علو الهمة [16]


الحلقة مفرغة

وسنذكر بعض أسباب انحطاط الهمم، ونحن ما كان لنا أن نذكر الأسباب إلا لأنه من الطبيعي قبل أن نذكر أسباب الارتقاء بالهمة أن نتكلم على أسباب انحطاط الهمم؛ لما بينهما من التقابل، وبضدها تتبين الأشياء، وبجانب أن الإنسان يعلم الشر؛ كي يتقيه ويجتنبه.

الوهن وحب الدنيا من أسباب انحطاط الهمم

فأعظم أسباب هذا المرض الخطير: الوهن، والوهن هو كما فسره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المعروف: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قلنا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة منكم من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

أي: أن الأمم تجعل أمة الإسلام وليمة يأكلون فيها المسلمين، ويأخذون ثرواتهم، ويذبحون أبناءهم، فهذه الوليمة صار يتداعى إليها أعداء الإسلام، سواء كان في حرب الخليج الأولى أو الثانية، أو في البوسنة والهرسك، أو في فلسطين، أو في غيرها من المواقع، ففي حرب الخليج قال وزير خارجية بريطانيا: نريد نصيبنا من الكيكة أو من الترتة! بلا استحياء! وهذا تجسيد فعلاً لما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد بين عليه الصلاة والسلام أن الأمر ليس بسبب قلة العدد؛ فأنتم تكونون كثيرين، لكنكم كالغثاء، وهو: الزبد الذي يكون فوق السيل، ويدفعه السيل أمامه في مجراه من الغثاء والرغاوة والكناسة وهذه الأشياء.

قال عليه الصلاة والسلام: (وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، هذا هو السبب في الحقيقة، أما حب الدنيا فأنت إذا تأملت أي خطيئة ترتكب في الوجود فستجد أن سببها هو حب الدنيا بكل ما تحتمله كلمة دنيا من معانٍ؛ لأن الإنسان إذا أحب الدنيا فإن ذلك يؤدي به إلى أن يتثاقل إلى الأرض، ولا يستطيع أن يرتقي إلى السماء؛ فيكون ثقيلاً منجذباً إلى الأرض، كما قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. [التوبة:38]، أي: خفوا إلى الجهاد اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ [التوبة:38].

إذاً: حب الدنيا هو سبب التثاقل إلى الأرض، وكذلك ما من عبد تأسره الشهوات إلا والسبب في هذه الشهوات هي الدنيا أيضاً، وكذلك الانغماس في الترف، فإذا الإنسان عمر في الدنيا وأغرق في الترف ويعيش في الترف بهذه الصورة فهل سيفكر بعد ذلك في الموت؟! وهل سيفكر في الآخرة؟! فهو يعمر الدنيا، ويخرب الآخرة، فمن الطبيعي أن يكره الانتقال من العمار إلى الخراب؛ لأنه خرب الآخرة، فبذلك يميل إلى حب الدنيا، ويتشبث بها.

وكذلك حب الدنيا هو الذي يؤدي بالناس إلى التنافس في دار الغرور، فهم يتنافسون على أمور الدنيا بما يوجد الحسد والحقد والبغضاء والحروب والصراعات وهذه الأشياء.

يقول الشاعر مبيناً أن الرجال يقتل بعضهم بعضاً في سبيل حب الدنيا:

تفانى الرجال على حبها وما يحصلون على طائل

قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: واعلم أن زمن الابتلاء ضيف قراه الصبر. يعني: أن البلاء الذي تعيشه في الدنيا مهما طال فهو فترة مؤقتة، فزمن البلاء هذا ضيف طارئ سيمكث عندك فترة قليلة جداً؛ لأن العمر مهما طال فسيمضي، وسينتهي، وستصبح أنت في خبر كان، وسوف تفضي إلى ما قدمت بين يديك، فنفرض أن إنساناً عاش مائة سنة -وقل من يعيش مائة سنة الآن- فإن مصيره الموت، كما قال ملك الموت لموسى عليه السلام: (ثم ماذا ؟ قال: الموت، قال: فالآن).

فالإنسان حينما يكون موجوداً في عمق الصورة لا يحسن التفكير المتجرد، لكن إذا تدبر نفسه وتصور أنه منفصل عن تأثير هذه الصورة فإنه يعطي الحكم بدقة، ونحن الآن يعرف بعضنا بعضاً، ويعرف الإنسان جيرانه وأصدقاءه وإخوانه وآخرين وكذا وكذا، فنحن منشغلون ومنهمكون في هذا المحيط الذي يحيط بنا، وما هي إلا سنوات قليلة أو عقود قليلة من الزمان وإذا بك أنت وكل هؤلاء الذين تعرفهم ستكونون تحت التراب، وهكذا كل من على وجه الأرض؛ ليأتي جيل جديد، إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى بخراب الدنيا كلها، فكما نحن نجلس الآن في هذا المصر من الأرض فسيأتي غيرنا بعدنا، وهذه الأرض نفسها التي نعيش عليها كم من الناس قد عاشوا عليها منذ مئات السنين وآلاف السنين! لقد عاش عليها أمم فأين هم الآن؟ قال عز وجل: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [مريم:98].

وكما مضى من قبلنا فنحن أيضاً سيأتي من بعدنا في نفس هذه الأراضي وهذه البلاد فيعيشون، قال عز وجل: وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ [إبراهيم:45].

فقوم يجيئون، وقوم يذهبون، ولا ينفع الإنسان ولا يبقى معه إلا عمله الصالح.

يقول ابن الجوزي : زمان البلاء والتكليف والمشقة والصبر على الأذى والصبر على فتن الدنيا هو ضيف سريع الزوال، قراه الصبر. أي: إذا أتاك هذا الضيف وهو البلاء في سبيل الدين فأقره الصبر، والقرى هو: ما يقدم للضيف من الكرم، فأكرم هذا البلاء بأن تصبر عليه إلى أن يرحل؛ فإنه لن يبقى معك طويلاً.

ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تعوذوا بالله من شر جار المقام؛ فإن جار الضعن إذا شاء أن يزايل زايل).

يقول: واعلم أن زمان الابتلاء ضيف قراه الصبر، كما كان الإمام أحمد بن حنبل يعزي على زهده في الدنيا بأن يقول: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، فلا تنظر إلى لذة المترفين، وتلمح عواقبهم، ولا تضق صدراً بضيق العيش، وعلل الناقة بالحدو تسر:

طاول بها الليل مال النجم أن جمح وماطل النوم ظن الجفن أن سمح

فإن تشكت فعللها المجرة من ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى

وهذه هي سياسة المؤمن الحاذق الفطن في تعامله مع الدنيا، فإذا كان هناك عمل من أعمال الدنيا فسوِّف ما شئت، وليس هناك مشكلة، كما يقول الحسن : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.

فحين يتعارض عملان: عمل ستحاسب عليه ربما غداً أو بعد ساعة، وعمل أنت تعلمه كأنك تعيش للأبد، فانظر أيهما يقدم على الآخر. وهذا عكس ما يستعمل الناس هذه العبارة فإنهم يقولون: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، ويفهموها أن تخدم الدنيا تماماً، وكأنك تعيش أبداً، والأمر بالعكس؛ لأن الذي يعيش أبداً إذا فاته شيء من الدنيا الآن يعوضه غداً أو السنة القادمة أو التي بعدها؛ لأن الدنيا تعوض، أما الدين فلا يعوض، فكل شيء إذا ضيعته منه عوض، وليس في الله إن ضيعت من عوض، فإذا كسبت الله كسبت كل شيء، وإذا خسرت الله فاتك كل شيء.

فالإمام أحمد يبين لنا في هذه الكلمة الطيبة السياسة التي ينبغي أن يتعامل بها الإنسان مع الدنيا.

يقول الشاعر:

طاول بها الليل مال النجم أن جنح

يعني: استغرق الليل في طاعة الله وفي ذكر الله وفي العبادة، ولا تمل من ذلك، وكلما تقول لك نفسك: أريد أن أنام، فقل لها: بعد قليل، وهذا هو التسويف في العمل الصالح، وهذا بخلاف التسويف في شهوات النفوس، وبعكس ما يفعل أكثر الناس، فكن كلما اشتكت لك نفسك أنها تريد أن تنام وتريد أن تستريح، فقل لها: سأريحك بعد هاتين الركعتين، وإذا أتيت بركعتين فقل لها: سأريحك بعد أن أقرأ هذا الجزء من القرآن، فإذا انتهيت فقل لها: استريحي بعد هذا الورد من الدعاء، وهكذا سوفها في فعل الخير، كالإنسان المسوف الذي يماطل شريكه، ويتهرب منه بالوعود في المستقبل.

يقول: طاول بها الليل مال النجم أن جنح وماطل النوم ظن الجفن أن سمح

فإن تشكت فعللها المجرة من ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى

فكلما تأتي بعبادة فقل لنفسك إن تشكت في الليل: حينما تطلع مجرة الصباح سأريحك، ثم إذا طلع وقت الصبح عللها بوقت الضحى، وقل لها: سأريحك في الضحى. هذا هو المقصود من الكلام.

وقد كان أهدي إلى أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى هدية من المنصور الخليفة، فردها للمنصور ، ثم قال لأولاده بعد ما مرت سنة -أي: في الذكرى السنوية الأولى لهذه الهدية-: لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت، لو كنا قبلناها كنا قد استهلكناها وذهبت، أما الآن فقد استرحنا من هديته.

ومر بشر على بئر فقال له صاحبه: أنا عطشان، فقال: البئر الأخرى. أي: انتظر حتى نصل إلى البئر التي بعدها، فمر عليها فقال له: الأخرى، أراد بذلك أن يعلمه درساً، فقال له: كذا تقطع الدنيا.

فكلما لاحت لك شهوة أو حاجة من حاجات الدنيا فلا تبادر بإنجازها وتحصيلها، ولكن سوف لنفسك في الدنيا، أما في الدين فلا تسوف؛ إنما في الدنيا قل لها: سوف أفعل كذا فيما يأتي.

ودخلوا على بشر الحافي وليس في داره حصير، فقيل له: ألا بذا تؤذى؟ فقال: هذا أمر ينقضي.

دور كراهية الموت في انحطاط الهمم

هذا فيما يتعلق بالجزء الأول من الوهن الذي سبب انحطاط الهمم، وهو حب الدنيا، أما القسم الثاني فهو كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (وكراهية الموت)، فإذا أحب عبد الدنيا فلابد أن يكره الموت؛ لأنه إذا أحب الدنيا عمرها، وإذا عمرها خرب الآخرة، لأنهما ضرتان؛ إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، فإذا أحب الدنيا واثاقل إليها ورضي بها دون الآخرة فسيخرب الآخرة، وبالتالي يكره الموت الذي سينقله إلى الدار الآخرة.

فثمرة حب الدنيا كراهية الموت، وكراهية الموت أيضاً ثمرة الحرص على متاع الدنيا، مع تخريب الآخرة، فيكره أن ينتقل من العمران إلى الخراب.

قال الطبرائي مبيناً أثر حب السلامة في الانحطاط بالهمة: حب السلامة يثني عزم صاحبه عن المعالي، ويغري المرء بالكسل، إن حب الدنيا وكراهية الموت صنوان لا يفترقان، وإن الهمة العالية لا تسكن القلب الجبان، وتأمل حال خفيف الهمة الذي أورثته التربية الفاسدة حرصاً على حياة، كما قال تعالى في شأن اليهود لعنهم الله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96].

ولذلك تحداهم القرآن الكريم، وهذه من آيات إعجاز القرآن الكريم؛ لأنهم ما قبلوا التحدي حينما تحداهم أن: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94]؛ لأن الإنسان إذا كان صادقاً ومع الحق فكيف يخاف من الموت؟ قال عز وجل: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95]، فالكفار وسائر اليهود لا يمكن أن يتمنوا الموت أبداً؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14].

ونحن لا ننسى خط برليف، وكيف أنهم صنعوا هذا الخط ليجسد معنى هذه الآية: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ ، فنحن نجد دائماً أن المسلم إذا هجم بنفسه على يهودي لا يثبت أمامه اليهودي حتى ولو معه أسلحة أقوى منه، فالمسلم مستعد أن يلتهمه حتى بأسنانه وأظافره، ولذلك لا يقوون أبداً على المواجهة بدون هذه الأسلحة وهذه الجدر وهذه الأشياء.

فخفيف الهمة هو الذي أورثته التربية الفاسدة حرصاً على أي حياة ولو كانت ذليلة، قال عز وجل عن هذا وعن أمثاله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96]، ونكر سبحانه وتعالى كلمة حَيَاةٍ إشارة إلى أنهم يرضون بالحياة ولو كانت أي حياة، فيريد أن يعيش ولو ذليلاً، المهم أن يكون حياً؛ لأنه قد غرست فيه تربية حب السلامة في مواطن الجرأة والإقدام والمخاطرة.

فانظر هذا الرجل من خسيسي الهمة كيف يخبر أن زوجته هنداً تشجعه على الخروج إلى الجهاد أو للقتال أو للدفاع عن العرض والقبيلة والعشيرة أو الدين أو غير ذلك؛ حيث كانت زوجته أشجع منه؛ لأنها هي التي تشجعه وتحرضه على الخروج وهو يرد عليها فيقول:

أضحت تشجعني هند فقلت لها إن الشجاعة مقرون بها العطب

أي: أن الشجاعة هذه تؤدي إلى المهلكة؛ فإن الشجاعة معناها: أنني قد أموت، قال:

أضحت تشجعني هند فقلت لها إن الشجاعة مقرون بها العطب

لا والذي حجت الأنصار كعبته ما يشتهي الموت عندي من له أرب

للحرب قوم أضل الله سعيهم إذا دعتهم إلى حوماتها وثبوا

ولست منهم ولا أهوى فعالهم فلا القتل يعجبني منهم ولا السلب

ويقول آخر:

يقول لي الأمير بغير جرم تقدم حين حل بنا المراس

فما لي إن أطعتك في حياة ولا لي غير هذا الرأس رأس

أي: ليس عندي رأس ثانية، فإذا طارت هذه في الحرب فبماذا أعيش؟!

فأين هذان الجبلان من قول الشاعر:

إذا أراد الغزو لم تثن عزمه حسان عليها نظم در يزينها

نهته فلما لم تر النهي عاقه بكت فبكى مما شجاها قطينها

يصور موقف آخر بالعكس من رجل خرج خارج للجهاد فزوجته ظلت تثنيه عن الخروج وتقول له: إلى من تتركنا؟ وكذا وكذا من هذا الكلام.

فإذا أراد الغزو لم تثن عزمه حصان عليها نظم در يزينها

أي: متزينة بالدر.

نهته فلما لم ترى النهي عاقه

أي: ما أثر فيه النهي.

بكت فبكى مما شجاها قطينها

أي: بكى من حولها من الحشم والخدم والأتباع، بكوا لبكائها.

بل أين هذا الجبان من قول زهير بن أبي سلمى -وهو شاعر جاهلي-:

وليس لمن لم يركب الهول بغية وليس لرحل حطه الله حامل

بل نقول: أين هذا الذي يقول هذا الكلام من ذلك العبد الصالح الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدما كلما سمع بهيعة استوى على متنه، ثم طلب الموت مظانة..)، إلى آخر الحديث، رواه أحمد ومسلم وابن ماجة .

هذا فيما يتعلق بالسبب الأول من أسباب انحطاط الهمة وهو الوهن، والوهن لا يفسر بغير ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (حب الدنيا وكراهية الموت ).

دور الفتور في انحطاط الهمم

ومنها: الفتور، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك).

وقوله: (إن لكل عمل شرة..)، يعني: نشاط وقوة، وقوله: (ولكل شرة فترة..)، أي: ضعف وفتور، يعني: أن هذه هي طبيعة النفس البشرية، فهي تبدأ بهمة وبحمية، ثم بعد وقت يصيبها نوع من الفتور والملل.

فطبيعي أن الإنسان لا يستطيع أن يلزم نفسه الجد بصورة مستمرة، لكن الفترة والفتور أمر لابد منه، لكن على أن يكون إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: يقف الإنسان بالسيارة في محطة البنزين لبضع دقائق، وهذا نوع من الفتور والضعف أو الراحة أو التوقف من أجل أن يزودها بوقود، ومثل هذه الاستراحة تزود الإنسان بطاقة؛ حتى يستطيع أن يستمر بعد ذلك، فمعنى ذلك: أنه لا يتخذ محطة البنزين مستقراً، ولا يذهب ليأتي بالعفش والسرير والمطبخ والأكل والأواني ويضعها في محطة البنزين؛ ليتخذها مقراً ومسكناً له؛ لأن هذا الشيء لا يعقل، لكن هذا ما نفعله نحن بالفعل، ففي المحطة التي هي محطة الراحة؛ لأجل التزود -كمحطة البنزين بالضبط- نحن نتخذها وطناً، وما يكون في حياتنا إلا اللهو واللعب والكرة وهذه الأشياء، ولا يكاد يوجد مظهر من مظاهر الجد في حياتنا.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة)، يعني: فترة قليلة، وبعد ذلك يعاود الجهد، (فمن كانت فترته إلى سنتي)، أي: تبعني في الفترة كما تبعني في الشرة فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك.

وليس هذا مثل من يقول: ساعة لربك، وساعة لقلبك، ويقصد: القلب المريض، يقولها لك إذا نهيته عن المعاصي وعن الأشياء المحرمة، وعن إطلاق البصر، وعن الأغاني، وعن أي شيء من المنكرات، حيث يقول: ساعة لربك، وساعة لقلبك! يعني: ساعة لقلبك المريض أو ساعة لشيطانك، وهذه قسمة كما قال عز وجل: تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم:22].

فالمسلم مطالب بطاعة الله سبحانه وتعالى في كل أحواله، ومطالب باحترام شرع الله في عاداته، ومطالب باحترام الشرع في حالة الهزل وفي حالة الجد.

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس! خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل).

وسبق أن تكلمنا على هذا المعنى مراراً، والحديث متفق عليه، فلذلك يقول الشاعر:

لكل إلى شأو العلى حركات ولكن عزيز في الرجال ثبات

ومعنى هذا: أن الواحد ممكن أنه يفهم مثل هذه المحاضرة ويسمع مثل هذا الكلام على ذوي الهمة في عبادة الله تعالى، ويسمع الأسباب في النهوض بالهمة فتتحرك همته إلى أنه يفعل مثل هؤلاء الخيرين الأخيار، وتقريباً أن كل من يسمع عن هذا تتحرك همته إلى الاقتداء بهم، لكن ليس كل الناس يثبتون، بل ترتفع الهمة عند هذا ثم لا تلبث أن تعود من جديد، وتأملوا ذلك في مناسبات كثيرة، فمثلاً: شهر رمضان، تجد في أول يوم من رمضان المساجد مكتظة في صلاة الفجر أو في الصلوات الخمس؛ لأن رمضان أتى، وكل إنسان يريد أن يتوب ويستقيم ويصلح حاله مع الله سبحانه وتعالى، فالهمة موجودة، حتى في عوام الناس، فيقبلون إقبالاً شديداً جداً، ثم انظر إلى الانحدار الذي يحصل في أيامه البواقي، فمع مضي أيام الشهر يبدأ الناس يتقلصون رويداً رويداً، حتى يعود أهل المسجد العاديون هم الذين يعمرون المسجد، وقس على ذلك أحوالاً كثيرة جداً.

وهكذا في طلب العلم وفي حفظ القرآن؛ حيث إن الطالب يبدأ في حفظ القرآن بنشاط، ثم لا يلبث أن يتراخى، فمن رأى أن الله سبحانه وتعالى وفقه إلى الثبات في طاعة بدأها واستمر فيها فهذا من فضل الله عليه الذي حرم منه الكثيرين.

فلذلك عبر الشاعر عن هذا المعنى أدق تعبير، فالعبرة بأن تثبت، وإلا فأغلب الناس يفترون ويملون، ولا يواصلون، ومن ثمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: (لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم الليل، فترك قيام الليل)، يعني: أنه فتر عن قيام الليل، فانظر إلى طاقتك الجسمية وظروف العمل والوقت وغير ذلك، وانظر ما هو الذي يدخل في طاقتك من الأوراد ومن قراءة القرآن ومن التعبد واجعله على قدر طاقتك بلا مبالغة، واستمر عليه، فمثلاً: لا تقم كل الليل ثم بعد ذلك تترك قيام الليل تماماً؛ لأن مثل هذا لن يؤثر في القلب ولن يعالج قسوة القلب، بل الذي يعالج القلب هو العمل المداوم عليه حتى ولو كان قليلاً، فمثلاً: لو أن معك برميلاً من الماء، وضربته مرة واحدة على صخرة، فإنه لن يؤثر فيها على الإطلاق، لكن لو أن نفس الكمية من الماء سقطت على هذه الصخرة الصماء قطرة قطرة فإنها ستحدث فيها حفيرة، وهكذا نفس الشيء المقصود من العبادة: علاج القلب وترقيقه وإحياء القلب، وهذا لا يحصل إلا بالمداومة، حتى لو كانت جرعات قليلة في علاج أي مرض فإنها تؤثر.

فالإنسان لو أراد أن يتعاطى -مثلاً- مضاداً حيوياً فإنه لا يأخذ الشريط كله، ولا يقول: حتى أستعجل الشفاء فسأبلع الشريط كله؛ لأن هذا يسبب تسمماً، فسنة الله سبحانه وتعالى في العلاج أنه يكون رويداً رويداً، فعلى العبد أن يراعي سنن الله سبحانه وتعالى بالمداومة في كل الأمور، حتى في أذكار النوم.

فلا يأت واحد ويقول: أنا سأقول كل أذكار النوم كل ليلة، ثم إذا به لا يواظب عليها، وإنما ينام بعد ذلك ويهجرها. لكن لو أنه قسم أذكار النوم إذا كانت خمسة عشر ذكر -مثلاً- أو ثمانية عشر وقال: اليوم الأول أقول ثلاثة أو أربعة، واليوم الثاني أقول أربعة، والذي يليه أربعة، وهكذا بطريقة دورية، فإنه مع الوقت يأتي بها كلها، وفي نفس الوقت لا يهجرها كلها، وإنما يهجر بعضها إلى حين، ثم يعود وطبعاً الثواب الأكثر يكون للأكثر، لكن الأوسط أبسط وأجدر أن يدوم عليه صاحبه ويستمر، وقد كان أحب العمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما داوم عليه صاحبه، وكان إذا عمل عملاً أثبته، وداوم عليه صلى الله عليه وسلم.

ولذلك تجد في بعض الأحاديث إشارة إلى هذا، كقوله عليه الصلاة والسلام: (من صلى في يومه وليلته اثنتي عشرة ركعة دخل الجنة)، يعني: من واظب ولم ينقطع، ولم يصبه الفتور والملل.

إهدار الوقت سبب من أسباب انحطاط الهمة

من أسباب انحطاط الهمم: إهدار الوقت الثمين في الزيارات والسمر وفضول المباحات، قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ). فالإنسان قد يعطى الصحة لكن لا يعطى الفراغ بسبب شغله في الدنيا، وهذا كحال أغلب الناس الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخاب بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة). والشاهد منه قوله: (جيفة بالليل، حمار بالنهار)، وكلمة (حمار) المقصود منها: بيان أنه يكدح كما يكدح الحمار، ويتحمل المشقة والتعب، وأصبح يضرب به المثل فيقال: فلان يعمل مثل الحمار. يعني: أنه يعمل عملاً شاقاً جداً، ويداوم ويصبر عليه، فإذا أتى الليل لا يذكر الله سبحانه وتعالى، فهو جثة ملقاة بالليل، حمار بالنهار في طلب الدنيا؛ لأن عنده نعمة الصحة، فبعض الناس يؤتى الصحة التي يقتحم بها أسوار الدنيا، لكن ليس عنده وقت للآخرة؛ فهو مشغول دائماً في الدنيا. وهناك أناس آخرين حرموا نعمة الصحة وعندهم وقت، مثل: إنسان مريض؛ فالمريض مرضاً مزمناً أو شديداً لا يمكنه من فعل أي شيء مفيد عنده الوقت؛ إذ لا شيء يشغله، لأنه مريض ملازم للفراش، لكنه فقد الصحة. فأتم وأكمل ما يكون الأمر للإنسان إذا منَّ الله سبحانه وتعالى عليه بهذين الأمرين: صحة مع فراغ، فإذا استثمرهما في طاعة الله سبحانه وتعالى، وسخر الصحة والفراغ في طاعة الله وفي المقاصد الخيرية فهذا أعظم نعمة على العبد. لكن المؤلم أن أكثر الناس في غفلة عن نعمة الله العظيمة، بل بعضهم حينما يجمع الله له هاتين النعمتين -الصحة والفراغ- يدمر الصحة بالمخدرات وبالسجائر والتدخين وبغير ذلك، ويقتل الوقت أو يقتل نفسه على الأحرى بالجلوس في المقاهي. وتقريباً ظاهرة المقاهي غير موجودة إلا في بعض البلاد، كما في بلادنا حيث ترى الناس في المقاهي، وكأنه ما بقي أحد جالس في بيته، فالمقاهي عامرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! والمساجد حالها كما تعلمون شيء مؤلم، وإذا قلت له: ماذا تفعل؟ يقول لك: أقتل الوقت! أنت تقتل نفسك، وتنتحر، فالنعمة هذه وكل لحظة محسوبة عليك؛ فالله سبحانه وتعالى أبلغ في الإعذار، وأعطاك كل فرصة ممكنة، وأنت الذي كفرت بها وضيعتها، فمعك العقل، ومعك الوحي الإلهي من القرآن والسنة يرشدك إلى كيفية استثمار الوقت، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة - النخلة الصغيرة - فإذا استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها). فهذا الحديث يعلمنا كيف نغتنم ونستثمر الوقت، فإذا منَّ الله سبحانه وتعالى عليك بنعمة الصحة مع نعمة الفراغ فلا تكن من أكثر الناس الذين هم محرومون من استثمار هذه النعمة، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، والغبن: يحدث عندما تملك سلعة وتريد أن تبيعها، فتبيعها بأقل من سعرها، أو إذا كنت ستشتري تشتري بأكثر من سعرها، هذا هو الغبن؛ فأنت تغبن نفسك عندما تأتي الفرصة وتضيعها، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من النوم حمد الله على هذه النعمة، أي: نعمة أن الروح ترد إلى صاحبها عند الاستيقاظ، ولذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالنشور فقال: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)، فهذه النعمة العظيمة هي أن الله سبحانه وتعالى مد في عمرك، وأعطاك فرصة جديدة اليوم؛ لعلك تتوب.. لعلك تستقيم على طاعته.. لعلك تنوي المزيد من أفعال الخير، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره)، أي: أعطاني فرصة أن أذكر الله. ولذلك جاء أن ثلاثة شبان من بني عذرة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فاستضافهم أبو طلحة ، فدعا داعي الجهاد، فخرج واحد منهم إلى الجهاد، فقتل في سبيل الله، ثم بعد فترة دعا داعي الجهاد، فخرج الثاني وقتل في سبيل الله، إلا الثالث مات على فراشه ولم يخرج إلى الجهاد كصاحبيه، ثم رآهم أبو طلحة في المنام، فرأى ترتيبهم فرأى أن آخر واحد مات على فراشه هو أعلاهم درجة، يليه الثاني، ويليه الأول الذي مات أولاً في الجهاد، فتعجب من ذلك، وحكا الرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (وما يعجبك من ذلك؟ إنه ليس أحد أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام بالتسبيح والتهليل والتكبير)، أي: كيف تستغرب هذا؟ فهذا شيء طبيعي؛ إنه ليس أحد أفضل من مسلم يعمر في الإسلام؛ لأن عمره يزيد والطاعات تزيد، أما من كان عمره يزيد ويزيد شقاه ومعاصيه فمعناه: أن طول عمره مصيبة عليه، لكن العبرة حين يطول العمر وتكثر الأعمال الصالحة؛ لأن هذا يستكمل هذه النعمة؛ فلذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إنه ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن أو مسلم يعمر في الإسلام بالتسبيح والتكبير والتهليل). فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرح له الموقف، وقال له: إن الشهيد الثاني عاش وبقى فترة بعد الأول عمرها بالصلاة والذكر والتسبيح وقراءة القرآن وكذا، وبعد ذلك عاش الثالث؛ رغم أنه مات على فراشه، لكنه استطاع بالذكر وبقراءة القرآن وبالصلاة وبالعبادة أن يسبق الشهيدين مع أنه مات على فراشه، فهذه نعمة عظيمة جداً. والظاهر أن هذا هو مضمون رسالة إبراهيم عليه السلام من السماء؛ فإن إبراهيم عليه السلام أرسل لنا لكنا وكل مسلم على وجه الأرض منذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن تقوم الساعة، فكل واحد منا يتذكر ذلك، وكأنما جاءته رسالة باسمه من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وذلك حينما قال للرسول صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج: (يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والحديث صحيح. فهذه الرسالة من إبراهيم عليه السلام يبين فيها أن الجنة قيعان، وأنه كلما قال العبد: سبحان الله وبحمده، تغرس له نخلة في الجنة، وإذا قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] عشر مرات يبنى له قصر في الجنة، فأي حسرة يتحسرها الإنسان بعد الموت على هذه الفرص التي ضيعها وجعلها هباءً منثوراً؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله تعالى فيها)، يعني: أن الجنة دار منزهة عن النصب والتحسر والألم إلا من شيء واحد فقط يتحسر عليه أهل الجنة، وهو أنهم حينما يرون النعيم الذي هم فيه يتحسرون على لحظة من الزمن مرت بهم في الدنيا لم يذكروا الله عز وجل فيها. فلاشك أنه لا يضيع هذه النعمة إلا مغبون، والإنسان إذا كان عنده رأس مال ويتجر به فإذا ربح فهذا هو الفوز، وإذا استرد رأس المال فهذه فائدة أيضاً، وإذا رأس المال نفسه هلك وضاع، فلا ربح ولا رأس مال وإنما خسران مبين، فعلى هذه الخسارة يتحسر هذا الإنسان. وبعض العلماء قال: تعلمت تفسير سورة العصر من بائع ثلج. وسورة العصر فيها قسم بالعصر والوقت والدهر والزمن، قال عز وجل: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2]، يعني: أن كل الناس في خسر، ثم استثنى قلة قليلة فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]، فهؤلاء فقط هم الذين ينزهون من الخسران، ولماذا الإنسان في خسر؟ الجواب: لأنه إذا لم يستثمر نعمة الوقت والصحة في هذه الأشياء الأربعة: (( آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ))، فإنه يخسر رأس ماله. وهي خسارة ما بعدها خسارة. قال: رأيت هذا الرجل بائع الثلج -وقبل لم تكن هناك ثلاجات ولا مجمدات بحيث يحفظ فيها الثلج- فالسوق انفض، وصلى الناس صلاة العصر، فبقيت عنده بعض ألواح من الثلج التي هي رأس ماله لم يبعها، وقارب العصر على الخروج، فالرجل كان يسير في الطرقات كالمجنون، يحمل الثلج ويقول للناس: ارحموا من يذوب رأس ماله! ارحموا من يذوب رأس ماله! لأن رأس ماله ماء متجمد، فإذا ذاب لم يبق معه رأس مال، فكذلك نفس الشيء؛ رأس مالك أنت هو الوقت، فإذا ضيعت الوقت فأنت تخسر رأس المال، فمن ثمَّ وصف الله الإنسان المضيع وقته بالخسران فقال: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2]. بين تبارك وتعالى في هذه الإشارة العظيمة في الحلف والقسم بالعصر أن العصر -الذي هو الزمن والوقت- نعمة عظيمة فلا تضيعوها؛ فهي نعمة شريفة، ولذلك أنا أقسم بها وأقول: وَالْعَصْرِ [العصر:1]، أقسم بها أنها نعمة شريفة، والسيئ ليس الزمان، إنما السيئ أفعالكم أنتم، كما قال الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ونهجوا ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا فليس هناك حاجة اسمها زمن أسود، وإنما أعمالنا نحن هي التي تسيئ إلينا. الشاهد من الكلام: أن هذا الحديث يشير إلى هاتين النعمتين: الصحة والفراغ، فإذا أعطيت قدراً من الصحة والفراغ فاستثمر هاتين النعمتين بأقصى ما تستطيع. يقول الشاعر: والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع

حفاظ السلف على أوقاتهم

تعالوا نتحسر على أنفسنا حينما نرى أحوال السلف الصالح رحمهم الله تعالى، يقول الفضيل بن عياض : أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة. يعني: يقدر يعد كم كلمة تكلمها من الجمعة إلى الجمعة التي تليها! أي: أنه حارس على لسانه حتى على عدد الكلمات التي يتكلمها. ودخلوا على رجل من السلف فقالوا له: لعلنا شغلناك؟ قال: أصدقكم؛ كنت أقرأ فتركت القراءة لأجلكم. يعني: أنتم عطلتموني عن الخير. وجاء عابد إلى السري السقطي فرأى عنده جماعة فقال: صرت مناخ البطالين؟! ثم مضى ولم يجلس. أي: صرت المستظل الذي يجلس عنده أهل اللهو والغفلة، فرفض أن يجلس معه. وقعد جماعة عند معروف الكرخي فأطالوا القعود، فقال لهم: إن ملك الشمس لا يفتر عن سوقها، فمتى تريدون القيام؟ وقال بعض السلف: من فاتته ركعات الفجر فليلعن الثقلاء. يعني: الذين يزورون الإنسان بعد العشاء، ويسهرون معه حتى يعطلوه عن ركعتي الفجر. وقال بعض السلف: إذا طال المجلس صار للشيطان فيه نصيب. يعني: أن المجلس يكون بقدر الحاجة، فإذا كنت في صلة رحم أو عيادة مريض أو غير ذلك من الأسباب فعليك أن تقضي حاجتك وتنصرف، أو تجتمع معه على طاعة كقراءة كتاب أو مسألة علمية أو حفظ قرآن أو تسميع قرآن أو ذكر لله عز وجل، أما ما سوى ذلك وقد قضيت حاجتك فالجلوس إذا طال صار للشيطان فيه نصيب؛ لأنه سوف ينشغل الإنسان بعد ذلك بالغيبة وبالنميمة وبالكلام فيما لا ينفع ولا يجدي. ولذلك قال الحسن أيضاً: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل. وكان عثمان الباقلوي دائم الذكر لله تعالى، فقال: إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج؛ لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر. وأوصى بعض السلف أصحابه فقال: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا؛ لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدثتم. فهذه نصيحة ذهبية للإخوة نرجو أن يلتزموا بها، فإذا كنت أيها الأخ! في المسجد فصليت وقضيت حاجتك أو حضرت درس العلم فامش وحدك؛ لأنك إن كنت وحدك فممكن أن تسمع القرآن وأنت تمشي، وأن تذكر الله سبحانه وتعالى. أما إذا مشى معك أحد فإنه يعطل بعضكم بعضاً، فإن كنتم تمشون جماعة لكن كل واحد ينشغل بذكر فلا بأس، أما أن جماعة يمشون ويتكلمون في كلام لا يفيد فالوحدة أفضل من هذه الجماعة. وجليس الخير خير من قعود المرء وحده، ووحدة الإنسان خير من جليس السوء.

العجز والكسل من عوامل انحطاط الهمة

وأيضاً من أسباب انحطاط الهمة: العجز والكسل، فالعجز والكسل هما العائقان اللذان أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من التعوذ بالله منهما، فمما كان يقول: (وأعوذ بك من العجز والكسل)، فالعجز بأن يكون يريد أن يفعل لكنه غير قادر، والكسل يكون قادراً لكن ليس هناك همة، وعنده فتور.

وقد يعذر العاجز لعدم قدرته، بخلاف الكسول، فالعاجز قد يعذر؛ لأنه هو يحاول ولا يستطيع، فتخلف العمل نتيجة عجز، لكن الكسول عنده القدر، لكنه همته ضعيفة، فلذلك لا يعذر الكسول، وقد يعذر العاجز؛ فالكسول يتثاقل ويتراخى مع القدرة على أداء ما ينبغي.

قال الله تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46].

فالإنسان مطالب بين وقت وآخر أن يجدد التوبة مع كل نفس جديد أو ثانية تمر بعمرك، فهذه فرصة جديدة، فكيف تسوف وتقول: سأتوب الأسبوع القادم أو الشهر القادم، فلا تقل: بعدما أعتمر أو بعدما أحج سوف أتوب، كما يضحك الشيطان على كثير من الناس.

والمرأة يقال لها: متى تتحجبين؟ فتقول: بعدما أروح أحج وأرجع! فهل أنت تضمنين عمرك؟ وهل تظنين أنك غير مسئولة عن الحجاب في هذه الفترة؟ بل أنت آثمة، وتحملين هذا الوزر، وكذلك في كل طاعة تؤجل بلا مبرر أو بلا مسوغ.

فاتقوا الله، وتوبوا إليه، استقيموا؛ فإن الصادق يأخذ بالأسباب، كما قال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ، فإذا أردت أن تنهض من الوحل.. وحل التدخين.. وحل المخدرات.. وحل الغفلة.. وحل اللهو فلابد أن تعد عدة، وابذل من الأسباب ما يثبت جديتك في هذا الأمر، قال عز وجل: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46].

روي أن رجلاً قال لـخالد بن صفوان : مالي إذا رأيتكم، تذاكرون الأخبار، وتدارسون الآثار، وتناشدون الأشعار وقع علي النوم؟ قال: لأنك حمار في مسلاخ إنسان.

وقد ترى الرجل موهوباً ونابغة فيأتي الكسل فيخذل همته، ويمحق موهبته، ويطفئ نور بصيرته، ويشل طاقته؛ ولذلك قلنا: الكسول لا يعذر؛ لأن الكسول قادر على أن يفعل، بخلاف العاجز، فممكن أن الإنسان يكون موهوباً فعلاً وذكياً وقادراً على العمل، لكن تنحط همته، فتشل طاقته.

قال الفراء رحمه الله تعالى: لا أرحم أحداً كرحمتي لرجلين: رجل يطلب العلم ولا فهم له، ورجل يفهم ولا يطلبه؛ وإني لأعجب ممن في وسعه أن يطلب العلم ولا يتعلم.

قال المتنبي :

ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام

فأنت قادر، لكن الكسل هو الذي يعجزك؛ لذلك لا تعذر بالكسل.

الغفلة سبب من أسباب انحطاط الهمم

ومن أسباب ضعف الهمة: الغفلة، وشجرة الغفلة تسقى بماء الجهل، وكلما زاد الجهل كلما زادت الغفلة في الإنسان، فالجهل عدو الفضائل كلها، فهل علمتم أمة في جهلها ظهرت في المجد حسناء الرداء؟!

قال عمر رضي الله عنه: الراحة للرجال غفلة.

وقال شعبة بن الحجاج : لا تقعدوا فراغاً؛ فإن الموت يطلبكم. أي: لا

فأعظم أسباب هذا المرض الخطير: الوهن، والوهن هو كما فسره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المعروف: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قلنا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة منكم من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

أي: أن الأمم تجعل أمة الإسلام وليمة يأكلون فيها المسلمين، ويأخذون ثرواتهم، ويذبحون أبناءهم، فهذه الوليمة صار يتداعى إليها أعداء الإسلام، سواء كان في حرب الخليج الأولى أو الثانية، أو في البوسنة والهرسك، أو في فلسطين، أو في غيرها من المواقع، ففي حرب الخليج قال وزير خارجية بريطانيا: نريد نصيبنا من الكيكة أو من الترتة! بلا استحياء! وهذا تجسيد فعلاً لما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد بين عليه الصلاة والسلام أن الأمر ليس بسبب قلة العدد؛ فأنتم تكونون كثيرين، لكنكم كالغثاء، وهو: الزبد الذي يكون فوق السيل، ويدفعه السيل أمامه في مجراه من الغثاء والرغاوة والكناسة وهذه الأشياء.

قال عليه الصلاة والسلام: (وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، هذا هو السبب في الحقيقة، أما حب الدنيا فأنت إذا تأملت أي خطيئة ترتكب في الوجود فستجد أن سببها هو حب الدنيا بكل ما تحتمله كلمة دنيا من معانٍ؛ لأن الإنسان إذا أحب الدنيا فإن ذلك يؤدي به إلى أن يتثاقل إلى الأرض، ولا يستطيع أن يرتقي إلى السماء؛ فيكون ثقيلاً منجذباً إلى الأرض، كما قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. [التوبة:38]، أي: خفوا إلى الجهاد اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ [التوبة:38].

إذاً: حب الدنيا هو سبب التثاقل إلى الأرض، وكذلك ما من عبد تأسره الشهوات إلا والسبب في هذه الشهوات هي الدنيا أيضاً، وكذلك الانغماس في الترف، فإذا الإنسان عمر في الدنيا وأغرق في الترف ويعيش في الترف بهذه الصورة فهل سيفكر بعد ذلك في الموت؟! وهل سيفكر في الآخرة؟! فهو يعمر الدنيا، ويخرب الآخرة، فمن الطبيعي أن يكره الانتقال من العمار إلى الخراب؛ لأنه خرب الآخرة، فبذلك يميل إلى حب الدنيا، ويتشبث بها.

وكذلك حب الدنيا هو الذي يؤدي بالناس إلى التنافس في دار الغرور، فهم يتنافسون على أمور الدنيا بما يوجد الحسد والحقد والبغضاء والحروب والصراعات وهذه الأشياء.

يقول الشاعر مبيناً أن الرجال يقتل بعضهم بعضاً في سبيل حب الدنيا:

تفانى الرجال على حبها وما يحصلون على طائل

قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: واعلم أن زمن الابتلاء ضيف قراه الصبر. يعني: أن البلاء الذي تعيشه في الدنيا مهما طال فهو فترة مؤقتة، فزمن البلاء هذا ضيف طارئ سيمكث عندك فترة قليلة جداً؛ لأن العمر مهما طال فسيمضي، وسينتهي، وستصبح أنت في خبر كان، وسوف تفضي إلى ما قدمت بين يديك، فنفرض أن إنساناً عاش مائة سنة -وقل من يعيش مائة سنة الآن- فإن مصيره الموت، كما قال ملك الموت لموسى عليه السلام: (ثم ماذا ؟ قال: الموت، قال: فالآن).

فالإنسان حينما يكون موجوداً في عمق الصورة لا يحسن التفكير المتجرد، لكن إذا تدبر نفسه وتصور أنه منفصل عن تأثير هذه الصورة فإنه يعطي الحكم بدقة، ونحن الآن يعرف بعضنا بعضاً، ويعرف الإنسان جيرانه وأصدقاءه وإخوانه وآخرين وكذا وكذا، فنحن منشغلون ومنهمكون في هذا المحيط الذي يحيط بنا، وما هي إلا سنوات قليلة أو عقود قليلة من الزمان وإذا بك أنت وكل هؤلاء الذين تعرفهم ستكونون تحت التراب، وهكذا كل من على وجه الأرض؛ ليأتي جيل جديد، إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى بخراب الدنيا كلها، فكما نحن نجلس الآن في هذا المصر من الأرض فسيأتي غيرنا بعدنا، وهذه الأرض نفسها التي نعيش عليها كم من الناس قد عاشوا عليها منذ مئات السنين وآلاف السنين! لقد عاش عليها أمم فأين هم الآن؟ قال عز وجل: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [مريم:98].

وكما مضى من قبلنا فنحن أيضاً سيأتي من بعدنا في نفس هذه الأراضي وهذه البلاد فيعيشون، قال عز وجل: وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ [إبراهيم:45].

فقوم يجيئون، وقوم يذهبون، ولا ينفع الإنسان ولا يبقى معه إلا عمله الصالح.

يقول ابن الجوزي : زمان البلاء والتكليف والمشقة والصبر على الأذى والصبر على فتن الدنيا هو ضيف سريع الزوال، قراه الصبر. أي: إذا أتاك هذا الضيف وهو البلاء في سبيل الدين فأقره الصبر، والقرى هو: ما يقدم للضيف من الكرم، فأكرم هذا البلاء بأن تصبر عليه إلى أن يرحل؛ فإنه لن يبقى معك طويلاً.

ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تعوذوا بالله من شر جار المقام؛ فإن جار الضعن إذا شاء أن يزايل زايل).

يقول: واعلم أن زمان الابتلاء ضيف قراه الصبر، كما كان الإمام أحمد بن حنبل يعزي على زهده في الدنيا بأن يقول: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، فلا تنظر إلى لذة المترفين، وتلمح عواقبهم، ولا تضق صدراً بضيق العيش، وعلل الناقة بالحدو تسر:

طاول بها الليل مال النجم أن جمح وماطل النوم ظن الجفن أن سمح

فإن تشكت فعللها المجرة من ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى

وهذه هي سياسة المؤمن الحاذق الفطن في تعامله مع الدنيا، فإذا كان هناك عمل من أعمال الدنيا فسوِّف ما شئت، وليس هناك مشكلة، كما يقول الحسن : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.

فحين يتعارض عملان: عمل ستحاسب عليه ربما غداً أو بعد ساعة، وعمل أنت تعلمه كأنك تعيش للأبد، فانظر أيهما يقدم على الآخر. وهذا عكس ما يستعمل الناس هذه العبارة فإنهم يقولون: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، ويفهموها أن تخدم الدنيا تماماً، وكأنك تعيش أبداً، والأمر بالعكس؛ لأن الذي يعيش أبداً إذا فاته شيء من الدنيا الآن يعوضه غداً أو السنة القادمة أو التي بعدها؛ لأن الدنيا تعوض، أما الدين فلا يعوض، فكل شيء إذا ضيعته منه عوض، وليس في الله إن ضيعت من عوض، فإذا كسبت الله كسبت كل شيء، وإذا خسرت الله فاتك كل شيء.

فالإمام أحمد يبين لنا في هذه الكلمة الطيبة السياسة التي ينبغي أن يتعامل بها الإنسان مع الدنيا.

يقول الشاعر:

طاول بها الليل مال النجم أن جنح

يعني: استغرق الليل في طاعة الله وفي ذكر الله وفي العبادة، ولا تمل من ذلك، وكلما تقول لك نفسك: أريد أن أنام، فقل لها: بعد قليل، وهذا هو التسويف في العمل الصالح، وهذا بخلاف التسويف في شهوات النفوس، وبعكس ما يفعل أكثر الناس، فكن كلما اشتكت لك نفسك أنها تريد أن تنام وتريد أن تستريح، فقل لها: سأريحك بعد هاتين الركعتين، وإذا أتيت بركعتين فقل لها: سأريحك بعد أن أقرأ هذا الجزء من القرآن، فإذا انتهيت فقل لها: استريحي بعد هذا الورد من الدعاء، وهكذا سوفها في فعل الخير، كالإنسان المسوف الذي يماطل شريكه، ويتهرب منه بالوعود في المستقبل.

يقول: طاول بها الليل مال النجم أن جنح وماطل النوم ظن الجفن أن سمح

فإن تشكت فعللها المجرة من ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى

فكلما تأتي بعبادة فقل لنفسك إن تشكت في الليل: حينما تطلع مجرة الصباح سأريحك، ثم إذا طلع وقت الصبح عللها بوقت الضحى، وقل لها: سأريحك في الضحى. هذا هو المقصود من الكلام.

وقد كان أهدي إلى أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى هدية من المنصور الخليفة، فردها للمنصور ، ثم قال لأولاده بعد ما مرت سنة -أي: في الذكرى السنوية الأولى لهذه الهدية-: لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت، لو كنا قبلناها كنا قد استهلكناها وذهبت، أما الآن فقد استرحنا من هديته.

ومر بشر على بئر فقال له صاحبه: أنا عطشان، فقال: البئر الأخرى. أي: انتظر حتى نصل إلى البئر التي بعدها، فمر عليها فقال له: الأخرى، أراد بذلك أن يعلمه درساً، فقال له: كذا تقطع الدنيا.

فكلما لاحت لك شهوة أو حاجة من حاجات الدنيا فلا تبادر بإنجازها وتحصيلها، ولكن سوف لنفسك في الدنيا، أما في الدين فلا تسوف؛ إنما في الدنيا قل لها: سوف أفعل كذا فيما يأتي.

ودخلوا على بشر الحافي وليس في داره حصير، فقيل له: ألا بذا تؤذى؟ فقال: هذا أمر ينقضي.