كيفية أداء العمرة وقضاء الوقت في مكة [1-2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي أمدَّ بأعمارنا حتى أدركنا هذا الشهر الكريم، فكم من نفسٍ مؤمنة تشتاق لصيام هذا الشهر حيل بينها وبين صيامه، فأصبحت وقد أوسدت تحت الثرى؛ وودعت هذه الدنيا ولم تكمل هذا الشهر الكريم! فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يمد في أعمارنا حتى نبلغ نهاية هذا الشهر، وأن يتقبله منا ومن إخواننا المسلمين.

علنا أن نتكلم على ثلاثة عناصر:

العنصر الأول: في آداب السفر.

العنصر الثاني: في كيفية العمرة على ضوء ما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.

العنصر الثالث: في ملحوظات على الناس في أداء العمرة، وتلك الملحوظات قد تبلغ ستين أو سبعين ملحوظة في العمرة فقط، ولعل بعض الإخوة قد سمعوا هذه الملحوظات على الناس في الحج، وكنتُ ذكرتُ أكثر من مائة وثمانين ملحوظة، ولا زلنا -إن شاء الله- نعد العدة لإعادة هذه المحاضرة مرة أخرى، وقد تزيد على مائتين وخمسين أو ثلاثمائة ملحوظة على الناس في الحج فقط.

إن كثيراً من المسافرين ينطلقون إلى بيت الله الحرام وهم لا يستشعرون إلى أين ينطلقون، ويبقى هم الإنسان كله أن يؤدي تلك العبادة، فيظن أن العبادة هي دخول بيت الله الحرام، أما الطريق والمسير فلا يستشعر الإنسان فيه بشيء إطلاقاً، وهذا من جهل كثير من الناس أن الطريق هو عبادة إلى الله تعالى، فإن الصحابي -رضي الله عنه وأرضاه- الذي كان يصلي الصلوات، وكان من أبعد الناس منزلاً عن المسجد، وإذا به يأتيه بعض أحبابه وأقربائه، فيقولون: لو اتخذتَ حماراً يقيك حر الرمضاء، ويكفيك مئونة الطريق، فيقول رضي الله عنه: [والله ما أحب أن بيتي عند المسجد، إني أحتسب ذهابي ورجوعي في ميزاني يوم القيامة] ويُخْبَر المصطفى صلى الله عليه وسلم بمفهوم ذلك الصحابي رضي الله عنه، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: (إن الله قد كتب لك ذلك كله) أي: إن ذهابه ورجوعه في ميزان حسناته يوم القيامة.

فمن كان يستشعر ذهابه من هذا البلد إلى مكة، أن كل خطوة يخطو بها في ميزان حسناته، إذاً.. عليه أن يكثف أشد التكثيف في هذا الطريق فيما يقربه من الله تعالى.

كتابة الوصية

آداب السفر قد ذكرتُ عدداً منها، وهي أربعة عشر أدباً :-

الأدب الأول: أن يكتب المسلم وصيته، فإن السفر قطعة من العذاب، وإن الأسفار هي عرضة للأخطار، فكم من الناس من يودع أهله عله أن يصل إلى مكة فيموت في أثناء الطريق، ويودع الدنيا بكاملها.

ومن هنا كان لزاماً على المسلم إذا أراد أن ينطلق إلى مكة أن يكتب وصيته، فيكتب ما يحتاج إليه، فإن بعض الناس يكون صحيحاً، وإذا نزل به الموت قال: ليتني كتبتُ الوصية، وأوصيت بثلث مالي في الجهاد، أو في الإنفاق في سيبل الله، أو في التبرع في أعمال الخير من توزيعٍ لكتبٍ أو أشرطةٍ أو غير ذلك.

ما دمتَ صحيحاً فأوصِ بثلث مالك، حتى إذا نزل بك الموت نفَّذ أهلك تلك الوصية، وبَقِيَتْ في ميزان حسناتك وأنت لا تدري.

فما إن يفعل المسلم ذلك حتى يترقى في درجات الجنة، إن أدركه الموت أو أدركته المنون، في طريقه وفي سفره.

وإن كل إنسان قد يكون عليه نوع من الديون، أو أنه قد وضع بعضاً من أمواله عند بعض الناس، فإذا كتب وصيته ذكر فيها الديون التي عليه والديون التي له، حتى إذا مات استطاع أهله أن يسددوا ما عليه من الدين، واستطاع أهله أن يأخذوا حقوقهم من عند الآخرين، فإن كثيراً من الناس لو قلت له: اكتب وصيتك، قال: فأل الله ولا فألك! تريدني أن أموت حتى أكتب الوصية! هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الدنيا لا شك أنها موضع للأخطار والفتن، وموضع لتغير الأحوال؛ سرعان ما يسير الإنسان في طريقه في مجتمعه ومكانه فينزل به الموت ويودع الدنيا، وبعضهم يقول: يا ليتني كتبت! ويا ليتني عملت، فكان الأولى للمسافر أن يكتب وصيته.

السفر يوم الخميس

الأدب الثاني: أن يسافر في يوم الخميس، فقد روى البخاري والإمام أحمد رحمهما الله تعالى من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: (قل ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا أراد سفراً إلا يوم الخميس) وإني لأعلم أن هذا الأدب من أندر الأشياء، وليس معنى هذا أنه إذا لم يحدث لا يكون هناك أجر؛ لكن إذا تخول الإنسان في أسفاره بأن يهتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، سيكون له الأجر، أما هنالك نوع من الأسفار لا نستطيع أن نؤخرها إلى يوم الخميس، لِمَ؟ لوجود الظروف الضرورية، فالضرورة لها قدرها.

لكن أن يتحين المسلم كلما أراد سفراً أن يسافر يوم الخميس فإن في ذلك اقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم.

ونقول: إن يوم الخميس يوم مبارك، فيه ترفع الأعمال إلى الله تعالى، فإذا كان الإنسان مسافراً يوم الخميس رُجِي الإجابة، فإن المسافر تُرجَى إجابته، فكذلك إذا كان في يوم الخميس تُرْفَع الأعمال إلى الله، ويكون فيها الخير، ويكون فيها الأجر والثواب.

طلب الدعاء والوصية من الإخوان

الأدب الثالث: أن يطلب من أهل الخير والاستقامة الدعاء والوصية في هذا السفر، فإن المسلم إذا انطلق في سفره، ينطلق إلى الأخيار فيقول: بِمَ توصوني؟ ولا تنسوني من دعائكم الصالح، فإنه قد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد سفراً، فقال: (يا رسول الله، أوصني -فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الوصية الجامعة- فقال له: أوصيك بتقوى الله تعالى) وتلك الوصية العظمى التي ما عرضت على مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر إلا ارتعدت فرائصه خوفاً من هذه الوصية. فكيف يستطيع المسلم أن يحققها؟!

الجواب: يستطيع باستقامته على دين الله تعالى.

ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وأن تكبر على كل شرف، فلما ولى الرجل مسافراً وأخذ تلك الوصية، دعا له المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم ازوِ له الأرض، وهون عليه السفر).

فدل ذلك على أن المسلم ينبغي له أن يدعو لأولئك المسافرين بالدعاء الطيب.

وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه (أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أريد سفراً فزودني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: زودك الله التقوى، ثم قال: يا رسول الله، زودني كذلك، قال: وغفر ذنبك، فقال: يا رسول الله، زودني بأبي أنت وأمي، قال: ويسَّر لك الخير حيث كنتَ) أي في أي طريق توجهتَ.

وهذا يدل على أن المسلم ينبغي له أن يدعو لإخوانه المسافرين.

توديع المقيم للمسافر

الأدب الرابع: أن يودِّع المقيمُ المسافرَ لقول قزعة رضي الله عنه لما التقى مع ابن عمر: (قال لي ابن عمر رضي الله عنهما: هلم أودعك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعنا، فقلتُ: كيف كان يودعكم؟ قال: يقول: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك).

مَن منا قيل له هذا الدعاء إذا انطلق في السفر؟

وأحدنا يسافر والده وإخوانه وأحباؤه فلا يهدي لهم هذه الكلمات النبوية، هي والله درر، تدعو بها من قلبٍ صادق فيستجيب الله الدعاء فيكون لك الأجر أنت وذلك المسافر.

مرافقة الصحبة الصالحة

الأدب الخامس: أن يحرص المسلم المسافر أن يسافر ويصحب الصحبة الصالحة، فإن رفيق الخير هو الذي يعينك على طاعة الله تعالى.

فكم هُمُ الذين إذا انطلقوا في الأسفار ما سألوا: مع من تسافر أنت؟

وإذا سألوا قيل لهم: إني أسافر مع زملائي.

مَن هم هؤلاء الزملاء؟

قد يكونون ممن لا يذكرون الله إلا قليلاً، وقد يكونون من أهل الغفلة ومن أهل المعاصي فينطلق المسلم في سفره، وإذا هو يتقلب في السفر ما بين مزمار وطرب، وكلامٍ في أعراض الناس وغيبة ونميمة، أين زاد التقوى الذي يريد المسلم أن يسافر إليه؟!

وكم هُمُ الذين ينطلقون في الحج والعمرة، تجدهم أثناء الطريق يسمعون الزمر والطرب، سبحان ربي! يريدون الأجر والثواب، ويزدادون سيئات وظلمات بعضها فوق بعض، يريدون الخير والأجر ويظن بعضهم -وهذا من الجهل- أن المقصود من العمرة هو الطواف والسعي، حتى إذا انقضى الإنسان من سعيه وعمرته انطلق فحلق لحيته، وجلس في فندق، فسمع الزمر والطرب، وأصبح يتقلب في بلد الله الحرام، في أرض الله المقدسة، في الأرض التي تُجْنَى فيها الحسنات، وتعظَّم السيئات، ومع ذلك يبقى على معاصيه، فما يشعر بفائدة العمرة، ولا بأثر الأجر والثواب.

وسبب ذلك أن الإنسان لَمْ يَخْتَر الرفقة الصالحة، فإن من اختار الرفقة الصالحة إن وجدوا عنده نوعاً من القصور وجهوه، وإن وجدوا عنده نوعاً من الخير شجعوه وأعانوه على طاعة الله.

وهذا الأمر ينبغي أن يكون المسلم حريصاً عليه أشد الحرص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر المسلم وحده؛ ليحرص المسلم في السفر على الرفقة، ليكون معه اثنان أو ثلاثة أو أربعة ينطلق معهم في السفر.

ثم إن الرفقة الصالحة هي الخير، وهي زاد الدنيا في حياتنا، والله إن أعظم الزاد في الاستقامة على دين الله في هذا العصر الرفقة الصالحة، وليس قراءة القرآن ولا القيام ولا غير ذلك، فليست هذه الأعمال أعظم من الرفقة الصالحة، فإن الرفقة الصالحة تشجعك على قيام الليل، وتشجعك على قراءة القرآن، وتشجعك على البذل والإنفاق في سبيل الله.

فكان لزاماً على المسلم أن يختار رفقة صالحة إذا انطلق إلى بيت الله الحرام، فإن بعض الناس ينطلقون برفقةٍ حتى يبقى ليلهم سهراً، ونهارهم نوماً، فإذا بك تتقلب، في أي شيء؟! أهو في التنافس؟! ليس والله ذلك، إنما في التخذيل والكسل عن طاعة الله تعالى.

طلب المقيم من المسافر الدعاء له

الأدب السادس: ينبغي للمقيم المسلم أن يوصي المسافر ألا ينساه من الدعاء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعمر بن الخطاب لما انطلق في السفر: (لا تنسنا يا أُخَيَّ من صالح دعائك).

فإن المسافر مجاب الدعوة، فينبغي لكل مسلم؛ الأهل والوالد والوالدة والأخ إذا انطلق ولدهم للسفر أن يقولوا: لا تنْسَنا من صالح دعائك.

ويكون الدعاء بخيري الدنيا والآخرة؛ من الاستقامة على دين الله، والثبات، والتحبيب لطاعة الله، والرغبة فيما عند الله والدار الآخرة.

أما أن يصبح قلب الإنسان غافلاً سادراً فذلك من الخطأ والجهل، بل ينبغي للمسلم المسافر متى أوصاه أحد من إخوانه بالدعاء له أن يدعو له، وأن يخصصه بذلك الدعاء.

دعاء المسافر عند الصعود والنزول

الأدب السابع: يستحب للمسافر إذا صعد على نشز من الأرض أن يكبر الله تعالى، وإذا هبط وادياً أن يسبح الله تنزيهاً له، وهذه الآداب قد أغفلها كثير من الناس، يصعد الإنسان جبلاً أو مرتفعاً من الأرض ولا يشعر بالتكبير وإذا هبط لا يذكر التسبيح والتنزيه لله تعالى.

وتبقى الشخصية المسلمة لها تأثير على صاحبها حتى في الطريق والانطلاق، فلها آداب تتميز بها، وذلك لأن ديننا نعلم بأنه قد تمثل فيه قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] ليس ثمة شيء لا يكون لله تعالى، حتى في تحريكي لسيارتي وانطلاقي هو لله تعالى، فكلما ارتفعتُ أو هبطتُ أذكر رب السماوات والأرض فلا أنساه، فلقد ثبت في صحيح البخاري وعند الإمام أحمد قول جابر بن عبد الله : (كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا صعدنا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا الله تعالى).

فهذا هو أدب الصحابة جميعاً في السفر رضي الله عنهم وأرضاهم.

الحرص على الإتيان بدعاء مَن نزل منزلاً

الأدب الثامن: ينبغي للمسلم إذا نزل منزلاً في أثناء الطريق للجلوس، إما لغداء أو عشاء أو إفطار، أو غير ذلك أن يحرص على هذا الدعاء العظيم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) فلقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الإمام مسلم والإمام أحمد من حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها وأرضاها، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من مكانه).

وكم هم الذين يصابون بمس الجن؟! أو يصابون بالحيات ولدغ العقارب وغير ذلك؟! ينزلون المنزل فلا يذكرون، وبعض الناس إذا نزل منزلاً شعر بداخل نفسه بخوف وفزع.

نقول: خذ هذا الحصن الرباني، الذي يحفظك فيه رب السماوات والأرض، فمن قال هذا الدعاء: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء) فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى.

مَن منا إذا نزل قال ذلك الدعاء؟!

هذا الأدب قد أغفله كثير من الناس.

التكبير عند الرجوع من السفر

النفقة الحلال للمسافر

الأدب العاشر: ينبغي للمسلم أن يصحب معه النفقة الطيبة الحلال، وهذه المسألة مهمة جداً في قضية السفر.

كم هم الذين ينطلقون في أسفارهم ومعهم من الأموال التي جمعوها من خارج الدوام ولا يعملون، ومعهم من الأموال ما يأخذونها من انتدابات وهم لا يذهبون، ومعهم من الأموال الربوية ويريدون الأجر والثواب؟! وقد بُيِّنَ لنا عن ذلكم الرجل الذي يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب، يا رب، -وهو أشعث أغبر، ومع ذلك هل يجاب له الدعاء؟! لا، بل يقال له: مطعمك حرام، وملبسك حرام، ومشربك حرام، فأنَّى يُستجاب لذلك الرجل.

وكلنا إذا انطلقنا للعمرة نطلب الإجابة، ونطلب أن تقبل تلك العبادة منا، وإذا ببعض الناس -هداهم الله- ينطلقون بأموالٍ الله أعلم من أين اكتسبوها!

ولذلك كان السلف يحذرون من المطعم الحرام، فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أكل لقمة لم يدر من أين أخذها، ولما سأل رضي الله عنه وأرضاه غلامَه بَيَّن له غلامُه أنها من مالٍ مشبوه، فما كان من أبي بكر إلا أن أدخل إصبعه في فيه ليخرج تلك اللقمة، فقيل له: إنها قد ذهبت، لماذا تخرجها؟! قال: [والله لو لم تخرج إلا وروحي معها لأخرجتُها].

أوَما علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (كل جسم نبت من سُحت فالنار أولى به)، فكيف بمن يأكل ليلاً ونهاراً من الأموال المحرمة؟!

إذاً.. على المسلم أن يكون طيب المطعم ليكون مجاب الدعوة.

سؤال العلماء عن كيفية العمرة أو الحج

الأدب الحادي عشر: ينبغي للمسلم في انطلاقه إلى العمرة أن يذهب إلى العلماء وطلبة العلم؛ ليُبَيِّنوا له كيف يؤدي هذه العبادة، فكم هم الناس الذين ينطلقون للحج أو للعمرة، ثم يخطئون أخطاء فيسألون، كان الأولى لهم قبل أن ينطلقوا أن يسألوا حتى لا يقعوا في الخطأ، فإن هذا من التفقه في دين الله تعالى، فكان لزاماً على المسلم أن يكون حريصاً أشد الحرص على التفقه في دين الله تعالى.

استشعار السفر إلى الله

الأدب الثاني عشر: ينبغي للمسلم في سفره وانطلاقه إلى مكة أن يستشعر السفر إلى الله تعالى، فإنا والله من هذه الدنيا مسافرون، ما منا أحد يقول: إنه مقيم سيخلد في هذه الدنيا، تمر بنا الليالي والأيام وهي المراحل ثم يقال للإنسان: قف، فإن السفر إلى الله قد وقف إلى هذا الحد، فمن الناس من أعد العدة لهذا السفر، وأعد الخير والأجر والثواب، فهنالك هنيئاً لذلكم الرجل، ومن الناس من جمع إساءة وتقصيراً، فمسكينٌ هذا الرجل.

فإن الإنسان يخلِّف أهله، ويخلف بيته ومسكنه، ويترك أولاده خلف ظهره، وينطلق إلى مكة ، يرغب في الأجر والثواب، فليستشعر أنه مسافر إلى الله تعالى.

إن المسلم حينما ينطلق إلى مكة واللهِ لكأنه مسافر إلى القبر، فإن الإنسان يترك أولاده وذريته، فالميت يترك المال والأهل والذرية خلف ظهره، ثم ينطلق إلى بيت الله الحرام، ونحن حينما ننطلق إلى القبور ننطلق إلى الأعمال، فمن قدم خيراً هنيئاً، ومن كانت الأخرى فنسأل الله ألا نكون من هؤلاء الذين قصروا مع ربهم، وتكون قبورهم -نعوذ بالله- حفراً من حفر النار.

الحرص على دعاء السفر

الأدب الثالث عشر: ينبغي للمسلم إذا صعد على دابته أو إلى السيارة، وهو في انطلاقه أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، ثم يقول بعد ذلك: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:13-14] :-

فليستشعر المسلم هذه النعمة العظيمة.

ثم إن هذا الدعاء خاص بالأسفار فقط، وليس لمجرد الركوب في السيارة، وإنما يُخَص للسفر، فلنتنبه لهذا.

ثم يدعو الإنسان بعد ذلك بدعاء: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في المال والأهل) ثم يدعو بالدعاء المعروف.

استغلال وقت السفر بالأعمال الصالحة

الأدب الرابع عشر: ينبغي للمسلم في أثناء طريقه أن يستغل طريقه بالخير، بعض المسلمين -هداهم الله- ينطلقون في أسفارهم، ثم ماذا يكون؟

تكون سيارته قد ملئت بالزمر والطرب، فيُقَلِّب من أغنية إلى أغنية، ومن زمر إلى زمر آخر، ثم يقول: إنا نقضي الطريق، فإن الطريق طويل، فنقطعه بهذا الزمر.

نقول للأخ: انطلق بأشرطة الخير والقرآن والمحاضرات، حتى تسمع خيراً، ويكون ذلك المجلس الذي أنت فيه محفوفاً بالملائكة، وإن كنتَ ماضياً في طريقك تمشي. هذه هي مجالس الخير؛ لأنه يُسْمَع فيها القرآن والذكر ويوجد فيها الخير من قراءة قرآن وغير ذلك.

ثم ينبغي للمسلم أن يحرص على مسألة: أنت في سيارتك قد تقول: إن الإنسان أثناء الطريق قد يثقل سمعه، فلا يكون القرآن في كل الطريق سماعاً فقط.

فأقول: خذ معك شيئاً من المصاحف، ثم اجلس حتى ولو كنت مع والدتك وأختك وعمتك وجدتك وغير أولئك، اجعل درساً قرآنياً في السيارة، فتقرأ أنت أولاً، ثم تقرأ الأخت، فإنها تعرف القراءة، وتسمع الجدة والأم ممن لا يسمعون القرآن ولا يحسنون القراءة، فتجد أنهم يشعرون بروحانية عظيمة، مَن منا انطلق بأهله وإخوانه فجعل درس القرآن في السيارة، يسمعونه غضاً طرياً؟! هذه من الأمور الميسرة.

ونستطيع أن نقرأ موضوعاً طيباً في كتابٍ ميسر؛ قصة لصحابي، أو غزوة للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم نتناقش في ذلك الأمر، ونتناقش في هذه العزوة، فنحيي الإيمان في داخل نفوس هؤلاء، فيرتفعون، فتسمو النفوس، فإذا بها تستقبل العبادة بنشاط وحيوية.

الحمد لله الذي يسر لنا طرق الخير، وهناك بعض الناس ينطلقون من الرياض إلى مكة ، يمشون ثمان أو عشر ساعات وما سمعوا ذكراً ولا تسبيحاً ولا تهليلاً، هذا من الجهل.

فينبغي أن يكون الطريق كله طريق خير، نتنافس فيه على الخير وعلى طاعة الرحمن.

آداب السفر قد ذكرتُ عدداً منها، وهي أربعة عشر أدباً :-

الأدب الأول: أن يكتب المسلم وصيته، فإن السفر قطعة من العذاب، وإن الأسفار هي عرضة للأخطار، فكم من الناس من يودع أهله عله أن يصل إلى مكة فيموت في أثناء الطريق، ويودع الدنيا بكاملها.

ومن هنا كان لزاماً على المسلم إذا أراد أن ينطلق إلى مكة أن يكتب وصيته، فيكتب ما يحتاج إليه، فإن بعض الناس يكون صحيحاً، وإذا نزل به الموت قال: ليتني كتبتُ الوصية، وأوصيت بثلث مالي في الجهاد، أو في الإنفاق في سيبل الله، أو في التبرع في أعمال الخير من توزيعٍ لكتبٍ أو أشرطةٍ أو غير ذلك.

ما دمتَ صحيحاً فأوصِ بثلث مالك، حتى إذا نزل بك الموت نفَّذ أهلك تلك الوصية، وبَقِيَتْ في ميزان حسناتك وأنت لا تدري.

فما إن يفعل المسلم ذلك حتى يترقى في درجات الجنة، إن أدركه الموت أو أدركته المنون، في طريقه وفي سفره.

وإن كل إنسان قد يكون عليه نوع من الديون، أو أنه قد وضع بعضاً من أمواله عند بعض الناس، فإذا كتب وصيته ذكر فيها الديون التي عليه والديون التي له، حتى إذا مات استطاع أهله أن يسددوا ما عليه من الدين، واستطاع أهله أن يأخذوا حقوقهم من عند الآخرين، فإن كثيراً من الناس لو قلت له: اكتب وصيتك، قال: فأل الله ولا فألك! تريدني أن أموت حتى أكتب الوصية! هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الدنيا لا شك أنها موضع للأخطار والفتن، وموضع لتغير الأحوال؛ سرعان ما يسير الإنسان في طريقه في مجتمعه ومكانه فينزل به الموت ويودع الدنيا، وبعضهم يقول: يا ليتني كتبت! ويا ليتني عملت، فكان الأولى للمسافر أن يكتب وصيته.

الأدب الثاني: أن يسافر في يوم الخميس، فقد روى البخاري والإمام أحمد رحمهما الله تعالى من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: (قل ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا أراد سفراً إلا يوم الخميس) وإني لأعلم أن هذا الأدب من أندر الأشياء، وليس معنى هذا أنه إذا لم يحدث لا يكون هناك أجر؛ لكن إذا تخول الإنسان في أسفاره بأن يهتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، سيكون له الأجر، أما هنالك نوع من الأسفار لا نستطيع أن نؤخرها إلى يوم الخميس، لِمَ؟ لوجود الظروف الضرورية، فالضرورة لها قدرها.

لكن أن يتحين المسلم كلما أراد سفراً أن يسافر يوم الخميس فإن في ذلك اقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم.

ونقول: إن يوم الخميس يوم مبارك، فيه ترفع الأعمال إلى الله تعالى، فإذا كان الإنسان مسافراً يوم الخميس رُجِي الإجابة، فإن المسافر تُرجَى إجابته، فكذلك إذا كان في يوم الخميس تُرْفَع الأعمال إلى الله، ويكون فيها الخير، ويكون فيها الأجر والثواب.

الأدب الثالث: أن يطلب من أهل الخير والاستقامة الدعاء والوصية في هذا السفر، فإن المسلم إذا انطلق في سفره، ينطلق إلى الأخيار فيقول: بِمَ توصوني؟ ولا تنسوني من دعائكم الصالح، فإنه قد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد سفراً، فقال: (يا رسول الله، أوصني -فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الوصية الجامعة- فقال له: أوصيك بتقوى الله تعالى) وتلك الوصية العظمى التي ما عرضت على مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر إلا ارتعدت فرائصه خوفاً من هذه الوصية. فكيف يستطيع المسلم أن يحققها؟!

الجواب: يستطيع باستقامته على دين الله تعالى.

ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وأن تكبر على كل شرف، فلما ولى الرجل مسافراً وأخذ تلك الوصية، دعا له المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم ازوِ له الأرض، وهون عليه السفر).

فدل ذلك على أن المسلم ينبغي له أن يدعو لأولئك المسافرين بالدعاء الطيب.

وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه (أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أريد سفراً فزودني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: زودك الله التقوى، ثم قال: يا رسول الله، زودني كذلك، قال: وغفر ذنبك، فقال: يا رسول الله، زودني بأبي أنت وأمي، قال: ويسَّر لك الخير حيث كنتَ) أي في أي طريق توجهتَ.

وهذا يدل على أن المسلم ينبغي له أن يدعو لإخوانه المسافرين.

الأدب الرابع: أن يودِّع المقيمُ المسافرَ لقول قزعة رضي الله عنه لما التقى مع ابن عمر: (قال لي ابن عمر رضي الله عنهما: هلم أودعك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعنا، فقلتُ: كيف كان يودعكم؟ قال: يقول: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك).

مَن منا قيل له هذا الدعاء إذا انطلق في السفر؟

وأحدنا يسافر والده وإخوانه وأحباؤه فلا يهدي لهم هذه الكلمات النبوية، هي والله درر، تدعو بها من قلبٍ صادق فيستجيب الله الدعاء فيكون لك الأجر أنت وذلك المسافر.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عمر سعود العيد - عنوان الحلقة اسٌتمع
دروس من سورة الحجرات 2589 استماع
المواقيت - الإحرام - الطواف 2581 استماع
خطر الشرك 2556 استماع
معركة الفرقان 2546 استماع
وأمر أهلك بالصلاة 2503 استماع
صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم 2456 استماع
أحوال المرأة في رمضان 2235 استماع
لا يزال الخير في أمتي 2207 استماع
وعمره فيما أفناه 2178 استماع
من هدي النبي 2171 استماع