عمدة الفقه - كتاب الحج [19]


الحلقة مفرغة

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

مشاهدينا الكرام أينما كنتم، أحييكم بتحية الإسلام الخالدة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهلاً ومرحباً بكم هنا في الأكاديمية العلمية، وفي هذا الدرس المبارك: شرح عمدة الفقه مع فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي الأستاذ المساعد بالمعهد العالي بالقضاء، باسمكم جميعاً نرحب بشيخنا الكريم أجمل ترحيب، فأهلاً ومرحباً بكم فضيلة الشيخ.

الشيخ: حياكم الله وبالإخوة المستمعين والمستمعات.

المقدم: ويمتد ترحيبنا كذلك عاطراً إلى الإخوة الدارسين والدارسات في موقع الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، وأيضاً نرحب من أعماقنا بالإخوة الذين شاركونا هنا في الأستوديو، جزاهم الله خيراً على حضورهم.

مشاهدينا الكرام! دائماً كما عودتمونا على استقبال أسئلتكم فنحن نستقبلها بصدر رحب، ونرحب أيضاً بمشاركاتكم على هواتف البرنامج التي تظهر أمامكم تباعاً، وعلى موقع الأكاديمية (www.islamacademy.net).

في هذا الدرس المبارك نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما يقوله شيخنا الكريم، ونترك المجال لشيخنا الكريم ليستفتح هذا الدرس المبارك، فتفضل يا شيخنا مشكوراً مأجوراً.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم!

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم لا تصرفنا عن طاعتك ولا عن طلب العلم.

هذا الباب الذي وصلنا إليه هو باب الهدي والأضحية، وبهذا نكون قد انتهينا من كتاب الحج، أو من باب الحج والعمرة؛ لأن العلماء رحمهم الله يجعلون من ضمن كتاب الحج باب الهدي والأضحية، ويدخل تباعاً باب العقيقة، هذه طريقة الحنابلة، وبعض الفقهاء يجعل الهدي والأضاحي كتاباً مستقلاً يسمونه أحياناً باب الذبائح، أو كتاب الذبائح والأضاحي، أو كتاب الهدي والأضاحي، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكننا نعرف من أراد أن يبحث عن هذا الكتاب ربما لا يجده بعد كتاب الحج في بعض كتب أئمة المذاهب، فإنه سوف يجده في كتاب مستقل خارج عن كتاب الحج، والمؤلف رحمه الله ذكر هذا الباب لأن الحاج سوف يهدي، إما واجباً كالقارن والمتمتع، وإما على سبيل الاستحباب كالمفرد ومن أراد أن يتطوع.

والأضحية أيضاً ذكرها المؤلف هنا؛ لأن الأضحية إنما تشرع كما سوف يأتي بيانه في يوم الأضحى -وهو يوم النحر- وأيام بعدها كما سوف يأتي الخلاف في هذا الأمر، وبهذا يكون المؤلف إذا أنهى هذا الباب فقد أنهى كتاب الحج.

المقدم: قال المؤلف رحمه الله: [ باب الهدي والأضحية.

والهدي والأضحية سنة لا تجب إلا بالنذر، والتضحية أفضل من الصدقة بثمنها، والأفضل فيهما الإبل ثم البقر ثم الغنم، ويستحب استحسانها واستسمانها، ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن، وهو ما كمل له ستة أشهر، والثني مما سواه، وثني الإبل ما كمل له خمس سنين، ومن البقر ما له سنتان، ومن المعز ما له سنة، وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة، ولا تجزئ العوراء البين عورها، ولا العجفاء التي لا تنقي، ولا العرجاء البين ظلعها، ولا المريضة البين مرضها، ولا العضباء التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها، وتجزئ البتراء والجماء والخصي، وما شقت أذنها، أو خرقت أو قطع أقل من نصفها، والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، وذبح البقر والغنم، ويقول عند ذلك: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم، وإن ذبحها صاحبها فهو أفضل، ووقت الذبح يوم العيد بعد صلاة العيد أو قدرها إلى آخر يومين من أيام التشريق ].

المقصود بالهدي والأضحية ومشروعيتما

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

المؤلف -أيها الإخوة- يقول: (باب الهدي والأضحية) أي: باب الهدي والأضحية وما يتبع ذلك من أحكام، والهدي: هو ما يهدى للحرم من نعم ونحوها، ومعنى نحوها، يعني: يجوز للإنسان أن يهدي للحرم؛ أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى عند بيت الله سبحانه وتعالى بالهدي أو بالطعام أو باللباس، أو نحو ذلك مما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، مما ينفع الفقراء الذين في الحرم، وسمي الهدي بهذا لأن المرء يهديه عند بيت الله سبحانه وتعالى، وقال بعضهم: يهديه إلى الله سبحانه وتعالى، ويهديه يعني: يقدمه تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإن ربك غني عن فعل عباده، لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، فالتقرب إلى الله بإراقة الدم من أعظم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى يوم النحر، وليعلم أن الذبائح التي هي قربة وعبادة يتقرب بها إلى الله هي ثلاثة:

الأولى: الهدي.

الثانية: الأضحية.

الثلاثة: العقيقة.

فأنت تذبحها مستعيناً بالله، تتقرب بها إلى الله، أما من ذبح للحم أو لبيته، فهو يذبحها مستعيناً بالله لله يقصد بذلك اللحم، يعني: يريد بها اللحم، لكن لا يسوغ له ولا يجوز أن يذبحها لأجل فلان، أو لأجل الولي، أو لأجل عظيم؛ فكل هذا من الشرك المعلوم من الدين بالضرورة؛ لقوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2].

قال ابن القيم رحمه الله: فلكل ملة صلاة ونسيكة، لا يقوم غيرهما مقامهما، ولهذا يقول ابن القيم : لو تصدق عن دم المتعة بأضعاف أضعاف ثمنها ما أجزأه ذلك باتفاق الفقهاء، فلو كان عليه دم متعة، يعني: الآن شخص متمتع بقي عليه هدي، قال: أنا والله كريم، الهدي بخمسمائة ريال، أو بثلاثمائة ريال، أنا سوف أتصدق بمليون ريال صدقة، وأطعم الحجيج، اللحم ربما يصعب عليهم أن يطبخوه، وأن يؤدموه، ولكني سوف أشتري هذه العربات، وهذه الشاحنات المليئة طعاماً وأتصدق بها بمليون ريال أفضل من خمسمائة ريال قيمة دم المتعة، قيل له: لو أهديت أكثر من مليونين ما قبل منك، لماذا؟ لأنها عبادة، وهي إراقة الدم، فلا يقوم غيرها مقامها.

وأما الأضحية بكسر الهمزة وضمها، تقول: إضحية، وتقول: أضحية، وتقول: ضحية، سميت بذلك؛ لأن الشاة تذبح ضحوة، أي: عند ارتفاع الشمس في يوم النحر، وأما في اصطلاح الفقهاء فإنهم يقولون: هو ما يذبح لله سبحانه وتعالى من بهيمة الأنعام، بسبب العيد، تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، ويعني بيوم العيد أيام الأضحى، وقد دل على مشروعية الهدي والأضحية الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم، والدليل من الكتاب على مشروعية الهدي والأضحية، قوله تعالى في سورة الكوثر: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، وقوله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ [الحج:36] الآية، وأما السنة فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى مائة من الإبل فنحر عليه الصلاة والسلام بيده ثلاثاً وستين، وأعطى علياً فنحر ما غبر ) يعني: نحر الباقي، هذا هو مشروعيتها في السنة، أما الإجماع فقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على مشروعية الهدي والأضحية.

حكم الهدي

الشيخ: المؤلف رحمه الله قال: (والهدي والأضحية سنة)، هذا هو قول جمهور الفقهاء؛ أن الهدي والأضحية سنة، وقول المؤلف: إدخال الهدي في ذلك محل تأمل، إدخال الهدي بحكم السنية محل تأمل؛ وذلك لأن أهل العلم لا يجعلون للهدي حكماً مستقلاً مطرداً، بل يقسمون؛ فيكون الهدي كما لا يخفى هو كل ما يهدى به إلى الله سبحانه وتعالى في الحرم أو عند الحرم، فهدي دم المتعة والقران هو هدي، ولكنه ليس بسنة، بل واجب، فينبغي أن يفصل، فيقال: هدي التمتع والقران هو هدي واجب؛ لقوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، فهذا أمر، وهذا خبر بمعنى الوجوب، وهو من أعظم الوجوب كما يقول بعض علماء الأصول.

وكذلك القران، فالقران داخل في التمتع؛ لأن القارن يأخذ عمرة وحجة في سفرة واحدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لـعائشة حينما كانت قارنة: ( طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يجزئ عن حجك وعمرتك جميعاً ).

القسم الثاني من الهدي: هو من لم يجب عليه الهدي، فيكون في حقه سنة، وهذا في حق المفرد وكل من تقرب إلى الله في بعث الهدي إلى البيت، فجائز أن يكون الإنسان من أهل الرياض مثلاً، أو من أهل الجزائر أو من أهل المغرب، أو من أهل الشرق والغرب وهو لا يستطيع أن يحج، فله أن يتقرب إلى الله بأن يهدي إلى الله سبحانه وتعالى في أي وقت شاء أن يتقرب إلى الله في الهدي، ولا يلزم أن يكون وقت الحج، فقد كان عليه الصلاة والسلام يبعث بالهدي في غير وقت الحج، كما صنع ذلك بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية.

حكم الأضحية

الشيخ: أما الأضحية فالمؤلف يقول: سنة، وهذا هو قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة في المشهور عنهم جميعاً رحمة الله تعالى على الجميع، بل ذكر في جواهر الإكليل من كتب المالكية، قالوا: وإذا تركها أهل بلدك بالكلية قوتلوا عليها؛ لأنها من شعائر الإسلام.

والدليل على عدم وجوب الأضحية، وإنما هي سنة لا واجبة، قالوا: هو ما رواه الجماعة إلا البخاري ، من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أهل هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذن من شعره ولا من بشرته ولا من أظفاره شيئاً ) قالوا: وجه الدلالة أن الشارع فوض هذا الأمر لإرادة المرء، ولو كان واجباً لما جعل ذلك تحت إرادته، فالواجبات مناطها الكتاب والسنة، فكونه يقال: إذا أهل فأراد أحدكم أن يضحي دليل على عدم الوجوب، هكذا قالوا، وهذا الدليل قوي، لكن لو جاء حديث صحيح صريح يخالفه فنقول: نعمل بالمنطوق الصريح أولى من المنطوق غير الصريح، فهذه الآية أو هذا الحديث منطوق، ولكنه غير صريح، ونحن سوف نعرف إن شاء الله أنه لم يكن ثمة حديث صحيح منطوق صريح كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله.

الدليل الآخر على عدم الوجوب قالوا: وقد صح عن أبي بكر و عمر رضي الله عنهما أنهما لم يضحيان، قالوا: وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( فإنه من يطع أبا بكر و عمر يرشد ) كما في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة ، وقال: ( اقتدوا بالذين من بعدي ) كما رواه أهل السنن من حديث حذيفة ، بل قال ابن مسعود رضي الله عنه: إني لأدع الأضحية وإني لأيسركم، كراهية أن يعتقد الناس أنها حكم واجب، وهذا الحديث رواه البيهقي ، وذكر آثاراً عن ابن عباس وعن بلال ، وعن ابن عمر رحمة الله تعالى على الجميع، قالوا: فغالب الصحابة كانوا لا يضحون، بل أبو بكر و عمر كانا لا يضحيان.

القول الثاني في المسألة هو قول أبي حنيفة ، ورواية عند الإمام أحمد، وقول عند مالك ، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله، ونصره، قال: فإنها من أعظم شعائر الإسلام، وهي النسك العام في جميع الأمصار، وذكروا أدلة للوجوب؛ بأن قالوا: الآية دليل على وجوبها، ما هي الآية؟ قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، قالوا: أمر (فصل لربك وانحر) والأصل في الأوامر الوجوب، طيب! هل أحدكم على عجل يستطيع أن يرد على القائلين بالوجوب؟ اتفضل يا شيخ فهد !

مداخلة: نقول: الصارف له من الوجوب إلى الاستحباب قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ( فإذا أراد أحدكم أن يضحي ).

الشيخ: هذا جميل، هذا الصارف دليل على أنه ليس واجباً، ونستطيع أن نرد بدليل آخر فنقول: إن هذه الآية ليست صريحة في الوجوب، لأن هذه الآية ليست أمراً بالنحر؛ إنما هو أمر بأن يتقرب إلى الله بالنحر لله سبحانه وتعالى.

فهو أمر متعلق بالتقرب؛ لأن الله يأمرك أن تتقرب إليه بالصلاة والنحر، (فصل لربك) يعني: اجعل عبادتك لوجه الله سبحانه وتعالى في صلاتك وفي نحرك، وهذا دليل على أنه لا يجوز صرف النحر لغير الله سبحانه وتعالى، وأن ذلك من الشرك، فدل ذلك على أن الآية ليست دليلاً على الوجوب.

الدليل الآخر: ما رواه الترمذي والإمام أحمد رحمه الله وغيرهم من حديث عبد الله بن عياش عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا )، هذا الحديث لو صح لكان في محل النزاع، واستدلالاً من أقوى الأدلة، لكنه ضعيف، حيث أن في سنده عبد الله بن عياش ، وقال أبو حاتم: ليس بالمتين، وضعفه أبو داود و النسائي رحمهم الله جميعاً، ولا يصح في الباب في وجوب الأضحية حديث صحيح صريح، وعلى هذا فلا داعي لذكر الأدلة أكثر من هذا.

حالات وجوب الأضحية

الشيخ: المؤلف يقول: (لا تجب إلا بالنذر)، هذا جيد، لكننا نقول: لا تجب الأضحية إلا بالنذر أو بالتعيين، فلو عينها فقال: هذه أضحية، فإنه يجب عليه أن يضحيها، ولا يجوز له أن يتركها، لكنه لو اشتراها: ذهب إلى سوق الأغنام ليلة العيد، أو يوم التاسع من عرفة، واشتراها ناوياً أنها أضحية، فإن الجمهور يقول: لا تتعين إلا بالتعيين أو بالذبح، أما أن يشتريها فإنها لا تتعين، وعلى هذا نقول: لا تجب إلا بالنذر أو بالتعيين.

أفضلية التضحية على التصدق بثمن الأضحية

الشيخ: المؤلف يقول: (والتضحية أفضل من الصدقة بثمنها)، هذا قول عامة الفقهاء، بل نقل الإجماع على ذلك أن التضحية أفضل من الصدقة بثمنها.

بعض الإخوة إذا جاء وقت الأضحية يقول: والله إني سأذبح أضحية معي، أيهما أفضل: أعطيها فقيراً يحج بها أم أذبح؟ نقول: التضحية بثمنها أعظم من الصدقة بثمنها، لم؟ لأن لله عبادات في أزمان وأحوال لا يسوغ غيرها فيها، والعبادات تتفاضل في زمانها وفي مكانها، أرأيتم قراءة القرآن أليست أعظم الذكر؟ بلى، ولكن قراءة القرآن في الركوع هل هو عبادة؟ نقول: محرم، ( فأما الركوع فعظموا فيه الرب، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً )، كما قال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، فهذا يدل على أن التضحية في زمانها أولى من التصدق بثمنها، ولا يقال: هذا فقير وهذا كذا، نقول: يعطى الفقير وغيره من هذه الأضحية، فإراقة الدم من أعظم ما يتقرب به إلى الله.

المقدم: وبالنسبة للمضحي يا شيخ! متى تجب عليه الأضحية؟ هل هناك نصاب معين تجب عليه في حال أنه إذا استطاع يدفع قيمة الأضحية؟

الشيخ: لا، نحن رجحنا أن الأضحية الأصل لا تجب عليه لكن إذا أراد أن يضحي فله أن يضحي، لكنه ينبغي له إذا أراد أن يضحي أن يكون ذلك زائداً على قوت نفسه وقوت من يموله.

المقدم: طيب، إذا لم يحج مثلاً، ما حج الفريضة فهل له أن يضحي؟

الشيخ: له أن يضحي؛ لأنه بشيء أقل من الحج؛ لأن في الحج سوف يجب عليه نفقة الهدي إن كان يريد التمتع، ونفقة السير، ونفقة السير كثيرة، بخلاف الهدي.

يقول المؤلف رحمه الله: (والتضحية أفضل من الصدقة بثمنها)، من الأدلة على أن التضحية أفضل، قالوا: لأن العلماء اختلفوا في حكم التضحية بين الوجوب وبين الاستحباب، وما اختلفوا فيه أولى من العناية مما لم يختلفوا فيه، فهذه قاعدة مطردة، إذا رأيت في الغالب مسألة اختلف العلماء في وجوبها من عدمه، ومسألة لم يختلفوا في وجوبها، إنما هي مسألة يستحب العمل فيها، فإن العبادة المختلف في وجوبها أولى من العبادة التي لم يختلف فيها كما أشار إلى ذلك أبو العباس بن تيمية رحمه الله و ابن رجب في بعض كتبهم.

الأفضل في الهدي والأضحية من حيث المضحى به

الشيخ: يقول المؤلف: (والأفضل فيهما)، يعني: الأفضل لمن أراد أن يتقرب إلى الله في الهدي أو بالأضحية قال: (الإبل)، ومعنى الإبل يعني: إبلاً كاملاً، وكذلك قال: (الإبل ثم البقر ثم الغنم)، فلو جاء سبعة يجزئ، فالواحد يجزئ عنه شاة أو سبع من الإبل أو البقر فلو جاء سبعة، وقالوا: نريد أن نشتري بقرة، أو أن نشتري إبلاً ونقسمه فيما بيننا أضحية، هل يجوز لهم ذلك؟ نقول: نعم يجوز، لكن أيهما أفضل: أن يشتري هؤلاء السبعة إبلاً أم كل واحد هدياً؟ نقول: الأفضل كل واحد شاة، لماذا؟ لأنها على الترتيب، إبل ثم بقر ثم غنم، ثم سبع من الإبل، ثم سبع من البقر، هكذا هو الترتيب.

المؤلف يقول: (الأفضل فيهما)، الأفضلية حكم شرعي، ولا تثبت إلا بدليل شرعي، فما الدليل؟ الدليل قالوا: لأن الإبل أعظم ثمناً، وقد قال تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، قال ابن عباس في تفسير هذه الآية، قال: تعظيم شعائر الله هو الاستحسان والاستسمان، ولهذا قال ابن تيمية : ولهذا كان أغلاها ثمناً وأسمنها أعظم باتفاق أهل العلم.

مسألة: هل الأفضل التضحية بشاتين أو بإبلين، أم العبرة بالمغالاة في الثمن لو كانت واحدة؟ أعيد صورتها ببساطة، عندك خمسة آلاف، فهل الأفضل أن تشتري الخمسة الآلاف هذه بعيرين أو بكرتين تتصدق بهما إلى الله سبحانه وتعالى، أو نضحي بهما إلى الله، هذه بألفين وخمسمائة والأخرى بألفين وخمسمائة، أو أن تأخذ الخمسة الآلاف وتنظر بكرة عظيمة ملحاء، وهي البيضاء، وتشتريها تتقرب بها إلى الله؟ الآن عندنا اثنتان بخمسة آلاف، أو واحدة بخمسة آلاف، أيهما أفضل؟ ذكر إسحاق بن منصور أن الإمام أحمد قال: ثنتان أعجب إليّ.

أما الإمام ابن تيمية رحمه الله فإنه قال: أن الواحدة التي فيها استسمان واستعظام وغالية الثمن أعظم من أن يتقرب باثنتين، ولعل قول ابن تيمية يمكن أن يستدل له بما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] قال: استسمانها واستعظامها، وقد ثبت في الصحيح من حديث سهل بن سعد قال: ( كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون )، فهذا أعظم؛ لأن لحمه سوف يطيب لمن أكلها، فالعبرة ليست بكثرة اللحم، ولكن بإراقة الدم لله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37].

المؤلف يقول: (ويستحب استحسانها واستسمانها)، يعني: الأفضل للإنسان أمران: أنه إذا اقترب عيد الأضحى فالأفضل أن يأخذ السمينة والعظيمة، وأيضاً إذا لم يسن له فالأفضل له أن يشتري شيئاً من الأضاحي في وقت مبكر، ثم يسمنها، ويستحسنها، وهذه قل أن ترى من يفعلها، إلا من أراد التجارة، لكن لو اشتراها الإنسان في شهر ذي القعدة مثلاً، أو في أول شهر شوال، وبدأ يعلفها ويحسن أكلها، ويطيب لحمها، حتى إذا جاء وقت الأضحية تقرب بها إلى الله، نقول: هذا أعظم أجراً؛ لأنها ما تأكل أكلاً يقصد بها طلب رضا الله سبحانه وتعالى إلا كان له بها صدقة، كما قال سهل بن سعد رضي الله عنه، كما في الصحيح قال: ( كنا نسمن الأضحية في المدينة، وكان المسلمون يسمنون ).

السن المجزئ في الأضحية

الشيخ: يقول المؤلف: (ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن، وهو ما كمل له ستة أشهر)، هذا الكلام فيه مسائل:

المسألة الأولى نقول: أجمع العلماء على أنه لا يجزئ الهدي أو الأضحية أو العقيقة إلا ما تم لها السن الشرعي المعتبر، فلو أهدى إبلاً صغيرة ليست بثني فإنه لا يجزئه ذلك، وهذا مهم التنبيه عليه؛ لأن بعض الإخوة هداهم الله يذهبون فيشترون ضحاياهم أو هداياهم في وقت الحج، وربما تكون صغيرة أصغر من السن المعتبر شرعاً، فنقول له: إذا كان دم متعة أو قران أو أضحية فإنها لا تجزئك، لكن إذا كانت أضحية يستحب له أن يعيدها، وأما إذا كان هدي تمتع وقران فيجب عليه أن يعيدها.

المقدم: بعضهم يا شيخ يجهل ذلك، فيكون المبرر أنه يقول: أريد لحماً يكون ليناً، وكلما صغر سنها كان أفضل.

الشيخ: إيه نعم، يأخذ الجذعة من الضأن، هذا أفضل.

المقدم: له ذلك؟

الشيخ: له ذلك في الجذعة من الضأن خاصة.

المقدم: ستة أشهر.

الشيخ: ما له ستة أشهر كما سوف، يأتي، إذا ثبت هذا، وهو أن السن معتبر في الهدي والأضحية والعقيقة، قال المؤلف: (ولا يجزئه إلا الجذع من الضأن) الجذع من الضأن خاصة، وأما غيره فلا يجوز إلا الثني، المؤلف بين الجذع من الضأن فقال: (وهو ما كمل له ستة أشهر)، هذا هو الجذع من الضأن وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة، يقولون: إن الجذع ما كمل له ستة أشهر، وذهب المالكية إلى أن الجذع ما كمل له سنة، ولم يدخل في السنة الثانية، وأما الثني من المعز ما كمل له سنة ودخل في شهر منها، والأقرب والله أعلم هو قول الحنفية والحنابلة؛ أن الجذع من الضأن ما كمل له ستة أشهر.

ذكر إبراهيم الحربي رحمه الله وهو من أئمة اللغة والحديث، وهو من طبقة الإمام أحمد ، قال: إنما يجزئ الجذع من الضأن خاصة في الأضاحي؛ لأنه ينزو على الشاة فيلقحها، بخلاف الماعز فإنه لا يستطيع أن ينزو، يعني: لم يكن يبلغ مبلغ الكبار من الضأن وغيره، أما الجذع فإنه يستطيع أن يلقح الشاة، وبهذا جوز فيه؛ لأنه أصبح جائزاً ومعتبراً، هكذا قال إبراهيم الحربي ، وكما ذكر ذلك أهل العلم، وعلى هذا فالراجح أن الجذع من الضأن هو ما كمل له ستة أشهر خلافاً لـمالك رحمه الله وبعض علماء الشافعية.

السؤال: هل يجزئ الجذع؟ نقول: الجمهور من أهل العلم على أنه يجزئ، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث جابر : ( لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن )، هذا الحديث ظاهره أنه لا يجزئ الجذع إلا إذا عسر علينا المسنة؛ وهي الثني فما فوق، ولكننا نقول: جاء في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر قال: ( قسم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ضحايا، فصارت لي جذعة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضح بها. قال: يا رسول الله! إنها جذعة -يعني: صغيرة- قال: ضح بها، فضحى بها ) كما في الحديث المتفق عليه، وقال عقبة بن عامر رضي الله عنه أيضاً: ( ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بجذع من الضأن )، وهذا الحديث رواه النسائي، وقال فيه الحافظ ابن حجر : سنده قوي.

(والثني مما سواه) يعني: أن الثني من غير الضأن، فإذا كان غير الضأن فيجب أن يكون ثنياً، والثني يختلف في بهيمة الأنعام بين يكون معزاً أو بقراً أو إبلاً، فالإبل لا يكون ثنياً إلا إذا كمل له خمس سنين، والبقرة لا تكون ثنياً إلا إذا كمل لها سنتان، هذا هو الراجح، خلافاً لـمالك ، فـمالك قال: ثلاث سنين، والصحيح ما لها سنتان، أما المعز فما كمل له سنة، هذا هو الأقرب، والله أعلم.

الاشتراك في الأضحية وأقسامه

الشيخ: يقول المؤلف رحمه الله: (وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة)، أما البدنة والبقرة فإنها تجزئ عن سبعة، دليل ذلك قال جابر رضي الله عنه: ( نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة )، وقال أيضاً: ( كنا ننحر البدنة عن سبعة، فقيل له: يا جابر والبقر؟ قال: وهل هي إلا من البدن )، يعني أن البدن يسمى بقراً ويسمى إبلاً، وهذا الحديث أيضاً رواه مسلم في صحيحه.

أما قول المؤلف: (وتجزئ الشاة عن واحد)، يعني بذلك أنه لا يجوز أن يشتري اثنان شاة بينهما، وهذه ما يسمى بالاشتراك في الملك، وفي هذا الكلام كلام، أما قوله: (وتجزئ الشاة عن واحد)، أما الإجزاء عن واحد فهذا ثابت من حديث أبي أيوب رضي الله عنه، قال: ( كان الرجل بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون )، وهذا الحديث أخرجه الترمذي و ابن ماجه وقال عنه الترمذي : حديث حسن صحيح، وإسناده قوي.

أما الاشتراك هنا فنقول: الاشتراك ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: اشتراك في الثواب، فهنا يجوز للإنسان أن يشرك في ثواب أضحيته الذي اشتراها من حر ماله ما شاء من عدد، فيجوز أن يشتري هو أضحية فيقول: اللهم هذا عني وعن زوجتي، وعن أمي وعن والدي، وعن أولادي وعن ذريتي، فيجوز، فهذا يسمى إشراكاً في الثواب، ودليله أيضاً ما ثبت في الصحيحين عن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين )، وفي رواية: ( موجوءين فأضجعهما، وضحى، وسمى، وقال: اللهم هذا منك ولك، اللهم عن محمد وآل محمد ).

المقدم: عفواً يا شيخ! يدخل فيه الأحياء والأموات؟

الشيخ: يدخل فيه الأحياء والأموات، والغريب أن بعض الفضلاء من المعاصرين أنكر أن تكون الأضحية للميت، فنقول: الأضحية للميت تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يشرك الأحياء والأموات، فهذا لا شك في جوازها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم هذا عني وعن آل محمد وعن أمة محمد )، فأمة محمد فيهم الأحياء وفيهم الأموات؛ لأن الرسول أشرك الأحياء والأموات.

القسم الثاني: أن يخصص الأضحية للميت، وقد كانت عادة العوام أنهم لا يضحون إلا على أمواتهم، وهذا خطأ، بل الأفضل أن يضحي عن نفسه الحية ويشرك الأموات، أما تخصيص الأضحية بالميت فإننا نقول: لا يخلو من حالين:

الحالة الأولى: أن يكون ذلك وصية من الأموات بأموال الأموات، فهذا لا بأس به، ولا عبرة بالمخالف من المعاصرين؛ لأن العلماء أجمعوا على أن الميت تنفعه الصدقة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث )، ومن المعلوم أن الأضحية صدقة، أليس كذلك؟ فهذا يجزئه إذا كان وصية، ولا بأس أن يوصي.

القسم الثاني: أن يذبح الحي عن ميته خاصة، فبعض طلبة العلم منع من ذلك، وقال: لم يرد عن السلف رضي الله عنهم، وأقول: إن غالب العلماء المعاصرين على جواز ذلك، ومما يدل على الجواز أن الشارع جوز أن يشرك الميت في الهدي والأضحية، أو في الأضحية، وإذا جاز أن يشرك الميت في الأضحية؛ فسواء استقلت الأضحية له أو أشرك معه الأحياء، فهذا يدل على الجواز، ولكننا نقول: لا ينبغي للأحياء أن يخصوا الأضحية بالميت، بل السنة أن يخصوا أنفسهم ويشركوا الأموات، لكن تخصيص الأموات هذا لا معنى له.

القسم الثاني من الإشراك: الإشراك في الملك، قلنا: القسم الأول في الثواب، وذكرنا الرد على تخصيص الأموات وغير ذلك.

القسم الثاني: الإشراك في الملك، الإشراك في الملك الحنابلة وأحد الوجهين عند الشافعية يمنعونها، ويقولون: لا يجوز أن يشترك شخصان في شراء أضحية لهما جميعاً، لا يجوز، وقالوا: لأن ذلك لم يفعل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ( ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ). القول الثاني وهو قول بعض الشافعية يدل على جوازه، حديث الأشم عن أبيه عن جده قال: ( كنا سابع سبعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: اشتركوا، فجاء كل واحد منا بدرهم، فاجتمعت لنا سبعة دراهم، فاشترينا شاة، فأخذ أحدنا بشيء منها، والآخر بيدها، والآخر برجلها، ثم ذبحناها )، قالوا: فهذا يدل على أنه لا بأس بجواز الإشراك في الأضحية، وهذا الحديث ضعيف، ولو صح فإنه ربما يقال: إن هذه الأضحية لا يلزم أن تكون شاة، ربما تكون بقرة؛ لأن الشاة لسنا بحاجة إلى أن يأتي سبعة فيمسكونها، هذا قول، لكني أقول: أن الأولى ألا يشرك اثنان في غنم، أما إذا كان إبلاً أو بقراً فلا بأس أن يشتركوا، لكن لو اشتركوا فإني أقول: الأولى تركها، ولكن لها حيلة شرعية؛ مثل الآن إخوة عندهم أم في بيت، فيقولون: والله ما عندنا خمسمائة ريال، هم خمسة، يقولون: ما عندنا خمسمائة ريال نذبح فيها أضحية، ونتمنى أن نذبح، فكيف الحيلة الشرعية؟ قلنا: الحيلة الشرعية أن يقدم كل واحد منكم مائة ريال، ثم هذه المائة ريال تملكونها أمكم، والأم تضحي بها وتقول: اللهم عني وعن أولادي وعن ذريتي، وهذا حسن، ولا أعلم أحداً قال بمنع ذلك، ولكن لو أنهم اثنان من الإخوة وليس عندهم أم أو غير ذلك فأرى أنهم يتقربون بها عن ميت، ويشركون أنفسهم فيها، أما أن يذبحوا عن أنفسهم فالمسألة كما ترى مسألة خلافية، وشيخنا محمد بن عثيمين يمنع من ذلك منعاً شديداً، وألف في ذلك رسالة، والعلم عند الله سبحانه وتعالى، وأما الترجيح فأرى أننا نأخذ بالمنع، لكن لو فعل أناس وانتهت المسألة، نقول: إن شاء الله يجزئهم.

الصفات غير المجزئة في الهدي والأضحية

الشيخ: المؤلف يقول: (ولا تجزئ العوراء البين عورها)، الآن دخل المؤلف فيما يجزئ وما لا يجزئ من الهدي والأضاحي والعقيقة، يقول: (ولا تجزئ العوراء البين عورها)، العوراء: هي المخسوفة العين، هذا معنى البين عورها، الذي خسفت عينها، في الهدي أو الأضحية. أما العمياء العمياء فلا يجوز؛ لأنه إذا منعت العوراء التي ترى في عين ولا ترى في عين أخرى فالعمياء من باب أولى، وهذه الأشياء الأربعة لا تجوز في الأضاحي إجماعاً من أهل العلم كما حكى ذلك ابن هبيرة لحديث البراء بن عازب قال: ( قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والكبيرة التي لا تنقي )، وهذا الحديث صحيح، رواه أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه بسند جيد أو صحيح.

المؤلف يقول: (العوراء البين عورها) العوراء هنا قلنا: أنها التي خسفت عينها، يقول: (ولا العجفاء التي لا تنقي) العجفاء هي الهزيلة التي لا مخ فيها، ومعنى (لا تنقي) لا تسمن، فهي ضعيفة هزيلة ليس فيها لحم، إنما جلد قد غطي بالعظام، فهذه عجفاء لا تنقي، فلا يجوز التضحية بها ولا تجزئ.

يقول المؤلف: (ولا العرجاء البين ضلعها)، العرجاء أي: كسيرة الرجل أو اليد، التي لا تستطيع مشياً مع الصحيحة، ولربما ذهب القطيع إلى المرعى ليأكل، وهي جالسة لا تستطيع أن تأكل، فهذا سوف يضر قطعاً بلحمها؛ فالعرجاء كسيرة اليد أو الرجل التي يشق عليها المشي، أما إذا كان عرجها يسيراً وهي تسرع في مشيها فهذا لا بأس به، ولهذا كان من بيانه بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام أن قال: ( البين عرجها )، وهذا من جوامع كلمه بأبي هو وأمي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

إذا ثبت أن العرجاء البين عرجها لا تجزئ فمقطوعة اليد أو الرجل من باب أولى، وهذا إجماع كما مر معنا أيضاً.

يقول المؤلف: (ولا المريضة البين مرضها)، المريضة يعني: التي أصابها الحمى، أو المرض الذي يسمونه الجرب أحياناً، البهيمة تصاب بالجرب، فهذا سوف يضر بلحمها، وإن شئت فقل: أو المرض الذي يضر بلحمها، مثل: المرض الذي انتشر قبل سنوات أو قبل سنة وغيره ما يسمى بحمى الوادي المتصدع، يعني: سوف يضر بالبهيمة، فهي مريضة مرضاً يضر، وكذلك أيضاً مرض جنون البقر، فهذه لا يجوز أن يضحى بها؛ لأنها سوف تضر بلحمها ضرراً بيناً، فهي أشد حرمة، وعدم إجزاء من المريضة لأن المريضة ربما تؤكل ولا تتضرر، فالطبخ ربما يزيل كثيراً من أمراضها، لكن مثل هذه مرضها بين.

يقول المؤلف: (ولا العضباء التي ذهب أكثر أذنها)، المؤلف لم يذكر الكبيرة التي لا تنقي، العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والكبيرة التي لا تنقي هي قوله: العجفاء، يع

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

المؤلف -أيها الإخوة- يقول: (باب الهدي والأضحية) أي: باب الهدي والأضحية وما يتبع ذلك من أحكام، والهدي: هو ما يهدى للحرم من نعم ونحوها، ومعنى نحوها، يعني: يجوز للإنسان أن يهدي للحرم؛ أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى عند بيت الله سبحانه وتعالى بالهدي أو بالطعام أو باللباس، أو نحو ذلك مما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، مما ينفع الفقراء الذين في الحرم، وسمي الهدي بهذا لأن المرء يهديه عند بيت الله سبحانه وتعالى، وقال بعضهم: يهديه إلى الله سبحانه وتعالى، ويهديه يعني: يقدمه تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإن ربك غني عن فعل عباده، لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، فالتقرب إلى الله بإراقة الدم من أعظم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى يوم النحر، وليعلم أن الذبائح التي هي قربة وعبادة يتقرب بها إلى الله هي ثلاثة:

الأولى: الهدي.

الثانية: الأضحية.

الثلاثة: العقيقة.

فأنت تذبحها مستعيناً بالله، تتقرب بها إلى الله، أما من ذبح للحم أو لبيته، فهو يذبحها مستعيناً بالله لله يقصد بذلك اللحم، يعني: يريد بها اللحم، لكن لا يسوغ له ولا يجوز أن يذبحها لأجل فلان، أو لأجل الولي، أو لأجل عظيم؛ فكل هذا من الشرك المعلوم من الدين بالضرورة؛ لقوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2].

قال ابن القيم رحمه الله: فلكل ملة صلاة ونسيكة، لا يقوم غيرهما مقامهما، ولهذا يقول ابن القيم : لو تصدق عن دم المتعة بأضعاف أضعاف ثمنها ما أجزأه ذلك باتفاق الفقهاء، فلو كان عليه دم متعة، يعني: الآن شخص متمتع بقي عليه هدي، قال: أنا والله كريم، الهدي بخمسمائة ريال، أو بثلاثمائة ريال، أنا سوف أتصدق بمليون ريال صدقة، وأطعم الحجيج، اللحم ربما يصعب عليهم أن يطبخوه، وأن يؤدموه، ولكني سوف أشتري هذه العربات، وهذه الشاحنات المليئة طعاماً وأتصدق بها بمليون ريال أفضل من خمسمائة ريال قيمة دم المتعة، قيل له: لو أهديت أكثر من مليونين ما قبل منك، لماذا؟ لأنها عبادة، وهي إراقة الدم، فلا يقوم غيرها مقامها.

وأما الأضحية بكسر الهمزة وضمها، تقول: إضحية، وتقول: أضحية، وتقول: ضحية، سميت بذلك؛ لأن الشاة تذبح ضحوة، أي: عند ارتفاع الشمس في يوم النحر، وأما في اصطلاح الفقهاء فإنهم يقولون: هو ما يذبح لله سبحانه وتعالى من بهيمة الأنعام، بسبب العيد، تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، ويعني بيوم العيد أيام الأضحى، وقد دل على مشروعية الهدي والأضحية الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم، والدليل من الكتاب على مشروعية الهدي والأضحية، قوله تعالى في سورة الكوثر: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، وقوله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ [الحج:36] الآية، وأما السنة فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى مائة من الإبل فنحر عليه الصلاة والسلام بيده ثلاثاً وستين، وأعطى علياً فنحر ما غبر ) يعني: نحر الباقي، هذا هو مشروعيتها في السنة، أما الإجماع فقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على مشروعية الهدي والأضحية.

الشيخ: المؤلف رحمه الله قال: (والهدي والأضحية سنة)، هذا هو قول جمهور الفقهاء؛ أن الهدي والأضحية سنة، وقول المؤلف: إدخال الهدي في ذلك محل تأمل، إدخال الهدي بحكم السنية محل تأمل؛ وذلك لأن أهل العلم لا يجعلون للهدي حكماً مستقلاً مطرداً، بل يقسمون؛ فيكون الهدي كما لا يخفى هو كل ما يهدى به إلى الله سبحانه وتعالى في الحرم أو عند الحرم، فهدي دم المتعة والقران هو هدي، ولكنه ليس بسنة، بل واجب، فينبغي أن يفصل، فيقال: هدي التمتع والقران هو هدي واجب؛ لقوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، فهذا أمر، وهذا خبر بمعنى الوجوب، وهو من أعظم الوجوب كما يقول بعض علماء الأصول.

وكذلك القران، فالقران داخل في التمتع؛ لأن القارن يأخذ عمرة وحجة في سفرة واحدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لـعائشة حينما كانت قارنة: ( طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يجزئ عن حجك وعمرتك جميعاً ).

القسم الثاني من الهدي: هو من لم يجب عليه الهدي، فيكون في حقه سنة، وهذا في حق المفرد وكل من تقرب إلى الله في بعث الهدي إلى البيت، فجائز أن يكون الإنسان من أهل الرياض مثلاً، أو من أهل الجزائر أو من أهل المغرب، أو من أهل الشرق والغرب وهو لا يستطيع أن يحج، فله أن يتقرب إلى الله بأن يهدي إلى الله سبحانه وتعالى في أي وقت شاء أن يتقرب إلى الله في الهدي، ولا يلزم أن يكون وقت الحج، فقد كان عليه الصلاة والسلام يبعث بالهدي في غير وقت الحج، كما صنع ذلك بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية.

الشيخ: أما الأضحية فالمؤلف يقول: سنة، وهذا هو قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة في المشهور عنهم جميعاً رحمة الله تعالى على الجميع، بل ذكر في جواهر الإكليل من كتب المالكية، قالوا: وإذا تركها أهل بلدك بالكلية قوتلوا عليها؛ لأنها من شعائر الإسلام.

والدليل على عدم وجوب الأضحية، وإنما هي سنة لا واجبة، قالوا: هو ما رواه الجماعة إلا البخاري ، من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أهل هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذن من شعره ولا من بشرته ولا من أظفاره شيئاً ) قالوا: وجه الدلالة أن الشارع فوض هذا الأمر لإرادة المرء، ولو كان واجباً لما جعل ذلك تحت إرادته، فالواجبات مناطها الكتاب والسنة، فكونه يقال: إذا أهل فأراد أحدكم أن يضحي دليل على عدم الوجوب، هكذا قالوا، وهذا الدليل قوي، لكن لو جاء حديث صحيح صريح يخالفه فنقول: نعمل بالمنطوق الصريح أولى من المنطوق غير الصريح، فهذه الآية أو هذا الحديث منطوق، ولكنه غير صريح، ونحن سوف نعرف إن شاء الله أنه لم يكن ثمة حديث صحيح منطوق صريح كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله.

الدليل الآخر على عدم الوجوب قالوا: وقد صح عن أبي بكر و عمر رضي الله عنهما أنهما لم يضحيان، قالوا: وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( فإنه من يطع أبا بكر و عمر يرشد ) كما في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة ، وقال: ( اقتدوا بالذين من بعدي ) كما رواه أهل السنن من حديث حذيفة ، بل قال ابن مسعود رضي الله عنه: إني لأدع الأضحية وإني لأيسركم، كراهية أن يعتقد الناس أنها حكم واجب، وهذا الحديث رواه البيهقي ، وذكر آثاراً عن ابن عباس وعن بلال ، وعن ابن عمر رحمة الله تعالى على الجميع، قالوا: فغالب الصحابة كانوا لا يضحون، بل أبو بكر و عمر كانا لا يضحيان.

القول الثاني في المسألة هو قول أبي حنيفة ، ورواية عند الإمام أحمد، وقول عند مالك ، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله، ونصره، قال: فإنها من أعظم شعائر الإسلام، وهي النسك العام في جميع الأمصار، وذكروا أدلة للوجوب؛ بأن قالوا: الآية دليل على وجوبها، ما هي الآية؟ قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، قالوا: أمر (فصل لربك وانحر) والأصل في الأوامر الوجوب، طيب! هل أحدكم على عجل يستطيع أن يرد على القائلين بالوجوب؟ اتفضل يا شيخ فهد !

مداخلة: نقول: الصارف له من الوجوب إلى الاستحباب قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ( فإذا أراد أحدكم أن يضحي ).

الشيخ: هذا جميل، هذا الصارف دليل على أنه ليس واجباً، ونستطيع أن نرد بدليل آخر فنقول: إن هذه الآية ليست صريحة في الوجوب، لأن هذه الآية ليست أمراً بالنحر؛ إنما هو أمر بأن يتقرب إلى الله بالنحر لله سبحانه وتعالى.

فهو أمر متعلق بالتقرب؛ لأن الله يأمرك أن تتقرب إليه بالصلاة والنحر، (فصل لربك) يعني: اجعل عبادتك لوجه الله سبحانه وتعالى في صلاتك وفي نحرك، وهذا دليل على أنه لا يجوز صرف النحر لغير الله سبحانه وتعالى، وأن ذلك من الشرك، فدل ذلك على أن الآية ليست دليلاً على الوجوب.

الدليل الآخر: ما رواه الترمذي والإمام أحمد رحمه الله وغيرهم من حديث عبد الله بن عياش عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا )، هذا الحديث لو صح لكان في محل النزاع، واستدلالاً من أقوى الأدلة، لكنه ضعيف، حيث أن في سنده عبد الله بن عياش ، وقال أبو حاتم: ليس بالمتين، وضعفه أبو داود و النسائي رحمهم الله جميعاً، ولا يصح في الباب في وجوب الأضحية حديث صحيح صريح، وعلى هذا فلا داعي لذكر الأدلة أكثر من هذا.

الشيخ: المؤلف يقول: (لا تجب إلا بالنذر)، هذا جيد، لكننا نقول: لا تجب الأضحية إلا بالنذر أو بالتعيين، فلو عينها فقال: هذه أضحية، فإنه يجب عليه أن يضحيها، ولا يجوز له أن يتركها، لكنه لو اشتراها: ذهب إلى سوق الأغنام ليلة العيد، أو يوم التاسع من عرفة، واشتراها ناوياً أنها أضحية، فإن الجمهور يقول: لا تتعين إلا بالتعيين أو بالذبح، أما أن يشتريها فإنها لا تتعين، وعلى هذا نقول: لا تجب إلا بالنذر أو بالتعيين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
عمدة الفقه - كتاب الحج [3] 2652 استماع
عمدة الفقه - كتاب البيع [1] 2536 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحج [1] 2451 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحج [17] 2398 استماع
عمدة الفقه - كتاب النكاح [4] 2317 استماع
عمدة الفقه - كتاب النكاح [16] 2171 استماع
عمدة الفقه - كتاب النكاح [5] 2168 استماع
عمدة الفقه - كتاب البيع [4] 2130 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحج [2] 2112 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحج [21] 2109 استماع