تفسير سورة الكهف - الآيات [51-59]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقناً عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

يقول تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً * وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ قُبُلاً * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً [الكهف:51-59].

توقف بنا الكلام في الدرس الذي مضى عند قول ربنا تبارك وتعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50]، وتبين لنا أن هذا الأمر الإلهي كان قبل خلق آدم، بدليل قوله سبحانه في سورة الحجر: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:28]، وقوله في سورة ص: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:71-72].

وتبين لنا أن الملائكة عليهم السلام قد سجدوا كلهم أجمعون، ما تخلف عن السجود واحد منهم.

وتبين لنا من هذه الآية أن إبليس لعنه الله ما كان من الملائكة طرفة عين، بل هو من الجن بمنطوق هذه الآية، وذكرنا ما قاله بعض المفسرين، كما أن آدم أبو الإنس، فكذلك إبليس هو أبو الجن.

وتبين لنا أن إبليس لعنه الله قد امتنع من السجود لآدم لعلة الكبر حين قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، وكما قال أهل التفسير: قياس إبليس فاسد من وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: أنه في مقابل النص، فالله عز وجل قال: (اسجدوا)، وكان واجباً عليه أن يسجد من غير نقاش.

الوجه الثاني: ألا نسلم أن النار خير من الطين، بل نقول: الطين خير من النار؛ لأن النار يكون منها فساد وإحراق وإتلاف، أما الطين فإنه تخرج منه الثمار الناضرة، والحدائق البهيجة، وغير ذلك من المنافع.

الوجه الثالث: يقال لإبليس: لو سلمنا أن النار خير من الطين، فلا نسلم بأنك خير من آدم؛ لأن شرف الأصل لا يستلزم شرف الفرع، كما قال القائل:

إذا افتخرت بآباء لهم شرف قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا

قال الله عز وجل منكراً على الكفار والمشركين: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف:50]، أي: وهم لكم أعداء، كيف توالون إبليس وتطيعون أوامره، وتنفذون رغباته، وتسلكون طريقه مع أنه عدو لكم، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:6]، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [الكهف:50]، من استبدل بولاية الله عز وجل ولاية إبليس فهي صفقة خاسرة، وتجارة كاسدة.

يقول الله عز وجل: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:51]، وفي قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع رحمه الله: (ما أشهدناهم) بضمير العظمة، وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]، والتاء تاء المتكلم جل جلاله، وفي قراءة أبي جعفر : (وما كنتَ) بتاء الخطاب، والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كنت يا محمد متخذ المضلين عضداً.

مرجع الضمير في قوله: (ما أشهدتهم)

يقول الله عز وجل: مَا أَشْهَدْتُهُمْ [الكهف:51]، (ما) نافية، (أشهدتهم) الإشهاد جعل الغير شاهداً أي: حاضراً، (ما أشهدتهم) أي: ما أحضرتهم، والضمير يرجع إلى إبليس وذريته، وقيل: بل يرجع إلى المشركين، فقوله: (ما أشهدتهم) أي: ما أشهدت إبليس وذريته، ولا أشهدت المشركين (خلق السموات والأرض)، ولا كانوا حضوراً حال خلقهما، (ولا خلق أنفسهم)، أي: ما أشهدت إبليس وذريته خلق أنفسهم، ولا أشهدت المشركين خلق أنفسهم.

غنى الله عن المعاون والمساند

ثم يتكلم الله عز وجل عن نفسه: وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]، (المضلين) جمع مضل، اسم فاعل من الإضلال؛ إلقاء الخواطر الرديئة وأسباب الفساد، قيل: المضلون في الآية هم الشياطين، بدليل قوله سبحانه: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، وقيل: بل المراد الكفار، وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ أي: الشياطين، ولا الكافرين عَضُداً والعضد هو: العظم الذي بين المرفق والكتف، هذه المنطقة تسمى عضداً، وتطلق مجازاً على المعين، يقال: فلان عضدي، أي: معيني ومساعدي، واعتضدت بفلان أي: استعنت به.

إنكار الله تعالى على المشركين اتخاذ الشياطين أولياء من دون الله

يخاطب الله عز وجل في هذه الآية المشركين الذين كانوا يتخذون الشيطان ولياً من دون الله، وكانوا يستعيذون به، كما قال الله عز وجل: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6]، كان الواحد من المشركين إذا نزل وادياً وخاف من شيء قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه، يستعيذ بالشيطان، فيقول الله لهم: هؤلاء الشياطين الذين تستعيذون بهم، وتنفذون أوامرهم، وتسلكون سبيلهم، ما أشهدتهم خلق السموات والأرض، أي: ما كانوا شاهدين، ولا اعتضدت بهم، ولا أعانوني كما قال الله عز وجل: قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22]، إذا كان هؤلاء الشياطين لم يشهدوا خلق السموات والأرض، ولم يشهدوا خلق أنفسهم، فما بقي معنى لاتخاذهم أولياءً من دون الله، ودائماً يتكرر في القرآن الاستدلال بالخلق على وجوب إفراد الخالق جل جلاله بالعبادة والولاية، يقول الله عز وجل: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17]، هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11]، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الروم:40]، أي: هؤلاء الذين تتخذونهم شركاء لا يخلقون، ولا يرزقون، ولا يميتون، ولا يحيون.. ولا يفعلون شيئاً من ذلك، كما قال الله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف:4]، وقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً [فاطر:40].

فهؤلاء ما شهدوا خلق السموات والأرض، ولا خلق أنفسهم، فما ينبغي لكم أن تتخذوهم أولياء من دون الله؛ لأنهم عبيد مربوبون مقهورون، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.

وهذه الآية تنطبق على كل معبود من دون الله، من عبد صنماً، ومن عبد شجراً، ومن عبد بشراً، نجيبه بهذه الآية: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51].

يقول الله عز وجل: مَا أَشْهَدْتُهُمْ [الكهف:51]، (ما) نافية، (أشهدتهم) الإشهاد جعل الغير شاهداً أي: حاضراً، (ما أشهدتهم) أي: ما أحضرتهم، والضمير يرجع إلى إبليس وذريته، وقيل: بل يرجع إلى المشركين، فقوله: (ما أشهدتهم) أي: ما أشهدت إبليس وذريته، ولا أشهدت المشركين (خلق السموات والأرض)، ولا كانوا حضوراً حال خلقهما، (ولا خلق أنفسهم)، أي: ما أشهدت إبليس وذريته خلق أنفسهم، ولا أشهدت المشركين خلق أنفسهم.

ثم يتكلم الله عز وجل عن نفسه: وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]، (المضلين) جمع مضل، اسم فاعل من الإضلال؛ إلقاء الخواطر الرديئة وأسباب الفساد، قيل: المضلون في الآية هم الشياطين، بدليل قوله سبحانه: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، وقيل: بل المراد الكفار، وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ أي: الشياطين، ولا الكافرين عَضُداً والعضد هو: العظم الذي بين المرفق والكتف، هذه المنطقة تسمى عضداً، وتطلق مجازاً على المعين، يقال: فلان عضدي، أي: معيني ومساعدي، واعتضدت بفلان أي: استعنت به.

يخاطب الله عز وجل في هذه الآية المشركين الذين كانوا يتخذون الشيطان ولياً من دون الله، وكانوا يستعيذون به، كما قال الله عز وجل: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6]، كان الواحد من المشركين إذا نزل وادياً وخاف من شيء قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه، يستعيذ بالشيطان، فيقول الله لهم: هؤلاء الشياطين الذين تستعيذون بهم، وتنفذون أوامرهم، وتسلكون سبيلهم، ما أشهدتهم خلق السموات والأرض، أي: ما كانوا شاهدين، ولا اعتضدت بهم، ولا أعانوني كما قال الله عز وجل: قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22]، إذا كان هؤلاء الشياطين لم يشهدوا خلق السموات والأرض، ولم يشهدوا خلق أنفسهم، فما بقي معنى لاتخاذهم أولياءً من دون الله، ودائماً يتكرر في القرآن الاستدلال بالخلق على وجوب إفراد الخالق جل جلاله بالعبادة والولاية، يقول الله عز وجل: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17]، هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11]، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الروم:40]، أي: هؤلاء الذين تتخذونهم شركاء لا يخلقون، ولا يرزقون، ولا يميتون، ولا يحيون.. ولا يفعلون شيئاً من ذلك، كما قال الله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف:4]، وقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً [فاطر:40].

فهؤلاء ما شهدوا خلق السموات والأرض، ولا خلق أنفسهم، فما ينبغي لكم أن تتخذوهم أولياء من دون الله؛ لأنهم عبيد مربوبون مقهورون، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.

وهذه الآية تنطبق على كل معبود من دون الله، من عبد صنماً، ومن عبد شجراً، ومن عبد بشراً، نجيبه بهذه الآية: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51].

يقول الله عز وجل: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [الكهف:52]، (ويوم يقول) أي: يوم القيامة، وقرأ حمزة بن حبيب : (ويوم نقول) بنون العظمة لله جل جلاله، (ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم) أي: الذين زعمتم أنهم شركاء لي في تصريف هذا الكون، وفي القيام عليه فهم ينفعون بزعمكم ويضرون، ولهم تصرف في الكون بوجه من الوجوه، وزعمتم أنهم سيشفعون لكم عند الله عز وجل، نَادُوا شُرَكَائِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ، (نادوا) النداء طلب الإقبال للنصرة والمساعدة، قال الله عز وجل: فَدَعَوْهُمْ ، المشركون يوم القيامة ينادون شركاءهم: يا هبل! يا مناة! يا عزى! يا اللات! ينادون هؤلاء الشركاء، وكذلك من صرف شيئاً من العبادة لأحد سوى الله عز وجل سيناديه، من عبد نبياً، أو عبد ولياً، أو عبد شجراً، أو عبد حجراً سيناديه، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ، الاستجابة هي الكلام الدال على سماع النداء والإقبال بنحو قول من دعوته: لبيك، فإذا قال ذلك فقد أجابك (فلم يستجيبوا لهم)، كما قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13-14]، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5].

وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ، وقال في سورة القصص: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص:62]، أي: كنتم تزعمون أنهم شركاء لي، قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ * وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [القصص:63-64].

وقال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166]، يتبرءون منهم، ويقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23].

فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [الكهف:52]، قال الله عز وجل: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً [الكهف:52]، أي: جعلنا بين المشركين وشركائهم (موبقاً) أي: مهلكاً، أي: جعلنا بعضهم سبباً لهلاك بعض، كما قال الله عز وجل: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت:25]، وكما قال: وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39]، يلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض.

معنى قوله تعالى: (وجعلنا بينهم موبقاً)

قال الله عز وجل: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً [الكهف:52].

(موبقاً) من الوبوق، وهو الهلاك، ومنه سميت الذنوب الكبائر موبقات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اجتنبوا السبع الموبقات )، ومنه قول الله عز وجل: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا [الشورى:34]، (أو يوبقهن) أي: يهلكهن، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها )، أي: مهلكها، ومنه قول زهير :

ومن يشتري حسن الثناء بماله يصن عرضه عن كل شنعاء موبق

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً هي كما قال الله عز وجل: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41]، وكما قال: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16].

قال الله عز وجل: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً [الكهف:52].

(موبقاً) من الوبوق، وهو الهلاك، ومنه سميت الذنوب الكبائر موبقات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اجتنبوا السبع الموبقات )، ومنه قول الله عز وجل: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا [الشورى:34]، (أو يوبقهن) أي: يهلكهن، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها )، أي: مهلكها، ومنه قول زهير :

ومن يشتري حسن الثناء بماله يصن عرضه عن كل شنعاء موبق

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً هي كما قال الله عز وجل: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41]، وكما قال: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16].

قال الله عز وجل: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً [الكهف:53].

هذه الجمل معطوف بعضها على بعض، يعني قال الله عز وجل: وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]، ثم قال: وَيَوْمَ يَقُولُ [الكهف:52] أي: لهؤلاء المضلين نَادُوا شُرَكَائِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [الكهف:52]، كان يمكن أن يقال في غير القرآن: ورأوا النار، لكن عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر؛ لبيان العلة التي من أجلها دخلوا النار وهي الإجرام، (ورأى المجرمون) والمجرم اسم فاعل من الإجرام؛ وهي ارتكاب الجناية العظيمة التي تستلزم المؤاخذة، (ورأى المجرمون النار)، رأوا النار وليست الرؤية من جانبهم فقط، بل كذلك النار تراهم، قال الله عز وجل: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان:12-14]، وليس عجيباً على قدرة الله أن يجعل للنار عيناً تبصر، ولساناً يتكلم، وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يخرج من النار يوم القيامة عنق له عينان تبصران، ولسان يتكلم يقول: وكلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبمن جعل مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين ).

إطلاق الظن على اليقين والعكس في القرآن الكريم

وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [الكهف:53]، (فظنوا) والظن يأتي بمعنى إدراك الطرف الراجح، ويأتي بمعنى اليقين، وفي القرآن جاء إطلاق اليقين على الظن في قول الله عز وجل: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ [البقرة:45-46]، ومعنى يظنون يوقنون أنهم ملاقوا ربهم.

وكذلك العبد الصالح يوم القيامة بعدما أخذ كتابه بيمينه وفرح قال: هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي [الحاقة:19-20] أي: أيقنت، أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20]، فهؤلاء المشركون رأوا النار فأيقنوا أنهم مواقعوها كما قال الله عز وجل: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [مريم:38]، أي: ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتوننا، قال الله عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا [السجدة:12]، وقال سبحانه: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22].

عجز المشركين عن الفرار والهرب من النار

وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [الكهف:53]، (مواقعوها) المواقعة مفاعلة من الوقوع، مفاعلة بينهم وبين النار، أي: سيقعون فيها، وتقع عليهم، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا ، أي: ملابسوها ومخالطوها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً [الكهف:53]، لا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله أن يجيرنا من النار برحمته، (لم يجدوا عنها مصرفاً)، أي: لم يجدوا سبيلاً إلى الانصراف، يقول الكافر يومئذ: أَيْنَ الْمَفَرُّ [القيامة:10]، أين المفر من عذاب الله عز وجل؟ وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً ، أي: مكاناً يتخلصون إليه، وينصرفون إليه من عذاب النار، النار قد أحاطت بهم من كل جانب كما قال الله عز وجل، وقد مر معنا: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29]، أي: سورها، إذا توجهوا يميناً فنار، أو شمالاً فنار، ومن فوقهم نار، ومن تحتهم نار، ومن أمامهم نار، ومن خلفهم نار، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر:16].

وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [الكهف:53]، (فظنوا) والظن يأتي بمعنى إدراك الطرف الراجح، ويأتي بمعنى اليقين، وفي القرآن جاء إطلاق اليقين على الظن في قول الله عز وجل: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ [البقرة:45-46]، ومعنى يظنون يوقنون أنهم ملاقوا ربهم.

وكذلك العبد الصالح يوم القيامة بعدما أخذ كتابه بيمينه وفرح قال: هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي [الحاقة:19-20] أي: أيقنت، أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20]، فهؤلاء المشركون رأوا النار فأيقنوا أنهم مواقعوها كما قال الله عز وجل: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [مريم:38]، أي: ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتوننا، قال الله عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا [السجدة:12]، وقال سبحانه: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22].