علو الهمة [3]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

ثم أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

إن الإنسان إذا علت همته فإنه لا يقنع بالدون ولا يرضيه إلا معالي الأمور، فالهمم العالية لا تعطي الدنية ولا تقنع بالسفاسف ولا ترضى إلا بمعالي الأمور، فصاحب الهمة العالية لا يقبل أن يبقى في هامش الحياة، بل دائماً يجتهد أن يصل إلى ما أمكنه من الكمالات؛ ليقينه أنه إذا لم يزد شيئاً هو على الدنيا ويترك فيها بصماته في الخير وأعمال البر، فإنه سيصبح هو زائداً على الدنيا، وفضلة من فضلات الدنيا، أو في هامش صفحة الحياة.

يقول الشاعر:

وما للمرء خير في حياة إذا ما عد من سقط المتاع

ويقول الشاعر:

قلت للصقر وهو في الجو عال اهبط الأرض فالهواء جديب

قال لي الصقر في جناحي وعزمي وعنان السماء مرعى خصيب

وهذا المرعى الخصيب الذي لا يكون إلا في الأعالي يجهله الأرضيون، حيث ثقل التراب ومطامع الأرض.

إذا ما كنت في أمر مروم فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم

وقال صفي الدين الحلي :

لا يظهر العجز منا دون نيل المنى ولو رأينا المنايا في أمانينا.

يعني: ما دمنا لم نحقق آمالنا، فلا يمكن أن يجد العجز واليأس إلينا سبيلاً، حتى ولو كانت المنية هي التي تدركنا في سبيل الحصول على هذه الأماني.

ويقول البارودي :

فانهض إلى صهوات المجد معتلياً فالباز لم يأو إلا عالي القلل

ودع من الأمر أدناه لأبعده في لجة البحر ما يغني عن الوشل

قد يظفر الفاتك الألوى بحاجته ويقعد العجز بالهيابة الوكل

معناه: فانهض إلى صهوات المجد معتلياً، صهوات: جمع صهوة، وهو موضع السرج من ظهر الفرس، والمقصود بها ذرى المجد، فالباز: أي: الصقر، لم يأو إلا عالي القلل، أي: قمم الجبال.

ودع من الأمر أدناه لأبعده في لجة البحر ما يغني عن الوشل.

يعني: أن البحر الخضم الواسع الذي فيه الماء الوفير فيه ما يغنيك عن أن تقنع بالوشل وهو الماء القليل.

ثم يقول:

قد يظفر الفاتك الألوى بحاجته.

الفاتك: يعني: الجريء، والألوى أي: الشديد

ويقول: ويقعد العجز بالهيابة الوكل

الهيابة: هو الذي يخاف الناس وليس عنده جرأة ولا إقدام.

أما الوكل: فهو العاجز الذي إذا نابه أمر لا ينهض فيه بنفسه بل يكله إلى غيره.

فإذاً: كبير الهمة نوع من البشر تتحدى همته بحول الله عز وجل وقوته ما يراه غيره مستحيلاً، ولذلك نلاحظ أنه لا يمكن أبداً أن يوجد شخص من الشخصيات التي أثرت في تاريخ الأمم وأحدثت التجديد إلا لا بد قطعاً أنه كان عالي الهمة، بجانب العلم تكون هذه الإرادة، فإذا تخيلت أي عظيم من عظماء الإسلام فلا بد أن يكون من صفاته الأساسية التي لا غنى به عنها هي علو الهمة، ولذلك بهمة رجل واحد تحيا أمة بكاملها؛ لأن هذه هي تركيبته النفسية التي وهبه الله سبحانه وتعالى هذه القوى العظيمة، حتى إنه يتحدى ما يكون بالنسبة لغيره مستحيلاً، وينجز بحول الله عز وجل ما ينوء به العصبة أولو القوة، ويقتحم بتوكله على الله الصعاب والأهوال، لا يلوي على شيء، يقول الشاعر في مثله:

له همم لا منتهى لكبارها وهمته الصغرى أجل من الدهر.

يعني: له همم تطمح وتصبو إلى ما لا نهاية، وأصغر همة عنده أجل وأعظم من الدهر!.

لا إفراط في علو الهمة

ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة، كل شيء في الوجود فيه إفراط وفيه تفريط، فيه غلو وفيه جفاء، أما علو الهمة فإنه لا يعرف الإفراط أبداً، فلا يوصف صاحب الهمة بأنه مفرط في آماله وفي طموحاته. عالي الهمة إذا كان يستوفي شروط وحدود وقواعد علو الهمة، فإنه لا يوصف بالإفراط، بل دائماً همته وثابة، لا يقنع أبداً بشيء، ولا تقف همته عند حد، وشرط ذلك أن تكون همته مبنية على معرفته قدر نفسه، مبنية على سعيه حسب إمكانه في تحصيل ما يحب وتجنب ما يكره، وإن لم توجد هذه الشروط فليس هذا رجاء ولا علو همة، إنما هو غرور أو إغراق في أحلام اليقظة، وأحلام اليقظة في حد ذاتها ليست عيباً، لو أن إنساناً يشرد ذهنه في حالة اليقظة ويمني نفسه أو يؤمل في أن ينهض بنفسه في طلب العلم أو في عبادة أو في جهاد أو في دعوة أو في الصعود إلى الجنة، ويقول: سأفعل كذا وأخاطب كذا، وأحفظ القرآن ثم بعد ذلك أدرس كذا أو أرحل إلى كذا؛ فإذا كانت هذه الأحلام تعطيه شحنة وتجعله ينهض إلى هذه الآمال، فهذا بلا شك شيء محمود وليس مذموماً. أما أحلام اليقظة التي لا يترتب عليها عمل، فهي مجرد استغراق للوقت في هذه الأماني والاغترارات، وهي مذمومة، كحال ذلك الرجل الذي جاء وصفه في بعض الكتب، وحكاها ابن قتيبة في عيون الأخبار، حكي أن ناسكاً كان له عسل وسمن في جرة، ففكر يوماً، أو بتعبيرنا الحديث نقول: استغرقته أحلام اليقظة، وكانت الجرة معلقة فوقه وهو جالس فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشتري خمس أعنز، فأولدهن في كل سنة مرتين، ويبلغ النتاج في سنتين مائتين، وأبتاع بكل أربع بقرة، وأصيب بذراً فأزرع، وينمو المال الذي في يدي، فأتخذ المساكن والعبيد والإماء والأهل، ويولد لي ابن فأسميه كذا، وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربت بعصاي رأسه وكانت في يده عصا. فحكى -من شدة الاستغراق- حركة الضرب لهذا الابن، فرفعها حاكياً للضرب فأصابت الجرة فانكسرت، وانصب العسل والسمن على رأسه. فهذه من صور الاستغراق في الأحلام والأماني، وهكذا أغلب وقته يقضيه في هذه الأماني، دون أن يسعى ودون أن يكون عنده الطاقة التي يندفع بها في سبيل تحقيق أمانيه. فإذا كان الإنسان مستوفياً لشروط الثقة بالله سبحانه وتعالى، ثم الثقة في نفسه ومعرفة قدر نفسه، وأوتي ما هو من مؤهلات علو الهمة، فهذا لا يوصف بالإفراط أبداً. إذاً: ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة؛ لأن الهمم العالية طموحة وثابة لا تعرف الحدود، دائمة الترقي والصعود، لا تعرف الدعة والسكون. يقول الشاعر: فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا أي كن رجلاً رجله على الأرض، أما همته فهامتها عند النجوم في الثريا، ليس هذا فحسب، بل إن المؤمن العالي الهمة يريد ما هو أعلى من الثريا، ما هو فوق سبع سماوات، إنها الجنة، بل هو يطمح إلى أعلى ما في الجنة وهو الفردوس الأعلى، وهذا هو الذي أدبنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبه منا، فقال: (إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس الذي هو أعلى الجنة، وسقفه عرش الرحمن) وهو أوسط الجنة أيضاً. مثال ذلك ما قاله عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لـدكين لما جاءه، وقد كان عمر بن عبد العزيز قبل أن يلي الخلافة وعده بأن يعطيه صلة، ودكين كان شاعراً، فلما ولي الخلافة جاءه دكين يطلب هذه الصلة، فبين له أنه لا أمل في أن يفعل معه ما كان يفعله من قبل، فقال له: يا دكين ! لن أجالسك من أجل أن تمدحني بالشعر وأعطيك المال مقابله قط، ثم قال له: يا دكين ! إن لي نفساً تواقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة.

حث ابن الجوزي على طلب المعالي وعدم الرضا بالدون

يقول الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى: من أعمل فكره الصافي دله على طلب أشرف المقامات ونهاه عن الرضا بالنقص في كل حال.

وقد قال أبو الطيب المتنبي :

ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام

فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود السماوات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد لرأيت المقصر في تحصيلها في حضيض، غير أنه لا يمكن ذلك؛ لأن النبوة لا تنال بالاكتساب، فينبغي أن يطلب الممكن.

والسيرة الجميلة عند الحكماء هي: خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل.

يعني: السيرة الطيبة أن يحقق الإنسان أقصى قدر من الكمال الممكن، الذي يدخل في دائرة الإمكان وليس في المستحيلات.

ثم يقول ابن الجوزي : وأنا أشرح من ذلك ما يدل مذكورة على مغفلة، أما في البدن فليست الصورة داخلة تحت كسب الآدمي، بل يدخل تحت كسبه تحسينها وتزيينها، فقبيح بالعاقل إهمال نفسه، وقد نبه الشارع على الكل بالبعض.

يعني الشارع ندبنا أيضاً إلى الكمال الممكن حتى في الصورة الظاهرة، بأن يكون الإنسان نظيفاً، وليس معنى هذا أن الإنسان تكون قيمته في مظهره، لكن أقول: الإنسان ما أمكنه أن يكون كاملاً بقدر المستطاع في كل شيء، فليكن كذلك، وقد كان الأنبياء أكمل الناس في كل شيء، حتى في مظهرهم وفي ملبسهم وفي نظافتهم وفي ملامحهم.

ثم يقول: وقد نبه الشارع على الكل بالبعض، فأمر بقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة، ونهى عن أكل الثوم والبصل النيء لأجل الرائحة، وينبغي له أن يقيس على ذلك ويطلب غاية النظافة ونهاية الزينة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعرف مجيئه بريح الطيب، فكان الغاية في النظافة والنزاهة.

يقول ابن الجوزي : ولست آمراً بزيادة التقشف الذي يستعمله الموسوس، ولكن التوسط هو المحمود.

هذا المعنى ينافي التربية العجيبة للصوفية، حيث يحصنون هذه المعاني في نفوس أتباعهم بحجج واهية، حتى إن بعضهم يقول: أسعد لحظات عنده منذ أن من الله عليه بالإسلام كانت ثلاث لحظات:

مرة من المرات وجد نفسه في مركب ووجد نفسه أحقر الموجودين.

ومرة أخرى كان عليه فروة فلم يستطع أن يميز بين شعر الفرو وبين القمل من كثرته..! إلى آخره، فمثل هذا ما دام يحتقر ذاته، فكيف سيصعد بها إلى أعلى! فالتربية الصوفية لها أسوأ الآثار في تحطيم الهمم والتسفل بها.

يقول أيضاً الإمام ابن الجوزي : وينبغي له أن يجتهد في التجارة والكسب ليفضل على غيره، ولا يفضل غيره عليه.

هذا المعنى مأخوذ من الحديث: اليد العليا خير من اليد السفلى.

فإذاً: هو يحث هنا أيضاً على أن يستقل مادياً بحيث أنه لا يحتاج أن يمد يده إلى غيره، فتكون يده سفلى، لكن يكون هو المعطي لا الآخذ.

ثم يقول: وليبلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم، فينبغي له مع اجتهاده في الكسب أو في التجارة ألا يصل إلى حد يعوقه عن طلب العلم، ثم ينبغي له مادام يطلب العلم أيضاً أن يطلب الغاية في العلم، بأن يجتهد في تحصيل أعلى الدرجات في طلب العلم.

فإذاً: من المناسب أن يذكر ابن الجوزي هنا قادحاً في هذا المعنى وهو التقليد، ما دمت تريد الغاية في العلم والارتقاء وعلو الهمة في طلب العلم، فقبيح بك أن تقنع بالتقليد. ثم يقول: ومن أقبح النقص التقليد.

وذلك لأن التقليد مظهر من مظاهر سفل الهمة، وهو أخذ قول الغير بدون معرفة دليله.

ثم يقول: فإن قويت همته رقته إلى أن يختار لنفسه مذهباً ولا يتمذهب لأحد؛ فإن المقلد أعمى يقوده مقلده.

أرجو عدم التطرف في فهم هذه العبارة؛ لأنه ليس معنى هذا أن كل واحد يتخذ له مذهباً ويفهم النصوص على غير مرادها، لكن هذا لمن يسلك السلم الطبيعي الذي يرتقي به إلى مرتبة الاجتهاد المطلق، ثم ينبغي له أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى ومعاملته، وفي الجملة لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها؛ فإن القنوع بالدون حالة الأراذل، فالأراذل فقط هم الذين يقنعون ويقفون عند غاية.

ولذلك يقول الشاعر ذاماً هؤلاء الشباب:

شباب قنع لا خير فيهم وبورك في الشباب الطامحين.

ويقول الآخر:

فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا.

ويقول آخر في وصف عالي الهمة: إنه ما يسمع بفضيلة إلا وتثب نفسه إليها.

يعني: لا يسمع بأي فضيلة إلا ويحدث نفسه أن يكون هو صاحب هذه الفضيلة، بحيث لو سمع قوله صلى الله عليه وسلم: يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب فوراً تقفز همته إلى أن يكون واحداً من هؤلاء السبعين الألف، وإذا سمع مثلاً قوله عليه الصلاة والسلام: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها فتحدثه نفسه فوراً أن يجتهد كي يكون هو ذلك المجدد، وهكذا.

يقول الشاعر:

إذا ذكر المجد ألفيته تأزر بالمجد ثم ارتدى

يعني: اتخذ من المجد إزاراً ورداءً.

ثم يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: ولو أمكنك عبور كل أحد من العلماء والزهاد فافعل، فإنهم كانوا رجالاً وأنت رجل، وما قعد من قعد إلا لدناءة الهمة وخستها.

هناك عبارة استنكرها بعض المحققين، يمكن أن تفهم فهماً صحيحاً ويمكن أن يحصل بسببها تواضع في الهمة، وهي قول بعض السلف: إن الأول لم يدع للآخر مقالاً.

ليس معناها الاستغناء عما عليه السلف، وإنما معناها أن الإنسان لا يستسلم ويقول: أنا لا يمكن أن أصل إلى هذا المستوى، لكنه يخرج كل همته كي يرتقي، كما يقول ابن الجوزي هنا: ولو أمكنك عبور كل أحد من العلماء والزهاد فافعل، فإنهم كانوا رجالاً وأنت رجل، وما قعد من قعد إلا لدناءة الهمة وخستها، فاعلم أنك في ميدان سباق، والأوقات تنتهز، ولا تخلد إلى كسل، فما فات من فات إلا بالكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم، وإن الهمة لتغلي في القلوب غليان الماء في القدور، وقد قال بعض من سلف:

ليس لي مال سوى كري فبه أحيا من العدم

قنعت نفسي بما رزقت وتمطت في العلا هممي

معناه: أنه فيما يتعلق بالطعام والشراب والرزق وهذه الأشياء عنده قنوع يرضى بالقليل، لكن في الهمة لا يرضى بالقليل أبداً.

شروط وضوابط وأسس الهمة الخالية من الإفراط والتفريط

ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة، كل شيء في الوجود فيه إفراط وفيه تفريط، فيه غلو وفيه جفاء، أما علو الهمة فإنه لا يعرف الإفراط أبداً، لا يوصف صاحب الهمة بأنه مفرط في آماله وفي طموحاته، الإفراط يكون في أمور أخرى غير هذا.

أما عالي الهمة فما دام يستوفي شروط وحدود وقواعد علو الهمة، فإنه لا يوصف أبداً بالإفراط، بل دائماً همته وثابة، لا يقنع أبداً بشيء، ولا تقف همته عند حد، وشرط ذلك أن تكون همته مبنية على معرفته قدر نفسه، مبنية على سعيه حسب إمكانه في تحصيل ما يحب وتجنب ما يكره، وإن لم توجد هذه الشروط فليس هذا رجاء وليس هذه علو همة، إنما يكون هذا اغترار، أو إغراق في أحلام اليقظة، وأحلام اليقظة في حد ذاتها ليست عيباً، لو أن إنساناً يشرد ذهنه في حالة اليقظة ويمني نفسه أو يؤمل في أن ينهض بنفسه في طلب العلم أو في عبادة أو في جهاد أو في دعوة أو في الصعود إلى الجنة، ويقول: سأفعل كذا وأخاطب كذا، وأحفظ القرآن ثم بعد ذلك أدرس كذا أو أفعل كذا أو أرحل إلى كذا، فإذا كانت هذه الأحلام تعطيه شحنة وتجعله ينهض إلى هذه الآمال، فهذا بلا شك شيء محمود وليس مذموماً، أما أحلام اليقظة التي لا يترتب عليها عمل، فهي مجرد استغراق للوقت في هذه الأماني وهذه الاغترارات وهي مذمومة. كحال ذلك الرجل الذي جاء وصفه في بعض الكتب، وحكاها ابن قتيبة في عيون الأخبار، وهي أنموذج من نماذج أحلام اليقظة التي فيها نوع من التفريط والانحراف: حكي أن ناسكاً كان له عسل وسمن في جرة، ففكر يوماً، أو بتعبيرنا الحديث نقول: استغرقته أحلام اليقظة، وكانت الجرة معلقة فوقه وهو جالس فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشتري خمس أعنز، فأولدهن في كل سنة مرتين، ويبلغ النتاج في سنتين مائتين، وأبتاع بكل أربع بقرة، وأصيب بذراً فأزرع، وينمي المال الذي في يدي، فأتخذ المساكن والعبيد والإماء والأهل، ويولد لي ابن فأسميه كذا، وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربت بعصاي رأسه وكانت في يده عصا.

فحكى -من شدة الاستغراق- حركة الضرب لهذا الابن، فرفعها حاكياً للضرب فأصابت الجرة فانكسرت، وانصب العسل والسمن على رأسه.

فهذه من صور الاستغراق في الأحلام والأماني، وهكذا أغلب وقته يقضيه في هذه الأماني، دون أن يسعى ودون أن يكون عنده الطاقة التي يندفع بها في سبيل تحقيق أمانيه.

فإذا كان الإنسان مستوفياً لشروط الثقة على الله سبحانه وتعالى، ثم الثقة في نفسه ومعرفة قدر نفسه، وأوتي ما هو من مؤهلات علو الهمة، فهذا لا يمكن أبداً أن يوصف بالإفراط أبداً.

إذاً: ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة؛ لأن الهمم العالية طموحة وثابة لا تعرف الحدود، دائمة الترقي والصعود، لا تعرف الدعة والسكون.

يقول الشاعر:

فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا

كن رجلاً رجله في الثرى، على الأرض، أما همته فهامتها عند النجوم في الثريا، ليس هذا فحسب، بل الحقيقة أن المؤمن العالي الهمة لا يطمح فقط إلى الثريا؛ لأنه يريد ما هو أعلى من الثريا، ما هو فوق سبع سماوات إنها الجنة، بل ليس الجنة فحسب، بل هو يطمح إلى أعلى ما في الجنة وهو الفردوس الأعلى، وهذا هو الذي أدبنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبه منا، فقال: إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس الذي هو أعلى الجنة، وسقفه عرش الرحمن وهو أوسط الجنة أيضاً.

فعالي الهمة ليس فقط كما يقول الشاعر:

فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا

بل همته تتجاوز الثريا، ولا تقنع بدون أعلى درجات الجنة.

مثال ذلك ما قاله عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لـدكين لما جاءه، وقد كان عمر بن عبد العزيز قبل أن يلي الخلافة وعده بأن يعطيه صلة، ودكين كان شاعراً، فلما ولي الخلافة جاءه دكين يطلب هذه الصلة، فبين له أنه لا أمل في أن يفعل معه ما كان يفعله من قبل فقال له: يا دكين ! لن أجالسك من أجل أن تمدحني بالشعر وأعطيك المال مقابله قط، تغير الحال الآن، ثم قال له: يا دكين ! إن لي نفساً تواقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة.

ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة، كل شيء في الوجود فيه إفراط وفيه تفريط، فيه غلو وفيه جفاء، أما علو الهمة فإنه لا يعرف الإفراط أبداً، فلا يوصف صاحب الهمة بأنه مفرط في آماله وفي طموحاته. عالي الهمة إذا كان يستوفي شروط وحدود وقواعد علو الهمة، فإنه لا يوصف بالإفراط، بل دائماً همته وثابة، لا يقنع أبداً بشيء، ولا تقف همته عند حد، وشرط ذلك أن تكون همته مبنية على معرفته قدر نفسه، مبنية على سعيه حسب إمكانه في تحصيل ما يحب وتجنب ما يكره، وإن لم توجد هذه الشروط فليس هذا رجاء ولا علو همة، إنما هو غرور أو إغراق في أحلام اليقظة، وأحلام اليقظة في حد ذاتها ليست عيباً، لو أن إنساناً يشرد ذهنه في حالة اليقظة ويمني نفسه أو يؤمل في أن ينهض بنفسه في طلب العلم أو في عبادة أو في جهاد أو في دعوة أو في الصعود إلى الجنة، ويقول: سأفعل كذا وأخاطب كذا، وأحفظ القرآن ثم بعد ذلك أدرس كذا أو أرحل إلى كذا؛ فإذا كانت هذه الأحلام تعطيه شحنة وتجعله ينهض إلى هذه الآمال، فهذا بلا شك شيء محمود وليس مذموماً. أما أحلام اليقظة التي لا يترتب عليها عمل، فهي مجرد استغراق للوقت في هذه الأماني والاغترارات، وهي مذمومة، كحال ذلك الرجل الذي جاء وصفه في بعض الكتب، وحكاها ابن قتيبة في عيون الأخبار، حكي أن ناسكاً كان له عسل وسمن في جرة، ففكر يوماً، أو بتعبيرنا الحديث نقول: استغرقته أحلام اليقظة، وكانت الجرة معلقة فوقه وهو جالس فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشتري خمس أعنز، فأولدهن في كل سنة مرتين، ويبلغ النتاج في سنتين مائتين، وأبتاع بكل أربع بقرة، وأصيب بذراً فأزرع، وينمو المال الذي في يدي، فأتخذ المساكن والعبيد والإماء والأهل، ويولد لي ابن فأسميه كذا، وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربت بعصاي رأسه وكانت في يده عصا. فحكى -من شدة الاستغراق- حركة الضرب لهذا الابن، فرفعها حاكياً للضرب فأصابت الجرة فانكسرت، وانصب العسل والسمن على رأسه. فهذه من صور الاستغراق في الأحلام والأماني، وهكذا أغلب وقته يقضيه في هذه الأماني، دون أن يسعى ودون أن يكون عنده الطاقة التي يندفع بها في سبيل تحقيق أمانيه. فإذا كان الإنسان مستوفياً لشروط الثقة بالله سبحانه وتعالى، ثم الثقة في نفسه ومعرفة قدر نفسه، وأوتي ما هو من مؤهلات علو الهمة، فهذا لا يوصف بالإفراط أبداً. إذاً: ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة؛ لأن الهمم العالية طموحة وثابة لا تعرف الحدود، دائمة الترقي والصعود، لا تعرف الدعة والسكون. يقول الشاعر: فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا أي كن رجلاً رجله على الأرض، أما همته فهامتها عند النجوم في الثريا، ليس هذا فحسب، بل إن المؤمن العالي الهمة يريد ما هو أعلى من الثريا، ما هو فوق سبع سماوات، إنها الجنة، بل هو يطمح إلى أعلى ما في الجنة وهو الفردوس الأعلى، وهذا هو الذي أدبنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبه منا، فقال: (إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس الذي هو أعلى الجنة، وسقفه عرش الرحمن) وهو أوسط الجنة أيضاً. مثال ذلك ما قاله عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لـدكين لما جاءه، وقد كان عمر بن عبد العزيز قبل أن يلي الخلافة وعده بأن يعطيه صلة، ودكين كان شاعراً، فلما ولي الخلافة جاءه دكين يطلب هذه الصلة، فبين له أنه لا أمل في أن يفعل معه ما كان يفعله من قبل، فقال له: يا دكين ! لن أجالسك من أجل أن تمدحني بالشعر وأعطيك المال مقابله قط، ثم قال له: يا دكين ! إن لي نفساً تواقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة.

يقول الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى: من أعمل فكره الصافي دله على طلب أشرف المقامات ونهاه عن الرضا بالنقص في كل حال.

وقد قال أبو الطيب المتنبي :

ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام

فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود السماوات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد لرأيت المقصر في تحصيلها في حضيض، غير أنه لا يمكن ذلك؛ لأن النبوة لا تنال بالاكتساب، فينبغي أن يطلب الممكن.

والسيرة الجميلة عند الحكماء هي: خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل.

يعني: السيرة الطيبة أن يحقق الإنسان أقصى قدر من الكمال الممكن، الذي يدخل في دائرة الإمكان وليس في المستحيلات.

ثم يقول ابن الجوزي : وأنا أشرح من ذلك ما يدل مذكورة على مغفلة، أما في البدن فليست الصورة داخلة تحت كسب الآدمي، بل يدخل تحت كسبه تحسينها وتزيينها، فقبيح بالعاقل إهمال نفسه، وقد نبه الشارع على الكل بالبعض.

يعني الشارع ندبنا أيضاً إلى الكمال الممكن حتى في الصورة الظاهرة، بأن يكون الإنسان نظيفاً، وليس معنى هذا أن الإنسان تكون قيمته في مظهره، لكن أقول: الإنسان ما أمكنه أن يكون كاملاً بقدر المستطاع في كل شيء، فليكن كذلك، وقد كان الأنبياء أكمل الناس في كل شيء، حتى في مظهرهم وفي ملبسهم وفي نظافتهم وفي ملامحهم.

ثم يقول: وقد نبه الشارع على الكل بالبعض، فأمر بقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة، ونهى عن أكل الثوم والبصل النيء لأجل الرائحة، وينبغي له أن يقيس على ذلك ويطلب غاية النظافة ونهاية الزينة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعرف مجيئه بريح الطيب، فكان الغاية في النظافة والنزاهة.

يقول ابن الجوزي : ولست آمراً بزيادة التقشف الذي يستعمله الموسوس، ولكن التوسط هو المحمود.

هذا المعنى ينافي التربية العجيبة للصوفية، حيث يحصنون هذه المعاني في نفوس أتباعهم بحجج واهية، حتى إن بعضهم يقول: أسعد لحظات عنده منذ أن من الله عليه بالإسلام كانت ثلاث لحظات:

مرة من المرات وجد نفسه في مركب ووجد نفسه أحقر الموجودين.

ومرة أخرى كان عليه فروة فلم يستطع أن يميز بين شعر الفرو وبين القمل من كثرته..! إلى آخره، فمثل هذا ما دام يحتقر ذاته، فكيف سيصعد بها إلى أعلى! فالتربية الصوفية لها أسوأ الآثار في تحطيم الهمم والتسفل بها.

يقول أيضاً الإمام ابن الجوزي : وينبغي له أن يجتهد في التجارة والكسب ليفضل على غيره، ولا يفضل غيره عليه.

هذا المعنى مأخوذ من الحديث: اليد العليا خير من اليد السفلى.

فإذاً: هو يحث هنا أيضاً على أن يستقل مادياً بحيث أنه لا يحتاج أن يمد يده إلى غيره، فتكون يده سفلى، لكن يكون هو المعطي لا الآخذ.

ثم يقول: وليبلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم، فينبغي له مع اجتهاده في الكسب أو في التجارة ألا يصل إلى حد يعوقه عن طلب العلم، ثم ينبغي له مادام يطلب العلم أيضاً أن يطلب الغاية في العلم، بأن يجتهد في تحصيل أعلى الدرجات في طلب العلم.

فإذاً: من المناسب أن يذكر ابن الجوزي هنا قادحاً في هذا المعنى وهو التقليد، ما دمت تريد الغاية في العلم والارتقاء وعلو الهمة في طلب العلم، فقبيح بك أن تقنع بالتقليد. ثم يقول: ومن أقبح النقص التقليد.

وذلك لأن التقليد مظهر من مظاهر سفل الهمة، وهو أخذ قول الغير بدون معرفة دليله.

ثم يقول: فإن قويت همته رقته إلى أن يختار لنفسه مذهباً ولا يتمذهب لأحد؛ فإن المقلد أعمى يقوده مقلده.

أرجو عدم التطرف في فهم هذه العبارة؛ لأنه ليس معنى هذا أن كل واحد يتخذ له مذهباً ويفهم النصوص على غير مرادها، لكن هذا لمن يسلك السلم الطبيعي الذي يرتقي به إلى مرتبة الاجتهاد المطلق، ثم ينبغي له أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى ومعاملته، وفي الجملة لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها؛ فإن القنوع بالدون حالة الأراذل، فالأراذل فقط هم الذين يقنعون ويقفون عند غاية.

ولذلك يقول الشاعر ذاماً هؤلاء الشباب:

شباب قنع لا خير فيهم وبورك في الشباب الطامحين.

ويقول الآخر:

فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا.

ويقول آخر في وصف عالي الهمة: إنه ما يسمع بفضيلة إلا وتثب نفسه إليها.

يعني: لا يسمع بأي فضيلة إلا ويحدث نفسه أن يكون هو صاحب هذه الفضيلة، بحيث لو سمع قوله صلى الله عليه وسلم: يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب فوراً تقفز همته إلى أن يكون واحداً من هؤلاء السبعين الألف، وإذا سمع مثلاً قوله عليه الصلاة والسلام: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها فتحدثه نفسه فوراً أن يجتهد كي يكون هو ذلك المجدد، وهكذا.

يقول الشاعر:

إذا ذكر المجد ألفيته تأزر بالمجد ثم ارتدى

يعني: اتخذ من المجد إزاراً ورداءً.

ثم يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: ولو أمكنك عبور كل أحد من العلماء والزهاد فافعل، فإنهم كانوا رجالاً وأنت رجل، وما قعد من قعد إلا لدناءة الهمة وخستها.

هناك عبارة استنكرها بعض المحققين، يمكن أن تفهم فهماً صحيحاً ويمكن أن يحصل بسببها تواضع في الهمة، وهي قول بعض السلف: إن الأول لم يدع للآخر مقالاً.

ليس معناها الاستغناء عما عليه السلف، وإنما معناها أن الإنسان لا يستسلم ويقول: أنا لا يمكن أن أصل إلى هذا المستوى، لكنه يخرج كل همته كي يرتقي، كما يقول ابن الجوزي هنا: ولو أمكنك عبور كل أحد من العلماء والزهاد فافعل، فإنهم كانوا رجالاً وأنت رجل، وما قعد من قعد إلا لدناءة الهمة وخستها، فاعلم أنك في ميدان سباق، والأوقات تنتهز، ولا تخلد إلى كسل، فما فات من فات إلا بالكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم، وإن الهمة لتغلي في القلوب غليان الماء في القدور، وقد قال بعض من سلف:

ليس لي مال سوى كري فبه أحيا من العدم

قنعت نفسي بما رزقت وتمطت في العلا هممي

معناه: أنه فيما يتعلق بالطعام والشراب والرزق وهذه الأشياء عنده قنوع يرضى بالقليل، لكن في الهمة لا يرضى بالقليل أبداً.

ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة، كل شيء في الوجود فيه إفراط وفيه تفريط، فيه غلو وفيه جفاء، أما علو الهمة فإنه لا يعرف الإفراط أبداً، لا يوصف صاحب الهمة بأنه مفرط في آماله وفي طموحاته، الإفراط يكون في أمور أخرى غير هذا.

أما عالي الهمة فما دام يستوفي شروط وحدود وقواعد علو الهمة، فإنه لا يوصف أبداً بالإفراط، بل دائماً همته وثابة، لا يقنع أبداً بشيء، ولا تقف همته عند حد، وشرط ذلك أن تكون همته مبنية على معرفته قدر نفسه، مبنية على سعيه حسب إمكانه في تحصيل ما يحب وتجنب ما يكره، وإن لم توجد هذه الشروط فليس هذا رجاء وليس هذه علو همة، إنما يكون هذا اغترار، أو إغراق في أحلام اليقظة، وأحلام اليقظة في حد ذاتها ليست عيباً، لو أن إنساناً يشرد ذهنه في حالة اليقظة ويمني نفسه أو يؤمل في أن ينهض بنفسه في طلب العلم أو في عبادة أو في جهاد أو في دعوة أو في الصعود إلى الجنة، ويقول: سأفعل كذا وأخاطب كذا، وأحفظ القرآن ثم بعد ذلك أدرس كذا أو أفعل كذا أو أرحل إلى كذا، فإذا كانت هذه الأحلام تعطيه شحنة وتجعله ينهض إلى هذه الآمال، فهذا بلا شك شيء محمود وليس مذموماً، أما أحلام اليقظة التي لا يترتب عليها عمل، فهي مجرد استغراق للوقت في هذه الأماني وهذه الاغترارات وهي مذمومة. كحال ذلك الرجل الذي جاء وصفه في بعض الكتب، وحكاها ابن قتيبة في عيون الأخبار، وهي أنموذج من نماذج أحلام اليقظة التي فيها نوع من التفريط والانحراف: حكي أن ناسكاً كان له عسل وسمن في جرة، ففكر يوماً، أو بتعبيرنا الحديث نقول: استغرقته أحلام اليقظة، وكانت الجرة معلقة فوقه وهو جالس فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشتري خمس أعنز، فأولدهن في كل سنة مرتين، ويبلغ النتاج في سنتين مائتين، وأبتاع بكل أربع بقرة، وأصيب بذراً فأزرع، وينمي المال الذي في يدي، فأتخذ المساكن والعبيد والإماء والأهل، ويولد لي ابن فأسميه كذا، وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربت بعصاي رأسه وكانت في يده عصا.

فحكى -من شدة الاستغراق- حركة الضرب لهذا الابن، فرفعها حاكياً للضرب فأصابت الجرة فانكسرت، وانصب العسل والسمن على رأسه.

فهذه من صور الاستغراق في الأحلام والأماني، وهكذا أغلب وقته يقضيه في هذه الأماني، دون أن يسعى ودون أن يكون عنده الطاقة التي يندفع بها في سبيل تحقيق أمانيه.

فإذا كان الإنسان مستوفياً لشروط الثقة على الله سبحانه وتعالى، ثم الثقة في نفسه ومعرفة قدر نفسه، وأوتي ما هو من مؤهلات علو الهمة، فهذا لا يمكن أبداً أن يوصف بالإفراط أبداً.

إذاً: ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة؛ لأن الهمم العالية طموحة وثابة لا تعرف الحدود، دائمة الترقي والصعود، لا تعرف الدعة والسكون.

يقول الشاعر:

فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا

كن رجلاً رجله في الثرى، على الأرض، أما همته فهامتها عند النجوم في الثريا، ليس هذا فحسب، بل الحقيقة أن المؤمن العالي الهمة لا يطمح فقط إلى الثريا؛ لأنه يريد ما هو أعلى من الثريا، ما هو فوق سبع سماوات إنها الجنة، بل ليس الجنة فحسب، بل هو يطمح إلى أعلى ما في الجنة وهو الفردوس الأعلى، وهذا هو الذي أدبنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبه منا، فقال: إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس الذي هو أعلى الجنة، وسقفه عرش الرحمن وهو أوسط الجنة أيضاً.

فعالي الهمة ليس فقط كما يقول الشاعر:

فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا

بل همته تتجاوز الثريا، ولا تقنع بدون أعلى درجات الجنة.

مثال ذلك ما قاله عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لـدكين لما جاءه، وقد كان عمر بن عبد العزيز قبل أن يلي الخلافة وعده بأن يعطيه صلة، ودكين كان شاعراً، فلما ولي الخلافة جاءه دكين يطلب هذه الصلة، فبين له أنه لا أمل في أن يفعل معه ما كان يفعله من قبل فقال له: يا دكين ! لن أجالسك من أجل أن تمدحني بالشعر وأعطيك المال مقابله قط، تغير الحال الآن، ثم قال له: يا دكين ! إن لي نفساً تواقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة.

إن من خصائص أصحاب الهمم العالية أنهم نادرون قلة من الناس، فكبيرو الهمة يتسابقون إلى المكارم لا يكلون ولا يملون ولا يقنطون، وهل يقنط من رحمة ربه إلا الضالون.

يقول الشاعر مادحاً بهذا الشعر الشيخ الألباني رحمه الله، وبلا شك فإن الشيخ الألباني من أعظم الناس همة في هذا الزمان، فمن يدرس سيرته وترجمته يجد كيف أنه بعلو الهمة أدرك أن يكون محدث العصر، فهو خدم سنة النبي صلى عليه وآله وسلم في عصرنا بما لم يخدمها أحد مثله رحمه الله.

يقول الشاعر:

وجد القنوط إلى الرجال سبيله وإليك لم يجد القنوط سبيلا

ولرب فرد في سمو فعاله وعلوه خلقاً يعادل جيلا

فكبيرو الهمة في الناس كالعملة النادرة، أو كالكبريت الأحمر، يصدق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس كإبل مائة، لا يجد الرجل فيها راحلة) وهذا الحديث رواه مسلم وغيره، معنى (راحلة) هي النجيبة المختارة من الإبل للركوب وغيره، فهي كاملة الأوصاف فمثل هذه الناقة النجيبة إذا كانت في الإبل فإنك تجدها متميزة بصفاتها وبهيئتها وبخصالها، والهاء في قوله: (راحلة) للمبالغة، كما يقال رجل نسابة ورجل فهامة ورجل علامة.

وسميت راحلة؛ لأنها يجعل عليها الرحل، فهي فاعلة بمعنى مفعولة، كقوله تعالى: فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة:21] يعني: في عيشة مرضية، ونظائر ذلك كثير.

إذاً: معنى الحديث أن المرضي الأحوال من الناس الكامل الأوصاف الحسن المنظر القوي على الأحمال والأسفار قليل جداً كقلة الراحلة في الإبل، قال تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ [الواقعة:13] * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:14].

وقال الشاعر:

وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أعز من القليل

فالواحد منهم بأمة والفرد منهم بألف. يقول الشاعر:

يعد بألف من رجال زمانه لكنه في الألمعية واحد

ويقول آخر:

ولم أر أمثال الرجال تفاوتاً إلى المجد حتى عد ألف بواحد

ولذا عظمت المصيبة بفقدهم، وعمت الرزية بموتهم، إذا فقدت الأمة واحداً منهم تكون المصيبة عظيمة، فليس هو موت رجل واحد ولكنه موت أمة كاملة. يقول الشاعر:

تعلم ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير

ولكن الرزية فقد حر يموت بموته بشر كثير

وقال آخر:

فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدم

قال بعض السلف: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء.

ومما قيل في رثاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:

عمت صنائعه فعم هلاكه فالناس فيه كلهم مأجور

(عمت صنائعه) يعني: انتشر إحسانه في الناس.

والناس مأتمهم عليه واحد في كل دار رنة وزفير

يثني عليك لسان من لم توله خيراً لأنك بالثناء جدير

ردت صنائعه عليه حياته فكأنه من نشرها منشور

وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: (صوت القعقاع -أي القعقاع بن عمرو التميمي - في الجيش خير من ألف رجل) ولما طلب عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في فتح مصر كتب إليه: أما بعد: (فإني أمدتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف رجل منهم مقام الألف) وأمير المؤمنين عمر لا يعرف المبالغة كمبالغة الشعراء والأدباء، إذا قال فهو القول، يقول أما بعد: (فإني أمدتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة من الصامت ومسلمة بن خالد ) ولو راجعت ترجمة الأربعة الأبطال لرأيت بذلك عجباً.

وقد يأتي إن شاء فيما بعد ذكر شيء من ذلك، إذا تأملنا مثلاً أولهم وهو الزبير بن العوام لوجدنا العجائب في الحقيقة في سيرته، كذلك مسلمة بن خالد والمقداد وعبادة .

وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يوماً لأصحابه: (تمنوا، فقال واحد من الجالسين: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله عز وجل، فلم يعجب عمر ، فقال عمر : تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها -أي: هذه الدار- مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله عز وجل وأتصدق به، ثم قال: تمنوا، قالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين! قال عمر : لكني أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه، فقال رجل: ما آلوت الإسلام) يعني: ما قصرت في النصيحة للإسلام حين تمنيت أن تكون الدار مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح .

وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب : لكل قوم نجيبة، وإن نجيبة بني أمية عمر بن عبد العزيز ، إنه يبعث أمة وحده.

وقال الأصمعي : لما صاف قتيبة بن مسلم الترك -يعني وقفوا صفوفاً في جهاد الأتراك- وهاله أمرهم، سأل عن محمد بن واسع ، فقيل: هو ذاك في الميمنة جامح على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء، يدعو الله سبحانه وتعالى بأصبعه نحو السماء، هو ذاك في الميمنة متكئ على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء، قال قتيبة : تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير.

يعني: أصبع محمد بن واسع أحب إليه من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير، ليس هذا فحسب، بل قد يقرن عالي الهمة بعجائب الزمان والدهر وقد يزيد عليها، فقد قال يحيى بن معين إمام المحدثين: رأيت بمصر ثلاث عجائب: النيل، والأهرام وسعيد بن كثير بن عفير ، وهو الإمام الحافظ العلامة الأخباري الثقة أبو عثمان المصري كان من بحور العلم.

حسبنا أن الإمام يحيى بن معين يقرن سعيد بن كثير بن عفير بهذه العجائب، وأن ينبهر به حتى تتعرف على جلالة قدره.

وسئل ابن المبارك عن الجماعة التي أمرنا بلزومها، فقال: أبو بكر وعمر ، فقيل له: قد مات أبو بكر وعمر ، قال: فلان وفلان، قيل: قد مات فلان وفلان، فرد عليه ابن المبارك قال: أبو حمزة السكري جماعة، وكان أبو حمزة من أئمة أهل السنة وأئمة العلماء، وسمي سكرياً لا لأنه كان يبيع السكر، وإنما لأن كلامه كان حلواً.

لقد أشرنا من قبل أن عالي الهمة لا يقنع بالدون ودائماً همته وثابة تطمح إلى الأعلى، إذا حصل على شيء يتوق إلى ما هو أعلى منه.

فلما كان كمال الإرادة بكمال المراد، فإن أكمل الناس إرادة هو من أراد الله عز وجل فوحده ولم يشرك به شيئاً؛ لأن الكافر قطعاً سافل الهمة، ولا يمكن أبداً أن يوصف الكافر بعلو الهمة؛ لأن أقصى ما عند الكافر إما أنه يحقق مآربه الدنيوية، أو أنه يجتهد في طلب الآخرة لكن يخطئ الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، مثلاً الذي يعبد المسيح عليه السلام هذا سافل الهمة؛ لأنه رضي بأن يعبد عبداً من دون الله، الله سبحانه وتعالى أرسله إليهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إليه، فعبدوه من دون الله فوقعوا في الشرك والعياذ بالله، فبلا شك أن النصراني خسيس الهمة؛ لأنه قنع بعبادة عبد من العباد، كذلك من يعبد الأوثان خسيس الهمة، واليهودي خسيس الهمة وهكذا.

إذاً: كل من لم يدن بدين الإسلام فقطعاً هو خسيس الهمة؛ لأنه رضي بالدون ولم يتحر ولم يجتهد في الوصول إلى الحقيقة العليا التي هي دين الإسلام، فأكمل الناس إرادة لا بد أن يكون عنده هذا الأساس وهو التوحيد.

لا بد من التوحيد وعدم الشرك بالله.

يقول: فأكمل الناس إرادة هو من أراد الله عز وجل وحده فوحده ولم يشرك به شيئاً، وسعى إلى مجاورة الرفيق الأعلى في دار كرامته التي رضيها الله لأوليائه، وتجافى عن دار الغرور التي جعلها للمؤمن سجناً وللكافر جنة.

قيل للعتابي : فلان بعيد الهمة، قال: إذاً لا يكون له غاية دون الجنة.

يعني: إذا كان فعلاً بعيد الهمة لا بد أن يكون هدفه الأسمى وشغله الشاغل هو أن يصل إلى الجنة.

قال الشاعر:

قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

يعني: أنت ما خلقت للدنيا إنما خلقت للآخرة، فالدنيا دار غربة، أما الآخرة فهي وطن، ونحن الآن في حالة نفي عن الوطن؛ لأن الأصل أن أبانا آدم عليه السلام كان في الجنة فهي الوطن الأول، ولذلك يقول الشاعر:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل

إذاً: فالوطن هو الجنة، ونحن كنا في الجنة في صلب أبينا آدم عليه السلام، ثم خرجنا من الجنة وأبعدنا من الجنة إلى هذه الدار التي هي دار غربة، فالمفروض أن تجتهد في أن تتحرر من أسر الدنيا التي أنت فيها هنا؛ كي تنطلق وتعود إلى الوطن كما يقول الشاعر:

فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم

ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم

فإذا كانت لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفساً وأعلاهم همة وأرفعهم قدراً من لذتهم في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه، يقول تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] فانظر كيف هنا أمرنا بأن نفرح بالإيمان وبالقرآن، في حين نهى عن الفرح بالدنيا والفرح بالزينة وبهذه الدناءات.

يقول الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى: الهمة العالية لا تزال تحوم حول ثلاثة أشياء: تعرف لصفة من الصفات العليا تزداد بمعرفتها محبة وإرادة، وملاحظة لمنة تزداد بملاحظتها شكراً وطاعة، وتذكر لذنب تزداد بتذكره توبة وخشية، فإذا تعلقت الهمة بسوى هذه الثلاث جالت في أودية الوساوس والخطرات.

وقال بعضهم أيضاً:

القلوب: إما قلب يحوم حول العرش، وإما قلب يحوم حول الحش.

ويقول الغزالي رحمه الله تعالى في منهاج العابدين: الملك والكرامة بالحقيقة في الدنيا لأولياء الله عز وجل وأصفيائه الراضين بقضائه، فالبر والبحر والأرض والحجر والمدر لهم ذهب وفضة، والجن والإنس والبهائم والطير لهم مسخرون، لا يشاءون إلا ما شاء الله وما شاء الله كان، ولا يهابون أحداً من الخلق ويهابهم كل الخلق، ولا يخدمون أحداً إلا الله عز وجل ويخدمهم كل من دون الله.

وأين لملوك الدنيا بعشر هذه المرتبة، بل هم أقل وأذل، أما ملك الآخرة فيقول الله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ [الإنسان:20] أي: هناك، وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [الإنسان:20] وأَعْظِمْ بما يقول فيه رب العزة إنه ملك كبير، وأنت تعلم أن الدنيا بأسرها قليلة، وأن بقاءها من أولها إلى آخرها لقليل، ونصيب أحدنا من هذا القليل قليل، ثم الواحد منا قد يبذل ماله وروحه حتى ربما يظفر بقدر قليل من هذا القليل في بقاء قليل، وإن حصل له ذلك فيعظم بل يغبط، ولا يستكثر ما بذل فيه من المال والنفس، نحو ما ذكر عن امرئ القيس حيث يقول:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا

فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا

ثم يقول: فكيف حال من يطلب الملك الكبير في دار النعيم الخالد المقيم.

يعني: إذا كان الجاهلي يبحث ويكدح في سبيل طلب ملك دنيوي، يقول: أنا عملت ما استطعت فإن نلت الملك فهذا ما أريده، وإلا فأكون قد أعذرت نفسي.

فيقول: فيكف حال من يطلب الملك الكبير في دار النعيم الخالد المقيم، أيستكثر مع ذلك أن يصلي ركعتين لله تعالى أو ينفق درهمين أو يسهر ليلتين؟ كلا! بل لو كان له ألف ألف نفس وألف ألف روح وألف ألف عمر، كل عمر مثل الدنيا وأكبر وأكثر فبذل ذلك كله في المطلوب العزيز لكان ذلك قليلاً، ولئن ظفر بعده بما طلب لكان ذلك غنماً عظيماً وفضلاً من الذي أعطاه كثيراً.

انتهى كلام الغزالي .

وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في طاعة الله عز وجل لحقره يوم القيامة)، يعني: لو أن رجلاً اجتهد في عبادة الله من يوم أن ولد، إلى أن يموت شيخاً كبيراً، أفنى كل هذا العمر في طاعة الله عز وجل، ثم لقي الله سبحانه وتعالى في الآخرة ورأى أهوال يوم القيامة ورأى النار وما فيها ورأى الجنة وما فيها، لاحتقر هذا العمل يوم القيامة، لقال: ما عبدت الله حق عبادته، وما عبدته عبادة تستحق أن أنال هذا الملك الكبير في الجنة، هذا لما ينكشف له عياناً من عظيم نواله وباهر عطائه، فأَخْلِقْ بمثل هذا الشخص الذي فقه هذا الفقه الحقيقي وأحرى به إذا عاين جنة الرضوان أن يتمثل قول القائل:

وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غاية ما بعدها لي مذهب

فلما تلاقينا وعاينت حسنها تيقنت أني إنما كنت ألعب

فإذا كان هذا الذي عشق هذه المرأة قبل أن يصل إليها وقبل أن يراها، وكان يتغزل بها وينشد الأشعار فيها، فلما رآها قال: أنا كنت ألعب، بل تستحق ما هو أعظم، فأولى بالمؤمن إذا عاين الجنة أن يقول هذا.

إن كبير الهمة لا يعتد بما له فناء، ولا يرضى بحياة مستعارة، ولا بقنية مستردة، بل همه قنية مؤبدة -والقنية هي ما يكتسب- وحياة مخلدة، فهو لا يزال يحلَّق في سماء المعالي، ولا ينتهي تحليقه دون عليين، فهي غايته العظمى وهمه الأسمى، حيث لا نقص ولا كدر ولا تعب ولا نصب ولا هم ولا غم ولا حزن، إنما هي نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، في مقام أبدي، في حبرة ونضرة، في دور عالية بهية، وهناك فقط تقر عينه وتهدأ نفسه ويستريح قلبه، قال تعالى في أهل الجنة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف:107] * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:108] فتأمل كلمة حِوَلًا الإنسان في الدنيا مهما نال من الدنيا أو عاش في قصر مشيد أو في غير ذلك من متاع الدنيا فإنه بعد فترة يمله ويريد أن ينتقل إلى غيره، أما الجنة فلا يوجد أي ملل أبداً، بل هي قرة عينهم، وحينئذ يطمئن المؤمن ولا يطلب إلا ما هو أعلى؛ لأنه كما قال تعالى: (أعدت فيها لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فلذلك قال تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:108]، وأخلق بمثل هذه الدار أن يبيع الإنسان نفسه وماله وكل الدنيا في سبيل أن يخطى بها، الجنة هي الوطن، والأوطار إنما تطلب في الأوطان، أما الدنيا فهي دار غربة منذ أهبط إليها الأبوان.

إذاً: الذي يريد تحقيق الأوطار فالأوطار تطلب في الأوطان لا في دار الغربة.

إن الدنيا جيفة، والأسد لا يقع على الجيف، الأسد لا يمكن أبداً أن يأكل الطعام البايت، بل يرفض أن يأكله.

ولقد بعثت بلقيس إلى سليمان عليه السلام بهدية، ماذا كان الهدف من هذه الهدية؟ بلقيس أرادت أن تختبر وتمتحن همة سليمان عليه السلام، إذا كانت همته الدنيا فسيرضى ويفرح بهذه الهدية، حينئذ تعلم أنه لا يصلح للمعاشرة، وإن كانت همته عالية تطلب ما هو أعلى تيقنت أنه يصلح للمعاشرة، يقول تعالى حاكياً عن بلقيس : وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل:35] يعني: فناظرة أهو طالب دنيا أم أنه رسول الله حقاً؟ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل:35] * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل:36]، إلى آخر الآيات.

فالدنيا عند سليمان هي هدية بلقيس ، فرفضها وتشوق إلى ما هو أعلى منها، كما فعل ذو القرنين : قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا [الكهف:94] أي: نعطيك مالاً.

عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف:94] ماذا كان جوابه؟

قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الكهف:95] يعني: هذه الأموال اجعلوها لكم أنا في غنى عنها.

مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا [الكهف:95].

وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (من أراد الآخرة أضر بالدنيا) وذلك لأن الدنيا والآخرة ضرتان إذا أرضيت واحدة أسخطت الأخرى، أما أن تؤمل في أن ترضي الاثنتين معاً فهذا لا يكون.

(ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، يا قوم! فأضروا بالفاني للباقي).

من سفل الهمة في طلب الدنيا طلب الجاه والرياء والشهرة والسمعة وغير ذلك، فنحن نعلم (أن أول ثلاثة تسعر جهنم: رجل قاتل في سبيل الله حتى قتل، فيؤتى به ويسأله الله سبحانه وتعالى ويعرفه نعمه كلها عليه، فيقول: ما فعلت فيها؟ فيقول: قاتلت فيك حتى قتلت، قال: كذبت بل قاتلت ليقال: جريء فقد قيل)، هذا كانت همته تقف عند طلب الثناء من الناس، قوله: (فقد قيل) يعني: فقد نلت ما كنت تصبو إليه وحققت هدفك وهو الرياء والسمعة، وأن يتحدث الناس بأنك شجاع وجريء وأنك أبليت بلاء حسناً، فقد أخذت ثوابك، لكن بما أنه أشرك مع الله غيره، فإنه يعاقب بأن يؤمر به فيسحب على وجهه إلى النار، كذلك في الذي أنفق رياءً يقال له: (كذبت، ولكن أنفقت ليقال: هو جواد، فقد قيل: فيؤمر به فيسحب إلى النار) كذلك في الذي طلب العلم يقال له: (ولكنك قرأت أو تعلمت ليقال: عالم، فقد قيل، فيؤمر به فيسحب إلى النار)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.

فإذاً: الدنيا جيفة منتنة، والأسد لا يقع على الجيف.

يقو الإمام الشافعي رحمه الله تعالى مبيناً خطته في التعامل مع الدنيا فيقول:

ومن يذق طعم الحياة فإني خبرتها وسيق إلي عذبها وعذابها

فلم أرها إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها

فإن تجتنبها عشت سلماً لأهلها وإن تجتذبها ناهشتك كلابها.

يرد الآن سؤال سبق أن أشرنا إلى إجابته على سبيل الإجمال، وهو لماذا لا يوصف الكافر بعلو الهمة؟

نقول: لا يمكن أن يوصف كافر بعلو الهمة، فبعض الناس يرتكبون هذا الخطأ، إذا أرادوا أن يتكلموا على علو الهمة فتراهم يحصدون كلاماً عن أناس من الكفار، بدعوى أن هؤلاء كانوا كبيري الهمة، فهذا من الفهم المتواضع جداً لهذا الموضوع، ونجد أعداء الإسلام وأعداء الدين يجتهدون في حشد مناهج التعليم ومنابع التثقيف عند المسلمين بهذه النماذج، وهم بذلك يظهرون أمام المسلمين أن الكفار خاصة الغربيين منهم هم العباقرة وهم الأذكياء وهم الذين علت همتهم، ويحفظ الناس أسماءهم، بينما إلمامهم بأبطالنا من السلف الصالح رحمهم الله تعالى أجمعين ضعيف جداً.

فكثير من الناس يرتكبون هذا الخطأ، خاصة إذا تكلموا على خصائص بعض الشعوب فمثلاً يقولون: إن الشعب الألماني شعب عالي الهمة، أو إن الشعب الياباني شعب عالي الهمة، نحن لا ننكر أن للقوم إمعاناً في تحصيل علوم الدنيا والتقدم الدنيوي، لكن نحن نتكلم الآن عن الهمة العالية التي لا يمكن أن تكون عالية إلا إذا أراد صاحبها الله سبحانه وتعالى وأراد صاحبها الدار الآخرة، أما ما دون ذلك فهو لم يخرج عن حد الدنيا، فلذلك لا يجوز أن يوصف كافر أبداً بعلو الهمة، فيخطئ بعض الناس حين يصفون بعض شعوب الكفار كالألمان أو اليابانيين أو أفراد من المخترعين والباحثين بالهمة العالية؛ لأن الهمة العالية حكر على طلاب الآخرة، بل نسمع بعض الناس أحياناً يترحم على مخترع كذا أو مكتشف كذا مع أنهم كانوا كفاراً، فيترحم عليه! ويقول: رحمه الله، هذا من الجهل الفاحش، الكافر لا يجوز الترحم عليه، فالهمة العالية كما ذكرنا حكر على طلاب الآخرة، وهي من شرفها وعزتها تأنف أن تسكن قلباً قد تنجس بالشرك والكفران، وتلطخ بأقبح معصية في الوجود، وهي معصية الشرك، قال عز وجل: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72] فأي إنسان منذ بعث الله النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن تقوم الساعة بلغته هذه الدعوة وسمع عن هذا الدين ولم يجتهد في الوصول إليه والإيمان به وانشغل بالدنيا، أو انشغل بالدين الفاسد كنصراني أو يهودي أو غير ذلك، أو أعرض عن الدين، فهذا كافر، ومجرد الإعراض عن التوحيد كفر ومعاندة لله سبحانه وتعالى.

يقول سبحانه وتعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]، وقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48].

وقد بينا من قبل أن بكمال الإرادة لكمال المراد، فمن نظر إلى الإرادة وقطع النظر عن المراد وقع في هذا الخطأ البين؛ لأنك حينما تصف الكفار مثلاً أو تصف مخترعاً أو عالماً من علماء الدنيا بعلو الهمة، فأنت نظرت إلى إرادته فقط، لكن قطعت النظر عن المراد، فهو عنده قوة إرادة، لكن قوة إرادته في طلب الدنيا، والدنيا حقيرة كما هو متواتر ومقطوع به.

فهو لن يرضى بالله سبحانه وتعالى مراداً، فكمال الإرادة بكمال المراد، فمن فصل بين الاثنين ونظر فقط إلى قوة الإرادة أو الهمة وقطع النظر عن المراد، فإنه يقع في هذا الخطأ ويصف الكفار بأنهم كبيرو الهمة.

لقد تواترت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية على ذم الدنيا وتحقيرها، ومدح الآخرة وتعظيمها، وهذا الكافر ليس له مراد إلا تعمير الدنيا، فلها يكدح وعليها يقاتل، مع إعراضه عن الآخرة وزهده فيها، أو مع تكذيبه للبعث والنشور، يقول عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:7] أي: قنعوا بالحياة الدنيا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ [يونس:7] * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:8]، وقال سبحانه: وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد:26]، وقال أيضاً: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى)[ النساء:77]، وقال عز وجل: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [الأنعام:32]، وقال أيضاً: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:212].

وقال عز وجل: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200]


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
علو الهمة [13] 2481 استماع
علو الهمة [8] 2442 استماع
علو الهمة [6] 2262 استماع
علو الهمة [7] 2164 استماع
علو الهمة [9] 2046 استماع
علو الهمة [5] 1908 استماع
علو الهمة [16] 1824 استماع
علو الهمة [15] 1793 استماع
علو الهمة [17] 1636 استماع
علو الهمة [14] 1619 استماع