عمدة الفقه - كتاب النكاح [4]


الحلقة مفرغة

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها المشاهدون الكرام متابعي قناة المجد العلمية، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم إلى هذا الدرس المبارك، ضمن دروس الأكاديمية، حيث يسرنا في بدئه أن نرحب بصاحب الفضيلة الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي ، وكيل المعهد العالي للقضاء لشئون الدورات والتدريب بالمملكة العربية السعودية، فأهلاً ومرحباً بكم.

الشيخ: حياكم الله وبالإخوة المستمعين والمستمعات والحاضرين.

المقدم: ترحبينا موصول بكم أيها الأحبة، ونسعد بتواصلكم عبر أرقام الهواتف التي ستظهر أمامكم على الشاشة من خلال تلقي أسألتكم الهاتفية.

أيضاً نسعد كثيراً بتواصلكم من خلال الإجابات على الأسئلة التي يطرحها الشيخ في نهاية كل درس، وأيضاً الأسئلة العامة على الدروس عبر موقع الأكاديمية على الشبكة العالمية (الإنترنت).

نرحب بكم مرة أخرى فأهلاً بالجميع!

شيخ عبد الله ! كنا قد طرحنا في اللقاء الماضي في نهاية الدرس سؤالاً عن حكم تزويج الأب ابنته البكر البالغ من غير رضاها، وذكر القول الراجح مع الدليل في هذه المسألة!

وقد ورد للبريد الإلكتروني للبرنامج مجموعة كبيرة من الإجابات، من ضمنها إجابة الأخت خديجة من المغرب تقول فيها:

لا يجوز للأب تزويج ابنته البالغة من دون رضاها، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تنكح البكر حتى تستأذن، قيل: يا رسول! فكيف إذنها؟ قال: أن تسكت )، أخرجه البخاري ، وهذا هو القول الراجح، وذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله.

الشيخ: نعم، وهذا مذهب الإمام أحمد ، واختيار أبي العباس بن تيمية ، والحديث متفق عليه، وليس رواه البخاري فقط.

المقدم: ومن الإجابات التي أتت إجابة نبيل إبراهيم السيد حجازي من السعودية، وأيضاً رجح في المسألة، وفصل الخلاف.

الشيخ: لا نريد التفصيل.

المقدم: نعم، الأخت شموخ من مصر أيضاً بعثت بإجابة، الأخت مريم من السعودية، الأخ مصعب من المغرب، نشكر هؤلاء الإخوة الذين بعثوا بالإجابات.

طلحة من السعودية، ومن المغرب الأخت السعدية أم عبد الرحمن .

ومن الإجابات خلود من السعودية، وغيرهم من الإخوة نشكرهم جميعاً على هذا التواصل الطيب مع الأسئلة التي تطرح، وأيضاً نترك المجال لكم يا شيخ لإكمال الشرح الذي بدأ بالأمس.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وبعد:

أحبتي الكرام! ذكرنا كلام المؤلف في مسألة تزويج الأب أبناءه الصغار، والأبناء الكبار، وتزويج الأب بناته، وقسمنا تزويج الأب للبنات إلى ما دون التسع وما فوق التسع ودون البلوغ، وما بعد البلوغ، وكان ذلك في البكر، ونسينا أن نذكر الثيب:

أما الثيب فإن عامة أهل العلم -وقد نقل إجماعاً- على أنه لا يجوز لوليها سواء كان أباً أم غيره أن يزوج الثيب حتى يستأذنها ويستأمرها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تنكح الثيب حتى تستأمر )، وهذا الحديث واضح فيه.

الحنابلة قالوا: (ويستحب استئذان البالغة)، وعندهم أن البالغة يجوز لأبيها أن يزوجها من غير رضاها حتى لو كانت بالغة، وقلنا الراجح أنه لا يجوز لوليها ولو كان أباً أن يزوجها إلا برضاها إذا كانت فوق التسع، وأيضاً البالغة، وعلى هذا فنقول: إن القول الراجح أنه يجب استئذانها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تنكح البكر حتى تستأذن )، قلنا: هذا خبر بمعنى الأمر.

أما سائر الأولياء غير الأب فقد قلنا: إنه لا يجوز لغير الأب أن يزوج البنت الصغيرة سواء كان وصياً أو جداً أو أخاً، ولا البالغات إلا بعد إذنهن، وعلى هذا فلو زوج الأخ أخته دون التسع فلا يصح النكاح؛ لأنه يشترط في النكاح الرضا.

ما يقع به استئذان الثيب

الشيخ: يقول: (وإذن الثيب الكلام)، الثيب بسبب أنها عرفت الرجل، فتكون جريئة لبيان وإظهار شعورها وعاطفتها، ولا تجد غضاضة بذلك؛ بسبب أن الدربة والخلطة تجرئها لمثل ذلك؛ ولهذا توجد قاعدة فقهية: إذا أمكن التصريح فلا يعول على الكناية.

ولذا اختلف الفقهاء: هل لحركة الناطق حكم حركة الأخرس أم لا؟ نقول: الأقرب أنه لا تعتبر إلا إذا احتفت بها القرائن القوية، أما مع الاحتمال فإذا حصل الاحتمال بطل الاستدلال.

وعلى هذا فالثيب لابد من صراحتها، والثيب هي المرأة التي دخل عليها زوج بنكاح صحيح، هذه الثيب لا بد أن تستأمر، يقال: فلان خطبك، فإذنها أن تقول: أريده أو لا أريده، أما البكر فلربما يكون حياؤها مانعاً من تصريحها بذلك، فإن جمهور الفقهاء قالوا: إنها إذا قيل لها: فلان خطبك، فإنها إن سكتت أو بكت، كعادة بعض البنات، فإن هذا إذن، إلا إذا كان بكاؤها بمعنى السخط وعدم الرضا، وإن كان قصد الرحمة بفراقها لوالديها، فهذا لا حرج فيه إن شاء الله، ويعلم ذلك بعد انتهاء البكاء، فيعرف أثر ذلك.

إذا علم هذا فإن إذن البكر هو أن تسكت، لكن لو أنها قالت: لا أريده، أو أريده مثل ما يوجد الآن، حيث أصبحت البنت الآن لا تجد غضاضة بسبب كثرة الخلطة وسماع الناس مثل هذا الحديث، وربما تكون وسائل الإعلام، أو حديث الناس في البيوت، ربما يجرئ البنت على مثل هذا، فربما خاطبت أباها، أو خاطبت أمها، أو خاطبت أخاها ما لا تخاطبه في أقاربها الآخرين، وحينئذ نقول: إنها لو صرحت بالرضا فإن جمهور الفقهاء قالوا: لا بأس بذلك؛ لأن الصراحة أولى من الكناية، خلافاً لـابن حزم .

فـابن حزم قال: لو قيل لها: فلان خطبك فقالت: أريده، قال: نعيد عليها السؤال، فنقول: فلان خطبك، فإن قالت: أريده، أعدنا عليها السؤال حتى تسكت، وهذا من الجمود الذي ذهب إليه ابن حزم في ظاهريته غفر الله لنا وله.

وبالمناسبة لابد أن ننصر ابن حزم ، فـابن حزم من أذكياء العالم، قال ابن تيمية رحمه الله: وابن حزم ربما يأتي بأشياء يتعجب لها، كما أنه يأتي بأشياء يتعجب منها.

الشيخ: يقول: (وإذن الثيب الكلام)، الثيب بسبب أنها عرفت الرجل، فتكون جريئة لبيان وإظهار شعورها وعاطفتها، ولا تجد غضاضة بذلك؛ بسبب أن الدربة والخلطة تجرئها لمثل ذلك؛ ولهذا توجد قاعدة فقهية: إذا أمكن التصريح فلا يعول على الكناية.

ولذا اختلف الفقهاء: هل لحركة الناطق حكم حركة الأخرس أم لا؟ نقول: الأقرب أنه لا تعتبر إلا إذا احتفت بها القرائن القوية، أما مع الاحتمال فإذا حصل الاحتمال بطل الاستدلال.

وعلى هذا فالثيب لابد من صراحتها، والثيب هي المرأة التي دخل عليها زوج بنكاح صحيح، هذه الثيب لا بد أن تستأمر، يقال: فلان خطبك، فإذنها أن تقول: أريده أو لا أريده، أما البكر فلربما يكون حياؤها مانعاً من تصريحها بذلك، فإن جمهور الفقهاء قالوا: إنها إذا قيل لها: فلان خطبك، فإنها إن سكتت أو بكت، كعادة بعض البنات، فإن هذا إذن، إلا إذا كان بكاؤها بمعنى السخط وعدم الرضا، وإن كان قصد الرحمة بفراقها لوالديها، فهذا لا حرج فيه إن شاء الله، ويعلم ذلك بعد انتهاء البكاء، فيعرف أثر ذلك.

إذا علم هذا فإن إذن البكر هو أن تسكت، لكن لو أنها قالت: لا أريده، أو أريده مثل ما يوجد الآن، حيث أصبحت البنت الآن لا تجد غضاضة بسبب كثرة الخلطة وسماع الناس مثل هذا الحديث، وربما تكون وسائل الإعلام، أو حديث الناس في البيوت، ربما يجرئ البنت على مثل هذا، فربما خاطبت أباها، أو خاطبت أمها، أو خاطبت أخاها ما لا تخاطبه في أقاربها الآخرين، وحينئذ نقول: إنها لو صرحت بالرضا فإن جمهور الفقهاء قالوا: لا بأس بذلك؛ لأن الصراحة أولى من الكناية، خلافاً لـابن حزم .

فـابن حزم قال: لو قيل لها: فلان خطبك فقالت: أريده، قال: نعيد عليها السؤال، فنقول: فلان خطبك، فإن قالت: أريده، أعدنا عليها السؤال حتى تسكت، وهذا من الجمود الذي ذهب إليه ابن حزم في ظاهريته غفر الله لنا وله.

وبالمناسبة لابد أن ننصر ابن حزم ، فـابن حزم من أذكياء العالم، قال ابن تيمية رحمه الله: وابن حزم ربما يأتي بأشياء يتعجب لها، كما أنه يأتي بأشياء يتعجب منها.

الشيخ: إذا ثبت هذا فإن المؤلف شرع في مسألة أخرى، نص على أنها غير داخلة في شروط النكاح، وهي مسألة الكفاءة كما سوف يقرؤها علينا الشيخ ياسر ، تفضل يا شيخ ياسر .

المقدم: قال المصنف رحمه الله: [ وليس لولي امرأة تزويجها بغير كفئها بغير رضاها، والعرب بعضهم لبعض أكفاء، وليس العبد كفؤ الحرة ولا الفاجر كفؤ العفيفة، ومن أراد أن ينكح امرأة هو وليها فله أن يتزوجها من نفسه بإذنها، وإن زوج أمته عبده الصغير، فله أن يتولى طرفي العقد، وإن قال لأمته: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك بحضرة شاهدين، ثبت العتق والنكاح؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها ].

خصال الكفاءة عند الحنابلة

الشيخ: شرع المؤلف في مسألة الكفاءة، وبين رحمه الله أن الكفاءة ليست شرطاً للصحة، وإن كانت شرطاً للزوم العقد عند الحنابلة.

والكفاءة معناها: المساواة، بأن تكون الزوجة مساوية أو كفؤة للزوج، والكفاءة هنا اختلف العلماء في معناها على ثلاثة أقوال:

فالحنابلة يشترط عندهم الكفاءة في الدين، فلا تزوج عفيفة بزان أو فاجر، كما قال تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3]، فلا تزوج عفيفة بفاجر، ومثله إذا كان الرجل يتعاطى المخدرات ويتاجر فيها، فإن المتاجرة بالمخدرات ضرره على الزوجة وعلى الأولاد أعظم من ضرر عدم أداء بعض الواجبات المتعلقة بالله، فلها أن تطلب الفسخ، ولا حق للزوج أن يمتنع من الخلع؛ لأنه قد غرر بها ولم يخبرها بذلك، هذا نوع من أنواع الكفاءة، وهو كفاءة الدين.

الثاني: كفاءة المنصب، والمنصب يقصد به الفقهاء النسب، فلا يزوج حر بأمة، والمقصود بالأمة هي التي لم تعتق بعد.

الثالث: اليسار، فلا تزوج امرأة غنية برجل فقير إلا بإذنها.

الرابع: الصنعة، ومعنى الصنعة: أن تكون وظيفته هو ليست وظيفة أتباعه.

الخامس: الحرية.

الكفاءة عند المالكية وغيرهم

الشيخ: وذهب مالك رحمه الله وهو قول عند الشافعي إلى أن الكفاءة إنما هي كفاءة الدين، قال ابن عبد البر : وجملة قول مالك وأصحابه على أن الكفاءة هنا إنما هي كفاءة الدين؛ لقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ولقوله تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18].

أما الأحاديث التي يشترط فيها الكفاءة فعامتها موضوعة، من ذلك ما ذكره المؤلف: ( لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء )، ضعيف بمرة، بل هو إلى الوضع أقرب، فقد رواه البيهقي من طريق مبشر بن عبيد عن الحجاج بن أرطأة عن عطاء و عمرو بن دينار عن جابر ، وأحاديثه موضوعة، فإن الحجاج ضعيف، فهذا ضعيف بمرة.

الثاني الذي استدل به العلماء هو: قول عمر بن الخطاب كما عند الدارقطني و البيهقي و الحاكم من طريق إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمر أنه قال: لأمنعن فروج ذوات الأحساب من النساء إلا من الأكفاء، وهذا منقطع ولا يصح، فإن إبراهيم بن محمد بن طلحة تنقطع فيه أعناق الإبل.

فلا يصح في مسألة النسب حديث، ولهذا ذهب المالكية و أحمد في رواية اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله إلى أنه لا بأس إذا كان الرجل كفؤاً للمرأة في الدين والخلق أن يزوج، ولا حق للأولياء في الفسخ، واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم زوج زينب بنت جحش القرشية زيد بن حارثة الذي كان مولى، ومعلوم أن قريشاً هم أعلى نسباً من غيرهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( واصطفى قريشاً من كنانة ).

فهذا دليل، والدليل الثاني أن بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أخت عبد الرحمن بن عوف .

وقد تزوجت فاطمة بنت قيس القرشية أسامة بن زيد بن حارثة .

الكفاءة ولزوم العقد

الشيخ: وعلى هذا فالكفاءة ليست شرطاً، وهل الكفاءة شرط في لزوم العقد؟

ذهب عامة الفقهاء ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية وهو اختيار أبي العباس بن تيمية إلى أن الولي إذا زوج ابنته ممن ترضاه وكان ذا خلق ودين، فإنه ليس للأولياء الذين بعده طلب الفسخ، واستدلوا على ذلك بأن قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم زوج زينب بنت جحش زيد بن حارثة ، وزوج فاطمة بنت قيس أسامة ، ولو كان للأولياء حق لاستؤذنوا؛ فلما لم يستأذنوا دل على أن ليس لهم حق؛ لأننا نقول: ما ترتب على المأذون فيه فليس فيه ضمان.

ومعنى النسب عند الحنابلة والمالكية والشافعية والحنفية التفريق بين العجمة والعروبة، بأن العربي كفؤ للعربي أياً كانت بيئته، وأياً كانت قبيلته، وأما الأعجمي فإنه على كلام الحنابلة ليس كفؤاً للعربي، ولهذا قالوا: (والعرب بعضهم لبعض أكفاء)، فإن المقداد بن الأسود الكندي تزوج من قرشية، تزوج ضباعة بنت الزبير وهي قرشية، فهذا يدل على أنه لا بأس بأن تتزوج عربية غير عربي.

وأما قول المؤلف: (والعرب بعضهم لبعض أكفاء)، هذا أصله حديث، أخرجه البزار من حديث معاذ بن جبل ، وأخرجه البيهقي من حديث ابن عمر نحوه، وهذا الحديث ضعيف بمرة، كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.

إذا ثبت هذا فإن أبا العباس ابن تيمية رحمه الله قال كلاماً متيناً في هذا، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علق الأحكام بالصفات المؤثرة، ولم يخص العرب بنوع من الأحكام، إذ كانت دعوته للبرية جميعاً، وعلى هذا وهذا هو الأقرب والله أعلم أن العرب وغيرهم سواء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ).

الحنابلة هنا عندما قالوا: العرب بعضهم لبعض أكفاء؛ حتى أن الحنابلة يرون أن من يباع ثم يعتق لا بأس بزواجه؛ لأنه عربي، فالعرب أكفاء لبعض.

الحرية في الكفاءة

الشيخ: ثم قال المؤلف رحمه الله: (وليس العبد كفؤ الحرة).

أي: العبد وهو الذي بقي عليه الرق ليس كفؤ الحرة، وهذا قول عامة الفقهاء.

ودليل ذلك ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لـبريرة الخيار حينما عتقت وكان مغيث زوجها ما زال على الرق، فكان مغيث يحبها، فكان إذا خرجت إلى السوق يلحقها ويرغبها في بقائها فترفض، فجاء مغيث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تدمعان فقال: يا رسول الله! إن بريرة لم تردني، فهلا كنت شافعاً، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا بريرة لعلك تبقين مع مغيث . قالت: أتأمرني يا رسول الله! قال: لا، إنما أنا شافع، قالت: فلا حاجة لي به، فكان مغيث يلحقها ويبكي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للعباس بن عبد المطلب : يا عباس ! ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن كره بريرة لـمغيثاً )، وهذا أدب نبوي ورقة وحنان، وعطف ووئام من محمد صلى الله عليه وسلم، إذ إنه عليه الصلاة والسلام أبقى مشاعر الزوج مع زوجته، ولم يقل له: إياك أن تأتي إليها في السوق.

بل جعل الأمور تجري على ما يريده الزوجان!

وبقاء العشرة الزوجية والأسرة المسلمة مطلب شرعي لا يجوز ولا ينبغي الاستهانة به لأغراض وأهواء ومطامع دنيوية، فليس للأولياء حق في خفر وفي نقض وقطع هذه الصلة التي بين الزوجين إذا ثبت أنهما على هدى ونور واستقامة.

الكفاءة في الدين

الشيخ: يقول المؤلف: (ولا الفاجر كفؤ العفيفة)؛ لقوله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور:26]، وقوله: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3]، وقوله تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18].

المقدم: دكتور عبد الله عفواً، قضية الكفاءة بالنسب، الآن توجد قضية العادة أو العرف، هل يحكم يا شيخ؟!

الشيخ: مسألة العادة والعرف الذي يفعل الآن عندنا مصطلح عرفي لا علاقة له بكلام الحنابلة ولا بكلام المالكية ولا بكلام الشافعية؛ لأن الحنابلة يقولون: الرق، هو الرجل العتيق الذي كان أعجمياً، أما الآن الوضع الحالي الذي يوجد في بعض البلاد وبعض الجهات؛ هذا لأن جده أو غيره تبنى حرفة معينة كانت تزدرى، مثل الصناع وغير ذلك، فاستمر على ذلك، لكن يعلم أنه كان له نسبه وله أصله، فهذا نشأ الناس عليه فلا يزوجونه، لا يمكن أن يستدل بهذه الحالة على كلام الحنابلة؛ لأن الحنابلة قالوا: والعرب بعضهم لبعض أكفاء، فهذا كفؤ لعربي لأنه عربي، فلا يسوغ أن يقال: هذا من قبيلة فلان وليس كفؤاً لقبيلة بني فلان، إنما اختلف العلماء في مسألة واحدة، وهي: هل القرشي كفؤ لغير القرشي؟ والراجح أنهما سواء، وأما العرب فهم أكفاء، ثم إن مسألة الكفاءة إنما هي كفاءة الدين والحرية على الراجح.

حكم زواج الحر من الأمة

المقدم: جيد، زواج الرجل من الأمة؟

الشيخ: زواج الرجل من الأمة لم نذكرها؛ لأنه لم يتحدث عنها المؤلف، فنقول: زواج الحر من الأمة لا يجوز إلا بشروطه التي في آية: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ [النساء:25]، فشروطه: هي ثلاثة شروط: الشروط الأول: أن ليس عنده مهر للحرة، والثالث: ألا يستطيع الصبر عليهن.

الشيخ: شرع المؤلف في مسألة الكفاءة، وبين رحمه الله أن الكفاءة ليست شرطاً للصحة، وإن كانت شرطاً للزوم العقد عند الحنابلة.

والكفاءة معناها: المساواة، بأن تكون الزوجة مساوية أو كفؤة للزوج، والكفاءة هنا اختلف العلماء في معناها على ثلاثة أقوال:

فالحنابلة يشترط عندهم الكفاءة في الدين، فلا تزوج عفيفة بزان أو فاجر، كما قال تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3]، فلا تزوج عفيفة بفاجر، ومثله إذا كان الرجل يتعاطى المخدرات ويتاجر فيها، فإن المتاجرة بالمخدرات ضرره على الزوجة وعلى الأولاد أعظم من ضرر عدم أداء بعض الواجبات المتعلقة بالله، فلها أن تطلب الفسخ، ولا حق للزوج أن يمتنع من الخلع؛ لأنه قد غرر بها ولم يخبرها بذلك، هذا نوع من أنواع الكفاءة، وهو كفاءة الدين.

الثاني: كفاءة المنصب، والمنصب يقصد به الفقهاء النسب، فلا يزوج حر بأمة، والمقصود بالأمة هي التي لم تعتق بعد.

الثالث: اليسار، فلا تزوج امرأة غنية برجل فقير إلا بإذنها.

الرابع: الصنعة، ومعنى الصنعة: أن تكون وظيفته هو ليست وظيفة أتباعه.

الخامس: الحرية.

الشيخ: وذهب مالك رحمه الله وهو قول عند الشافعي إلى أن الكفاءة إنما هي كفاءة الدين، قال ابن عبد البر : وجملة قول مالك وأصحابه على أن الكفاءة هنا إنما هي كفاءة الدين؛ لقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ولقوله تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18].

أما الأحاديث التي يشترط فيها الكفاءة فعامتها موضوعة، من ذلك ما ذكره المؤلف: ( لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء )، ضعيف بمرة، بل هو إلى الوضع أقرب، فقد رواه البيهقي من طريق مبشر بن عبيد عن الحجاج بن أرطأة عن عطاء و عمرو بن دينار عن جابر ، وأحاديثه موضوعة، فإن الحجاج ضعيف، فهذا ضعيف بمرة.

الثاني الذي استدل به العلماء هو: قول عمر بن الخطاب كما عند الدارقطني و البيهقي و الحاكم من طريق إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمر أنه قال: لأمنعن فروج ذوات الأحساب من النساء إلا من الأكفاء، وهذا منقطع ولا يصح، فإن إبراهيم بن محمد بن طلحة تنقطع فيه أعناق الإبل.

فلا يصح في مسألة النسب حديث، ولهذا ذهب المالكية و أحمد في رواية اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله إلى أنه لا بأس إذا كان الرجل كفؤاً للمرأة في الدين والخلق أن يزوج، ولا حق للأولياء في الفسخ، واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم زوج زينب بنت جحش القرشية زيد بن حارثة الذي كان مولى، ومعلوم أن قريشاً هم أعلى نسباً من غيرهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( واصطفى قريشاً من كنانة ).

فهذا دليل، والدليل الثاني أن بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أخت عبد الرحمن بن عوف .

وقد تزوجت فاطمة بنت قيس القرشية أسامة بن زيد بن حارثة .

الشيخ: وعلى هذا فالكفاءة ليست شرطاً، وهل الكفاءة شرط في لزوم العقد؟

ذهب عامة الفقهاء ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية وهو اختيار أبي العباس بن تيمية إلى أن الولي إذا زوج ابنته ممن ترضاه وكان ذا خلق ودين، فإنه ليس للأولياء الذين بعده طلب الفسخ، واستدلوا على ذلك بأن قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم زوج زينب بنت جحش زيد بن حارثة ، وزوج فاطمة بنت قيس أسامة ، ولو كان للأولياء حق لاستؤذنوا؛ فلما لم يستأذنوا دل على أن ليس لهم حق؛ لأننا نقول: ما ترتب على المأذون فيه فليس فيه ضمان.

ومعنى النسب عند الحنابلة والمالكية والشافعية والحنفية التفريق بين العجمة والعروبة، بأن العربي كفؤ للعربي أياً كانت بيئته، وأياً كانت قبيلته، وأما الأعجمي فإنه على كلام الحنابلة ليس كفؤاً للعربي، ولهذا قالوا: (والعرب بعضهم لبعض أكفاء)، فإن المقداد بن الأسود الكندي تزوج من قرشية، تزوج ضباعة بنت الزبير وهي قرشية، فهذا يدل على أنه لا بأس بأن تتزوج عربية غير عربي.

وأما قول المؤلف: (والعرب بعضهم لبعض أكفاء)، هذا أصله حديث، أخرجه البزار من حديث معاذ بن جبل ، وأخرجه البيهقي من حديث ابن عمر نحوه، وهذا الحديث ضعيف بمرة، كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.

إذا ثبت هذا فإن أبا العباس ابن تيمية رحمه الله قال كلاماً متيناً في هذا، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علق الأحكام بالصفات المؤثرة، ولم يخص العرب بنوع من الأحكام، إذ كانت دعوته للبرية جميعاً، وعلى هذا وهذا هو الأقرب والله أعلم أن العرب وغيرهم سواء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ).

الحنابلة هنا عندما قالوا: العرب بعضهم لبعض أكفاء؛ حتى أن الحنابلة يرون أن من يباع ثم يعتق لا بأس بزواجه؛ لأنه عربي، فالعرب أكفاء لبعض.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
عمدة الفقه - كتاب الحج [3] 2651 استماع
عمدة الفقه - كتاب البيع [1] 2532 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحج [1] 2450 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحج [17] 2396 استماع
عمدة الفقه - كتاب النكاح [16] 2168 استماع
عمدة الفقه - كتاب النكاح [5] 2166 استماع
عمدة الفقه - كتاب البيع [4] 2127 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحج [2] 2110 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحج [21] 2106 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحدود [7] 2014 استماع