علو الهمة [15]


الحلقة مفرغة

صور من سقوط الهمة في التاريخ الماضي

وقد رأينا في التاريخ الماضي حلقاً كثيرة جداً تثبت لنا وتجسد لنا أعراض هذا المرض الخطير، فمثلاً: رأينا كيف كان الجندي التتري يأمر المسلم الذي سقطت همته أن يبقى في مكانه؛ حتى يعود فيقتله!

فسقوط الهمة أعظم وأخطر ما يظهر في حالات الحروب والجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.

كما رأينا من قبل نماذج في علو الهمة في جهاد الصحابة والسلف الصالح رضي الله تعالى عنهم، وكيف أناروا الدنيا مشارقها ومغاربها في جهادهم في سبيل الله.

وكذلك لما ترك المسلمون الجهاد ذلوا، فمما حكي في كتب التاريخ أن الجندي التتري كان يأمر المسلم الذي سقطت همته أن يقعد في مكانه، ثم يغيب التتري، ويظل المسلم جالساً مكانه لا يتحرك ولا يفكر حتى في مجرد الهروب؛ من شدة ضعف الهمة؛ حتى يذهب هذا التتري ليحضر حجراً، ثم يعود فيشدخ به رأس المسلم، ويقتله بهذا الحجر، وهو جالس منتظر الموت! فإن كنت ميتاً ومقتولاً فإذاً قاوم، أو حتى حاول أن تفر أو تهرب، لكن وصل الحد إلى أن يجلس منتظراً التتري إلى أن يذهب ويحضر الحجر لأنه ليس معه سلاح، ويعود ليشدخ به رأس المسلم ويقتله بذلك، وهو لا يحرك ساكناً. إلى أن ينجز التتري ما أوعده!

وحين نقفز إلى عصرنا الحاضر ونبحث أين سقوط الهمة فسنرى سقوط الهمة في هذا الزمان والجراح كثيرة جداً، سواء في حرب (1948م) مع اليهود في فلسطين، والخيانات التي حصلت فيها، أو في حرب (1967م) لما حصل مسابقة في اختراق الضاحية في أرض سيناء، والجنود هربوا وولوا بالصورة المخزية التي عرفناها.

وهكذا في حرب الخليج الأخيرة رأينا كيف كان ذلك المشهد التمثيلي المخزي حينما ركع الجندي العراقي أمام نعلي الجندي الأمريكي، وجعل يقبلهما ويتمسح بهما، ويطلب من الجندي الأمريكي العفو والصفح، وهذا كان يصور بالكاميرات، فالجندي الأمريكي أيضاً حتى يعطي العالم درساً في التسامح ظل يمسح على كتفه ويمسح على رأسه، ويقول له: لا بأس! أنت بخير، فلا تقلق، ولا تجزع! ونشروها في كل العالم على أساس أن هذا نموذج من نماذج التسامح والأخلاق الأمريكية، ولا شك أن هذا أيضاً من مظاهر أو من أعراض مرض سقوط الهمة.

حكاية ابن خلدون لانحطاط الهمم في زمنه

وهكذا رأينا كيف شكا ابن خلدون رحمه الله تعالى تشبه المسلمين في عصره ممن تفلت همتهم بأعدائهم الكفار، وكيف أن ابن خلدون اعتبر أسباب التشبه بالكفار مظهراً من مظاهر سقوط الهمة، وأمارة من أمارات ضياع الأندلس من أيدي المسلمين قبل أن تضيع؛ حيث قال رحمه الله تعالى في مقدمته المشهورة: ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب. أي: أن المغلوب دائماً يميل إلى التشبه بمن يغلبه ومن يقهره، وهذا هو نفس الظاهرة الموجودة الآن من الوقوع في هوى الغرب، وفي تقليد الغرب، والتبعية للغرب على جميع المستويات، ولا نستثني مستوىً واحداً منها؛ ففي اللغة نتكلم بلغة الغرب، وفي العادات والتقاليد نستخدم أساليب وعادات ومناهج الغرب؛ حتى في مناهج التفكير صرنا نمشي بلا أي هوية. وأصبح الحال كما قيل: ويل للمغلوب من الغالب.

يقول ابن خلدون : ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه؛ في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله، وانظر ذلك في الأبناء مع أبنائهم كيف تجد المتشبهين بهم دائماً؛ وما ذلك إلا اعتقادهم الكمال فيهم.

فدائماً الابن يحاكي أباه؛ لأنه يرى أن أباه أفضل إنموذج أمامه في الدنيا، فمهما يفعل الأب فإنك تجد الولد يتشبه به؛ لأنه يعتقد الكمال في أبيه، فكذلك إذا كانت أمة تجاور أمة أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حض كبير، ونحن رأينا كيف كان في زمن نهضة المسلمين في الأندلس يفد إلى الأندلس من جميع أوروبا الشباب الأوروبي، من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكل هذه البلاد كانوا يأتون إلى الأندلس؛ ليتلقوا العلم على أيدي العلماء المسلمين، ولا نقول: العرب، بل على أيدي العلماء المسلمين، وكانت لغة العلم هي اللغة العربية، فكان لابد لزاماً على كل طالب يريد أن يتلقى العلم الحديث وأحدث ما وصل إلى العلم أن يتعلم أولاً اللغة العربية، فكان الشاب الغربي إذا رجع إلى بلاده يفتخر أمام أقرانه بأنه درس في بلاد المسلمين، ويعتبر هذا من مظاهر المفاخرة العظيمة، فكان يخلط كلامه أحياناً بألفاظ عربية، ثم يعود يتكلم بلغته القومية، الأمر الذي حدا بالكنيسة إلى أن أصدرت قراراً بالتهديد وبالحرمان من الجنة لهؤلاء! وقالت لهؤلاء: إن هؤلاء الشبان الرقعاء الذين يذهبون إلى بلاد المسلمين ثم يعودون إلى بلادهم فيبدءون كلامهم باللغة العربية، ثم يكلمون بلغتهم القومية -يعني: أنهم يفعلون ذلك كي يعرف الناس أنهم تعلموا في بلاد المسلمين- هؤلاء الشبان الرقعاء إن لم يكفوا عن ذلك فسوف تصدر الكنيسة ضدهم قرارات حرمان من الجنة!

وهذا لا شك أنه مظهر من مظاهر علو همة المسلمين، وكيف أنهم لما كانت لهم الغلبة كان الجميع يتشبهون بهم.

ومن البلاد التي انتشرت فيها اللغة العربية بسرعة غير متوقعة ولله الحمد هي مصر، وربما يكون هناك سبب ثانوي هو: أن المصريين -كما يقال- عندهم موهبة في تعلم اللغات، ولكن هناك سبب أساسي، وهو أن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لما فتح مصراً كان ذكياً إلى درجة عالية جداً.

قال عمرو بن العاص : إن أي موظف لا يعين في الهيئات أو في الوظائف الحكومية التابعة لولايته إلا إذا كان يعرف اللغة العربية. فتنافس أهل مصر في تعلم اللغة العربية؛ كي يحوزوا المناصب والوظائف؛ حيث كان تعلمها شرطاً في تقلد الوظائف، ولذلك انتشرت اللغة العربية انتشاراً سريعاً جداً في مصر ولله الحمد.

يقول ابن خلدون : إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير، كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة -أي: الأسبان- فإنك تجد أنه لما بدأ يضعف نفوذ المسلمين أمام الجلالقة الأسبان تجد أن بعض المسلمين يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم؛ حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت.

والإنسان إذا رأى صور القصور في الندلس مثل قصر الحمراء وقصر غرناطة وقرطبة يجد أن في ساحات هذه القصور هذه الأشياء المشهورة، كساحة السباع، وهي عبارة عن تماثيل للأسود تخرج من فمها النوافير، مع أن هذا في قصر كان يملكه حكام مسلمون! فإذا كان هذا شأن الحكام في تخليد التماثيل وقد عرف تحريمها الأكيد في الشريعة الإسلامية فإن هذا يعكس مدى ما حصل بسبب الاقتداء بالكفار في هذا الأمر.

يقول الإمام ابن خلدون : حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، فالأمر لله. وكلامه هذا معناه: أن هذه الأمة ستنهار أمام أعدائها، ولا يبقى لها قوة، وحدث ما توقعه ابن خلدون رحمه الله تعالى، واستولى الفرنج على الأندلس الإسلامية، وأخرج المسلمون منها بعد مائتي سنة من كتابته هذه السطور.

صور من انحطاط الهمم في الزمن الحاضر

عن عصرنا حدث ولا حرج من مظاهر تسفل الهمم وانحطاطها؛ فانظروا إلى حال الشباب فقط، فلا أقول أكثر من هذا، انظروا إلى حال الشباب الذين ينتسبون إلى الإسلام كيف تصاغرت همهم، فلم تنشغل إلا بسفاسف الأمور ومحقراتها، فهم شباب الكرة والغناء إلا من رحمه الله، بل حتى في مذاكرتهم؛ فغالبهم يريد أن ينجح بدون جهد يذكر، بخلاف أجيال سابقة كانت أكثر جدية، فنحن نجد هؤلاء الشباب كل ما يشغلهم هي الأمور التافهة والساذجة، كما قال أحد الكتاب المسلمين: لقيت اليوم صديقنا فلاناً، وكان زعيماً سياسياً قديماً، فإذا هو على غير عادته؛ منشرح الصدر، ضاحك الأسارير، فقلت له: أراك اليوم على غير عادتك طلقاً نشيطاً بادي السرور، قال: وما لي لا أكون كذلك وقد أحرزت في هذا اليوم ثلاثة انتصارات؟ قلت: لك الحق إذاً في تهللك وفرحك؛ فنحن في زمان لا نكاد نظفر فيه بانتصار واحد بين مئات الهزائم، فما هي الانتصارات إن لم تكن سراً من الأسرار؟ قال: أما الانتصار الأول فقد دخلت غرفة نومي منذ ثلاثة أيام ذبابة أزعجت نهاري، وأرقت ليلي، وقد حاولت جهدي طردها أو قتلها فلم أفلح، إلى أن ظفرت بها اليوم، فقتلتها شر قتلة، وألقيتها حيث لا يمكن أن تعود حتى لو عادت إليها الحياة! قلت: والانتصار الثاني؟ قال: والانتصار الثاني شعرت به وأنا أزن نفسي في الحمام؛ إذ هبط وزني من تسعة وتسعين كيلو إلى ثمانية وتسعين وسبعمائة وخمسين جراماً! قلت: والانتصار الثالث؟ قال: لعبت اليوم بالنرد مع صديقنا فلان، فغلبته مرتين متواليتين، وهو الذي كان يغلبني باستمرار! أفتراني بعد ذلك كله حقيقاً بما أنا عليه من السعادة والطلاقة والمرح؟! قلت: بلى! بلى! بلى! وتابعت طريقي بأسىً بالغ وألم عميق وحزن غامر عليه وعلى أنفسنا معه؛ لقد تحقق عزلنا عن ميادين الحياة الجادة من قبل الطغيان الداخلي والخارجي، المحلي والدولي، وفاتتنا الانتصارات الحقيقية الكبرى. وهكذا الآن أصبح الذي يطلق عليه البطل هو إما الممثل في الفيلم، أو المسرحية، أو لاعب كرة القدم، هذا هو البطل، وصار يقال: الأبطال، وهذه البطولة، والانتصار، والنجوم، إلى آخر نحو هذه الألفاظ الفخمة؛ كي يتلهى بها الناس، وتطلق على أخس خلق الله سبحانه وتعالى وأخبثهم. يقول: تشاغلنا بأنفسنا ومطامعنا، والتمسنا الراحة والمتعة والرضا، ومثل انتصارات هذا السياسي الكبير القديم أظن أنه لا يختلف عنها بالجوهر، وإن اختلف بالشكل والعنوان؛ أليس هذا ضرباً من ضروب الجنون أو الموت المعنوي الذي يصنعه الطغيان؟! أليس الموت المادي الحقيقي أفضل من مثل هذه الحياة؟! إن الشباب يمعنون في التشبه بالكفار، بل يعلقون صور الممثلين على صدورهم! فأخس الصور وأحط الصور الآن أصبحت تعلق على صدور أولاد المسلمين من أجل الدعاية للفواحش! وحينما أرى شاباً من هؤلاء الرقعاء الذين يعلقون صور الممثلين هذه على ملابسهم أقول: أليس هذا يعود إلى بيته؟! أكيد أنه سوق يعود، وأكيد أن والدته تغسل له هذه الثياب، وأكيد أن أباه يراه، وإخوته يرون هذه الصور القبيحة، فأين هؤلاء جميعاً مما يصنع هذا ؟! إن معنى ذلك أن هناك نوعاً من التخدير أو موت الغيرة في قلوب الناس، إلى حد أن يمشي إنسان بهذه الصور القبيحة، ويظهر بها متحدياً حتى الأخلاق العامة، ومع ذلك لا يخدش ولا يمس بأي سوء؛ فهو عبارة عن رقيق، وهو عبد فخور جداً بهذا الرق! هذا هو باختصار إيضاح الصورة التي نحن عليها. فهو عبد ذليل فخور بالذل وبهذا الرق؛ حتى أن السيارات الآن تعلق عليها الأعلام الأمريكية، وتزين بالأعلام الأمريكية، ويعلقون عليها الآن شتى الصور، ونجد سيارات أخرى عليها أعلام بريطانيا الذي فيه صليب قائم وصليب نائم؛ فإن علم بريطانيا فيه صليبان، وهكذا غيرها من الأعلام!! وهذا يقول: أنا أحب ألمانيا! والآخر يقول: أنا أحب أمريكا! إلى آخر هذه التفاهات المعروفة؛ فهاهم يعلقون على صدورهم وسياراتهم أعلام الدول التي أذلت كبرياءهم وعزهم، وطأطأت أعناقهم، وأهدرت كرامتهم، واستعبدت أمتهم! وعلى صعيد آخر رأينا من يسوغ تعبيد الأمة وإذلالها وتبعيتها لأعدائنا؛ بحجة أننا لم نفكر برأسنا ما دمنا لا نأكل بفأسنا، وجعلوا نظرية الفأس والرأس تسويغاً وتبريراً للتبعية والذل الذي نحن فيه، ويرددون: لا نفكر برأسنا إلا إذا أكلنا بفأسنا، ومن هذا القمح الذي يأتينا من الميناء إلى الأفواه مباشرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ونحن هنا نتكلم على أعراض هذا المرض، فمثل هذه التصريحات هي من مظاهر وأعراض هذا المرض. وهكذا يقول بعض الناس: إن ما نحن فيه من الانحدار تسبب فيه من قبلنا، وسيصلحه من بعدنا، وكل جيل يأتي يردد هذه العبارة، بل عشنا حتى أدركنا زمناً لم تعد الخيانة فيه عاراً يذكر، لكنها شرف يظهر، ويتباهى به، ووظيفة مرموقة، ومفخرة يتهافت عليها!

وقد رأينا في التاريخ الماضي حلقاً كثيرة جداً تثبت لنا وتجسد لنا أعراض هذا المرض الخطير، فمثلاً: رأينا كيف كان الجندي التتري يأمر المسلم الذي سقطت همته أن يبقى في مكانه؛ حتى يعود فيقتله!

فسقوط الهمة أعظم وأخطر ما يظهر في حالات الحروب والجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.

كما رأينا من قبل نماذج في علو الهمة في جهاد الصحابة والسلف الصالح رضي الله تعالى عنهم، وكيف أناروا الدنيا مشارقها ومغاربها في جهادهم في سبيل الله.

وكذلك لما ترك المسلمون الجهاد ذلوا، فمما حكي في كتب التاريخ أن الجندي التتري كان يأمر المسلم الذي سقطت همته أن يقعد في مكانه، ثم يغيب التتري، ويظل المسلم جالساً مكانه لا يتحرك ولا يفكر حتى في مجرد الهروب؛ من شدة ضعف الهمة؛ حتى يذهب هذا التتري ليحضر حجراً، ثم يعود فيشدخ به رأس المسلم، ويقتله بهذا الحجر، وهو جالس منتظر الموت! فإن كنت ميتاً ومقتولاً فإذاً قاوم، أو حتى حاول أن تفر أو تهرب، لكن وصل الحد إلى أن يجلس منتظراً التتري إلى أن يذهب ويحضر الحجر لأنه ليس معه سلاح، ويعود ليشدخ به رأس المسلم ويقتله بذلك، وهو لا يحرك ساكناً. إلى أن ينجز التتري ما أوعده!

وحين نقفز إلى عصرنا الحاضر ونبحث أين سقوط الهمة فسنرى سقوط الهمة في هذا الزمان والجراح كثيرة جداً، سواء في حرب (1948م) مع اليهود في فلسطين، والخيانات التي حصلت فيها، أو في حرب (1967م) لما حصل مسابقة في اختراق الضاحية في أرض سيناء، والجنود هربوا وولوا بالصورة المخزية التي عرفناها.

وهكذا في حرب الخليج الأخيرة رأينا كيف كان ذلك المشهد التمثيلي المخزي حينما ركع الجندي العراقي أمام نعلي الجندي الأمريكي، وجعل يقبلهما ويتمسح بهما، ويطلب من الجندي الأمريكي العفو والصفح، وهذا كان يصور بالكاميرات، فالجندي الأمريكي أيضاً حتى يعطي العالم درساً في التسامح ظل يمسح على كتفه ويمسح على رأسه، ويقول له: لا بأس! أنت بخير، فلا تقلق، ولا تجزع! ونشروها في كل العالم على أساس أن هذا نموذج من نماذج التسامح والأخلاق الأمريكية، ولا شك أن هذا أيضاً من مظاهر أو من أعراض مرض سقوط الهمة.