خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/337"> الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/337?sub=60532"> سلسلة علو الهمة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
علو الهمة [8]
الحلقة مفرغة
اجتهد علماء المسلمين منذ فجر الإسلام في الكشف عن النابغين وكبيري الهمة، خاصة من الناشئين، وذلك لأنهم كانوا يدركون أنهم سبقوا كل المناهج العصرية أو الحديثة بمئات السنين، وما نشأ اهتمام السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم ومن بعدهم من الخلف بهذه القضية إلا لأن كبار الهمة أو النابغين يختصرون الطريق على الأمة؛ لأن هؤلاء بما لهم من خصائص وميزات يختصهم الله سبحانه وتعالى بها إذا صلح واحد منهم فإنه يَصلحُ به خلق كثير، فلذلك ركز العلماء على اختصار الطريق إلى المجد وإلى عزة المسلمين عن طريق البحث عن هؤلاء الفائقين أو النابغين من كبيري الهمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يميز هؤلاء بمواهب واستعدادات فطرية، وخصائص ذاتية متميزة، فهم ليسوا مجرد أشخاص ماهرين في أداء اختبارات معينة أو مهارات من نوع خاص، لكن هؤلاء يخلقهم الله سبحانه وتعالى ويرزقهم خصائص شخصية واجتماعية وبدنية تفوق ما عند أقرانهم العاديين، ومن أهم هذه الخصائص -وإن كان هذا ليس من صلب بحثنا، وإنما هو إشارة عابرة- سلامة البدن من العاهات أو الآفات، وقوة الذاكرة، وسرعة التعلم، والتفوق في التحصيل الدراسي، وحب الاستطلاع، والدافعية للإنجاز، فالواحد منهم عنده قوة وهمة لأن ينجز ما يظنه غيره مستحيلاً، فيكون عنده عزيمة وتصميم وهمة، بحيث يكون -في الغالب- مستعداً لأن يتحدى العالم أجمع في سبيل أن يفرض عليه ما يعتنقه من أفكار. وكذلك من خصائصهم الثقة بالنفس، فلا يكون مصلحاً من هو عاجز أو متواكل أو هياب يخاف من تحمل المسئولية ويهابها. ومن خصائصهم الاستقلالية، وذلك لأنه يكون عندهم النزعة الاستقلالية، فلا ينقادون بسهولة، ولا يقلدون، ولا يكون إمعات. ومن خصائصهم المثابرة والتفوق في القيم النظرية، وفي الميول العلمية، والنضوج الاجتماعي، والنشأة في ظروف اجتماعية كبيرة، وبهذا الاختصار أشرنا إلى بعض الخصائص التي يتميز بها كبيرو الهمة.
والأمر المهم الذي يهمنا ضمن هذه الخصائص هو عامل النضوج الاجتماعي، والنشأة في ظروف اجتماعية طيبة؛ لأننا إذا تصفحنا صفحات التاريخ سنجد أن كثيراً من الناس رزقوا الكثير من هذه المواهب، ولكن البيئة من حولهم إما أنها لم تكتشفهم، وإما أنها وجهتهم توجيهاً بعيداً عن مواهبهم، وإما أنها حطمتهم، فكانت هذه البيئة أباً أو أماً جاهلة، أو أنه نشأ في ظروف اجتماعية كالفقر، أو ظروف ضاغطة، أو مع صديق هابط الهمة، أو غير ذلك، ففي نفس الوقت نحن حينما نريد أن نسلط الضوء على هذا الموضوع لا يمكن أن نجد واحداً من أعلام التاريخ الإسلامي إلا ولابد أن يكون عالي الهمة، فأعلام التاريخ من العلماء والمصلحين لو لم يكونوا كبيري الهمة ما كانوا أبداً ليجدوا مكاناً في صفوف عظماء الإسلام.
فعلو الهمة هو قاسم مشترك بين كل من يترك بصمة في تاريخ هذه الأمة فيما يتعلق بتأثير البيئة المحيطة، والله سبحانه وتعالى يقول: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل:78]، فالإنسان لا يولد عالماً، وإنما الإنسان بجانب المواهب التي يهبه الله سبحانه وتعالى إياها لابد أن تربيه وتوجهه البيئة المحيطة به، والجماعة التي تتولى رعايته، وتتعهده؛ حتى يمتلك ناصية العلم الذي يطلبه، فلا شك أن الأمة التي تهتم بالنابغين تصنع بهم مستقبلها المشرق؛ لأنهم هم الذين يقدرون على إصلاح أمرها، ويسهمون في ازدهارها، والأمة التي تهمل رعاية نابغيها أو توجههم بعيداً عن الدين وبعيداً عن الإسلام سوف تشقى، وذلك حين يتولى أمورها جهلة قاصرون يوردونها المهالك، أو مرضى نفسيون معقدون يسومونها سوء العذاب، أو فشلة أصحاب نفوس دنيئة وهمم خسيسة يبيعونها لأعدائها بثمن بخس، فكل هذا حصاد إهمال أن يلي الأمر أو أن يوكل الأمر إلى غير أهله، فيوفر لأمثال هؤلاء، ثم يسومون الناس سوء العذاب، ومع كون المواهب استعدادات فطرية يولد هذا النابغة أو هذا المتفوق أو كبير الهمة، فهو أصلاً عنده استعدادات، لكن لابد مع الاستعداد من البيئة، وهناك نماذج كثيرة في الحقيقة في هذا، كطفل كان يدعى سيد جلال الأفغاني ، التحق بجامعة البترول في الظهران وعمره عشر سنوات في العام الجامعي 1980-1981م، حيث دخل الجامعة وعمره عشر سنوات، وكان قد حصل على الثانوية العامة وعمره ثماني سنوات، وتعلم الأردية والإنجليزية والروسية وعمره تسع سنوات، وهذا واضح جداً إن فيه مواهب ميزه الله سبحانه وتعالى بها.
فأقول: هذه مسئولية المدرسين والمربيين والموجهين، فعليهم أن يبحثوا عن هذه الشخصيات ويتولوها بالرعاية، فمن كان موسراً ينفق على مثل هذا ويساعده، وإن كان عالماً لا يملك إلا النصيحة ينصحه، وكل يبذل أي وسيلة من وسائل التشجيع؛ فإن العلماء كانوا ينقبون وراء هؤلاء النابغين، ووراء كبيري الهمة؛ حتى يوفر الوقت ويختصر الطريق لإصلاح الأمة، فمع كون هؤلاء أصحاب استعدادات فطرية، لكنها لا تؤدي إلى النبوغ إلا إذا توفرت لأصحابها الظروف البيئية المناسبة والتربة الصالحة اللازمة لتنميتها وصقلها.
تعد الأسرة وبخاصة الوالدان أو من يقوم مقامهما أهم عناصر البيئة تأثيراً في إظهار النبوغ، فأخطر مؤسسة تربوية على الإطلاق هي الأسرة، والوالدان بالذات.
فالبيئة إذا اهتمت بالكشف المبكر عن النبوغ، وإذا اكتشفت أن فيها ولداً نابغاً أو مبكراً فلا شك أنهم إذا كانوا على وعي سيهتمون جداً بزراعة أو بذر بذور الهمة العالية في قلوب هؤلاء الأطفال منذ نعومة أظفارهم، وهذا هو السر الذي يفسر لنا سر اتصال سلسلة النابغين من كبيري الهمة من أبناء أسر معينة في التاريخ الإسلامي؛ حيث نجد عائلات معينة وجد أن فيها علماء كثيرين؛ لأن البيئة تكون بيئة على قدر كبير من العلم والوعي والحماس لرسالة الدين وخدمة الإسلام، فمن أجل ذلك كان أحدهم منذ صغر الولد وربما قبل أن يولد الولد كان يدعو الله أن يرزقه أو يخرج من صلبه من يجدد الدين أو من يكون إماماً من أئمة الهدى، فكان الاهتمام موجوداً حتى قبل أن يولد الطفل، بل إن الاهتمام بالأطفال يبدأ قبل الزواج بأن يتحرى المرأة الصالحة ذات الدين، وقد لاحظنا هذا في عدة عائلات، كآل تيمية وآل السيوطي، وآل الألوسي، وغير ذلك من العائلات التي ظهر منها كثير من العلماء؛ لأنها جمعت عدة استعدادات فطرية، ولا شك أن هذه يدخل فيها عنصر الوراثة، فيدخل عنصر الاستعدادات الفطرية الموروثة، كذلك تدخل القدرات الإبداعية مع البيئة المساعدة، والبيئة أهميتها أنها تكتشف مبكراً هذه المواهب، ثم إنها تنميها، ثم توجهها إلى الطريق الأمثل.
وللأسف الشديد -وهذا مما يبكى عليه بدم العين، وليس بالدموع- أن الآن تقريباً يكاد يكون معظم المسلمين حتى البيئات المتدينة إذا وجد فيهم الولد النابه فجل اهتمامهم وتركيزهم أن يخرج طبيباً أو يخرج وزيراً أو كذا أو كذا، من مناصب الدنيا أو أغراض الدنيا، ولا نكاد نسمع عن أحد إلا ما ندر أن يوجه ابنه من أجل التخصص في علوم الدين، والتوجه إلى مقام الاجتهاد في الدين؛ حتى يسد هذه الثغرة.
فالناس الآن كلهم انصرفت همتهم إلى طلب الدنيا وإلى المناصب البراقة، وإلى المال، وإلى غير ذلك من المظاهر، لكننا لا نكاد نجد أحداً يكون هدفه أن يكون ابنه إماماً من أئمة المسلمين، أو أن يوجهه إلى طلب العلم الشريف، إلا ما ندر. والله تعالى أعلم.
لكن السلف كانت البيئة عندهم أن العلماء يفتشون، فإذا وجدوا من أمثال هؤلاء يولونهم اهتماماً خاصاً، كما فعل الشيخ عبد الله القرعاوي رحمه الله تعالى مع تلميذه النابغة العبقري الشيخ حافظ أحمد حكمي رحمه الله تعالى، الشيخ المشهور صاحب كتاب (معارج القبول) وغيره من الكتب النافعة التي ألفها مع صغر سنه؛ فإنه مات وعمره حوالي خمسة وثلاثين سنة، لكنه ترك من الآثار العلمية ما يبهر ويدهش من يطالعها، وقد كان والد الشيخ حكمي رحمه الله مصراً على أن يعينه ابنه في رعي الأغنام وهذه الأشياء، والشيخ اكتشفت موهبته مبكراً، فأطاع أباه، ورفض أن يذهب إلى الشيخ؛ حتى يطيع ويبر أباه، فمما سمعت يوم كنت هناك في منطقة عسير أن الشيخ نفسه كان هو الذي يذهب إليه ويتتبعه حيث ما حل بغنمه؛ ليلقنه العلم، وهو يرعى الغنم، وذلك من شدة عظم الأمل الذي توقعه من هذا الطفل النابغة، وبالفعل لما توفي والده رحمه الله تعالى تجرد لطلب العلم وتفرغ للشيخ، فكان منه هذا الإمام الفذ النابغ، مع حداثة سنه رحمه الله تعالى، ومع أنه توفي في ريعان شبابه رحمه الله تعالى.
ورب أم ذكية محبة للعلم أو أب عالم مشهور بعلمه كان سبباً في تيسير السبيل إلى العلم ومجالسة العلماء، ولا شك أنه هذا يكون له أثر بليغ في تنمية نبوغ أبنائهم.
فهذا الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي كان عمر يعدل به ألفاً من الرجال، لما أرسله لنجدة عمرو بن العاص قال: (أرسلت إليك أربعة آلاف جندي، ومعهم أربعة كل منهم بألف ... وذكر منهم: الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه).
وإذا تأملنا البيئة التي نشأ فيها الزبير بن العوام نجد أن أمه هي صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أخت أسد الله حمزة بن عبد المطلب ، وهؤلاء الكملة العظماء عبد الله والمنذر وعروة أبناء الزبير كلهم ثمرات أمهم ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما.
وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه تربى على يد أمه فاطمة بنت أسد وخديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنهما.
وهذا عبد الله بن جعفر سيد أجواد العرب تعاهدته أمه أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها.
وهذا أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما أريب عربي، وألمعي، ورث عن أمه هند بنت عتبة همة تجاوزت الثريا، فإن أمة هنداً لما ولد معاوية وكان وليداً بين يديها قال لها بعض الحاضرين: إني أظن أن هذا الغلام سيسود قومه. فأجابت غاضبة: ثكلته إذاً؛ إن لم يسد إلا قومه. يعني: أن الطفل كان وليداً في المهد حديث الولادة، وبدت عليه علامات النجابة، فقال هذا الشخص: إني أظن أن هذا الغلام سيسود قومه. فقالت: ثكلته إذاً. يعني: يموت أحسن إذا كان لا يسود إلا قومه، وإذا كان كذلك فأنا لا أريده ولداً لي؛ فتخيل أنت لو كانت أم تعيش بهذا الأمل وتعيش بهذه الطريقة من التفكير كيف سيكون سلوكها مع ولدها؟ لا شك أنها سترضعه مع اللبن هذه القيم؛ حتى تكبر همته، وتصعد به إلى أرقى ما يمكن الوصول إليه من الهمم، وهذا لا شك فيه.
وبالفعل إذا نظرنا إلى أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما نجد أن معاوية كان من أسود العرب، ومن أعظم الناس قدرة على سياسة الأمم، وإمارته في الشام خير شاهد على ذلك.
وهذه الأم نفسها لما نعي إليها ولدها يزيد بن أبي سفيان قال لها بعض المعزين: إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلف منه، قالت: أو مثل معاوية يكون خلفاً من أحد، والله! لو جمعت العرب من أقطارها ثم رمي به فيها لخرج من أيها شاء.
وكان معاوية رضي الله عنه إذا نوزع بالفخر، وجوذب بالمباهاة بالرأي انتسب إلى أمه، وكان يفاخر الناس إذا احتاج أن يفتخر فيصدع أسماع خصومه بقوله: (أنا ابن هند )؛ فخراً بأمه رضي الله تعالى عنها.
وهذا سفيان الثوري الإمام الجليل والعلم الشامخ كان ثمرة أم صالحة؛ غذته بلبانها، وحاطته بكنفها، حتى صار إمام المسلمين وأمير المؤمنين في الحديث، وسفيان الثوري هو الذي قالت له أمه وهو طفل صغير: يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي. مع أنه كان يتيماً، فكانت تشتغل بالغزل، وتنفق عليه، حتى يتفرغ لطلب العلم.
وهذا الإمام الثقة الثبت أبو عمرو الأوزاعي نشأ يتيماً في حجر أمه، فتنقلت أمه به من بلد إلى بلد، وربته تربية عجزت الملوك وأبناؤها عنها، حتى استفتي في الفقه وله ثلاث عشرة سنة.
كذلك فعلت أم الإمام ربيعة بن أبي عبد الرحمن الشهير بـربيعة الرأي شيخ الإمام مالك رحمه الله تعالى، فكان ربيعة ثمرة تربية أم فاضلة؛ حيث أنفقت عليه أمه ثلاثين ألف دينار خلفها زوجها عندها وهي حامل به؛ لأن أمه لما كانت حاملاً به ترك أبوه معها ثلاثين ألف دينار، وخرج للغزو، فغاب في الغزو مدة كبيرة، فلما رجع كان ابنه قد أنفقت أمه عليه كل هذا المال في سبيل أن يطلب العلم الشريف، فلما رجع أبوه من الغزو بعد سنوات طويلة كان ابنه قد استكمل الرجولة، واستكمل أيضاً المشيخة، فأتى إلى بيته، فدفع الباب ودخل، فواجهه ابنه وكان قد صار شيخاً عالماً جليلاً، وشاباً يافعاً، فقال له: أتدخل على حرمي يا عدو الله! لأنه لما رآه ظنه رجلاً أجنبياً دخل الباب واقتحمه، فاشتبك الابن مع أبيه دون أن يعرفا بعضهما بعضاً، إلى أن اجتمع الناس وازدحموا عليهما، ثم جاء الإمام مالك رحمه الله تعالى وقال له: أيها الشيخ! لك سعة في غير هذه الدار. أي: إذا كنت محتاجاً لدار فابحث عن دار أخرى، فلك سعة في غير هذه الدار، فقال: هذه داري. فسمعت أم ربيعة من وراء الحجاب هذا الصوت فقالت: إن هذا هو فروخ زوجي أبو عبد الرحمن ، فتعانق الولد مع أبيه، ثم بعد ذلك لما أتى وقت الصلاة خرج أبوه إلى المسجد، فوجد حلقة كبيرة جداً في المسجد قد تصدرها ابنه الذي رآه آنفاً، فتعجب جداً! واستحيا منه ابنه، فأطرق برأسه، وأظهر كأنه لم يره، فلما رجع إلى البيت قال لها: لقد رفع الله ابني. فلما سألها عن الدنانير قالت: أيهما أفضل عندك: الثلاثين ألف دينار أم ما صار إليه ولدك من الإمامة والمشيخة في الدين؟ فقال: بل ما صار إليه. فقالت: فقد أنفقتها كلها عليه.
فالشاهد من هذه القصة: أن الذي تولى تربيته هي أمه، حيث انفردت بتربيته، ووجهته إلى طلب العلم.
وكذلك الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى كانت أم تأخذه وهو صبي صغير، وتلبسه العمامة الصغيرة على رأسه، وتلبسه ملابس طلبة العلم، وتحرضه على الذهاب إلى العلماء، وتقول له: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه.
ومات والد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وهو جنين أو رضيع، فتولته أمه بعنايتها، وأشرفت عليه بحكمتها، وتنقلت به من غزة إلى مكة مستقر أخواله، فربته بينهم هنالك، ونشأ الإمام الشافعي يتيماً فقيراً، ولم تستطع أمه دفع أجر معلمه، إلا أن المعلم قبل أن يعلمه بدون أجر، فتعهده بالرعاية، وجعل له منزلة خاصة بين التلاميذ؛ لما لمسه فيه من نباهة وسرعة في الحفظ.
يقول الشافعي رحمه الله تعالى: كنت يتيماً في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي أن يعلمني بدون أجر، وأن أخلفه في الدرس إذا غاب.
وهذا إمام المحدثين على الإطلاق الإمام الجليل محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى مات أبوه إسماعيل وهو صغير، فنشأ يتيماً في حجر أمه، وكانت امرأة عابدة صاحبة كرامات.
والحقيقة أننا لو أردنا التفصيل لوجدنا أن النماذج كثيرة جداً في التاريخ الإسلامي، هذه النماذج بلا شك تبرز لنا دور البيئة في صناعة هؤلاء الأماجد.
وهناك خطأ آخر في الحقيقة نقع فيه كثيراً، وهو أننا دائماً نسلط الضوء على الشخصية التي هي عبارة عن ثمرة، ونغفل النظر إلى البيئة التي أثمرت هذه الثمرة، أو الشجرة التي أثمرت هذه الثمرة، فهل يمكن أن نغفل أثر البيئة ونركز فقط على ثمرة هذه البيئة في رجل مثل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى؟ ولماذا دائماً نركز على عمر بن عبد العزيز دون أن نلفت النظر إلى البيئة؟ فـعمر بن عبد العزيز أو غيره أو أي واحد من المجددين أو من أئمة الدين يرزق استعدادات الفطرية ومواهب وقدرات إبداعية، لكن لابد من وجود البيئة، فالبيئة إما أنها تحطم وتعوق، وإما أنها تنهض بهذه الثمرة وتسقيها، فهل كان يمكن لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أن يمارس دوره في تجديد الدين ويتهيأ له هذا الأمر لولا البيئة الصالحة التي وجهته إلى المعالي، وبذرت بذور الهمة العالية في قلبه منذ طفولته؟ فنحن كثيراً ما نتكلم عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى على أنه هو مجدد القرن الأول، ولا شك أننا نسلم بأن عمر بن عبد العزيز مجدد القرن الأول، لكننا نقول: إن عمر بن عبد العزيز ما كان له أن يقوم بهذه الحركة التجديدية الواسعة الجوانب لولا وجود عدد كبير من أجلاء التابعين وساداتهم الذين كانوا بالفعل ساعده الأيمن في تنفيذ مشاريعه التجديدية العظيمة، وعلى رأسهم رجاء بن حيوة الذي كان له فضل على الأمة الإسلامية في موقف غير مجرى التاريخ كله؛ لأن رجاء بن حيوة هو الذي أشار على سليمان بن عبد الملك وعند وفاته باستخلاف أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ، وكان لهذه الشورى ولهذه النصيحة الأثر العظيم الذي نشأ عنه تمكين عمر بن عبد العزيز من القيام بدوره التجديدي الفذ.
ونحن نتأمل بعض المواقف من طفولة عمر بن عبد العزيز نجد أنه لم ينشأ إلا ببيئة، وأننا مسئولون عن توفير هذه البيئة لأبنائنا، فعن سعيد بن عفير قال: حدثنا يعقوب عن أبيه أن عبد العزيز بن مروان -وهو والد عمر بن عبد العزيز - بعث ابنه عمر إلى المدينة؛ يتأدب بها، وكتب إلى صالح بن كيسان يتعاهده، فكان صالح بن كيسان يلزمه الصلوات، ويراقبه في الصلوات، ويحثه على حضور الصلوات، ويشرف عليه في ذلك، فأبطأ يوماً عن الصلاة. أي: في يوم من الأيام تأخر، وأتى متأخراً عن الصلاة، فقال له صالح بن كيسان رحمه الله: ما حبسك؟ قال: كانت مرجلتي - أي: الخادمة المتخصصة في تصفيف شعره- تسكن شعري. وبعض الناس أحياناً يتكلمون أن عمر بن عبد العزيز نشأ في بيئة مترفة وكذا وكذا، فنقول: نعم، هي مترفة، لكنها بيئة دينة، وعمر بن عبد العزيز طلب العلم، وعمر بن عبد العزيز لم يصل الإمامة بانقلاب سياسي أو بمجرد القفز إلى مقعد السلطة، وإنما عمر بن عبد العزيز إمام من أئمة الاجتهاد، وصل إلى أعلى مراتب العلم، فمع أنه كان يعيش هذه المعيشة المترفة لكن أمر الدين ما كان عنده فيه مساومة، وقوله: كانت مرجلتي تسكن شعري، قال هذا وهو صبي صغير، فقال له صالح بن كيسان : بلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟ أي: أنت مهتم بتسكين شعرك إلى حد أنه أخرك عن حضور الصلاة! وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد العزيز رسولاً إليه، فما كلمه حتى حلق شعره. أي: أن أباه أرسل رسولاً وقال له: لا تكلمه كلمة واحدة حتى تحلق شعره كله؛ عقوبة له على أنه آثر تسكين شعره على حضور الصلاة في أولها.
فـعبد العزيز ألقى ولده إلى المدينة لا لكي يتعلم فقط، ولكن كي يتأدب، ثم كلف واحداً من العلماء الأتقياء أن يشرف عليه وعلى تربيته، ويتعهده، ويراقب حضوره في الصلوات، فإذا تخلف مرة ضبطه، وقال: ما حبسك؟ .. إلخ، ويرسل إلى أبيه شكوى أنه تأخر عن صلاة بسبب هذا الأمر التافه، فيرسل أبوه هذا الرسول، فما كلمه حتى حلق شعره.
وعن أبي قبيل أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بكى وهو غلام صغير، فأرسلت إليه أمه وقالت: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت -قال هذا وهو طفل صغير- وكان يومئذٍ قد جمع القرآن، فبكت أمه حين بلغها ذلك.
ونقل الزبير بن بكار عن العتبي قال: إن أول ما استبين من عمر بن عبد العزيز أن أباه ولي مصر وهو حديث السن يشك في بلوغه.
يعني: أن أول العلامات التي أظهرت أن هذا الشخص غير عادي وأن عمر بن عبد العزيز هذا شخص ينتظره مستقبل عظيم أنه لما ولي أبوه كان حديث السن يشك هل بلغ أم لا؟ فأراد إخراجه. فقال: يا أبت! أو غير ذلك؟ لعله أن يكون أنفع لي ولك؛ ترحلني إلى المدينة، فأقعد إلى فقهاء أهلها، وأتأدب بآدابهم، فوجهه إلى المدينة، فاشتهر بها بالعلم والعقل مع حداثة سنه.
ونقفز قفزة أخرى لنتكلم على خصيصة أخرى من الخصائص التي أشرنا إليها في مقدمة الكلام، والتي يتميز بها النابغون أو الفائقون أو كبار الهمة، وقد أشرنا إليها ضمناً، وهي: قضية النضوج الاجتماعي المبكر بجانب النشأة في بيئة اجتماعية طيبة تساعده على الازدهار، كذلك النضوج الاجتماعي المبكر، يعني: كما أن الطفل ينمو فإنه ينمو في عدة اتجاهات، وكما أن جسمه ينمو باستمرار له ملامح معينة وعلامات في نموه في كل مراحله العمرية فكذلك نفسه تنمو، وروحه تنمو، وشخصيته تنمو؛ وهناك نوع من النمو الاجتماعي في تعامله مع المجتمع من حوله، والنضج الاجتماعي المبكر الذي يؤهله إلى أن يتحمل المسؤوليات منذ حداثة سنه، ونحن إذا تأملنا أعمار كثير من العلماء الذين رحلوا في طلب العلم في آفاق الأرض نجد أن بعضهم كان عمره ثلاث عشرة سنة، أو عشر سنوات، أو ما بين العشرة والعشرين. فكان الشاب الذي عمره ثلاث عشرة سنة -كالإمام ابن جرير الطبري وغيره من الأئمة- يرحل إلى أقطار الأرض في طلب العلم، وما كانت وسائل العلم المرفهة موجودة في ذاك الزمان، فكون أبيه أو أمه أو وليه أو شيخه يتركه يرحل في الأرض لطلب العلم، هذا فيه إشارة عظيمة جداً إلى النضوج الاجتماعي الذي كان يبلغه هؤلاء العلماء، بمعنى: أنه يستطيع أن يواجه الناس وحده، ويسافر وحده، ويتحمل مسئولية نفسه، ويغترب، ويصارع الفقر، ويصارع المرض، ويصارع الوحدة، ويستطيع أن يتعامل مع الناس، وكل هذا من أمارات النضوج الاجتماعي المبكر، ولكن بعض الآباء أحياناً يرتكب خطيئة الحماية الزائدة للولد، حتى إن كان قد وصل إلى الثانوية يريده لا يقطع الشارع إلا إذا أمسك بيده، فيطيل فترة الطفولة في عمر هذا الشاب، وكثير من الآباء من خوفه على ابنه والحماية الزائدة له لا يحمله أي مسئولية، ولا نريد أن نخرج عن موضوعنا؛ لأن هذا موضوع نحاول -إن شاء الله- أن نتكلم فيه فيما بعد، ونذكر أخطاءنا التربوية في معاملة هؤلاء الأبناء.
وعلى أي الأحوال نذكر الآن نموذجاً من القرن الثاني عشر الهجري؛ حيث يحدثنا والد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وهو صاحب أعظم حركة تجديدية منذ القرن الثاني عشر إلى الآن؛ فإن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى لا ينكر دوره التجديدي العظيم إلا جاحد، فاكتشف والده فيه النضج الاجتماعي المبكر، فذهب أبوه ينمي ثقته بنفسه، ويصقل مواهبه، ويعده لتحمل المسئوليات.
كتب أبوه يوماً إلى صاحب له فقال له وهو يتكلم عن ولده محمد بن عبد الوهاب : تحققت أنه بلغ الاحتلام قبل إكمال سن اثنتي عشرة سنة على التمام، ورأيته أهلاً للصلاة بالجماعة والإتمام. أي: أنه بلغ في هذه السن، ورأى أن عنده الأهلية في أن يصلي الجماعة، ويصلي إماماً بالناس. قال: فقدمته إماماً، لمعرفته بالأحكام؛ لأنه كان ربي على الفقه، وربي رحمه الله تعالى على العلم، فقدمه أبوه ليكون إماماً؛ تنمية للثقة بالنفس، وتنمية لهذه الشخصية والنضوج الاجتماعي المبكر.
يقول أبوه: وزوجته بعد البلوغ مباشرة. وطبعاً في ذاك الزمان كثيراً ما نجد أن الشاب يتزوج في مثل هذا السن، وقد يكون وصل إلى مرحلة البلوغ، لكن النضج الجسدي لا يتوافق مع النضج الاجتماعي، وهذه لا تكون قاعدة: أن واحداً يتزوج وعنده اثنتا عشرة سنة مثلاً؛ لأننا نتكلم عن حالة استثنائية، ونشير إلى خاصية النضج الاجتماعي المبكر؛ حيث يكون صاحبه قادراً على تحمل المسئولية، وإلا فتخيلوا لو أن شاباً من شباب هذا الزمان عمره اثنتا عشرة سنة أو ثلاث عشرة أو حتى سبع عشرة يتحمل مسئولية فكم من المشاكل ستنجم نتيجة التخلف في النضوج الاجتماعي، فنحن نتكلم الآن على حالة شاذة تميزت بظهور النضج الاجتماعي مبكراً.
يقول أبوه: وزوجته بعد البلوغ مباشرة، ثم طلب مني الحج إلى بيت الله الحرام، فأجبته بالإسعاف إلى ذلك المرام، فحج وقضى ركن الإسلام.
هذا كلام والده عنه، وهذا هو النضوج الاجتماعي المبكر، وهذه هي التربية الواعية؛ لأنها تنمي الملكات، وتغرس الثقة في النفس، لا كالآباء الذين يحطمون في أولادهم كل موهبة، كأن يقول له: أنت غير فالح، وأنت غير نافع، وأنت.. وأنت، ودائماً يحقر في ذاته دون أن يدري.
فهذه التربية هي التي تنمي الملكات، وتغرس الثقة بالنفس، وتحررها من التواكل والتبعية والطفولية لغير هذا النضج المبكر، وبهذا نستطيع أن نفسر ظاهرة ارتحال العلماء في سن الصبا والشباب المبكر في أقطار الدنيا؛ طلباً للعلم، وقد فارقوا الأهل والأوطان، وكابدوا المخاطر والمشاق دون كلل ولا ملل ولا تبرم.
وعلى الجهة الأخرى إن كنا نقول: إن البيئة قد تكون سبباً في النضج فإن البيئة المعدمة -كأن يكون الأب فقيراً جداً أو غير ذلك من الأسباب- قد تكون سبباً في الإعاقة عن نمو هذا الملكات.
وفي الجهة الأخرى نجد الترف قد يكون دليل الإعاقة عن ذلك، ومع ذلك يترفع صاحب الهمة العالية على الحياة المترفة ورغد العيش، بل يسخر هذه الحياة لإنجاز المطالب الجسيمة، كحال الإمام أبي محمد علي بن حزم رحمه الله تعالى الذي نشأ نشأة مترفة، فالإمام ابن حزم الأندلسي الفارسي الأصل نشأ في الأندلس نشأة في غاية الترف، ولكنه انصرف عن مطامح الدنيا ومطامعها في سبيل طلب العلم. ومما أذكر أن الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى لما وقعت المناظرة بينه وبين الإمام الجليل أبي الوليد الباجي المالكي شارح الموطأ ففي نهاية المناظرة قال له الإمام الباجي رحمه الله تعالى يعتذر له: إن كان حصل خلل أو تقصير مني في المناظرة فاعذرني؛ فإني كنت أطلب العلم على سرج الحراس. أي: لم يكن هناك كهرباء، فكان الحارس -مثل الشرطي- يحرس الطرقات أو المدينة أو القرية بمشاعل من نيران، ويقف في نوبة الحراسة، وهذا رأيناه في كثير من العلماء الذين كانوا في شدة الفقر لا يجدون ما يسرجون به، فكان هو لا يستطيع أن ينام من شدة شوقه إلى طلب العلم، وما عنده شيء يستضيء به، فيخرج إلى الشارع أو إلى الطريق عند الحرس، ويسهر في طلب العلم على ضوء مشاعله، فقال له الإمام أبو الوليد الباجي رحمه الله تعالى: اعذرني؛ فإني كنت أطلب العلم على سرج الحراس. فقال له الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: واعذرني أيضاً؛ فإني كنت أطلب العلم على منائر الذهب والفضة. يعني أن الإمام أبا الوليد الباجي رحمه الله تعالى كان يرى أن الفقر الذي كان فيه معيق عن طلب العلم، وأنه طلب العلم بالمكابدة وبالسهر على مشاعل الحراس، فالإمام ابن حزم رد عليه وقال له: بل الترف هو الذي يعيق عن طلب العلم؛ لأن الإنسان المترف يكون متيسر الوسائل والمادة والمال وغير ذلك، وحينئذٍ يسهل عليه سبيل اللهو والخوض في زينة الدنيا، فيعيقه الترف عن العلم، وكأنه يرى أن الترف أشد في إعاقة طلب العلم من الفقر؛ ولذلك قال له: واعذرني؛ فإني كنت أطلب العلم على منائر الذهب والفضة. يعني المنائر المصنوعة من الذهب والفضة. وربما نشأ كبير الهمة في بيئة معدمة قاسية تكون كفيلة بإطفاء همته والقضاء على نبوغه، لكن الله سبحانه وتعالى ييسر له من الأسباب ما يأخذ بيده، أو يقيض له من ينمي مواهبه ويتكفل بأمره.
وقد نشأ المتنبي شاعر العرب الفحل في أسرة فقيرة غير متعلمة، والمتنبي شخصية عليها بعض الملاحظات، لكن أيضاً بلا شك أن المتنبي من أعظم الناس في علو همتهم، وهذا بين لمن يعرف ترجمته، فنشأ في بيئة غير معينة له على ذلك، لكن الله قيض له فرصة التعليم المجاني في الكتّاب الخاص بأبناء الأشراف في الكوفة، وشجعه أصحاب المكتبات، فكان أصحاب المكتبات يشجعونه على أن يقرأ الكتب بدون مقابل، ومما يروى أن وراقاً كان يلازمه المتنبي ؛ حكى هذا الوراق عن المتنبي فقال: كان اليوم عندي، وقد أحضر رجل كتاباً في نحو ثلاثين ورقة، لبيعه، فأخذه أبو الطيب المتنبي ونظر فيه طويلاً، فقلت له: ما هذا؟ أريد بيعه، وقد قطعتني عن ذلك. أي: لأنك ماسك الكتاب، وأنت تتأمل في الكتاب، وقد قطعتني عن بيعه؛ فإن كنت تريد حفظه فهذا يكون في شهر إن شاء الله، فقال المتنبي : إن كنت حفظته في هذه المدة؟ قال: أهب لك الكتاب. قال: اسمعه مني. فأخذت الدفتر من يده، وأقبل يتلوه حتى انتهى إلى آخره!
ولذلك كان أصحاب المكتبات يسمحون له بالقراءة دون أجرة.
إن هذا الكلام لا نقوله للتسلية، وإنما نقوله لنطبقه، وأخص بذلك الإخوة المدرسين، فلا شك في أن مسئوليتهم عظيمة وجسيمة في هذا الباب، فمهم جداً التفتيش عن هؤلاء الناس وإعانتهم. والنابغون هم ندرة، وكبيرو الهمة ليسوا هم القاعدة في الناس، لكن إذا سلطنا الضوء على واحد فقط فممكن أن هذا الواحد يكون سبباً في إصلاح الأمة بسائرها، وذلك إذا أُحسن توجيهه وتنميته وتربيته نحو الهدف الأسمى. ومن أشهر من كان يعنى بالتفتيش عن النابغين ويستنقذهم من ظروفهم القاسية ويأخذ بأيديهم إلى طلب العلم الإمام الجليل أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، فقد حرص الإمام أبو حنيفة عندما تولى حلقة الدرس بعد شيخه حماد على رعاية تلاميذه النابغين، فقد كان يواسيهم من ماله الخاص، ويعينهم على نوائب الدهر، حتى إنه كان يزوج من تلاميذه من كان في حاجة إلى الزواج وليست عنده مئونته، ويرسل لكل تلميذ حاجته. قال شريك أحد تلامذته: كان يغني من يعلمه أي: كان ينفق على من يعلمه، وعلى عياله، فإذا تعلم قال له: لقد وصلت إلى الغنى الأكبر بمعرفة الحلال من الحرام. أي: الآن صرت أغنى الناس، وعندك ثروة لا تضاهى ولا تقدر بثمن، وهي العلم والفقه الذي تميز به بين الحلال والحرام. وكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى ينظر إلى نفوس تلاميذه، ويتعهدها بالرعاية والنصيحة، فإذا وجد من أحدهم إحساساً بالعلم يمازجه الغرور أزال عنه درن الغرور ببعض الاختبارات التي تثبت له أنه ما زال في حاجة إلى مزيد من العلم. وذكر الكردري في مناقبه بسنده إلى أبي يوسف رحمه الله تعالى قال: قال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة الإمام الجليل المشهور: كنت أطلب الحديث وأنا مقل المال، فجاء إلي أبي وأنا عند الإمام -يعني: عند الإمام أبي حنيفة - فقال لي: يا بني! لا تمدن رجلك معه؛ فإن خبزه مشوي وأنت محتاج. فالإمام أبو حنيفة كان تاجراً، فوالد أبي يوسف رحمه الله قال: يا بني! نحن ليست حالنا كحال هذا الإمام، فلا تمدن رجلك معه، فنحن نحتاج إلى أكل العيش وإلى الكسب، أما هو فإن خبزه مشوي، وأما نحن فإننا محتاجون. قال: فقعدت عن كثير من الطلب. أي: كانت كلمة أبيه سبباً في أنه قعد عن كثير من طلب العلم. قال: واخترت طاعة والدي، فسأل عني الإمام وتفقدني، قال حين رآني: ما خلفك عنا؟ قلت: طلب المعاش. فلما رجع الناس وأردت الانصراف دفع إلي صرة فيها مائة درهم، فقال: أنفق هذا، فإذا تم أعلمني، والزم الحلقة. فلما مضت مدة دفع إلي مائة أخرى، وكلما تنفد كان يعطيني بلا إعلام - يعني: بدون أن يخبره - كأنه كان يخبر بنفادها، حتى بلغت حاجتي من العلم، أحسن الله مكافأته، وغفر له. وكان أبوه يقول له: لنا بنات وليس لنا ابن غيرك، فاشتغل بهن. فلما بلغ الخبر الإمام أجرى عليه رزقاً، وقال: الزم الفقه؛ فإني ما رأيت فقيهاً معسراً قط. وربما لمح شخصاً عالي الهمة تلوح من محياه أمارات النبوغ فضن بموهبته أن تنفق في طلب الدنيا، وشجعه على طلب العلم. قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: مررت يوماً على الشعبي وهو جالس، فدعاني وقال: إلى من تختلف؟ فقلت: اختلف إلى فلان. قال: لم أعن إلى السوق، عنيت الاختلاف إلى العلماء. فقلت له: أنا قليل الاختلاف إليهم. فقال الشعبي لـأبي حنيفة : لا تفعل، وعليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء؛ فإني أرى فيك يقظة وحركة. قال: فوقع في قلبي من قوله، فتركت الاختلاف - يعني: إلى السوق - وأخذت في العلم، فنفعني الله تعالى بقوله. فنرجو أن يكون في هذه المواقف التي نحكيها تجسيد لأحد المعاني التي نظن أنها تندرج تحت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه). فقد تكون كلمة يسيرة خرجت من إنسان بصدق مع وجازتها لكنها كانت عميقة الأثر؛ إذ إنها غيرت حياة واحد من هؤلاء كبيري الهمة، ومن ثم تركت أثراً عظيماً جداً في إصلاح الأمة المحمدية، فلا شك في أن النصيحة لأمثال هؤلاء إذا صادفت محلاً قابلاً -بإذن الله- تحدث هذا التغيير، وتكون نقطة تحول، فهذا الشخص الذي نصح هذه النصيحة لا شك في أنه يكون ساعياً في الخير، وأنه داخل في قوله عليه الصلاة والسلام: (الدال على الخير كفاعله)، ونرجو أن يدخل في قوله: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أن تبلغ ما بلغت) أي: لا يظن أن هذه الكلمة كبيرة إلى هذا الحد، وأن ثوابها جزيل إلى هذا الحد، ولكن: (يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. وعن مكي بن إبراهيم -وهو أحد شيوخ البخاري - قال: كنت أتجر، فقدمت على أبي حنيفة قدماً، فقال لي: يا مكي ! أراك تتجر، فالتجارة إذا كانت بغير علم دخل فيها فساد كثير، فلمَ لا تتعلم العلم؟! ولِمَ لا تكتب؟! فانظر إليه حين وجد نابغة يوجهه إلى طلب العلم الشرعي؛ فمع أنه منشغل بالدنيا لم يقل له: إن المسلمين محتاجون لرأس المال وللمشاريع الاقتصادية. ونحن لا نحقر هذا، لكن الملاحظ الآن أن كل الناس يتجهون إلى العلوم الدنيوية، ويندر من يرحل من أجل الدين أو يقول: ولدي هذا سأتعهده حتى يخرج إماماً للمسلمين، وحتى يؤدى به فرض الكفاية من تعليم الناس والوصول إلى مقام الاجتهاد. وإنما نجد أغلب الناس أنهم يدفعون أبناءهم دفعاً للانهماك والفناء في طلب علوم الدنيا، ولذلك فالأمل كبير في المسلمين أن يفطنوا لهذه الحقيقة، وأن يحققوا ولاءهم للإسلام في تجريد أبنائهم من أجل نصرة الإسلام، لعل الجيل القادم يكون أسعد حظاً منا، وينجز ما نقصر نحن في عمله. يقول الإمام مكي بن إبراهيم : فلم يزل بي -يعني: إلحاحاً وإقناعاً ومحاروة- حتى نبغت في العلم وكتابته وتعلمه، فرزقني الله منه شيئاً كثيراً، فلا أزال أدعو لـأبي حنيفة في دبر كل صلاة وكلما ذكرته؛ لأن الله ببركته فتح لي باب العلم. وربما كانت لتجربة الإمام أبي حنيفة مع شيخه الإمام حماد أثر عظيم في مسلكه هذا، فقد كان أبو حنيفة بمسلكه مع هؤلاء النوابغ يتمثل بتربية إمامه حماد رحمه الله تعالى له، فقد اكتشف حماد نبوغ أبي حنيفة وعلو همته، فخصه برعايته وقربه من مجلسه، مؤملاً أن يكون حسنة من حسناته يهديها إلى الأمة، فقد انخرط أبو حنيفة النعمان في التعليم على يد شيخه حماد بالمسجد الجامع بالكوفة، وعندما لمس فيه النجابة وسرعة الحفظ وسلامة التفكير أجلسه بإزائه، واحترم رأيه، وشجعه على الاجتهاد والاستقلال بالرأي، ولم يتبرم من كثرة أسئلته واستفساراته؛ لما فيها من عمق ودقة. ومما يروى أن أبا حنيفة انصرف من مجلس حماد بعد أن سأله عدة أسئلة، وألح في الجدل حتى احمر وجه شيخه حماد من النقاش ومن الأسئلة، وبعد أن خرج أبو حنيفة قال حماد لجاره واصفاً صلاح تلميذه: هذا على ما ترى منه يقوم الليل كله ويحييه. فهذا تلميذ يكثر الأسئلة إلى درجة أنه يحرج الشيخ، ويلح في الأسئلة، ويجادله حتى يحمر وجه الشيخ، ومع ذلك فمن إنصاف شيخه أنه قال: هذا على ما ترى منه -يعني انهماكه في المناقشات وفي الرأي وفي الأخذ والمجادلة إلى هذا الحد- يقوم الليل كله ويحييه. واستمر أبو حنيفة ملازماً أستاذه ثماني عشرة سنة، ولم يستقل بالدرس والتمحيص إلا بعد وفاة شيخه حماد ، وربما كانت نصيحة عابرة من عامل مخلص بداية نقطة تحول في حياة أحد النابغين إلى انتفاع عموم الأمة به. وأحد العلماء لقي نابغة كبير الهمة قد ترك الدعوة والتعليم والتعلم في بلده، وجاور في الحرم المكي الشريف، وخلى مكانه في بلاده الذي كان يشغله في الدعوة والتعليم، فأرشده إلى تصحيح مساره وقال له: ليس هذا مكانك.