خطب ومحاضرات
الصوم طريق إلى الجنة
الحلقة مفرغة
الحمد لله، الحمد لله يسمع من حمده، ويطمئن من ذكره، ويزيد من شكره، ويعطي من سأله، له الحمد سبحانه وتعالى؛ شرح الصدور بالإسلام، ونور القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، نحمده سبحانه وتعالى على فضله وجوده وكرمه في شهر رمضان، وعلى ما يسر فيه من البر والمعروف والإحسان، له الحمد جل وعلا كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه؛ فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين؛ فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك؛ فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! أمنية الأمنيات، وغاية الغايات التي تتعلق بها قلوب المؤمنين، وتتشوق إليها نفوسهم وتنشغل بها أفكارهم، وتقضى في سبيل تحصيلها أوقاتهم، وتبذل لأجل بلوغها كل طاقتهم وإمكاناتهم، هي الجنة. وما أدراك ما الجنة؟!
تلك التي جعلها الله سبحانه وتعالى داراً للمؤمنين، ومثوىً للمتقين، والصوم طريق إلى الجنة؛ ذلكم أمر ينبغي الانتباه له ليتم الاغتنام على وجهه الصحيح، وليحيي في القلب والنفس من معاني التعلق بالجنة والجد في السعي إليها ما ينبغي أن يكون شعاراً ومناراً في هذه الفريضة الجليلة وهذا الشهر الكريم.
الجنة التي هي غاية الغايات وأمنية الأمنيات ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه حتى كاد أن يكون القرآن كله ترغيباً في الجنة وترهيباً من النار، والفوز العظيم هو مجرد النجاة من النار ودخول الجنة: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، ويقول الحق سبحانه وتعالى في مثل هذه المعاني الجليلة العظيمة: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:72]، ليس هناك فوز حقيقي، ولا كسب عظيم، ولا أمر يستحق أن يبذل له كل شيء مثل هذا الفوز بالنجاة الكبرى والغنيمة العظمى بدخول جنة الله سبحانه وتعالى.
الجنة وما أدراك ما الجنة، وما أدراك ما فيها من النعيم المقيم؟
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، عن رب العزة والجلال تقدست أسماؤه وجل جلاله أنه قال: (أعددت في الجنة لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17])، فهل هناك أعجب بل أعجز من هذا الوصف الذي مهما عظمت الأمنيات، واتسعت الخيالات، وتنوعت اللذات تقصر عن أن تحيط بشيء منه أو أن تقترب من ظلال حقيقته؟
(ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، فليخطر بقلبك من النعيم أوسعه، ولتفهم ولتتعلق بالنصوص الواردة في الكتاب والسنة؛ فإن ما عند الله من النعيم أعظم من كل ما تجول به الخواطر، وتتعلق به النفوس والقلوب من تلك اللذات وذلك النعيم، وذلك لا شك أنه يهيج الشوق في قلب كل مؤمن إلى الجنة، ويبعث إلى التعلق بها، ويحث على السعي إليها.
والأمر أوسع من ذلك؛ ففي الصحيح من حديث سهل بن سعد ما هو من جوامع كلم المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها)، هذه الدنيا التي تتعلق بها قلوبنا، وتخطف أبصارنا، وتسبى نفوسنا، ونصطرع في ميادين المنافسة على أخذها ونيلها، موضع سوط واحد في الجنة خير من الدنيا وما فيها.
ويح الملوك، وويح الذين لا يكون لهم هم إلا دنياهم، وويح الذين تعلقت قلوبهم بهذه الدنيا يريدون أن يستكثروا منها ليكونوا أثرى الأثرياء وأغنى الأغنياء، فسوط واحد في الجنة خير من الدنيا وما فيها.. أعظم مما يملكه الملوك، ومما يحوزه الأثرياء، ومما يتسلط به أهل الدنيا كلهم من أولهم إلى آخرهم، فهل ثمة أعجب أو أعظم من ذلك؟
وامض كذلك لتستمع إلى ما هو أعظم وأجل في تلك الأوصاف العظيمة، بما ورد من حديث ابن مسعود عند البخاري ومسلم ، وهو حديث عظيم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً فيها، رجل بعد أن قضى ما عليه من عذاب الله أدركته رحمة الله بتوحيده لله فأدخل الجنة، فلما دخلها رآها ملأى فرجع يخاطب ربه: يا رب! إني رأيتها ملأى -ليس فيها موطن له ولا مكان يضمه- فقال الله جل وعلا له: ادخلها ولك الدنيا وعشرة أمثالها، فيقول العبد: أتهزأ بي يا رب؟ فيضحك الرب سبحانه وتعالى)، ويضحك الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يروي هذا الحديث.
أفلا يكون ذلك صارفاً للقلوب عن تلك الشهوات والملذات التي لا يمكن بحال من الأحوال لمؤمن عاقل أن يقيسها أو يزنها أو يقارنها بشيء ولو يسيراً من مثل هذا الذي وعد الله به عباده؟! وتأمل في هذه المعاني والنصوص وامض معها.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه وصف أختم به بعض هذه النصوص، وهو يصف جنة الله سبحانه وتعالى: (لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ملاطها مسك الإذفر -والملاط هو ما يوضع بين اللبنات لتتماسك- وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، ولا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم)، وصدق الحق سبحانه وتعالى وهو يقول: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [الإنسان:20].
رمضان موسم الخير الأعظم، والصوم طريق إلى جنة الخلد بإذن الله، فلندرك هذه الخصائص في هذه العبادة حتى ندرك عظيم منة الله علينا، وحتى نعرف فضله سبحانه وتعالى علينا، وحتى نلتفت إلى تقصيرنا وتفريطنا، وحتى لا نظن أننا قد قمنا بعمل كثير، وأننا سعينا السعي الكافي، واجتهدنا الجهد اللازم لنحصل هذه السلعة الغالية، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة.
الوقاية والمباعدة من النار
وحسبنا تلك الآية التي صدرنا بها حديثنا: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] و(زحزح) أي: كأنما كان يخرج من النار بشيء من الثقل لا يتحرك إلا قليلاً قليلاً، فكيف بك والصوم يدفعك دفعاً، ويبعدك مسافات هائلة عن النار؟ نسأل الله عز وجل أن يقينا وإياكم عذابها وحرها.
هذا حديث أبي سعيد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)، سبعين عاماً، وذلك أمد عظيم ليوم واحد يصام في سبيل الله، وسياق هذا النص لا ينبئ أن المراد هو صوم الفريضة بل صوم النفل، فما ظنك بصيام أيام رمضان -شهر كامل- تخلص فيها لله وتصومها في سبيل الله، كم يباعدك ذلك من النار؟
أما الوقاية فقد روي عن جابر بسند حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصيام جنة يستجن بها من النار)رواه الإمام أحمد والبيهقي في شعب الإيمان.
قوله: (جنة يستجن بها من النار) أي: درع وحصن ووقاية تسلمك وتؤمنك بإذن الله عز وجل من عذاب النار.
وفي حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصوم جنة من عذاب الله)رواه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي في سننه، وابن خزيمة في صحيحه.
تأمل هذا المعنى؛ أفتكتفي من بعد أن يكون حظك من الصوم شهر رمضان، وأن يكون صومك في رمضان فيه تفريط وتقصير، فتفوتك تلك الوقاية والحماية، وتفوتك تلك المفاوز التي تبتعد بها عن سخط الله وعذابه في جهنم؟ نسأل الله عز وجل أن يقينا عذابها وحرها.
التهيئة والمقاربة للجنة
تأمل كذلك ما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجة ، وهذا لفظ الترمذي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار؛ وذلك في كل ليلة)، أفليس واضحاً أن للصوم صلة عظيمة بدخول الجنة والقرب منها، والتعرض لأسباب دخولها، والتقرب إلى الله عز وجل بما يمن به على عبده بدخول جنته، وحصول رضوانه، والعتق من نيرانه؟
أبواب الجنة مشرعة مفتوحة، ومعنى ذلك أن نسمات الخير، وبرد الجنة، ولذة ما فيها من النعيم يكاد أن يلامس وجوهنا، ويخالط نفوسنا، ويداعب خواطرها، ويجعلنا كأنما نريد أن لا يختم هذا الشهر إلا وقد صرنا من أهل الجنة ومن العتقاء من النار؛ نسأل الله عز وجل من فضله.
أفليس هذا ينبغي أن يكون حاضراً في قلوبنا وأذهاننا؟
أفليس حرياً بنا أن نعيده ونكرره في مجالسنا وبيوتنا بدلاً من لغو القول وسفساف الحديث وأعمال أخرى نسأل الله عز وجل أن يبرئنا منها، وأن يبعدنا عنها؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
الاختصاص بباب الريان للصائمين
لماذا؟ أجاب أهل العلم عن ذلك: لما كان الصوم عبادة سر بين العبد ومولاه ليس فيها مدخل لرياء، وفيها تخلٍ عن الشهوات والملذات ابتغاء وجه الله، وفيها تحمل وصبر ومشقة ابتغاء التحقق بطاعة الله، ولما كان فيها مجاهدة للنفس، وكبح لجماحها، وإسلام لقيادها، وقوة في سيرها نحو طاعة ربها؛ كان ذلك الجزاء من جنس العمل، هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60].
الصوم موسم لتكثير الحسنات وتكفير السيئات
(من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
(من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
(... ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن من الخطايا ما اجتنبت الكبائر).
وفي حديث حذيفة أن الفتن يكفرها الصوم والصلاة والصدقة.
فما أعظمه من موسم، وما أجلها من عبادة يمحو الله بها ما سلف من كثير الخطايا، وعظيم الذنوب التي أثقلت كواهلنا وسودت صحائفنا، نسأل الله عز وجل أن يبيضها، وأن يمحو ما سلف من تلك الآثام، وأن يعيننا على الاستقامة على الطاعات والصالحات.
الصيام والقيام والقرآن
والصيام والقيام بالقرآن كلاهما في رمضان، وهما من أسباب الشفاعة المنجية بإذن الله عز وجل من عذاب الله والمفضية بإذن الله إلى نعيم الله، أفلا نستكثر من ذلك؟ أفلا نجتهد في الطاعة؟ أفلا نخلص في النية؟ أفلا نتحرى التشوق والتطلع إلى كل ما فيه مرضاة لله عز وجل وطاعة له، وإقبال عليه وتعلق به، وخوف منه، وتوكل عليه، وتقوى له، وإنابة إليه؟
أفهذا كله مما نعلمه ونقرؤه ونسمعه ونحفظه، ثم يكون حال كثير منا في رمضان غفلة ونوم بالنهار وسهر ولهو بالليل، وشاشات عاهرة داعرة، وأغان فاضحة ماجنة، وأحوال من الصفق بالأسواق لا تسر مؤمناً، نسأل الله عز وجل السلامة.
أفبعد أن يفيض الله علينا كل هذا الخير، ويبشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بكل هذا الفضل؛ تكون القلوب عنه معرضة بسفساف الدنيا وشهواتها منشغلة ملتهية؟ أفليس ذلك مما يعظم حزن المؤمن على نفسه وحاله مع فضل الله الذي يسوقه ويبسط به يديه جل وعلا وهو الغني عن عباده، ثم لا يكون هناك إقبال مناسب ولا اجتهاد مكافئ، ولا حرص يدل على تغلغل معاني هذه النصوص في القلوب والنفوس؟
الدعوة المستجابة للصائم
فهذه دعوة مقبولة مجابة بنص حديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ونحن أهل إيمان ويقين بأن ما أخبر به عليه الصلاة والسلام هو كما أخبر به.
وخذ ما يبشرك ويجعلك لا تنسى حظك من الدعاء والفوز بالجنة في شهر الصوم، وإدراك هذه الفضيلة، تأمل هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من رواية أنس عنه عليه الصلاة والسلام قال: (ما سأل الله أحد الجنة ثلاثاً إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ولا استجار رجل مسلم من النار ثلاثاً إلا قالت النار: اللهم أجره مني)، رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان في صحيحه.
أفلا نكثر من الدعاء بدخول الجنة والنجاة من النار؟
وفوق ذلك أيضاً خذوا من هذا الباب مزيداً من الفضل، وهي دعوات خاصة بك أيها الصائم في بعض أحوالك، تدعو بها الملائكة المقربون الذين: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، والذين: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20].
هذا حديث أم عمارة الأنصارية : (جاء إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقدمت له طعاماً، فقال لها: كلي، فقالت: إني صائمة، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا، أو ربما قال: حتى يشبعوا). وفي رواية: (الصائم إذا أكل عنده المفاطير صلت عليه الملائكة)، رواه الترمذي بسند صحيح.
ملائكة الله تدعو لك وتستغفر، ودعاء الملائكة وما أدراك ما دعاء الملائكة؟ هذه كلها بشريات خير تدلنا على أن هذه الشعيرة عظيمة، وأن هذا الزمان أعظم مواسم الجنة التي تقربنا إليها وتدنينا منها، وتيسر لنا سلوك الطريق المفضية إليها، وتجعلنا بإذن الله عز وجل في أحسن الأحوال التي نكون فيها أقرب من ربنا، وأكثر ما نكون استحقاقاً لرحمته وفضله وجوده وكرمه بالعتق والنجاة من النيران، والدخول إلى الجنة والنعيم المقيم فيها.
الصوم أيها الأحبة طريق للجنة، ووجوه ذلك كثيرة:
وحسبنا تلك الآية التي صدرنا بها حديثنا: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] و(زحزح) أي: كأنما كان يخرج من النار بشيء من الثقل لا يتحرك إلا قليلاً قليلاً، فكيف بك والصوم يدفعك دفعاً، ويبعدك مسافات هائلة عن النار؟ نسأل الله عز وجل أن يقينا وإياكم عذابها وحرها.
هذا حديث أبي سعيد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)، سبعين عاماً، وذلك أمد عظيم ليوم واحد يصام في سبيل الله، وسياق هذا النص لا ينبئ أن المراد هو صوم الفريضة بل صوم النفل، فما ظنك بصيام أيام رمضان -شهر كامل- تخلص فيها لله وتصومها في سبيل الله، كم يباعدك ذلك من النار؟
أما الوقاية فقد روي عن جابر بسند حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصيام جنة يستجن بها من النار)رواه الإمام أحمد والبيهقي في شعب الإيمان.
قوله: (جنة يستجن بها من النار) أي: درع وحصن ووقاية تسلمك وتؤمنك بإذن الله عز وجل من عذاب النار.
وفي حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصوم جنة من عذاب الله)رواه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي في سننه، وابن خزيمة في صحيحه.
تأمل هذا المعنى؛ أفتكتفي من بعد أن يكون حظك من الصوم شهر رمضان، وأن يكون صومك في رمضان فيه تفريط وتقصير، فتفوتك تلك الوقاية والحماية، وتفوتك تلك المفاوز التي تبتعد بها عن سخط الله وعذابه في جهنم؟ نسأل الله عز وجل أن يقينا عذابها وحرها.
ومن جهة أخرى: التهيئة والمقاربة إلى الجنة، فكما أن هناك مباعدة عن النار فثمة مقاربة للجنة تختص بهذا الشهر الكريم وهذه الفريضة العظيمة، فما أحرانا أن نجد ونجتهد.
تأمل كذلك ما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجة ، وهذا لفظ الترمذي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار؛ وذلك في كل ليلة)، أفليس واضحاً أن للصوم صلة عظيمة بدخول الجنة والقرب منها، والتعرض لأسباب دخولها، والتقرب إلى الله عز وجل بما يمن به على عبده بدخول جنته، وحصول رضوانه، والعتق من نيرانه؟
أبواب الجنة مشرعة مفتوحة، ومعنى ذلك أن نسمات الخير، وبرد الجنة، ولذة ما فيها من النعيم يكاد أن يلامس وجوهنا، ويخالط نفوسنا، ويداعب خواطرها، ويجعلنا كأنما نريد أن لا يختم هذا الشهر إلا وقد صرنا من أهل الجنة ومن العتقاء من النار؛ نسأل الله عز وجل من فضله.
أفليس هذا ينبغي أن يكون حاضراً في قلوبنا وأذهاننا؟
أفليس حرياً بنا أن نعيده ونكرره في مجالسنا وبيوتنا بدلاً من لغو القول وسفساف الحديث وأعمال أخرى نسأل الله عز وجل أن يبرئنا منها، وأن يبعدنا عنها؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رمضان ضيفنا المنتظر | 2909 استماع |
المرأة بين الحرية والعبودية | 2732 استماع |
فاطمة الزهراء | 2699 استماع |
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها | 2630 استماع |
المرأة والدعوة [1] | 2544 استماع |
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم | 2535 استماع |
غزوة أحد مواقف وصور | 2534 استماع |
قراءة في دفاتر المذعورين | 2488 استماع |
خطبة عيد الفطر | 2469 استماع |
التوبة آثار وآفاق | 2453 استماع |