علو الهمة [13]


الحلقة مفرغة

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

شرعنا منذ فترة في الكلام عن مجالات علو الهمة، وتبقى من هذه المجالات مجالان:

الأول: علو همة السلف ومن اتبعهم من الخلف في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.

الثاني: علو الهمة في البحث عن الحق، ثم بعد ذلك يأتي الكلام في حال الأمة عند سقوط الهمة، ثم الكلام على أسباب الارتقاء بالهمة، وأسباب انحطاط الهمة.

فيما يتعلق بعلو الهمة في الجهاد سبيل الله تبارك وتعالى؛ نحن نعلم أن الرعيل الأول من صفوة المسلمين قد علموا حينما رباهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن في الجهاد فضلاً لا يضاهى، وخيراً لا يتناهى، فأيقنوا أن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الري العظم في شرب كؤوس الحتوف، فشمروا للجهاد عن ساق الاجتهاد، ونفروا إلى ذوي الكفر والعناد من شتى أصناف العباد، وجهزوا الجيوش والسرايا، وبذلوا في سبيل الله العطايا، وأقرضوا الأموال لمن يضاعفها ويزكيها، ودفعوا سلع النفوس من غير مماطلة لمشتريها، وضربوا الكافرين فوق الأعناق، واستعذبوا من المنية مر المذاق، وباعوا الحياة الفانية بالعيش الباق، ونشروا أعلام الإسلام في الآفاق.

فمن ثم كان في الإشارة إلى بعض مناقبهم، وخبر بلائهم، ما عساه يوقظ الهمم الرقد، وينهض العزم المقعد، ومن لم ترويه الإشارة، فكتب التراجم وبالذات تراجم الصحابة رضي الله تعالى عنهم والفاتحين مبسوطة فيها أخبار هؤلاء العظماء.

علو همة النبي عليه الصلاة والسلام في الجهاد

كان إمامهم الأوحد ورائدهم الأول في باب الجهاد كما هو رائدهم في كل باب من أبواب الخير خير من وطئ الحصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].

ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أعلى البشر همة على الإطلاق؛ لأنه حاز من الكمال البشري أعلى قمة في كل وصف من صفات الكمال البشري.

كان أشجع الناس، وأقواهم قلباً، وأثبتهم جناناً، وقد حضر المواقف الصعبة المشهورة، وفر الكماة والأبطال عنه غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح، صلى الله عليه وسلم.

وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة أو فترة، أما هو صلى الله عليه وسلم فلم يفر قط، وحاشاه من ذلك ثم حاشاه صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لـأبي طلحة عري، وفي عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا) يعني: يطمئنهم أنه بمجرد سماع هذا الصوت كان أسبقهم إلى الخروج ليراه، ثم رجع وهم بعد لم يشرعوا في الخروج ليستكشفوا ويستطلعوا هذا الصوت.

علي رضي الله عنه من أشجع فرسان العرب على الإطلاق رضي الله تعالى عنه، يحكي شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحروب فيقول: (كنا إذا اشتد البأس، واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً) صلى الله عليه وسلم.

وقيل: كان الشجاع هو الذي يقرب منه صلى الله عليه وسلم إذا دنا العدو لقربه منه.

وقال عمران بن حصين رضي الله عنهما: ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب الأعداء.

علو همة الخلفاء الراشدين في الجهاد

الشجعان في أمته صلى الله عليه وسلم والأبطال لا يحصون عدة، ولا يحاط بهم كثرة، لاسيما أصحابه المؤيدين، الممدوحين في التنزيل بقول الله تبارك وتعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].

إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كلهم شجعان، فالشجاعة من الكمالات التي تحلى بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

فأشجع الصحابة وكلهم رضي الله عنهم شجعان أفضل البشر جميعاً بعد الأنبياء خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، هكذا شهد له علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أشجع الناس، وصدق رضي الله عنه، فقد كان أثبتهم قلباً وأقواهم جناناً، وحسبك من ذلك ثبات قلبه يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الخندق، ويوم الحديبية، ويوم حنين، بل ثبات قلبه وتثبيته المسلمين عند الخطب الأعظم، والأمر الأفخم بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلا يرتاب عاقل على الإطلاق أن أشد مصيبة وقعت بالمسلمين على الإطلاق هي وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه أشد قاصمة تعرض لها الإسلام، فإذا ما استحضرت أحداث هذا اليوم العصيب، الذي هو أفظع مصيبة عاناها المسلمون، ولن يبتلوا أبداً بأشد منها كما قال عليه الصلاة والسلام: (ليعزي المسلمين في مصائبهم المصيبة بي) يعني: إذا مات لأي مسلم بعد رسول الله عليه السلام أي إنسان مهما كان عزيزاً عليه؛ فليتذكر موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعزي نفسه.

فإذا راجعنا أحداث هذا اليوم نظرنا كيف ثبت أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثباتاً لا نظير له، حتى عمر الفاروق لم يثبت، بل حصل له ما حصل من الاهتزاز والزلزلة حينما بلغه نبأ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن هذا من قوة إيمانه وثبات جنانه رضي الله تعالى عنه.

كذلك عزمه في قتال من ارتد حينئذ، فتلك الشريعة التي تضاءلت لها فرسان الأمم، والهمة التي تنازلت لها أعالي الهمم.

ومنهم الفاروق ناصر الدين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، الذي بلغ من الشجاعة والهمة الكبرى أقصى الغايات وأعلى النهايات، والأخبار في قوته في الدين وشدته على المشركين كثيرة مشهورة، ولو أفضنا في الكلام على مواقف عمر رضي الله تعالى عنه وشجاعته لاستوعب ذلك وقتاً كثيراً جداً.

وهذا الليث الحفصاص، والغيث المدرار، ومفرق كتائب المشركين، والآتي من أنواع الشجاعة بما أوجب تحير المتحيرين، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، كان درعه صدراً لا ظهر له فقيل له: ألا تخاف أن تؤتى من قبل ظهرك؟! يعني: ينصحونه أن يتخذ درعاً على ظهره، حتى إذا ما جاءه أحد الأعداء من ظهره لا يتمكن أن يطعنه أو يصيبه، فقال علي رضي الله عنه: إن أمكنت عدوي من ظهري، فلا أبقى الله عليه إن أبقى علي. يعني: أنه لا يمكن عدواً أن يناله أبداً من ظهره، وفيه إشارة إلى أنه لا يفر أبداً، ولا يولي الدبر؛ لأن العدو لن يقابل ظهره إلا إذا ولى الدبر.

وذكر ابن عبد البر في صفة علي رضي الله عنه أنه من شدة بأسه وشجاعته كان إذا أمسك بذراع رجل لم يستطع أن يتنفس. أي: يتوقف الرجل عن التنفس من شدة الخوف والبأس وقوة قبضة علي رضي الله تعلى عنه.

وأخبار شجاعته وعلو همته رضي الله عنه كثيرة مشهورة.

علو همة الصحابة في الجهاد في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام

لما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم في القتال في غزوة بدر الكبرى قال له المقداد بن الأسود رضي الله عنه: يا رسول الله! امض لما أراك الله، فنحن معك، والله! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (( اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ))[المائدة:]، ولكن ( اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معك مقاتلون).

وقال سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه في نفس الموقف: فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا غداً، إننا صبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله.

وعن أنس رضي الله عنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، فجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه، فدنا المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، قال عمير بن الحمام : يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض، قال: نعم، قال: بخ بخ! -وهي كلمة تقال عند الرضا وعند الإعجاب والاستحسان للشيء- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك بخ بخ؟! قال: لا والله! إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طولية -يعني: كيف ينتظر في الدنيا حتى يفرغ من أكل تمرة أو تمرتين أو ثلاثة! فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل رضي الله تعالى عنه.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون - انهزموا - قال: اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه-، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المشركين-، ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ ! الجنة ورب النضر ، إني أجد ريحها دون أحد - يحلف أنه يشم رائحة الجنة من جهة جبل أحد -، قال سعد : فما استطعت -يا رسول الله- ما صنع، قال أنس : فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه - أي: مثلوا بجثته ومزقوها، حتى تلاشت جميع ملامح بدنه، فلم يستطع أحد أن يميزه إلا أخته بطرف أصبعه، وعرفت أن هذه هي جثة أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه- قال أنس : كنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه رضي الله تعالى عنه وفي أشباهه: (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا))[الأحزاب:].

أما في سرية مؤته فقد روي أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أخذ اللواء بيمينه، فقطعت يمينه، فأخذها بشماله، فقطعت، فاحتضنه بعضديه بعدما قطعت الذراعان، حتى قتل رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة، يطير بهما حيث شاء.

ويقال: إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربه فقطعه نصفين، فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية، فتقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، يعني: حصل عنده شيء من التردد في منازلة الأعداء، ثم جزم بعد ذلك، وهتف بهذه الأبيات:

أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلنه أو لتكرهنه

إن أجلد الناس وشدو الرنة مالي أراك تكرهين الجنة

إلى أن قال:

يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليتي

وما تمنيتي فقد أعطيتي إن تفعلي فعلهما هديتي

وإن تأخرت فقد شقيتي

إن تفعلي فعلهما يعني: فعل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعرق لحم، فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت يومك هذا ما لقيت، فأخذه من يده، فانتهش منه نهشة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس -أي: سمع صوت القتال في ناحية الناس- فقال: وأنت في الدنيا؟! -يعني: الناس يجاهدون وأنت تأكل هذا اللحم- فألقاه من يديه، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه.

وعن شداد بن الهاد رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غداة غنم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقسم فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهره، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسماً قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: نصيبك وحظك من الغنيمة- فأخذه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟! قال: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار - يعني: في حلقه - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟! فقالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته، ثم قدمه فصلى عليه، فكان مما ظهر من صلاته - يعني: من الدعاء اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك، فقتل شهيداً، أنا شهيد على ذلك هذا الحديث صحيح رواه النسائي .

علو همة الصحابة في جهاد المرتدين بعد وفاة رسول الله

عن جعفر بن عبد الله بن أسلم قال: لما كان يوم اليمامة، واصطف الناس، كان أول من جرح أبو عقيل ، رمي بسهم فوقع بين من منكبيه وفؤاده في غير مقتل، فأخرج السهم، ووهن له شقه الأيسر في أول النهار، وجر إلى الرحل، فلما حمي القتال يوم اليمامة وانهزم المسلمون، وولوا رحالهم، سمع معد بن عدي يصيح: يا للأنصار! الله الله والكرة على عدوكم، فقال: عبد الله بن عمر : فنهض أبو عقيل يريد قومه، فقلت: ما تريد؟! ما فيك قتال -يعني: أنت ما تستطيع القتال- قال: قد نوه المنادي باسمي! -هو من الأنصار، فلما سمع كلمة: يا للأنصار، قال: المنادي يناديني باسمي - فقال ابن عمر : فقلت له: إنما يقول: يا للأنصار، ولا يعني الجرحى، قال أبو عقيل : أنا من الأنصار وأنا أجيبه ولو حبواً، قال ابن عمر : فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى، ثم جعل ينادي: يا للأنصار، كرة كيوم حنين، فاجتمعوا رحمكم الله جميعاً، تقدموا فالمسلمون دريئة دون عدوهم، حتى أقحموا عدوهم الحديقة، - ظلوا يقاتلونهم حتى أقحموهم في الحديقة - فاختلطوا واختلطت السيوف بيننا وبينهم، قال ابن عمر : فنظرت إلى أبي عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب، فوقعت إلى الأرض - يده انفصلت عن جسده ووقعت إلى الأرض - وبه من الجراح أربعة عشر جرحاً كلها قد خلصت إلى مقتل، وقتل عدو الله مسيلمة ، قال ابن عمر : فوقفت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق، فقلت: يا أبا عقيل ! فقال: لبيك بلسان ملاتاك يعني: بلسان منكسر، كان ضعيف الكلام لأنه تفيض روحه، ثم قال: لمن الدبرة؟! يعني: لمن النصر أو على من الهزيمة؟ يريد أن يطمئن على نتيجة القتال، قلت: أبشر قد قتل عدو الله، فرفع أصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات يرحمه الله.

ومنهم البراء بن مالك ، أخو أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما، فعن ابن سيرين رحمه الله أن المسلمين انتهوا إلى حائط فيه رجال من المشركين، فقعد البراء على ترس وقال: ارفعوني برماحكم فألقوني إليهم، فألقوه وراء الحائط، قال: فأدركوه وقد قتل منهم عشرة -يعني: دخل على كل جيش الأعداء في داخل الحديقة، وقتل منهم عشرة- وجرح البراء يومئذ بضع وثمانين جراحة، ما بين رمية وضربة، فأقام عليه خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه شهراً حتى برئ من جراحته رضي الله تعالى عنه.

وعن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري قال: لما انكشف المسلمون يوم اليمامة قال سالم مولى أبي حذيفة : ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: ما أعجبه قتال أصحابه في ذلك اليوم، فماذا فعل؟

فحفر لنفسه حفرة ودخل فيها، ومعه راية المهاجرين يومئذ، فقاتل حتى قتل يوم اليمامة شهيداً سنة اثنتي عشرة.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مررت يوم اليمامة بـثابت بن قيس بن شماس وهو يتحنط، يعني: يضع الحنوط الذي هو نوع من الطيب مخصوص للموتى، وكان السلف يفعلون ذلك إذا خرجوا للجهاد من باب حث النفوس على الموت، وتصميم العزم على نيل الشهادة في سبيل الله تبارك وتعالى.

قال أنس : فقلت: يا عم! ألا ترى ما يلقى المسلمون وأنت هاهنا؟! يعني: المسلمون في الجهاد والقتال شديد، وأنت هنا تتحنط بهذا الطيب؟! قال: فتبسم ثم قال: الآن يا ابن أخي! فلبس سلاحه وركب فرسه، حتى أتى الصف، فقال: أف لهؤلاء وما يصنعون، وقال للعدو: أف لهؤلاء وما يعبدون، خلوا عن سبيله -يعني: افسحوا الطريق عن الفرس- حتى أصلى بحرها. فحمل فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه.

وعن عبد الله بن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيو)، فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى ! أأنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟! قال: نعم، قال: فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه -أي: الغمد- ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل رضي الله تعالى عنه.

علو همة خالد بن الوليد في الجهاد

وهذا سيف الله تعالى وفارس الإسلام وليث المشاهد قائد المجاهدين أبو سليمان خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه وأرضاه لما حضرته الوفاة قال: لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها، وهأنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء. يعني: وما قتلت مع ذلك، فيدعو على الجبناء الذين يجبنون عن الجهاد خوفاً من الموت ألا يناموا، وأن يزيد الله من فزعهم من الموت، فلا نامت أعين الجبناء.

وروى عاصم بن بهدلة عن أبي وائل قال: لما حضرت خالداً الوفاة قال: لقد طلبت القتل مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتها وأنا متترس، والسماء تهلني، ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار، ثم قال: إذا مت فانظروا إلى سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله، فلما توفي خرج عمر على جنازته، فذكر قوله: ما على آل الوليد أن يسفحن على خالد من دموعهن ما لم يكن نقعاً أو لقلقة.

هذه الأمة حينما بنيت هذا البناء المتين الذي طبق مشارق الأرض ومغاربها، والذي يستعصي على الاقتلاع حتى اليوم؛ إنما هو أثر من آثار وبركة من بركات جهاد الصحابة الأوائل رضي الله تعالى عنهم، كل ما نحن فيه من نعمة الإسلام، سواء هاهنا في بلادنا أو في غيرها من آفاق الأرض، إنما هو بسبب جهاد الصحابة، الصحابة لو قطنوا في جزيرة العرب، لو اعتزلوا وناموا ما انتشر الإسلام، وما وصلتنا هذه النعمة العظيمة التي هي أجل النعم على الإطلاق في هذا الوجود، نعمة الإسلام.

فتباً لهؤلاء الذين يريدون أن يطفئوا النور الذي أضاء الصحابة به ربوع الأرض كلها، من أعداء الله من العلمانيين الملحدين، وأعداء الدين الذين كل جهدهم الآن أن يطفئوا نور الله، وأن يمحوا ويقتلعوا ويجففوا منابع الإسلام، جفف الله الدم في عروقهم أجمعين!

انظر إلى هذه الشجاعة، شيء لا يكاد يتصور ولا يتخيل، قائد عسكري هو أعظم قواد الإسلام على الإطلاق، ماذا فعل خالد في إحدى المعارك؟

بلغ من شجاعة خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه أن جيش الأعداء كان واقفاً ويصطف في الصفوف، ويقف قائد الفرس لينظم صفوفهم، وإذا بـخالد ينطلق كالبرق حتى يحتضن القائد ويخطفه، ويعود به من وسط جيوشه إلى جيش المسلمين أسيراً!

شيء لا يكاد يتخيله إنسان، هل هناك قلب يكون عنده مثل هذه الشجاعة وهذه السرعة وهذا الإنجاز؟

انطلق إليه بدون حراسة معه، وبدون قوات معه، وبلا شك هذا أثار ذهول الأعداء، وما استطاعوا أن يفعلوا شيئاً أمام هذه الشجاعة النادرة، فرضي الله تعالى عن خالد وعن سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

علو همة الصحابة في جهاد الروم

في حديث عبد الله بن حذافة رضي الله تعالى عنه أنه أسرته الروم، فحبسه طاغية في بيت، ووضع له في هذا البيت ماءاً ممزوجاً بخمر، ولحم خنزير مشوي؛ ليأكل الخنزير ويشرب الخمر، وتركه ثلاثة أيام، فلم يفعل، لا شرب الماء؛ لأن فيه خمراً، ولا أكل لحم الخنزير المشوي مع جوعه، ثم أخرجوه حين خشوا موته من الجوع، فقال: والله! لقد كان أحله الله لي؛ لأني مضطر، ولكن لم أكن لأشمتكم بدين الإسلام.

و عبد الله بن حذافة السهمي صحابي توفي بمصر ودفن بمقبرتها في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وله قصة مشهورة حكاها أبو رافع قال: وجه عمر جيشاً إلى الروم، فأسروا عبد الله بن حذافة ، فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: هل لك أن تتنصر وأعطيك نصف ملكي؟! وفي بعض الروايات أنه عرض عليه أن يزوجه ابنته أيضاً.

قال: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملك العرب، ما رجعت عن دين محمد طرفة عين، قال: إذن أقتلك، قال: أنت وذاك، فأمر به فصلب، وقال للرماة: ارموه قريباً من بدنه. وأراد إرهابه فقط، وهو يعرض عليه أثناء ذلك النصرانية ويأبى، فأنزله ودعا بقدر فصب به ماء يغلي، ودعا بأسيرين من المسلمين، فأمر بأحدهما فألقي في القدر وهو يعرض عليه النصرانية، وهو يأبى، ثم بكى، فقيل للملك: إنه بكى لما رأى الأسير الذي أدخلوه في ذاك الإناء الذي يغلي، فخرج وهو عظام تلوح، ذاب لحمه وشحمه في هذا الماء المغلي. فظن أنه قد جزع وخاف، فقال: ردوه، ما أبكاك؟ قال: قلت: هي نفس واحدة، تلقى الساعة فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تلقى في النار في الله.

فقال له الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟ فقال له عبد الله : عن جميع الأسارى؟ قال: نعم، فقبل رأسه. وعدو الله أراد أن يقبل رأسه ليرضي غروره، فحينما وازن الأمرين وجد أن إنقاذ إخوانه المسلمين أهم، وما قبل أن يفرج عنه وحده، فقبل رأسه، وأقبل بالأسارى على عمر رضي الله عنه، فأخبره خبره، فقال عمر رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابن حذافة ، وأنا أبدأ، فقبل المسلمون رأسه رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

يقول الشاعر:

أجدر الناس بالكرامة عبد تلفت نفسه ليسلم دينه

استوصى عابداً من العباد صاحباً له يعني: ماذا يفعل من العبادات والطاعات فقال: هو بذل الروح وإلا فلا تشتغل بالترهات، يعني: أعظم ما تتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى بذل روحك، وما عدا ذلك فترهات، يقول الشاعر:

الجود بالمال جود فيه مكرمة والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وعن العلاء بن سفيان الحضرمي قال: غزا بسر بن أبي أرطأة الروم، فجعلت ساقه لا تزال تصاب، فيكمن لهم الكمين، فيصاب الكمين -والمراد: ساقة الجيش- فلما رأى ذلك تخلف في مائة من جيشه، فانفرد يوماً في بعض أودية الروم، فإذا براذين مربوطة -جمع برذون، والبرذون يطلق على غير العربي من الخيل والبغال، وهو عظيم الخلقة، غليظ الأعضاء، قوي الأرجل، عظيم الحافر- فإذا براذين مربوطة نحو ثلاثين، والكنيسة إلى جانبهم -يعني: هؤلاء الفرسان هم الذين كانوا دائماً يصيبون ساقته في الكمائن- فنزل عن فرسه فربطه، وقد انفرد عن إخوانه المائة الذين كانوا معه، فلما رأى ثلاثين برذوناً عرف أن في الكنيسة ثلاثين فارساً، فدخل الكنيسة، فأغلق عليه وعليهم بابها انظروا إلى الشجاعة والهمة العالية، حتى لا يهربوا وهو واحد- فجعلت الروم تعجب من إغلاقه، يعني: كيف تصل به الشجاعة إلى أن يغلق الباب عليهم أجمعين، مع أنه واحد فقط، فما استقلوا إلى رماحهم حتى صرع منهم ثلاثة، وفقده أصحابه في ذلك الوقت، فطلبوه، فوجدوا الفرس الخاص به مربوطاً إلى جوار هؤلاء البراذين، فعرفوه، وسمعوا الجلبة والأصوات من داخل الكنيسة، فأتوها فإذا بابها مغلق، فقلعوا بعض الخشب من السقف ونزلوا عليهم، وبسر ممسك طائفة من أمعائه بيده، قد أصابه هؤلاء الفرسان، وقد قتل منهم ثلاثة وبقي سبعة وعشرون، وظل يقاتل سبعة وعشرين وهو وحده، فجرحوا منه بطنه، فانزلقت أمعاؤه، فأخذ يقاتلهم وهو ممسك الأمعاء بيده حتى لا تسقط، ونزلوا عليهم وبسر ممسك طائفة من أمعائه بيده، والسيف بيده اليمنى، فلما تمكن أصحابه في الكنيسة سقط بسر مغشي عليه، فأقبلوا على أولئك فأسروا وقتلوا، فأقبلت الأسارى فقالوا: ننشدكم الله، من هذا؟ قالوا: بسر بن أبي أرطأة ، فقالوا: والله! ما ولدت النساء مثله. فعمدوا إلى أمعائه فردوها إلى جوفه، ولم ينخرط منها شيء، ثم ربطوه بعمائمهم وحملوه، ثم خاطوه فسلم وعوفي رحمه الله تعالى.

علو همة الصحابة في جهاد الفرس

كبيري الهمم من المجاهدين يهوون رفع الثقيل من الأمور، وخوض المخاطر، واقتحام العقبات، فأولئك النخعيون الذين تسابقوا على الاستشهاد في معركة القادسية قال واحد منهم: أتينا القادسية، فقتل منا كثير من النخعيين ومن سائر الناس قليل، فسئل عمر رضي الله عنه عن ذلك فقالوا: إن النخع ولو أعظم الأمر وحدهم. يعني: هم الذين تجردوا للجهاد في هذه الوقعة.

ورفع الله سبحانه وتعالى الحرج عن المعذورين، فقال عز من قائل: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:91]، وقال تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61]، فعذر الحق سبحانه وتعالى أصحاب الأعذار، لكن ما صبرت القلوب، الأبدان معذورة لكن القلوب لا تصبر ولا تتعاطى الرخصة، فخرج ابن أم مكتوم إلى أحد، وطلب أن يعطى اللواء، مع أنه أعمى، فأخذه مصعب بن عمير ، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها، فأمسكه بيده الأخرى، فضرب اليد الأخرى، فأمسكه بصدره، وقرأ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، هذه عزائم القوم، والحق يقول: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ [النور:61]، وهو من هؤلاء المعذورين.

عمرو بن الجموح من كبار الأنصار أعرج، وكان في أول الجيش، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد عذرك، فقال: والله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة).

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.

وكر الفرس كرة على غرة، فرجع المسلمون متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة؛ لأنه يجوز الفرار إذا كان لأجل الكر والفر أثناء القتال، يعني يفر من أمام العدو حتى يدور عليه من جهة أخرى أو يعود إلى كتيبة المسلمين يتزود منها ثم يعود، فالمسلمون لما بوغتوا وفوجئوا بهذه الحملة من الكفار، رجعوا حتى يرتبوا أنفسهم ويعودوا للقتال، فطاردهم هؤلاء المشركون الفرس، فلم يستطيعوا أن يأسروا منهم أحداً إلا أضعف الناس سيراً وقت الانسحاب أو التقهقر، فاختطفوه أسيراً وعادوا به.

تصوروا الآن أضعف واحد في الجيش الإسلامي كيف كان مفهوم الجهاد في سبيل الله في حسه، هذا هو الأضعف الذي لم يستطع الجري ومن ثم أسر، انظروا مستوى الوعي والفهم لحقيقة رسالته في هذه الحياة.

قال له رستم قائد جيش الفرس: ما جاء بكم؟ وما تطلبون؟ فقال له هذا المسلم: جئنا نطلب موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: أرضكم ودياركم وأبناؤكم إن أبيتم أن تسلموا، ومن قتل منا أدخله الله الجنة، وأنجز لمن بقي منا وعده، فنحن على يقين.

قال: قد وضعنا إذاً في أيديكم! فقال له المسلم: ويحك يا رستم ! إن أعمالكم وضعتكم، فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى من حولك، فإنك لست تحارب الإنس، وإنما تحارب قضاء الله وقدره، ونحن قضاء الله وقدره، هذا الرجل الذي هو أضعف واحد في جيش المسلمين، انظر كيف فهمه لغايته في الجهاد.

أوجز خالد بن الوليد وأبلغ حين وصف جنود الإسلام وهو يخاطب الفرس: قد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة، هذا وصف صادق باختصار شديد، وهذا ما يعرفه كل أعداء الإسلام في شتى الأعصار والأزمان.

علو همة التابعين في الجهاد

التابعي الجليل أبو وائل شقيق بن سلمة الأزدي رحمه الله، كان من نتاج تربية الأربعة الخلفاء الراشدين وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وغيرهم رضي الله تعالى عنهم.

عاف التجارات والبيوت؛ لانشغاله بالجهاد، لم يكن له بيت يدخل فيه، ولم يكن يشتغل في تجارة، وما كان يعرف أي شيء عن هذه الأشياء، بنى له في الكوفة خصاً صغيراً يسعه هو وفرسه وسلاحه فقط، مساحة الخص الذي اتخذه تحتمل جسده والفرس والسلاح فقط.

وبقي طول عمره متحفزاً للجهاد، يخرج للجهاد ويعود إلى هذا الحصن، حتى لم يعد يعرف موازين السوق التي يتعامل بها الناس؛ لأنه لم يمارس هذه الأشياء أبداً، وإنما عاش كل حياته من الجهاد وإلى الجهاد.

وكان إذا خلى ينشج -يعني: يبكي بصوت وتوجع- من خشية الله سبحانه وتعالى، ولو جعلت له الدنيا على أن يفعل ذلك وأحد يراه لم يفعل، وكان له خص يكون فيه هو وفرسه، فإذا غزا نقضه، وإذا رجع بناه.

هكذا كانوا يمضون نحو غايتهم الكبرى لا يلتفتون إلى الوراء، ويقول أحدهم غير وجل ولا آسف:

وأراني أسمو بسعيي ووعيي عن جزاء من معدن الأرض بخس

حسب نفسي من الجزاء شعوري أنني في الإله أبذل نفسي

يعني: يسمو ويتعالى عن أن يكون هدفه من الجهاد في سبيل الله عن جزاء من معدن الأرض بخس من ذهب أو فضة أو مال.

وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى وهو الإمام المجاهد الكبير:

بغض الحياة وخوف الله أخرجن

كان إمامهم الأوحد ورائدهم الأول في باب الجهاد كما هو رائدهم في كل باب من أبواب الخير خير من وطئ الحصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].

ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أعلى البشر همة على الإطلاق؛ لأنه حاز من الكمال البشري أعلى قمة في كل وصف من صفات الكمال البشري.

كان أشجع الناس، وأقواهم قلباً، وأثبتهم جناناً، وقد حضر المواقف الصعبة المشهورة، وفر الكماة والأبطال عنه غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح، صلى الله عليه وسلم.

وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة أو فترة، أما هو صلى الله عليه وسلم فلم يفر قط، وحاشاه من ذلك ثم حاشاه صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لـأبي طلحة عري، وفي عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا) يعني: يطمئنهم أنه بمجرد سماع هذا الصوت كان أسبقهم إلى الخروج ليراه، ثم رجع وهم بعد لم يشرعوا في الخروج ليستكشفوا ويستطلعوا هذا الصوت.

علي رضي الله عنه من أشجع فرسان العرب على الإطلاق رضي الله تعالى عنه، يحكي شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحروب فيقول: (كنا إذا اشتد البأس، واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً) صلى الله عليه وسلم.

وقيل: كان الشجاع هو الذي يقرب منه صلى الله عليه وسلم إذا دنا العدو لقربه منه.

وقال عمران بن حصين رضي الله عنهما: ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب الأعداء.

الشجعان في أمته صلى الله عليه وسلم والأبطال لا يحصون عدة، ولا يحاط بهم كثرة، لاسيما أصحابه المؤيدين، الممدوحين في التنزيل بقول الله تبارك وتعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].

إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كلهم شجعان، فالشجاعة من الكمالات التي تحلى بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

فأشجع الصحابة وكلهم رضي الله عنهم شجعان أفضل البشر جميعاً بعد الأنبياء خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، هكذا شهد له علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أشجع الناس، وصدق رضي الله عنه، فقد كان أثبتهم قلباً وأقواهم جناناً، وحسبك من ذلك ثبات قلبه يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الخندق، ويوم الحديبية، ويوم حنين، بل ثبات قلبه وتثبيته المسلمين عند الخطب الأعظم، والأمر الأفخم بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلا يرتاب عاقل على الإطلاق أن أشد مصيبة وقعت بالمسلمين على الإطلاق هي وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه أشد قاصمة تعرض لها الإسلام، فإذا ما استحضرت أحداث هذا اليوم العصيب، الذي هو أفظع مصيبة عاناها المسلمون، ولن يبتلوا أبداً بأشد منها كما قال عليه الصلاة والسلام: (ليعزي المسلمين في مصائبهم المصيبة بي) يعني: إذا مات لأي مسلم بعد رسول الله عليه السلام أي إنسان مهما كان عزيزاً عليه؛ فليتذكر موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعزي نفسه.

فإذا راجعنا أحداث هذا اليوم نظرنا كيف ثبت أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثباتاً لا نظير له، حتى عمر الفاروق لم يثبت، بل حصل له ما حصل من الاهتزاز والزلزلة حينما بلغه نبأ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن هذا من قوة إيمانه وثبات جنانه رضي الله تعالى عنه.

كذلك عزمه في قتال من ارتد حينئذ، فتلك الشريعة التي تضاءلت لها فرسان الأمم، والهمة التي تنازلت لها أعالي الهمم.

ومنهم الفاروق ناصر الدين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، الذي بلغ من الشجاعة والهمة الكبرى أقصى الغايات وأعلى النهايات، والأخبار في قوته في الدين وشدته على المشركين كثيرة مشهورة، ولو أفضنا في الكلام على مواقف عمر رضي الله تعالى عنه وشجاعته لاستوعب ذلك وقتاً كثيراً جداً.

وهذا الليث الحفصاص، والغيث المدرار، ومفرق كتائب المشركين، والآتي من أنواع الشجاعة بما أوجب تحير المتحيرين، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، كان درعه صدراً لا ظهر له فقيل له: ألا تخاف أن تؤتى من قبل ظهرك؟! يعني: ينصحونه أن يتخذ درعاً على ظهره، حتى إذا ما جاءه أحد الأعداء من ظهره لا يتمكن أن يطعنه أو يصيبه، فقال علي رضي الله عنه: إن أمكنت عدوي من ظهري، فلا أبقى الله عليه إن أبقى علي. يعني: أنه لا يمكن عدواً أن يناله أبداً من ظهره، وفيه إشارة إلى أنه لا يفر أبداً، ولا يولي الدبر؛ لأن العدو لن يقابل ظهره إلا إذا ولى الدبر.

وذكر ابن عبد البر في صفة علي رضي الله عنه أنه من شدة بأسه وشجاعته كان إذا أمسك بذراع رجل لم يستطع أن يتنفس. أي: يتوقف الرجل عن التنفس من شدة الخوف والبأس وقوة قبضة علي رضي الله تعلى عنه.

وأخبار شجاعته وعلو همته رضي الله عنه كثيرة مشهورة.