه فقلنا له: يا رسول! سعر لنا، فقال: إن الله هو الحي القيوم الخالق الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله غداً وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في نفس أو مال )، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم يقول: ( وإني لأرجو الله غداً وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في نفس أو مال )، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما تأتي هذه المشكلات والغلاء، يضرع إلى الله سبحانه وتعالى ويجتهد في الدعاء، ومع ذلك يبذل الأسباب فكان يشجع على الزراعة والعمل، ففي الصحيحين من حديث أنس أنه قال: ( ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو يستظل به إنسان إلى كان له صدقة )، فكل هذا تشجيع من النبي صلى الله عليه وسلم على عمل الخير النافع، وبالأخص ما يتعلق بالزراعة التي تسد حاجة الفقراء وتؤدي إلى رخص الأسعار وتراجعها.

عناصر خطة يوسف عليه السلام في حل الأزمة الاقتصادية التي حدثت في عصره

ومن المعلوم أن الحبوب لها أهميتها البالغة في اقتصاد البشر وفي معاشهم، وكانت في أيام يوسف عليه السلام أزمة في الحبوب وغلاء، وكان يوسف في السجن فرأى ملك مصر رؤيا عجيبة، رأى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ [يوسف:43] فعرض على الناس هذه الرؤيا فقالوا: أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ [يوسف:44]، وكان فيمن حضر مجلسه أحد صاحبي السجن الذين كانوا مع يوسف عليه السلام في سجنه فإنه تعرف عليهما في السجن، وقد ذكرا له ما رأيا قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف:36]، فانتهز يوسف عليه الصلاة والسلام فرصة تعرفهما إليه وسؤاله فدعاهما إلى التوحيد، وقال: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39]، وبعد ذلك فسر لهما رؤياهما وعبرها، فتحقق ذلك قال: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [يوسف:41]، وفعلاً قتل أحدهما وصلب فأكل الطير من رأسه ونجا الآخر وكان نديماً للملك، ولكنه لما قال له: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف:42] نسي ذكر الله فلم يقل: إن شاء الله، فقال: نعم أفعل، ولم يذكر الاستثناء ولم يستثن، فمضى عليه بضع سنين في نسيانه تنبيهاً من الله سبحانه وتعالى على ذلك، فلما رأى الملك هذه الرؤيا تذكر الرجل تفسير يوسف وأنه قد تحقق تماماً، فخاطب الملك والملأ معه أن يرسلوه إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن، فأتاه فقص عليه رؤيا الملك ففسرها يوسف عليه السلام بخطة استعجالية تقضي على هذه المشكلة مشكلة الغلاء ونقص الحبوب والمجاعة.

وهذه الخطة تقوم على خمسة عناصر، قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان.

العمل الجماعي

فالعنصر الأول هو: العمل الجماعي، فالمجاعة مشكلة جماعية، والتضخم الاقتصادي والانكماش مشكلة جماعية، فلا يمكن أن تعالج إلا بعمل جماعي وأن يهتم له الجميع فلذلك قال: تزرعون، ولم يقل: يزرع الزارعون منكم، قال: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ [يوسف:47]، فإذاً هذا الركن الأول هو العمل الجامعي لمكافحة المشكلة.

المواصلة في العمل

والعنصر الثاني: المواصلة وهو قوله: دَأَبًا [يوسف:47]، فلا بد من المواصلة في ذلك، فالعمل إذا كان يراد له النجاح والتقدم لا بد أن يكون مستمراً وأن يكون تراكمياً وإلا ضاع، فكثير من الخطط التي توضع لا ينظر إليها بهذه النظرة المتأنية فتضيع؛ لأن بعضها لا ينبني عليه شيء ولا يتصل بغيره، فلا يحقق المراد منه، فلذلك قال: (دأباً).

التوفير والادخار

ثم العنصر الثالث من عناصر الخطة: التوفير والادخار قال: فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ [يوسف:47]، فلا بد من وسائل للادخار والتوفير، وأهمه ما توفر به الحبوب أن تترك في سنابلها، فهذه الذي يمنعها من التسوس والضياع، وهذا أهم ما يحفظها بإذن الله سبحانه وتعالى حتى من الطفيليات والأمراض ونحو ذلك.

التقشف ونقص الاستهلاك

ثم العنصر الرابع من هذه الخطة: هو قوله: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ [يوسف:47]، وذلك بالعمل بالتقشف ونقص الاستهلاك ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً؛ لأنه قال: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ [يوسف:47].

الإدارة الراشدة الناصحة القوية الأمينة

والعنصر الخامس من عناصر هذه الخطة: هو قوله للملك: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، معناه الإدارة الراشدة الناصحة القوية الأمينة، فإذا حصلت هذه العناصر الخمسة أمن الناس من المجاعة ومن الهلاك.

فقدان عناصر خطة يوسف عليه السلام في العالم الإسلامي اليوم

واليوم نجد أن هذه العناصر الخمسة مفقودة في أغلبها في العالم الإسلامي، فلا نجد الاهتمام العام والمشاركة الشعبية، ودعوة الحكومات الناس إلى المشاركة في أمرها والقيام بمصالحها العالمة.

وكذلك العنصر الثاني من عناصر الخطة: لا نجد أيضاً سعياً حثيثاً للاستمرار في العمل.

وكذلك العنصر الثالث: لا نجد سعياً للتوفير والادخار.

والعنصر الرابع: أيضاً أشد وأنكى، فالاستهلاك يزيد في كل يوم، ويجد الإنسان ولو كان رشيداً ولو كان مهتماً بشأنه يجد نفسه مجبراً على مسايرة المجتمع من حوله في الاستهلاك المرتفع في أمور هو في غنىً عنها، وانظروا إلى الاتصالات فقط، فأفقر الناس وأقلهم دخلاً ينفق يومياً في الاتصالات في الهاتف مبالغ كبيرة، كأنها أصبحت من غذائه ومن ضرورياته؛ لأن العالم من حوله يجبره على هذه الاتصالات، فهذا استهلاك يفرضه المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان.

أما العنصر الأخير وهو اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55] ، فتعرفون الخلل العالمي فيه، فإن كثيراً من ولاة الأمور في البلاد الإسلامية لا يولون على الجانب المالي وما له علاقة بالإدارة وما له علاقة باقتصاد الناس، إلا من ليس مثل يوسف عليه السلام في أقل ما يقال عنه.

فيوسف قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، فذكر وصفين:

الوصف الأول: الأمانة، (إني حفيظ)، والوصف الثاني: العلم، صاحب تخطيط وخبرة، وهذان الوصفان قلما اجتمعا، كما قال عمر رضي الله عنه: اللهم إليك أشكو جلد الفاجر، وعجز الثقة. فكثير من الفجرة لديهم جلد، وربما كانت لديهم علوم وتخصصات نافعة، أما من كان من أهل الثقة فيفتقر إلى الهمة التي تحفزه على تعلم هذه العلوم والإبداع والبراعة فيها؛ فلذلك يندر أن يجمع هاتين الصفتين إنسان واحد كما جمعهما يوسف عليه السلام، اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55].

وهذه الخطة التي وضعها يوسف عليه السلام وإن كانت تعبيراً لرؤيا إلا أنها صالحة للتطبيق في مشكلاتنا المعاصرة، فإذا أرادت أية حكومة رشيدة أن تعالج مشكلة الفقر أو مشكلة الغلاء أو مشكلة المجاعة، فلا يمكن أن تعالجها بأنفع من هذه الخطة التي وضعها الصديق يوسف عليه السلام في عناصرها الخمسة.

وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عدد كثير من الأحاديث يشير إلى هذه الأزمات الاقتصادية، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: ( يوشك ألا يجبى إلى العراق قفيز ولا درهم، قيل: من أين؟ قال: من قبل الروم )، وكذلك بين أنه سيقع بعد حصار العراق حصار الشام، وبين أنه من قبل العجم، وقد شوهد ذلك.

ثم إن الله سبحانه وتعالى أوعد عند ظهور الفساد في البر والبحر وانتشاره بهذه الأزمات، فقد قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، وبين أن هذا عام للناس كلهم، وهذا الفعل الماضي وهو (ظهر الفساد)، لا يقصد به في زمن محدد ماض، وإنما يقصد عندما يتكرر ذلك فستأتي هذه العقوبة، فيدل هذا على أنه كلما ظهر الفساد في البر والبحر بما كسب أيدي الناس نبههم الله على أخطائهم لعلهم يعودون إليه ويرجعون عنها.

وقد جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عند ابن ماجه و الحاكم في مستدركه، و أحمد في المسند، و ابن حبان و ابن خزيمة في صحيحهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً: فما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا وظهرت فيهم الأوجاع والأمراض التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وعسف السلطان ونقص المئونة، ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم )، فهذه سنن ماضية بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن هذا العقاب مترتب على هذا الذنب، فمتى حصل هذا الذنب فلينتظر العقاب فإنه آن على أثره لا محالة، وهذه العقوبات الدنيوية ليست جزاء لهذه الذنوب ولذلك تصيب الكافة، فيتضرر الحيتان في البحر، ويتضرر بها الطير في الهواء والبهائم في الأرض؛ لأن العقوبة الحقيقة على الذنوب إنما هي العقوبة الأخروية، فالدنيا دار عمل ولا جزاء، والآخرة دار جزاء ولا وعمل، وما يناله المسلم والمحسن من جراء عمله الصالح في الحياة الدنيا ليس من جزاء عمله وإنما هو من بركة عمله، وما يناله العاصي المسرف في الحياة الدنيا من الأذى ليس من عقاب عمله وجزائه، وإنما هو من شؤم سيئاته، فهذا الشؤم هو الذي يتعدى صاحبه فيتصل الضرر به إلى أهل الأرض جميعاً، فيكون الإنسان من إسرافه على نفسه أن يصل ضرره إلى غيره، فتتأثر به البهائم والصبيان وغيرهم من الذين لا مشاركة لهم في ذلك الأمر ولا رضا لهم به، لكن شؤم ذلك الذنب يصيبهم.

والأزمة الاقتصادية اليوم ليست مثل الأزمات الماضية التي كانت يشكو منها الفقراء دون الأغنياء، بل قد أصبحت شكاية الأغنياء اليوم أكبر من شكاية الفقراء، فالفقراء لا يبالون كثيراً بالتضخم الاقتصادي، وإنما ينظرون إلى ارتفاع أسعار المواد الأساسية، ويرون أنه مشكل حقيقي يهدد سلامتهم، ولكن الأغنياء ينظرون إلى الانكماش والتراجع في النمو كله مما ينذر بخطر داهم، وسببه إنما هو هذه المعصية المنتشرة، وبالأخص في انتشار الربا، فإنه انتشر على وجه الأرض حتى لم يعد إنسان يستطيع السلامة منه، فمن لم ينل منه نال من غباره كما بين النبي صلى الله عليه وسلم.

فاقتصاد الدول الإسلامية اليوم يعصف به الربا عصفاً شديداً، ثم بعد ذلك يأتي ما يترتب على هذا الربا من المحسوبية والرشوة والفساد الإداري، وهذا منتشر في البلاد الإسلامية بدرجة كبيرة، وحدث ولا حرج عنها.

فبعض المؤسسات الحكومية ذات النفع العام في البلاد الإسلامية تقترض قروضاً ربوية لحاجتها، فإذا اقترضتها كان الربا أضعافاً مضاعفة لأولئك التجار الكبار الهوامير، ويضاعف مضروباً في الزمن، فإذا جاءت الحكومات وكانت لها نية صادقة صالحة تريد أن تقضي أولئك التجار هذا الدين يزعمونه أنه لهم، والواقع أن الذي لهم منه هو رأس مالهم فقط، وأن ما زاد على ذلك وهو أضعاف مضاعفة إنما هي من أملاك اليتامى والفقراء والضعفة، وهذا ظلم سافر بين، وهو يخرج في صورة عدل وإنصاف، فكثير من الحكومات تفعل هذا وتفتن به أنها قضت الديون ودفعت الأموال إلى التجار الذين كانوا قد باعوا هذه السندات، أو دفعوا هذه الأموال إلى المؤسسات الحكومية، ويكون الواقع خلاف ذلك؛ لأن الذي دفعته رباً أضعافاً مضاعفة هو من أموال اليتامى والفقراء والضعفة، وقد شاهدنا هذا في بلادنا وفي بلاد أخرى من بلاد العام الإسلامي في كثير من المؤسسات، وتتكرر هذه التجربة دائماً، فلا بد أن نتوقع أن يأتي إنذار من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله جل جلاله لا يمكن إلا أن يعم عدله، ولا يمكن أن يؤاخذ أقواماً فيعمل آخرون نفس العمل ولا يؤاخذهم عليه فهو الحكم العدل جل جلاله، وهو أسرع الحاسبين فلا يمكن أن يفوته شيء من خلقه يعلم السر وأخفى.