علو الهمة [7]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

فندخل إلى فصل من أهم فصول هذا البحث الذي نحن بصدده، وهو المتعلق بأطفال المسلمين وعلو الهمم، فإننا حينما نقول: إن الأطفال هم المستقبل، فإن هذا الشعار حقيقة لا مجاز، واقع لا خيال، ومن ثم ينبغي أن يصرف الهم الأكبر إلى تهيئتهم؛ ليكونوا مؤتمنين على مستقبل أمة الإسلام، ولن يحصل هذا إلا إذا تخلينا عن نظرتنا إلى هؤلاء البراعم على أنهم لعبة ملهية نتسلى بها، وبالتالي ننسى ونغفل عن أن الاهتمام بالأطفال وتربيتهم تبدأ مبكراً جداً أكثر مما نتصور، يقول أستاذنا الدكتور محمد صباغ حفظه الله تعالى: سمعت من الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله: أن رجلاً جاء يسترشده لتربية بنت له ولدت حديثاً، فسأله: كم عمرها؟ قال: شهر، قال: فاتك القطار، وقال: كنت أظن في بادئ الأمر أني مبالغ، ثم عندما نظرت وجدت أن ما قلته حق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمه الثدي، فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا، فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن، ويظن أن البكاء والصراخ يوصله إلى حقه، بغض النظر إلى أننا نحتاج إلى تفصيل في هذا الأمر حتى لا يساء فهمه، ولكن سنولي الكلام في موضوع تربية الأطفال منذ الصغر إن شاء الله إلى مناسبة أخرى بعد أن نفرغ من هذا البحث.

أهمية تربية الأولاد على علو الهمة

ينبغي علينا أن نصرف قدراً عظيماً من الجهد إلى توجيه الآباء إلى الأساليب العلمية الصحيحة لتربية أولادهم في شتى مراحل نموهم، فالمؤلم والمؤسف أن أغلب الآباء لا يدركون أن تربية الأولاد علم وفن، وكثير من الناس لم يخطر بباله قط أن هذا علم وفن له أصوله وله قواعده، وأي خطأ فيه يكون ثمنه باهضاً.

فعلى الموجهين وعلى الآباء والمدرسين أن ينتبهوا إلى خطورة هذا الأمر، كي يشب الأولاد أصحاء نفسياً، وإلا فما أفدح الخسائر التي تتكبدها الأمة إذا أهملت تربية أبنائها، ونحن اليوم في أتون الحرب العميقة العلمية المدروسة، فنرى الأساليب الحديثة تسخر كلها في طعن الأمة في أبنائها، وفي مستقبلها، لإخراج أجيال ملحدة، لا تعرف الله، ولا تحب الله، ولا تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تذوب حباً للأجانب، وتعظيماً للكفار، وبغضاً للإسلام وجهلاً بأحكامه، وتاريخه، وتعاليمه، فالكفار يبدءون بتخريب القلاع الإسلامية منذ الوقت الباكر جداً؛ كي يختصروا الطريق، ولا شك أن أول قلعة يتحصن بها الطفل هي الأسرة باتفاق المربين، فالأسرة هي أقوى مؤسسة تربوية على الإطلاق، وهي أكبر مؤسسة تربوية، وفي مقدمة الأسرة يتصدر الوالدان، وبالذات الأب، يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وإن عود الشر، وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وصيانته بأن يؤدبه، ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق.

وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد، رأيت عامته من قبل الآباء.

جهل الآباء يخرج أولاداً فاسدين، ومنحرفين، ويحرم الأمة من خيرهم. نحن المسلمين صلتنا بموضوع تربية الأولاد عريقة وعميقة، ليس علماً حديثاً أو ناشئاً، وإنما بدأ مع بداية الدعوة الإسلامية، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى أنزل في كتابه آية تتلى في المحاريب إلى آخر الزمن، وهي متعلقة بالمحافظة على الأولاد، يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] يقول أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه في تفسيرها: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم.

وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى سائل كل راعٍ عما استرعاه حفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) يعني: مما سيسأل عنه الإنسان يوم القيامة أهل بيته، ولده وزوجته وأهل بيته، ولا ترقى أي نظرية تربوية في العالم إلى هذا المستوى الراقي من أن الإعداد للجواب عن هذا السؤال بين يدي الله سبحانه وتعالى داخل من صلب عقيدتنا، ومن صلب الحقائق الغيبية التي نؤمن بها.

وعن معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة).

وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).

وما أحسن ما قال بعضهم:

وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه

وما دام الفتى بحجى ولكن يعمله التدين أقربوه

يعني لا بد من توجيه ولا بد من تعويد وتربية على التدين، ورحم الله من قال:

قد ينفع الأدب الأولاد في صغرٍ وليس ينفعهم من بعده أدب

إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولن تلين إذا قومتها الخشب

قال ابن خلدون : التعليم في الصغر أشد رسوخاً، وهو أصل لما بعده.

إذاً: الاهتمام بتربية الأولاد يبدأ مبكراً جداً، وهو أشد رسوخاً، ويعتبر الأساس لما بعده؛ لأنه يشكل شخصيته الباكرة التي ينتهي نموها في مرحلة معينة كما ينتهي نموه الجسدي، وعند دخول سن العشرينات مثلاً يكون قد اكتملت شخصيته، وفرغ من نموه النفسي.

ويتأكد الاهتمام بهذه التربية في زماننا هذا الذي تتناوش فيه أطفالنا وأبناءنا الفتن من كل صوب، يذكي لهيبها دعاة على أبواب جهنم، من جلدتنا، ويتكلمون بألستنا، كل همهم أن يخرجوا من أصلابنا أجيالاً من الملاحدة الذين يرضون بالعلمانية رباً وديناً ومنهاج حياة، فإن لم يتدارك الآباء أبناءهم بالتربية الإسلامية القوية اجترفتهم العلمانية الملحدة، وضمتهم إلى صفوفها ليحاربوا الله ورسوله والمؤمنين، فإن أكثر من يحارب الإسلام الآن ويطعن في قلبه هم هؤلاء المنافقون الذين يحملون أسماء المسلمين، ينادون أحمد ومحمد وعبد الله وما لهم من الإسلام إلا الأسماء، أما الحقيقة فهم ذئاب تحت هذه الأسماء التي يستترون تحتها، ويطعنون الإسلام ويحاربون المسلمين، ويريدون استئصال دين الله أشد مما يفعل اليهود والنصارى وسائر الكفرة الصريحون، ولا شك أن هذا واقع قد لمسناه في البلاد التي سبقت إلى اعتناق هذا المذهب اللاديني المخرب الذي هو العلمانية، يقول الشاعر:

ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد

الأبناء الآية يتعرضون للفتن من كل حدب، ومن كل صوب.. من مناهج التعليم.. من الإعلام من رفقة السوء.. مما يرون في الشوارع من الفساد الذي ذاع وشاع وطم وملأ السهل والوادي والجبل وما ترك شبراً من الأرض إلا واخترقته هذه الفتن، فإذا كنت صاحب غنم، وعلمت أن هذه الأرض كثيرة السباع، ثم نمت عنها، فسوف ينوب عنك في رعاية هذه الغنم الأسد، وإذا كانت الأسد أو السباع أو الذئاب ترعى الغنم فماذا تتوقعون؟ هل تبقي منها على شيء؟!

إذا لم يكن الأب متيقظاً حذراً حارساً لأبنائه من هذه الفتن، دارساً القواعد العلمية والأساليب العلمية التربوية الصحيحة في التعامل مع هذه الفتن لانجاء وإنقاذ أبنائه؛ ضاع منه أولاده.

اهتمام الإسلام بتربية الأولاد على علو الهمة

اشتد حرص الإسلام على هذه المهمة الجسيمة، ونحن حينما نتكلم عن تعظيم الإسلام لهذا الموضوع فلن نأتي بكلام من خارجٍ، إنما من صلب القرآن والسنة، ومن صلب سيرة السلف، فنحن في الحقيقة -كما نكرر في كل مجال من مجالات تخلفنا- متخلفون عن الإسلام، لسنا متخلفين عن الغرب بحضارته المادية، بل نحن في الحقيقة متخلفون عن الإسلام، فالتخلف ليس عن الكفار في أمور الدنيا وزينتها، بل نحن متخلفون عن الإسلام، ونريد أن نرتقي إلى مستوى هذا الإسلام، في كل أحوالنا حتى في الآداب الشرعية، فما أكثر السلوكيات الخاطئة التي تصدر من بعض الناس، وبعضهم يكون ملتزماً بدينة لكنه لم يتفقه في دينه، سواء في آداب الاستئذان أو في حفظ الأمانات وغير ذلك.

وهذا الخلل ليس مصدره الالتزام بالدين قطعاً، إنما مصدره التخلف عن الإسلام، والتخلي عن آدابه فهذه المعاني التي يطرب لها الغرب الآن فيما يزعمونه من بالحقوق والدعوة إلى التربية ومنهاج التربية الصحيحة في زعمهم، كانت هي بالنسبة للمسلمين حديث مكرر مر عليه قرون وقرون وقرون والأمة تتنادى بهذا الأمر، وتؤديه على أكمل وجه، إلى أن تخلينا عن الإسلام، فخرجت هذه الأجيال التي يخشى منها على الإسلام أكثر مما يخشى من اليهود والنصارى، هذا دكتور في الأزهر، ويؤلف طاعناً في القرآن، ويؤلف طاعناً في الأنبياء، وشاتماً للأنبياء، وطاعناً في شريعة الله سبحانه وتعالى! ويجد من إخوانه الملاحدة من يدافع عنه ويحميه، ويجعله أستاذاً ومفكراً، هذا المفكر يحمل أسماً من أسماء المسلمين، ونحن ما تعرفنا عليه إلا في صفحة الحوادث، وصفحة المجرمين، وفي القضايا والنيابة والقبض عليه وغير ذلك، ومع ذلك يجعل من الأدباء الذين يصنعهم أعداء الدين من أجل استئصال الدين.

اشتد حرص السلف على مباشرة هذه المهمة الجسيمة، حتى أن الخليفة المنصور بعث إلى من في الحبس من بني أمية يقول لهم: ما أشد ما مر بكم في هذا الحبس؟ فقالوا: ما فقدنا من تربية أولادنا. أي: الحيلولة بيننا وبين تربية أولادنا أكبر مصيبة وقعت علينا ونحن في هذا الحبس.

واشتد نكير السلف على من يصرف همه إلى الكبار فقط، ويهمل الصغار، وما ذاك إلا لأن الأمة محتاجة إليهم، وهم الأعمدة التي تبنى لتحمل ثقل البناء فيما بعد، رأى عمرو بن العاص حلقة قد جلسوا إلى جانب الكعبة، فلما قضى طوافه جلس إليهم، فنحو الفتيان عن مجلسهم، وأبقوا الكهول والكبار في السن، فقال لهم عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: لا تفعلوا، أوسعوا لهم، وأدنوهم، وألهموهم، فإنهم اليوم صغار قوم يوشك أن يكونوا كبار قوم آخرين، قد كنا صغار قوم فأصبحنا كبار آخرين. وقد علق الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى على هذه العبارة لـعمرو بن العاص رضي الله عنه قائلاً: وهذا صحيح لا شك فيه، والعلم في الصغر أثبت، فالذي ينبغي أن يعتنى بصغار الطلبة لاسيما الأذكياء المتيقظين الحريصين على أخذ العلم، فلا ينبغي أن يجعل صغرهم أو فقرهم وضعفهم مانعاً من مراعاتهم والاعتناء بهم، وكان الإمام الشاشي محمد بن الحسين الفقيه الشافعي رحمه الله تعالى ينشد:

تعلم يا فتى والعود رطب وطينك لين والطبع قابل

الاهتمام الخاص بالأطفال الذين تظهر عليهم علامات علو الهمة

ننتقل إلى نقطة أخرى هي في الحقيقة مهمة جداً، وذات صلة وثيقة بهذا الموضوع، ينبغي أن يصرف اهتمام خاص إلى طبقة خاصة من الأطفال؛ لأن بعض الأطفال تظهر عليهم علامات تبشر بأن هذا الطفل ما هو إلا شخصية فذة تعد بمستقبل مشرق، وتعد بأنه سوف يترك بصمة على صفحة الحياة.

فهذا فن من الفنون التي أتقنها علماء المسلمين، وأولوها اهتماماً كثيراً؛ لأن الطفل الصغير ذا الهمة العالية لا يخفى منذ زمان الصبا، وربما أحياناً وهو في المهد تظهر عليه مخايل النجابة والتفوق والنبوغ، وعلو الهمة حتى من الطفولة، فتظهر منه علامات النجابة ومخايل العبقرية في الصغر، ولا يكاد يشك ذو فراسة إيمانية صادقة في صيرورة صاحبها إلى تسلم ذرى العلى والتربع على قمة المجد، والارتقاء إلى منصب الإمامة، وقد اهتم المسلمون بالاجتهاد في الاكتشاف المبكر للنابغين، ووضعوا لذلك معايير دقيقة، وأولوا الصغار الذين توسموا فيهم النجابة رعاية خاصة ترصداً لما تفرسوه فيهم من الصدارة، هذا الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى يتحدث عن هذه المعايير فيقول: الأمر الذي يمكن الوصول إليه بالاستقراء، أن الذين يصطفيهم الله سبحانه وتعالى لولايته ولمرتبة الولاية، لا يكونون أشخاصاً عاديين، وإنما ينتقي الله سبحانه وتعالى لولايته وفضله أشخاصاً بصفات معينة، يقول: تأملت الذين يختارهم الحق عز وجل لولايته والقرب منه، وقد سمعنا أوصافهم، ومن نظنه منهم مما رأيناه، فوجدته سبحانه لا يختار إلا شخصاً كامل الصورة، لا عيب في صورته، ولا نقص في خلقته، فتراه حسن الوجه، معتدل القامة، سليماً من آفة في بدنه، ثم يكون كاملاً في باطنه، سخياً جواداً عاقلاً، غير خب ولا خادع، ولا حقود ولا حسود، ولا فيه عيب من عيوب الباطن، فتراه في الطفولة معتزلاً عن الصبيان، كأنه في الصبا شيخ، ينبو عن الرذائل، ويفزع من النقائص، ثم لا تزال شجرة همته تنمو حتى يرى ثمرها متهبلاً على أغصان الشباب، فهو حريص على العلم، منكمش على العمل، حافظ للزمان، مراعٍ للأوقات، ساعٍ في طلب الفضائل، خائف من النقائص، ولو رأيت التوفيق والإلهام الرباني يحوطه؛ لرأيت كيف يأخذ بيده إن عثر، ويمنعه من الخطأ إن هم، ويستخدمه في الفضائل، ويستر عمله عنه حتى لا يراه منه. انتهى كلام ابن الجوزي رحمه الله تعالى.

وعن محمد بن الضحاك أن عبد الملك بن مروان قال لـابن رأس جالوت : ما عندكم من الفراسة في الصبيان؟ يسأل عن المعايير التي تقيسون بها أو تتوقعون بها المستقبل الباهر لبعض هؤلاء الصبيان، ما عندكم من الفراسة في الصبيان؟ قال: ما عندنا فيهم شيء؛ لأنهم يخلقون خلقاً بعد خلق، غير أنا نرمقهم، فإن سمعنا منهم من يقول في لعبه: من يكون معي؟ أي: من يلعب معي، رأيناه ذا همة وحنو سبق فيه، وإن سمعناه يقول: مع من أكون ؟ كرهناها منه.

إذا سمعوا الولد الصغير يقول: من يكون معي؟ يعرفون أن هذا الولد عالي الهمة، وأنه بطبيعته شخصية قيادية، يصلح للإمامة، لأنه يقول: من يكون معي؟ فيرى الآخرين يكونون تبعاً له بدون تكلف، وهذا دليل على أنه أوتي خصلة الشخصية القيادية، لكن إذا رأوا الولد يقول: مع من أكون؟ فمعناه أنه ذيل، وأنه يتبع غيره، فهذه أحد المعايير التي وضعت منذ المئات من السنين.

قصص عن بعض الأطفال في علو الهمة في الأفعال

كان أول ما علم من ابن الزبير رضي الله عنه أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان وهو صبي، فمر رجل عليهم وهم يلعبون، فصاح الرجل عليهم ففروا، ومشى ابن الزبير القهقرى، يعني: أبى أن يوليه دبره، لكن تراجع إلى الخلف، كما يفعل المجاهد والمقاتل الشجاع الذي لا يعطي عدوه دبره أبداً، في حين أن زملاءه كلهم فروا، ثم قال: يا صبيان! اجعلوني أميركم وشدوا بنا عليه! يعني: عينوني أميراً عليكم، وهيا بنا نهاجم هذا الرجل، ونطرده عن طريقنا. ومر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو صبي يلعب مع الصبيان، ففر الصبيان ووقف هو، فقال له عمر : (ما لك لم تفر مع أصحابك؟! قال: يا أمير المؤمنين! لم أجرم فأخاف، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك). فمثل هذه الشخصية تستحق أن نصفها بأنها شخصية واعدة، تعد بخير كبير في المستقبل، وهي أحق بقول القائل: رُفعت إليك وما ثُغرْ تَ عيون مستمع وناظر ورأوا عليك ومنك في المـ ـهد النهى ذات البصائر وقوله: (ما ثُغرْتَ): يقال: ثغر الغلام إذا سقطت أسنانه الروابع اللبنية، وكأنه يقول: رفعت إليك العيون وتطلعت إليك وأنت صغير. ونظر الحطيئة إلى ابن عباس وهو يتكلم في مجلس عمر فقال: من هذا الذي نزل عن الناس في سنه، وعلاهم في قوله؟! فقال ابن مسعود : (لو بلغ أسناننا ما عشره منا رجل). يعني: أن هذا الرجل دهش لما رأى ابن عباس يتكلم في مجلس أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ببلاغة وفصاحة وعلم، فقال: من هذا الذي نزل عن الناس في سنه، وعلاهم -أي: ارتفع عنهم- في قوله؟! فقال ابن مسعود : لو بلغ أسناننا ما عشره منا رجل. يعني: لو كان في السن مثلنا ما بلغ أحد منا عشر علمه. ورأى بكير بن الأخنس المهلب -وهو الأمير البطل قائد الكتائب- وهو غلام فقال: خذوني به إن لم يسود سوراتهم ويبرع حتى لا يكون له مثلُ أنه يتنبأ أن هذا سوف يسود أشراف قومه وهو طفل صغير. وقال حمزة بن بيض لـمخلد بن يزيد بن المهلب : بلغت لعشر مضت من سنيـ ك ما يبلغ السيد الأشيب فهمّك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا لِدَاتك: جمع لِدى، يعني: مَن وُلد معك، ويوافقك في السن. ونظر رجل إلى أبي درة في مجلس المأمون فقال: إن همته ترمي به وراء سنه. وقال يحيى بن أيوب العباد : حدثنا أبو المثنى قال: سمعتهم بمرو يقولون: قد جاء الثوري ، قد جاء الثوري . فخرجت أنظر من هذا الثوري الذي يعظمونه هذا التعظيم، فإذا هو غلام قد نقل وجهه، أي: بدأ ينبت شعر وجهه. قال الذهبي في الإمام الثوري رحمه الله تعالى: كان ينوه بذكره في صغره من أجل فرط ذكائه وحفظه، وحدث وهو شاب رحمه الله تعالى. وقال ابن مهدي : رأى أبو إسحاق السبيعي سفيان الثوري مقبلاً فقال: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12]. وكان الإمام البخاري رحمه الله تعالى ذكياً سريع الحفظ، فقد حفظ سبعين ألف حديث وهو صغير، وكان ينظر إلى الكتاب فيحفظ ما فيه من نظرة واحدة. وقال محمد بن حاتم : كنت أختلف أنا والبخاري وهو غلام إلى الكتاب، فيسمع ولا يكتب، وبقي على ذلك أياماً، فكنا نقول له: ما لك لا تكتب مثلنا؟! فلما بلغ ما كبتناه خمسة عشر ألف حديث طلب منا أن نسمعها له، فقرأها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نصلح كتبنا من حفظه! فالله سبحانه وتعالى لا يعطي منصب الإمامة في الدين لأي إنسان، بل لا بد أن يكون متأهلاً ذا جدارة واستحقاق. وروى الذهبي عن محمد بن أبي حاتم ، قال: سمعت الإمام أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى يحكي عن طفولته يقول: كنت أختلف إلى الفقهاء بمروٍ وأنا صبي، فإذا جئت أستحيي أن أسلم عليهم. أي: لأنه صبي صغير يجلس مجالس العلماء الكبار والمحدثين، فكان يستحي أن يسلم عليهم، فدخل مرة فقال له مؤدب من أهل مرو: كم كتبت اليوم ؟ قال: فقلت: اثنين، وأردت بذلك حديثين، وليس رقم اثنين، فضحك من حضر المجلس، فقال شيخ منهم: لا تضحكوا فلعله يضحك منكم يوماً. فهذا الشيخ تفرس في الإمام البخاري النجابة منذ صغره. وقال بكير بن منيف : سمعت البخاري يقول: كنت عند أبي حفص أحمد بن حفص أسمع كتاب الجامع لـسفيان الثوري من كتاب والدي، فمر أبو حفص على حرف ولم يكن عندي ما ذكر فراجعته، يعني: أنه رد على الشيخ خطأً من نسخته المكتوبة التي يقرأ منها من حفظه وهو طفل صغير، فصحح له الأولى والثانية والثالثة، فسكت ثم قال: من هذا؟ قالوا: ابن إسماعيل ، فقال: هو كما قال، واحفظوا أن هذا يصير يوماً رجلاً. وهناك فرق بين الرجولة وبين الذكورة، فكل رجل ذكر، وليس كل ذكر رجلاً، الرجولة منصب شريف، ولذلك لا تقال إلا في عظائم الأمور، كقوله عز وجل: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23]. وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى: كنت يتيماً في حجر أمي، فدفعتني إلى الكتاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام -يعني: يسكتهم ونحو ذلك- فلما جمعت القرآن دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع الحديث والمسألة فأحفظها، فلم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به القراطيس، فكنت أنظر إلى عظم فآخذه، فأكتب في العظام، فإذا امتلأ طرحته في جرة، فاجتمع عندي حُبان. والحب هو: وعاء الماء، وهو مثل الزير أو الجرة، أي: امتلأت الجرة من العظام التي كان يكتب عليها. وقال الربيع : سمعت الشافعي يقول: كنت وأنا في الكتاب أسمع المعلم يلقن الصبي الآية، فأحفظها أنا، ولقد كان الصبيان يكتبون إملاءهم، فإلى أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم كنت قد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: لا يحل لي أن آخذ منك شيئاً. وقد كان طفلاً يتيماً بجانب هذه النجابة التي ظهرت عليه منذ صغره. قال الشافعي : ثم لما خرجت من الكتاب كنت ألتقط الخزف والدفوف -جمع رق وهو: جلد رقيق يكتب فيه- وكرب النخل -وهو السعف العريض- وأكتاف الجمال، وأكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين وأستوهب منها الظهور -أي: ظهور الأوراق المكتوبة؛ لأن ظهرها يكون فارغاً- فأكتب فيها، حتى كان لأمي حُبان مملأتها أكتافاً. وحفظ الإمام أحمد بن حنبل القرآن في صباه، وتعلم القراءة والكتابة ثم اتجه إلى الديوان، يمرن على التحرير. يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن نفسه: كنت وأنا غليم أختلف إلى الكتاب، ثم اختلفت إلى الديوان وأنا ابن أربع عشرة سنة. وكانت نشأة الإمام أحمد فيها آثار النبوغ والرشد، حتى قال بعض الآباء: أنا أنفق على ولدي، وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم، وجعل يعجب من أدبه وحسن طريقته. وكان عم الإمام أحمد يرسل إلى بعض الولاة بأحوال بغداد ليعلم بها الخليفة، وفي مرة أرسلها مع ابن أخيه أحمد بن حنبل فتورع عن ذلك، ورمى بها في الماء، تأثماً من الوشاية، والتسبب لما عسى أن يكون فيه ضرر لمسلم. أي: ولفت هذا الورع وهذه النجابة نظر كثير من أهل العلم والفراسات، حتى قال الهيثم بن جميل : إن عاش هذا الفتى فسيكون حجة على أهل زمانه. وقال الحافظ ابن قدامة رحمه الله: بلغني أن بعض مشايخ حلب قدم إلى دمشق، وقال: سمعت أن في هذه البلاد صبياً يقال له: أحمد بن تيمية ، سريع الحفظ، وقد جئت قاصداً لعلي أراه، فقال له خياط: هذه طريق كُتّابه -يعني: أنه يمر إلى الكُتّاب من هذه الطريق- وهو إلى الآن ما جاء، فاقعد عندنا الساعة يمر ذاهباً إلى الكُتّاب، فلما مر قيل: ها هو الذي معه اللوح الكبير، فناداه الشيخ، وأخذ منه اللوح، وكتب له من متون الأحاديث ثلاثة عشر حديثاً، وقال له: اقرأها، فلم يزد على أن نظر فيه مرة بعد كتابته إياه، ثم قال: أسمعه علي، فقرأه عليه عرضاً كأحسن ما يكون، ثم كتب عدة أسانيد انتقاها، فنظر فيه كما فعل أول مرة فحفظها، فقام الشيخ وهو يقول: إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، فإن هذا لم ير مثله. فكان كما قال رحمه الله تعالى.

قصص عن بعض الأطفال في علو الهمة في الأقوال

تقدمت قصص عن النجباء من الأطفال وأن سيماهم في وجوههم، وأيضاً سيماهم في كلامهم، فقد ينطق الله سبحانه وتعالى الغلام الحدث بما يعجز عنه فطاحل الأدباء، فيصير ذلك علامة كاشفة لما أوضع الله بين جنبيه من الحكمة، وما متعه به من الذكاء، روي عن معمر في تفسير قوله تعالى: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12] أن الصبيان قالوا: ليحيى عليه السلام: اذهب بنا نلعب فقال: ما للعب خلقت.

قال الشيخ: يتيم بن يوسف المراقشي يحكي عن أحوال الإمام شيخ الإسلام الإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله تعالى: رأيت الشيخ وهو ابن عشر سنين بنوى - وهي المدينة التي ولد فيها، ولذلك ينسب إليها فيقال: النواوي أو النووي - رأيت الشيخ والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوقع في قلبي محبته، وجعله أبوه في دكان، فجعل لا ينشغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت الذي يقرأه القرآن أوصيه به، وقلت له: هذا الصبي يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه، وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي: أمنجم أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام. وترجمة الإمام النووي من أروع التراجم، وفيها من العبر شيء عظيم، كان الإمام النووي رحمه الله تعالى غلاماً صغيراً جداً فاستيقظ في الليلة السابعة والعشرين من رمضان في وسط الليل، وجعل ينادي من في البيت ويقول: ما هذا النور الذي أراه قد ملأ الدار، ففطن أبوه لمقام ولده، فأولاه اهتماماً وعناية خاصة، حتى صار هذا الإمام الجليل رحمه الله تعالى.

إياس بن معاوية قاضي البصرة كان يضرب به المثل في الذكاء والدهاء والسؤدد والعقل، تقدم إياس وهو صبي إلى قاضي دمشق، ومعه شيخ في خصومة بينه وبين الشيخ، فقال: أصلح الله القاضي! هذا الشيخ ظلمني واعتدى علي وأخذ مالي، فقال القاضي: ارفق به، ولا تستقبل الشيخ بهذا الكلام، فقال إياس : أصلح الله القاضي! إن الحق أكبر مني ومنه ومنك.

وهو ما خالف الأدب؛ لأنه بدأ الكلام بالتلطف وقال: أصلح الله القاضي! هذا الشيخ ظلمني واعتدى علي وأخذ مالي، وهذه ظلامة، فقال القاضي: ارفق به، ولا تستقبل الشيخ بهذا الكلام، فقال إياس : أصلح الله القاضي! إن الحق أكبر مني ومنه ومنك، فقال: اسكت، فقال: إن سكت فمن يقوم بحجتي؟! فقال: تكلم فو الله! ما تتكلم بخير، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فنطق بخير الكلام وأفضل الكلام: لا إله إلا الله، فأراد أن يغلب القاضي لما قال له: تكلم فو الله ما تتكلم بخير، فبين له أنه قادر أن يتكلم بالخير، فرفع صاحب الخبر هذا الخبر إلى الخليفة، فعزل القاضي وولى إياس بن معاوية مكانه.

وأدخل على الرشيد صبي له أربع سنين، فقال له: تمن. يعني: ما تحب أن أهب لك، فأجاب الصبي الصغير فقال: حسن رأيك. والآن لو تقول لولد: ما تحب أن أهب لك؟ سيقول: الشوكولاتة، واللعب، والكرة.

وحكى ابن الجوزي أن المعتصم ركب إلى خاقان يعوده، والفتح صبي يومئذٍ، فقال له الخليفة المعتصم : أيما أحسن دار أمير المؤمنين أو دار أبيك؟ فماذا أجاب الصبي الصغير الفتح بن خاقان ؟ قال: إذا كان أمير المؤمنين في دار أبي فدار أبي أحسن، فأراه فصاً في يده فقال له: هل رأيت يا فتح أحسن من هذا الفص؟ قال: نعم، اليد الذي هو فيها! فانظر إلى اللباقة وحسن الجواب.

أعلم صبياً صغيراً جداً كانت تقول له أمه: قل لي خبراً يسرني، فقالت له مرة: قل لي خبراً يحزنني؟ فقال لها: لن تستطيعي أن تصبري، فقالت: قل؟ قال: سأقول لك خبراً يحزنك جداً، وبعد إلحاح شديد، وهو يشفق عليها، قال لها: مات النبي عليه الصلاة والسلام. صبي صغير وينتقي هذا الجواب، عرف أن أحب شخص ينبغي أن يكون إلى كل مسلم هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وأكبر مصيبة وقعت بالأمة المحمدية هي موت النبي عليه السلام؛ ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (ليعزي المسلمين في مصائبهم: المصيبة بي). فأكبر عزاء لمن يفقد أي شخص أن يتذكر موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

مر الحارث المحاسبي وهو صغير بصبيان يلعبون على باب رجل تمار، -يعني يبيع التمر- فوقف الحارث ينظر إلى لعبهم، وخرج صاحب الدار ومعه تمرات، فقال للحارث : كل هذه التمرات، فقال الحارث : ما خبرك فيها؟ -يعني: من أين أتيت بها؟- قال: إني بعت الساعة تمراً من رجل، فسقطت منه هذه التمرات، فكل أنت هذه التمرات التي سقطت من هذا الرجل، فقال الحارث المحاسبي وهو طفل صغير للتاجر التمار: أتعرفه ؟ قال: نعم، فالتفت الحارث إلى الصبيان الذين يلعبون وقال: أهذا الشيخ مسلم؟! قالوا: نعم، فمر وتركه. يعني: مضى الحارث وتركه، فتبعه التمار حتى قبض عليه وقال له: قل لي ما في نفسك؟ فقال: يا شيخ! إن كنت مسلماً فاطلب صاحب التمرات حتى تتخلص من تبعته كما تطلب الماء إذا كنت عطشاناً شديد العطش، يا شيخ! تطعم أولاد المسلمين من سحت وأنت مسلم ؟ فقال الشيخ: والله! لا اتجرت للدنيا أبداً.

وقال عبد الرحمن بن محمد صاحب كتاب صفات الأولياء: حدثني محمد بن إبراهيم النيسابوري بإسناده أن فتحاً الموصلي رحمه الله تعالى قال: خرجت أريد الحج، فلما توسطت البادية إذا غلام صغير لم تجر عليه الأحكام، فقلت له: إلى أين؟ فقال: إلى بيت ربي، قلت: إنك صغير لم تجر عليه الأحكام، فقال: لقد رأيت أصغر مني مات -يعني فهو يبادر إلى الحج حتى لو لم يكن مكلفاً، فإنه يخشى أن يموت- فقلت: إن خطوّك قصير، قال: علي الخطو وعليه التبليغ إن شاء، ألم تسمع قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]؟! قلت: لم أر معك زاداً؟ قال: زادي في قلبي اليقين، حيث ما كنت أيقنت أن الله يرزقني، قلت: إنما أردت أنك تتزود الخبز والماء، قال: ما اسمك؟ قال: قلت: فتح ، قال: يا فتح ! أسألك؟ قلت: سل؟ قال: أرأيت لو أن أخاً لك من أهل الدنيا دعاك إلى منزله، فما كنت تستحي أن تحمل معك طعاماً لتأكله في منزله؟ قلت: بلى، قال: فإن مولاي دعاني إلى بيته، فهو يطعمني ويسقيني، قال فتح : فجعلت أعجب من أمره وبيانه، وزهده مع صغر سنه.

وروى أيضاً صاحب قصص الأولياء ومراتب الأصفياء بإسناده قال: ذكر سهل التستري الله وهو ابن ثلاث سنين، كان يذكر الله سبحانه وتعالى وعمره ثلاث سنوات، وصام وهو ابن خمس سنين حتى مات، وساح في طلب العلم وهو ابن تسع سنين، وكانت تلقى مشكلات المسائل على العلماء ثم لا يوجد جوابها إلا عنده وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وحينئذٍ ظهرت عليه الكرامات، وكان يفتي في مسائل الزهد والورع، ومقامات الإرادات وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ولما بلغ ثلاث عشرة سنة عرضت له مسألة، فلم يجد في تستر من يجبيه عنها، فقال لأهله: جهزوني إلى البصرة، فلم يجد بالبصرة من يستفتيه، فذكر له حمزة بن عبد الله بعبدان فقصدها، فوجد عنده ما يريد وصحبه.

وقال أيضاً: بلغني أن أبا الحسين أحمد بن محمد المدعو بـالنوري لما قرأ القرآن الكريم ألزمه أبوه أن يدخل معه في حانوته، فكان إذا أصبح أخذ أورقاً ودواة -أي: حبر وقلم- وذهب يسأل عما جهل من كتاب الله تعالى، ويكتب ما يقال له، ثم يأتي أباه، وإذا بعثه في حاجة أخذ ألواحه ودواة، فيسأل من مر به من أهل العلم، فإذا غاب يزجره أبوه لغيبته، ويتهدده، وربما ضربه على ذلك أحياناً، وذكر الغزالي فقال له أبوه: ليت شعري -يعني: ليتني أعلم- يا بني ما تريد بعلمك هذا؟ قال: أريد أن أعرف الله تعالى وأتعرف إليه، قال: كيف تعرفه؟ قال: أعرفه بتفهم أمره ونهيه، قال: وكيف تتعرف إليه ؟ قال: أتعرف إليه بالعمل بما علمني، قال أبوه: يا بني! لا أعرض لك في أمرك هذا ما بقيت.

وقال علي بن الجعد : أخبرني أبو يوسف قال: توفي أبي إبراهيم بن حبيب وخلفني صغيراً في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصار أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة ، فأجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعتني بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي وطال عليها هربي، قالت لـأبي حنيفة : ما لهذا الصبي مفسد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقاً يعود به على نفسه، فقال لها أبو حنيفة : مري يا رعناء! هو ذاك يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق. فانصرفت عنه وقالت له: أنت شيخ قد خرفت، وذهب عقلك.

قال أبو يوسف : ثم لزمت أبا حنيفة ، وكان يتعاهدني بماله، فما ترك لي خلة -يعني: حاجة- فنفعني الله بالعلم، ورفعني حتى تقلدت القضاء، وكنت أجالس هارون الرشيد ، وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلى

ينبغي علينا أن نصرف قدراً عظيماً من الجهد إلى توجيه الآباء إلى الأساليب العلمية الصحيحة لتربية أولادهم في شتى مراحل نموهم، فالمؤلم والمؤسف أن أغلب الآباء لا يدركون أن تربية الأولاد علم وفن، وكثير من الناس لم يخطر بباله قط أن هذا علم وفن له أصوله وله قواعده، وأي خطأ فيه يكون ثمنه باهضاً.

فعلى الموجهين وعلى الآباء والمدرسين أن ينتبهوا إلى خطورة هذا الأمر، كي يشب الأولاد أصحاء نفسياً، وإلا فما أفدح الخسائر التي تتكبدها الأمة إذا أهملت تربية أبنائها، ونحن اليوم في أتون الحرب العميقة العلمية المدروسة، فنرى الأساليب الحديثة تسخر كلها في طعن الأمة في أبنائها، وفي مستقبلها، لإخراج أجيال ملحدة، لا تعرف الله، ولا تحب الله، ولا تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تذوب حباً للأجانب، وتعظيماً للكفار، وبغضاً للإسلام وجهلاً بأحكامه، وتاريخه، وتعاليمه، فالكفار يبدءون بتخريب القلاع الإسلامية منذ الوقت الباكر جداً؛ كي يختصروا الطريق، ولا شك أن أول قلعة يتحصن بها الطفل هي الأسرة باتفاق المربين، فالأسرة هي أقوى مؤسسة تربوية على الإطلاق، وهي أكبر مؤسسة تربوية، وفي مقدمة الأسرة يتصدر الوالدان، وبالذات الأب، يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وإن عود الشر، وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وصيانته بأن يؤدبه، ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق.

وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد، رأيت عامته من قبل الآباء.

جهل الآباء يخرج أولاداً فاسدين، ومنحرفين، ويحرم الأمة من خيرهم. نحن المسلمين صلتنا بموضوع تربية الأولاد عريقة وعميقة، ليس علماً حديثاً أو ناشئاً، وإنما بدأ مع بداية الدعوة الإسلامية، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى أنزل في كتابه آية تتلى في المحاريب إلى آخر الزمن، وهي متعلقة بالمحافظة على الأولاد، يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] يقول أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه في تفسيرها: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم.

وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى سائل كل راعٍ عما استرعاه حفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) يعني: مما سيسأل عنه الإنسان يوم القيامة أهل بيته، ولده وزوجته وأهل بيته، ولا ترقى أي نظرية تربوية في العالم إلى هذا المستوى الراقي من أن الإعداد للجواب عن هذا السؤال بين يدي الله سبحانه وتعالى داخل من صلب عقيدتنا، ومن صلب الحقائق الغيبية التي نؤمن بها.

وعن معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة).

وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).

وما أحسن ما قال بعضهم:

وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه

وما دام الفتى بحجى ولكن يعمله التدين أقربوه

يعني لا بد من توجيه ولا بد من تعويد وتربية على التدين، ورحم الله من قال:

قد ينفع الأدب الأولاد في صغرٍ وليس ينفعهم من بعده أدب

إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولن تلين إذا قومتها الخشب

قال ابن خلدون : التعليم في الصغر أشد رسوخاً، وهو أصل لما بعده.

إذاً: الاهتمام بتربية الأولاد يبدأ مبكراً جداً، وهو أشد رسوخاً، ويعتبر الأساس لما بعده؛ لأنه يشكل شخصيته الباكرة التي ينتهي نموها في مرحلة معينة كما ينتهي نموه الجسدي، وعند دخول سن العشرينات مثلاً يكون قد اكتملت شخصيته، وفرغ من نموه النفسي.

ويتأكد الاهتمام بهذه التربية في زماننا هذا الذي تتناوش فيه أطفالنا وأبناءنا الفتن من كل صوب، يذكي لهيبها دعاة على أبواب جهنم، من جلدتنا، ويتكلمون بألستنا، كل همهم أن يخرجوا من أصلابنا أجيالاً من الملاحدة الذين يرضون بالعلمانية رباً وديناً ومنهاج حياة، فإن لم يتدارك الآباء أبناءهم بالتربية الإسلامية القوية اجترفتهم العلمانية الملحدة، وضمتهم إلى صفوفها ليحاربوا الله ورسوله والمؤمنين، فإن أكثر من يحارب الإسلام الآن ويطعن في قلبه هم هؤلاء المنافقون الذين يحملون أسماء المسلمين، ينادون أحمد ومحمد وعبد الله وما لهم من الإسلام إلا الأسماء، أما الحقيقة فهم ذئاب تحت هذه الأسماء التي يستترون تحتها، ويطعنون الإسلام ويحاربون المسلمين، ويريدون استئصال دين الله أشد مما يفعل اليهود والنصارى وسائر الكفرة الصريحون، ولا شك أن هذا واقع قد لمسناه في البلاد التي سبقت إلى اعتناق هذا المذهب اللاديني المخرب الذي هو العلمانية، يقول الشاعر:

ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد

الأبناء الآية يتعرضون للفتن من كل حدب، ومن كل صوب.. من مناهج التعليم.. من الإعلام من رفقة السوء.. مما يرون في الشوارع من الفساد الذي ذاع وشاع وطم وملأ السهل والوادي والجبل وما ترك شبراً من الأرض إلا واخترقته هذه الفتن، فإذا كنت صاحب غنم، وعلمت أن هذه الأرض كثيرة السباع، ثم نمت عنها، فسوف ينوب عنك في رعاية هذه الغنم الأسد، وإذا كانت الأسد أو السباع أو الذئاب ترعى الغنم فماذا تتوقعون؟ هل تبقي منها على شيء؟!

إذا لم يكن الأب متيقظاً حذراً حارساً لأبنائه من هذه الفتن، دارساً القواعد العلمية والأساليب العلمية التربوية الصحيحة في التعامل مع هذه الفتن لانجاء وإنقاذ أبنائه؛ ضاع منه أولاده.

اشتد حرص الإسلام على هذه المهمة الجسيمة، ونحن حينما نتكلم عن تعظيم الإسلام لهذا الموضوع فلن نأتي بكلام من خارجٍ، إنما من صلب القرآن والسنة، ومن صلب سيرة السلف، فنحن في الحقيقة -كما نكرر في كل مجال من مجالات تخلفنا- متخلفون عن الإسلام، لسنا متخلفين عن الغرب بحضارته المادية، بل نحن في الحقيقة متخلفون عن الإسلام، فالتخلف ليس عن الكفار في أمور الدنيا وزينتها، بل نحن متخلفون عن الإسلام، ونريد أن نرتقي إلى مستوى هذا الإسلام، في كل أحوالنا حتى في الآداب الشرعية، فما أكثر السلوكيات الخاطئة التي تصدر من بعض الناس، وبعضهم يكون ملتزماً بدينة لكنه لم يتفقه في دينه، سواء في آداب الاستئذان أو في حفظ الأمانات وغير ذلك.

وهذا الخلل ليس مصدره الالتزام بالدين قطعاً، إنما مصدره التخلف عن الإسلام، والتخلي عن آدابه فهذه المعاني التي يطرب لها الغرب الآن فيما يزعمونه من بالحقوق والدعوة إلى التربية ومنهاج التربية الصحيحة في زعمهم، كانت هي بالنسبة للمسلمين حديث مكرر مر عليه قرون وقرون وقرون والأمة تتنادى بهذا الأمر، وتؤديه على أكمل وجه، إلى أن تخلينا عن الإسلام، فخرجت هذه الأجيال التي يخشى منها على الإسلام أكثر مما يخشى من اليهود والنصارى، هذا دكتور في الأزهر، ويؤلف طاعناً في القرآن، ويؤلف طاعناً في الأنبياء، وشاتماً للأنبياء، وطاعناً في شريعة الله سبحانه وتعالى! ويجد من إخوانه الملاحدة من يدافع عنه ويحميه، ويجعله أستاذاً ومفكراً، هذا المفكر يحمل أسماً من أسماء المسلمين، ونحن ما تعرفنا عليه إلا في صفحة الحوادث، وصفحة المجرمين، وفي القضايا والنيابة والقبض عليه وغير ذلك، ومع ذلك يجعل من الأدباء الذين يصنعهم أعداء الدين من أجل استئصال الدين.

اشتد حرص السلف على مباشرة هذه المهمة الجسيمة، حتى أن الخليفة المنصور بعث إلى من في الحبس من بني أمية يقول لهم: ما أشد ما مر بكم في هذا الحبس؟ فقالوا: ما فقدنا من تربية أولادنا. أي: الحيلولة بيننا وبين تربية أولادنا أكبر مصيبة وقعت علينا ونحن في هذا الحبس.

واشتد نكير السلف على من يصرف همه إلى الكبار فقط، ويهمل الصغار، وما ذاك إلا لأن الأمة محتاجة إليهم، وهم الأعمدة التي تبنى لتحمل ثقل البناء فيما بعد، رأى عمرو بن العاص حلقة قد جلسوا إلى جانب الكعبة، فلما قضى طوافه جلس إليهم، فنحو الفتيان عن مجلسهم، وأبقوا الكهول والكبار في السن، فقال لهم عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: لا تفعلوا، أوسعوا لهم، وأدنوهم، وألهموهم، فإنهم اليوم صغار قوم يوشك أن يكونوا كبار قوم آخرين، قد كنا صغار قوم فأصبحنا كبار آخرين. وقد علق الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى على هذه العبارة لـعمرو بن العاص رضي الله عنه قائلاً: وهذا صحيح لا شك فيه، والعلم في الصغر أثبت، فالذي ينبغي أن يعتنى بصغار الطلبة لاسيما الأذكياء المتيقظين الحريصين على أخذ العلم، فلا ينبغي أن يجعل صغرهم أو فقرهم وضعفهم مانعاً من مراعاتهم والاعتناء بهم، وكان الإمام الشاشي محمد بن الحسين الفقيه الشافعي رحمه الله تعالى ينشد:

تعلم يا فتى والعود رطب وطينك لين والطبع قابل