خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/337"> الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/337?sub=60532"> سلسلة علو الهمة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
علو الهمة [6]
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فكنا قد انتهينا في بحث علو الهمة إلى الكلام على أن من خصائص عالي الهمة وكبيرها: صيانة النفس، وشرف النفس، ومعرفته بقدر نفسه، وذكرنا أنّ هناك بعض الفروق التي يلزم إيضاحها؛ لأنها قد تلتبس في هذا المقام على بعض الناس، فذكرنا الفرق بين شرف النفس والتيه، وقلنا: إن شرف النفس هو صيانتها عن الدنايا والرذائل والمطامع التي تقطع أعناق الرجال، فهو يربى بنفسه عن أن يلقيها في ذلك، بخلاف التيه فإنه خلق يتولد من أمرين: إعجابه بنفسه، وازدرائه بغيره، فيتولد من بين هذين الأمرين التيه، وأما شرف النفس فإنه يتولد من أمرين كريمين شريفين هما: إعزاز النفس وإكرامها، وتعظيم مالكها وسيدها، فهو عبد من عباد الله يرى أنه ينبغي أن ينزه نفسه عن اكتساب الذنب، فانتسابه إلى سيده يجعله يصون نفسه عن الوضاعة والخسة والدناءة، فيتولد بين هذين الخلقين شرف النفس وصيانتها.
الفرق بين صيانة النفس وبين التكبر دقيق، ويخفى على كثير من الناس، فالمتكبر شغله الشاغل في نظرته إلى الناس، ومحور حياته يدور حول نفسه: فلان لم يحترمني، وفلان لم يعظمني، وفلان لم يلقبني، فكل حياته، وكل علاقاته، وكل مشاكله تنشأ بسبب أنه يحوم حول نفسه، ويدور حول نفسه، ونفسه هي الرحى في حياته، فهذا قد يلتبس على بعض الناس، ويظن أن هذا من صيانة النفس، كلا، فهناك فرق كبير بين صيانة النفس وبين التكبر على خلق الله تبارك وتعالى، فالذي يصون نفسه مثله كمثل رجل لبس ثوباً جديداً نقي البياض نفيساً، فهو يدخل به على الملوك ونحوهم، فيصونه عن الوسخ والغبار وأنواع الآثار؛ حتى يبقي على بياضه ونقائه وصفائه، فلذلك تجده يتقزز ويهرب من المواضع والأماكن التي قد تلوث ثوبه، فلا يسمح بأي أثر أو لوث أن يعلو ثوبه، وإذا أصابه شيء من ذلك فإنه يبادر إلى قلعه وإزالته ومحوه وتطهير نفسه، وهكذا حال الشخص الذي يصون دينه وقلبه، فهو يجتنب طبوع الذنوب وآثارها، فإن لها في القلب طبوعاً وأثاراً أعظم من الطبوع الفاحشة في الثوب النقي البياض، ولكن على العيون غشاوة فلا تدرك تلك الطبوع، فالذي يصون نفسه يهرب من مظان التلوث، ويحترس من الخلق، ويتباعد من مخالطة الذين يلوثون قلبه، أو يعكرون إيمانه، أو يجذبونه إلى الأرض، فإنّ مخالطة من في دينه ضعف، وليس عنده ورع، ولا خوف، ولا حياء من الله سبحانه وتعالى؛ يخشى منها كما يخشى من مخالطة من يكون في ثيابه الدماء، أو الشحوم، أو غير ذلك من الأوساخ حتى لا يصيبه منها شيء، بخلاف صاحب الكبر، فإنه وإن شابه صاحب الهمة العالية في التحرز والتجنب، إلا أنه يقصد بذلك أن يعلو رقابهم، وأن يفتخر عليهم، وأن يجعلهم تحت قدمه، وأما هذا الذي يصون نفسه فإنه يتحرى الأشياء التي قد تلوث قلبه، فيتكرم ويتعزز عن أن يواقعها؛ كي لا تلوث قلبه وإيمانه.
إنّ الكبر أثر من آثار العجب والبغي، وينشأ في قلب قد امتلأ بالجهل والظلم، وترحلت منه العبودية، ونزل عليه المقت، فنظره إلى الناس شزر، ومشيه بينهم تبختر، ومعاملته لهم معاملة الاستئثار والأنانية لا معاملة الإيثار والإنصاف، ذهب بنفسه تيهاً، فلا يبدأ من لقيه بالسلام، وإن رد عليه رأى أنه قد بالغ عليه في الإنعام، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه، ولا يرى لأحد عليه حقاً، ويرى حقوقه على الناس، ولا يرى فضلهم عليه، ويرى فضله عليهم، فلا يزداد من الله إلا بعداً، ولا يزداد من الناس إلا صغاراًً وبغضاً.
ذكرنا أيضاً الفرق بين التواضع وبين المهانة، وهذه الفروق مأخودة من كتاب (الروح) للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: فالتواضع يتولد من أمرين: من العلم بالله سبحانه وتعالى، ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفصيلها وعلوم عملها وآفاتها، فيتولد من ذلك خلق التواضع، وهو: انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة لعباده، فلا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له عند أحد حقاً، بل يرى الفضل في الناس عليه، والحقوق لهم قبله، وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه.
وأما المهانة: فهي الدناءة والخسة وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها، كتواضع السفل في نيل شهواتهم، وقد ضرب العلماء مثلاً لهذا الشخص الذي يقبل المذلة والمهانة في سبيل حظوظ نفسه وشهوته فقالوا: إن مثَل هذا كمثل الكلب ذهب إلى الأسد واشتكى له أنه سماه باسم قبيح، فقال: إن كلمة كلب كلمة قبيحة فأنا أريد منك أن تغير اسمي، فأيأسه الأسد من ذلك، فلما رأى إصراره قال: إذن أعطيك هذه القطعة من اللحم، وتبقى تحرسها فترة من الزمن، وأطال عليه الوقت حتى جاع، ولما جاع قال: وأي شيء في اسم كلب؟! ما الكلب إلا اسم حسن جميل، فأكلها!
فالشاهد أن الإنسانَ الخسيسَ الهمةِ، والدنيءَ الطبع، يهين نفسه، ويقبل الدناءة والخسة في سبيل حظوظه وشهواته، ومثلَ هؤلاء السفل الذين يتواضعون من أجل نيل شهواتهم مثل تواضع المفعول به للفاعل، فهذا النوع من المهانة والخسة والدناءة لا يمكن أن يجتمع مع شرف النفس وصيانتها، وكذلك تواطؤ طالب كل حظ لمن يرجو نيل الحظ منه، فالمرءوسون يتواضعون في مهانة ومذلة لرئيسهم من أجل أن ينالوا منصباً، أو ينالوا مكافأة، أو ينالوا شيئاً من مطالب وحظوظ النفس، فهذا كله يدخل في صفة الضعة لا في صفة التواضع، والله سبحانه وتعالى يحب التواضع، ويبغض الضعة والمهانة، يقول صلى الله عليه وسلم: (لقد أوحى الله إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد).
نذكر الفرق بين المنافسة والحسد، فالمنافسة: هي المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده عند غيرك، فترى غيرك فيه من الصفات الكاملة، فأنت تحث نفسك إلى منافسته، وتبادر إلى أن تتحلى بهذا الكمال، فتنافسه حتى تلحق به أو تجاوزه إذا كنت أعلى همة منه، فهذه ثمرة المنافسة في هذه المطالب العالية، وهي ثمرة من ثمار شرف النفس، وعلو الهمة، وكبر القدر، يقول الله تبارك وتعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، فهذا أمر بالتنافس، وقوله: (وَفِي ذَلِكَ) يعني: في الجنة ونعيمها يحق لكم أن تتنافسوا فيها، والمنافسة: مأخوذة من النفاسه، والشيء النفيس: هو الذي تتعلق به النفوس طلباً ورغبة، فينافس فيه كل من النفسين الأخرى، فهذه النفس تنافس النفس الأخرى في الحصول على هذا الشيء النفيس، وسمة هذا التنافس في أمور الآخرة أن الإنسان يفرح إذا شاركه غيره فيه، وهذا أمر مهم جداً وخصوصاً بين طلبة العلم، وبين طالبي المقاصد الأخروية، الذين كبرت هممهم، وكما ذكرنا من قبل أنّ كبير الهمة لا يرضى ولا يقنع بما دون الجنة، فهو يريد الآخرة، فإذا كان الناس الذين يتسابقون في مجالات الخير، كالدعوة، والتعليم، وطلب العلم، وغير ذلك من الأمور الخيرية يريدون الآخرة فإن الأمور ستستقيم لهم؛ لأنهم محضوا نيتهم للآخرة، فإذا دخلت الدنيا ولو تحت ستار الدين فإنه يقع التحاسد المذموم، والتنافر المشئوم؛ لأنه في هذه الحالة سيكون التنافس على الجاه أو الشهرة، حتى يتحدث الناس بأن فلاناً عالم أو عابد أو كريم أو سخي أو قارئ للقرآن إلى غير ذلك من هذه المقاصد، وإذا انحرفت النية عن الآخرة إلى الدنيا فهنا سيقع التحاسد، فالذي يشعر بصفة الحسد إذا وجد أخاه يبادره في التسابق في طلب العلم، أو في عبادة، أو غير ذلك، فهذا دليل على مرض في قلبه، وأنه يريد الدنيا لا الآخرة؛ لأن الآخرة واسعة وفسيحة تتسع للجميع، وأما الدنيا فضيقة، ولا يتحمل الناس بعضهم بعضاً إذا طلبوها؛ ولذلك فإن الدنيا من شأنها أن تفرق الناس، فنجد الناس بينهم من الود والمحبة والروابط القوية شيء عظيم جداً، فإذا اشتركوا في تجارة، أو اشتركوا في مشروع تجاري ففي الغالب أنها تئول بهم إلى الخصام والتنافس المحرم والتحاسد وفساد ذات البين، وقد تكون هناك استثناءات، وهذا شيء نادر. وأما إذا أرادوا الآخرة فإنها توحد بينهم، فالنفس السليمة، والقلب السليم يفرح إذا تنافس مع غيره في أمور الآخرة، ولا يشعر بحزن ولا بحسد، ولا يتمنى زوال النعمة عن الآخرين، فإذا كان الداعية الذي يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، أو يعلم الناس، أو يربيهم فمقصده أن يهديهم إلى ربهم الله عز وجل، وأن يسلكوا طريق الطاعة، فإن كان مخلصاً لله سبحانه وتعالى فإنه يحب أن يشاركه هؤلاء في الخير الذي هو فيه، فإذا كان كل همه أن يسوقهم إلى الهداية وإلى الجنة، فكيف يحسدهم إذا منّ الله عليهم بالهداية؟! فالداعية يحب أن كل الناس يسلكون هذا الطريق إلى الآخرة، وحتى لو سبقوه لا يجد في نفسه، بل يحركه ذلك إلى المنافسة المشروعة التي أمرنا بها: (لا حسد إلا في اثنتين)، أما أن يقع التنافس المذموم على الجاه، أو على الشهرة، أو نحوها فهذا معناه أننا خرجنا من طلب الآخرة إلى طلب الدنيا، ومن ثَمّ يأتي شؤم طلب الدنيا من الخصام والفساد وغير ذلك، فالنفس الشريفة تفرح إذا شاركها غيرها في التنافس في أعمال الآخرة، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتنافسون في الخير، ويفرح بعضهم ببعض؛ لاشتراكهم فيه، بل يحض بعضهم بعضاً على تنافسهم فيه، فهم يتنافسون ومع ذلك يحض بعضهم بعضاً عليه، وهذا من المسابقة، وقد قال الله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وقال أيضاً: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يسابق أبا بكر رضي الله تعالى عنه وينافسه، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أفضل البشر على الإطلاق بعد الأنبياء عليهم السلام، فكان عمر يطمع في أن يغلب أبا بكر مرة، وأنّ يسبقه في أي باب من أبواب الخير، فلم يظفر بسبقه أبداً مع شدة حرصه على أفعال الخير، فكلما شرع في شيء يفاجأ بأن أبا بكر قد سبقه إليه، وقد سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه رضي الله عنهم يوماً سؤالاً مفاجئاً فقال: (من أصبح منكم اليوم صائماً -فهنا يتعين عليهم الجواب؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يسألهم- فقال
المتنافسان كعبدين يتباريان بين يدي سيدهما، فيتنافسان في مرضاته، ويتسابقان إلى محابه، فسيدهما يعجبه ذلك منهما، ويحثهما عليه، وكل منهما يحب الآخر، ويحرضه على مرضاة سيده، ولله المثل الأعلى.
أما الحسد: فخلق نفس ذميمة وضيعة ساقطة، ليس فيها حرص على الخير، وهذه النفس قد تمكن منها العجز والمهانة، حتى أنها تحسد من يكسب الخير والمحامد، ويفوز بها دونها، وتتمنى أن لو فاته كسبها حتى يساويها في العدم. إن الحاسد عدو نعم الله سبحانه وتعالى، وعدو قدر الله عز وجل واختياره، فليس همه أن يكون مثل ذلك الشخص المحسود كما هو الحال في الغبطة، بل كل همه، ومنى قلبه أن تزول النعمة عن المحسود، فهو عدو نعم الله كما قال العلماء، فهو يتمنى أن تزول من عند غيره، وربما يتمنى أن تحل فيه، فالمهم أنه يحب أن يرى في الآخرين غُصَص العدم والفقر كما قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، ولذلك فالحسد لا يمكن أن يكون من أخلاق المؤمن، بل هو صفة من صفات الكفار كما قال تبارك وتعالى أيضاً: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109]، فالحسود عدو النعمة، ويتمنى زوالها عن المحسود كما زالت عنه, والمنافس مسابق النعمة، ويتمنى تمامها عليه وعلى من ينافسه، فهو ينافس غيره حتى يسبقه، ويحب لحاقه به أو مجاوزته له في الفضل، والحسود يحب انحطاط غيره حتى يساويه في النقصان، وأكثر النفوس الفاضلة الخيرة تنتفع بالمنافسات، فمن جعل نصب عينيه شخصاً من أهل الفضل والسبق فنافسه انتفع به كثيراً، فإنه يتشبه به، ويطلب اللحاق به، والتقدم عليه، وهذا لا نذمه؛ لأننا أُمرنا بالمنافسة في أمور الآخرة، وأمرنا أيضاً بالنظر إلى من هو فوقنا في الدين، والنظر إلى من هو أسفل منا في الدنيا، فتنظر إلى من هو فوقك في الدين؛ حتى تقتدي به، وهذا هو الميزان الصحيح، أما الآن فتجد بعض الناس ينظر إلى من هو أسفل منه في الدين، فضاع بسبب ذلك كثير من الناس خاصة عوامهم، لذلك إذا كلمته مثلاً وقلت له: لماذا تجلس أمام التلفاز وترى الأشياء المحرمة؟ ولماذا تشتغل بالشطرنج والنرد والطاولة والدومينو وغير ذلك من هذه الأشياء؟ فيقول: نحن الآن أحسن من غيرنا ممن يجلس يغتاب الناس، ويأكل لحومهم وأعراضهم، فهو ينظر إلى من هو أسفل منه، ولا ينظر إلى من هو أعلى منه ممن يقوم الليل، ويحفظ القرآن، ويحضر مجالس العلم، فهذه من علامات خسة الهمة أعني: أن ينظر في الدين إلى من هو أسفل منه، وربما تحرق قلبه حسداً على من هو أعلى منه في الدنيا، مع أنّ العاقل لا يحسد على الدنيا، قال بعض السلف: من أحسد؟ هل أحسد مؤمناً آتاه الله شيئاً من الدنيا، وقد أعد الله له الجنة؟! فما تساوي هذه الدنيا بالنسبة إلى الجنة التي تنتظره؟! أو هل أحسد كافراً فمهما بلغت الدنيا التي بين يديه فمآله إلى خلود في النار؟ فهل أحسد المؤمن أم الكافر؟ فلا أحسد الكافر الذي مهما تمتع في الدنيا فمصيره إلى النار في الآخرة، ولا أحسد المؤمن الذي مهما أوتي من الدنيا فإن الآخرة التي هي أعظم خيراً من الدنيا تنتظره.
إنّ ساقط الهمة ينظر دائماً إلى من هو أسفل منه في الدين فيقول: أنا خير من فلان، ونحن لا نقعد نأكل أعراض الناس، ونغتاب، ونفعل كذا، وإنما نجلس نتسلى بالطاولة، أو الشطرنج، أو التلفزيون، فهو يظن أن هذه ليست مصيبة في الدين! إن هذا تيسر للعسرى، وخذلان من الله سبحانه وتعالى، فالتنافس في الدين لا يذم، بل يجب عليك أن تتطلع إلى من هو أعلى منك لتقتدي به، وهذا هو معنى الائتمام بالأفاضل في الدين، فالإئتمام بهم يعني المسارعة إلى اللحاق بهم.
وقد يطلق اسم الحسد على المنافسة المحمودة المشروعة كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق)، فهذا حسد منافسة وغبطة يدل على علو همة صاحبه، وكبر نفسه، وطلبها للتشبه بأهل الفضل.
من الفروق المهمة أيضاً في هذا الباب: الفرق بين حب الإمامة في الدين وبين حب الرئاسة والزعامة والتسلط على رقاب الناس، يقول الله تبارك وتعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، قال بعض المفسرين: إنّ هذه الآية بمعزل عن إرادة السلطنة والملك، فإبراهيم عليه السلام لم يطلب الملك والرئاسة والسلطنة، ولا علاقة لهذه الإمامة بالإمامة السياسية والملك والرئاسة وغير ذلك، وإنما تثبت هذه الآية الكريمة أن الإمامة في الدين يحرمها الظالمون من ذريته، ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) أي: اجعل أيضاً من ذريتي أئمة يهدون إلى الدين، ( قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )، فالآية تدل على أن إمامة الدين لا ينالها الظالمون، ولو كان المقصود من الآية إمامة الدنيا، إذن التصادم قوله: ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) مع الواقع؛ لأننا نرى أن الذين ينالون الإمامة السياسية ليس في هذا الزمان فحسب بل من أزمان بعيدة هم الظالمون، وأن الإمامة آلت في كثير من الأحوال إلى أيدي الظالمين، وأما الإمامة الدينية فلا يمكن أن تقع أبداً في يدي ظالم، وإنما هي لأئمة الهدى. وكان من دعاء الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أيضاً: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا [الشعراء:83] وهذا ليس كما يتصور بعض الجهال من الناس من أن الحكم هنا بمعنى السياسة والملك، كما حصل من بعض الحراس في بعض الأوقات حيث صادروا كتاب (جامع العلوم والحكم) فقد قرأه المسكين: (جامع العلوم والحُكْم) فصادروا الكتاب، ومنعوا دخوله إلى السجن، كما صادروا كتاب: (الأربعين النووية)، وقالوا: هذا متعلق بالأسلحة النووية!
فقوله: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا) أي: حكمة أو حُكْمًا بين الناس بالحق أو نبوة؛ لأن النبي ذو حكم، وذو حكمة، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء:83] أي: وفقني للانتظام في سلكهم، لأكون من الذين جعلتهم سبباً لصلاح العالم، وكمال الخلق، ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84] أي: ذكراً جميلاً بعدي أُذكر به، ويقتدى بي في الخير، فهذا طلب للإمامة في الدين لمصلحة الدين، أي: يطلب أن يكون إماماً حتى يهدي الله الناس على يديه، ويقودهم إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى الجنة، ولا يقصد الرئاسة، ولا الزعامة، ولا التنافس على مناصب الدنيا، فقوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) يعني: أُذكر به؛ كي يقتدي بي في الخير، وقد كان ذلك لإبراهيم عليه السلام، كما قال عز وجل: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ [الصافات:108] * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات:109] * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:110].
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: روى أشهب عن مالك أنه قال: في قول الله عز وجل: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ): لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحاً، ويرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله تعالى، وقد قال تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه:39] فموسى عليه السلام كان لا يراه أحد إلا أحبه، وقال تعالى أيضاً: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96] أي: حباً في قلوب عباده، وثناء حسناً، فنبه تعالى بقوله: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84] على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل، وجوز بعض المفسرين أن يكون معنى: ( وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ ) أي: اجعل لي صادقاً من ذريتي، وأخرج من ذريتي المتأخرة فيما بعد صادقاً يجدد أصل ديني، ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه من التوحيد وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء في بعض الأحاديث قوله عليه الصلاة والسلام: (أنا دعوة أبي إبراهيم) وهذه الدعوة مذكورة بأصرح من هذا في سورة البقرة: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129].
وصح من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين) أي: هداة للآخرين، مهتدين في أنفسنا.
وأخبر عز وجل أن من دعاء عباد الرحمن الذين أحبهم، وأثنى عليهم أنهم يقولون: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، قال البخاري رحمه الله تعالى في تفسيرها: ( إِمَامًا ) أي: أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا، فلا يصلح أن يكون الإنسان قدوة يقتدي به من كان في زمنه، ومن يأتي بعده إلا إذا كان سائراً على نهج من سبقه من السلف الصالح. فهذا التفسير دقيق جداً. وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) أي: قدوة يقتدى بنا في الخير، فكلما اقتدى بهم في الخير كثير من الناس كلما كان ذلك أكثر ثواباً، وأحسن مآباً، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقياً قدوة، وهذا هو قصد الداعي.
وفي الموطأ: إنكم أيها الرهط! أئمة يقتدى بكم، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول في دعائه: اللهم اجعلنا من أئمة المتقين! وقال مكحول : اجعلنا أئمة في التقوى، يقتدي بنا المتقون، وقال القفال وغيره من المفسرين: في الآية دليل على أن طلب الرئاسة في الدين واجب، أي: أنّ الرئاسة هنا ليست الرئاسة الدنيوية، بل هي الإمامة في الدين، وذلك أن يصل إلى مرتبة الإمامة كي يهتدي به الناس، ويقوم بهذا الفرض الكفائي، وكان القشيري يقول: الإمامة بالدعاء لا بالدعوى، يعني: بأن تدعو الله سبحانه وتعالى، وتجتهد في الدعاء، وتسلك أسباب ذلك، وقوله: بالدعاء لأن لازم الدعاء إذا كان مشتملاً على شروطه أن يستجيب الله سبحانه وتعالى له، فالمقصود بكلمة الإمامة بالدعاء يعني: بتوفيق الله وتيسيره ومنته، لا بما يدعيه كل واحد لنفسه.
وقال إبراهيم النخعي : لم يطلبوا الرئاسة، بل طلبوا أن يكونوا قدوة في الدين.
وقال ابن عباس في قوله: ( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) أي: اجعلنا أئمة هدى، كما قال عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا [السجدة:24].
وعن الحسن قال: من استطاع منكم أن يكون إماماً لأهله -أي: قدوة-، إماماً لحيه، إماماً لمن وراء ذلك، فإنه ليس شيء يؤخذ عنك إلا كان لك منه نصيب لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله) .
وقد فصل الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى الفرق بين حب الرئاسة، وبين حب الإمامة في الدين في كتاب (الروح)، فقال رحمه الله تعالى: والفرق بين حب الرياسة وحب الإمارة للدعوة إلى الله، هو الفرق بين تعظيم أمر الله والنصح له، وتعظيم النفس والسعي في حظها، فإن الناصح لله، المعظم له، المحب له، يحب أن يطاع ربه فلا يعصى، وأن تكون كلمته هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، وأن يكون العباد ممتثلين أوامره، مجتنبين نواهيه، فهذا ناصح لله في عبوديته، وأخلص العبودية لله، وناصح خلقه في الدعوة إلى الله، فهو يحب الإمامة في الدين، بل يسأل ربه أن يجعله للمتقين إماماً، يقتدي به المتقون، كما اقتدى هو بالمتقين، فإذا أحب هذا العبد الداعي إلى الله أن يكون في أعينهم دليلاً، وفي قلوبهم مهيباً، وإليهم حبيباً، وأن يكون فيهم مطاعاً كي يأتموا به، ويقتفوا أثر الرسول على يده؛ لم يضره ذلك، بل يحمد عليه؛ لأنه داع إلى الله، ويحب أن يطاع ويعبد ويوحد، فهو يحب ما يكون عوناً على ذلك موصلاً إليه؛ ولهذا ذكر سبحانه عباده الذين اختصهم لنفسه، وأثنى عليهم في تنزيله، وأحسن جزاءهم يوم لقائه، فذكرهم بأحسن أعمالهم وأوصافهم، ثم قال: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، فسألوه أن يقر أعينهم بطاعة أزواجهم وذرياتهم له سبحانه، وأن يسر قلوبهم باتباع المتقين لهم على طاعته وعبوديته، فإن الإمام والمؤتم متعاونان على الطاعة، فإنما سألوه ما يعينون به المتقين على مرضاته وطاعته، وهو دعوتهم إلى الله بالإمامة في الدين التي أساسها الصبر واليقين قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ).
وسؤالهم أن يجعلهم أئمة للمتقين هو سؤال أن يهديهم ويوفقهم، ويمن عليهم بالعلوم النافعة، والأعمال الصالحة التي لا تتم الإمامة إلا بها ظاهراً وباطناً ( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) أي: لن يكونوا أئمة إلا إذا اجتهدوا في الأعمال الصالحة، وفي العلوم النافعة، في الظاهر والباطن.
وتأمل كيف نسبهم في هذه الآيات إلى اسمه الرحمن جل جلاله فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ [الفرقان:63] فاختصهم بالإضافة الشريفة إلى اسمه الرحمن، ليعلم خلقه أن هذا إنما نالوه بفضل رحمته، ومحض جوده ومنته، وتأمل كيف جعل جزاءهم في هذه السورة الغرف، وهي المنازل العالية في الجنة؛ لأن العمل الذي استوجبوا به الغرف كان أيضاً أمراً عالياً وهو: الإمامة في الدين، فهي أعلى رتبة من مراتب الولاية، فناسب أعلى رتبة من مرتبة الإمامة أن يجازوا بأعلى مرتبة في الجنة، وهي: الغرف العالية في الجنة.
وهذا بخلاف طلب الرئاسة، فإن طلابها يسعون في تحصيلها؛ لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض، فأهم شيء عندهم هو العلو في الأرض، والقهر، وشهوة النفس، والتسلط، واستعباد خلق الله تبارك وتعالى، وهذا معلوم في القديم وفي الحديث، ولا نحتاج لإيراد الأمثلة على ذلك؛ لأن العالم الآن وخصوصاً العالم الإسلامي يموج بهؤلاء الطغاة الظالمين، الذين كل همهم أن يحافظوا على كراسيهم ولو أبادوا شعوبهم، وما أحوال العراق وغيرها عنا ببعيد، فهؤلاء يسعون في تحصيل الرئاسة الدنيوية؛ لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض، وتعبيد القلوب لهم، وميلها إليهم، ومساعدتها لهم على جميع أغراضهم، مع كونهم عالين عليهم، قاهرين لهم، فأهم شيء عندهم القهر والعلو، كما قال فرعون لموسى وهارون: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ [يونس:78] فقد ظن فرعون أن موسى وهارون سينافسانه على الكبرياء في الأرض، فترتب على هذا المطلب من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله، يعني: أن طلب الرئاسة في الدنيا ترتب عليه شؤم لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأن العلو في الأرض يقترن دائماً بالفساد في الأرض، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى لما أثنى على المتقين قال: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ [القصص:83] وليست الدنيا، تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، فهذا فيه ذم لإرادة العلو في الأرض، ويقول الله تبارك وتعالى: وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ [الفجر:10] * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ [الفجر:11] * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ [الفجر:12] فما دام أنّ هناك طغياناً وعلواً فلا بد من حصول فساد، فهما توءمان لا يفترقان، فطلب العلو في الأرض لا بد أن يقترن بالفساد، ولذلك لا يُصلح الأرض إلا أهل التقوى، كما حصل في الخلافة الراشدة، وكذلك في عهد عمر بن عبد العزيز وقد كانت هذه آخر آية تلاها عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل أن تقبض روحه، فقد سُمع وهو يقولها قبل وفاته بلحظات: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
إن الناس أنواع من حيث العلو والفساد، فبعض الناس يريدون العلو فقط، وهذا أهم شيء عندهم، وهذه قد توجد في بعض أهل الدين، ومعنى العلو: أن يكون رئيساً وزعيماً، ولا يريد هؤلاء الفساد، بل يريد وجود الطاعة، ولكنه مبتلى بحب الرئاسة، وبعض الناس يريد الفساد فقط، ولا مطمح ولا أمل له إلى الرئاسة والزعامة كحال أصحاب الشهوات من الفنانين والإعلاميين وغير هؤلاء من المفسدين في الأرض، والدعاة على أبواب جهنم، والبعض يريد علواً وفساداً، فيجمع بين الأمرين، وهذا أشأم الأنواع، وأحسنهم على الإطلاق هو الذي لا يريد علواً ولا فساداً، وهم الذين محض الله لهم الآخرة، فقال سبحانه: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
إن فرعون الذي كان عالياً من المفسدين رمى موسى وهارون كذباً وزوراً أنهما ينافسانه في هذا العلو فقال: (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ)، ولذا نسمع هؤلاء العالين في الأرض والمفسدين لها بين وقت وآخر يقولون عن الجماعات الإسلامية: إنهم يتسترون وراء الدين للوصول إلى مآرب سياسية، فنفس هذه العقدة موجودة من وقت فرعون : (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ) وهؤلاء يقولون: يريدون أن يصلوا إلى المآرب السياسية من خلال الدين، ونحن نقول لهؤلاء العالين: لا توجد مشكلة على الإطلاق، فنريد منكم أنتم أن تستروا وراء الدين، وأن تظهروا الإسلام وحبه، وستنقاد لكم الأمة عن بكرة أبيها، واحكموا بالإسلام ولو في الظاهر، واحموا الدين من الأعداء، والله المستعان.
ذكرنا في الكلام السابق أنّ العلو في الأرض دائماً يقترن بالفساد، وهذه سنة مطردة للطغاة والظالمين، ولذلك فإنّ الذي يريد العلو في الأرض يجتهد في إلهاء الناس، فيسهَّل لهم الشهوات، ويكثر الشبهات، ويقسمهم شيعاً وأحزاباً كما قال تعالى عن فرعون: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ [القصص:4]، فيقسمهم أحزاباً وشيعاً، ويلهيهم بالفساد والرياضة والفن، ويصبح أكثر المجتمع عبارة عن فنانين ومخرجين وممثلين، فما تخرج الأغراض والمقاصد والقدواة عن هؤلاء السفلة ساقطي الهمم من الفنانين وغيرهم من التافهين، فهو ينشر الفساد، ويسهل الفواحش؛ حتى يتلهى الناس، ويقنعهم بهذه المطالب فلا ينافسونه في علوه وفساده، فلذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (صنفان من أهل النار لم أرهما) وذكر في الحديث العلو والفساد فقال: (قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس) وهذا رمز للعلو والقهر (ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمه البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) والحديث في صحيح مسلم ، فانظر كيف ربط الفساد بالتبرج بالقهر السياسي.
فلذلك فإنه يترتب على طلب العلو في الأرض والرياسة من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى: من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة، ويكفي أننا نكتشف -ليس فجأة فهذا شيء معروف من قديم- أن هؤلاء الناس الذين يظهرون كأنهم عائلة واحدة متفرقون ومتنازعون، فعلى سبيل المثال نظام صدام حسين في العراق ، كيف وقع الانقسام في داخل الأسرة؟ إذا كان الأمر حقيقة وصدقاً، وليس هناك تمثيلية فالسبب هو التحاسد، فإنها رئاسة على الدنيا، فلذلك يتنافسون على الدنيا، والدنيا دائماً تفرق أهلها ولا تجمعهم، فلذلك يتنافسون، ويتحاسدون، ويتباغضون، ويتعادون؛ لأن الدنيا ضيقة، فيتنافسون في أمر ضيق، بخلاف ما لو تنافسوا في الآخرة، فهي فسيحة وواسعة، فلا تحدث لهم فرقة، بل تجمع بينهم، وتوحدهم.
يقول ابن القيم : وهذا بخلاف طلب الرياسة، فإن طلابها يسعون في تحصيلها؛ لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض، وتعبيد القلوب لهم، وميلها إليهم، ومساعدتها لهم على جميع أغراضهم، مع كونهم عالين عليهم قاهرين لهم، فترتب على هذا المطلب من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله: من البغي، والحسد، والطغيان، والحقد، والظلم، والفتنة، والحمية للنفس دون حق الله، وتعظيم من حقره الله، واحتقار من أكرمه الله، ولا تتم الرياسة الدنيوية إلا بذلك، ولا تنال إلا به، وبأضعافه من المفاسد، فمن ثَمّ قال أبو جعفر المحولي : حرام على نفس عليها رياسة الناس أن تذوق حلاوة الآخرة، وحرام على نفس تتحكم فيها شهوة الرياسة أن تذوق حلاوة الآخرة، وقال الشاعر:
هلاك الناس مذ كانوا إلى أن تأتي الساعة
بحب الأمر والنهي وحب السمع والطاعة
يقول: ولا تنال إلا به وبأضعافه من المفاسد، والرؤساء في عمى عن هذا، فإذا كشف الغطاء تبين لهم فساد ما كانوا عليه، ولا سيما إذا حشروا في صور الذر يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم؛ إهانة لهم، وتحقيراً وتصغيراً، كما صغروا أمر الله، وحقروا عباده.
إن الفصل المتبقي من مقدمات البحث هو الحث على علو الهمة كما ورد في الكتاب وفي السنة، فقد تواردت نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة على حث المؤمنين على ارتياد معالي الأمور، والتسابق في الخيرات، وتحذيرهم من سقوط الهمة، وقد تنوعت أساليب القرآن الكريم في ذلك، فمنها: ذم ساقطي الهمة، وتصويرهم في أبشع صوره، كما قص الله علينا من قول موسى عليه السلام لقومه: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61] فهذا من سفالة الهمة، وسقوطها وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175] * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ [الأعراف:176] أي: سفلت همته، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176]، وقال أيضاً واصفاً حال اليهود، ومبيناً سقوط همتهم: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [الجمعة:5]، وقال في وصف أشباههم: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا [الأنعام:91] يعني: علمتم فلم تعملوا، فهذا ليس بعلم، في حين أنه سبحانه مدح يعقوب عليه السلام بقوله: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [يوسف:68] يعني: ذو عمل بما علمناه، وذم سبحانه المنافقين المتخلفين عن الجهاد لسقوط همتهم، وقناعتهم بالدون، فقال عز وجل: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ [التوبة:87] يعني: قنعوا بذلك، وفرحوا به، فهذا أثر من آثار سقوط همتهم، وبين أنهم لسقوط همتهم قعدوا عن الجهاد فقال: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46]، وشنع الله عز وجل على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، وهذا بلا شك أجلى مظاهر سفالة الهمة، فهم يجعلون الدنيا أكبر همهم، وغاية علمهم، فيعتبر هذا الإيثار أسوء مظاهر خسة الهمة، وبين الله تعالى أن الركون إلى الدنيا تسفل ونزول يترفع عنه المؤمن، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ [التوبة:38] فهل يرضى أحد بالدنيا بدلاً من الآخرة؟! فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38], وقال أيضاً: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النجم:29] فهذا سافل الهمة، فما يريد إلا الدنيا، ولا يعيش إلا للدنيا، وقال أيضاً: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النساء:134] أي: من كان يريد ثواب الدنيا كالذي يجاهد مثلاً لطلب الغنيمة، فماله يطلب أخس الأمرين، وأمامه فرصه أن ينال ثواب الدنيا الذي يريده وثواب الآخرة بالإخلاص لله عز وجل؟!
وهذه إشارة إلى أن يرتفع الإنسان بهمته، فالذي سيعطيك الدنيا قادر على أن يعطيك الآخرة، فاطلب الأمرين جميعاً كما قال عز وجل: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] أي: من نصيب وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
إذاً أمامك الخيار: إما أن تطلب الدنيا فقط، وهي أخس المطالب، وإما أن تطلب أشرف المطلبين، وهو الآخرة فقط، وإما أن تطلب الأمرين معاً الدنيا والآخرة, فما بالك تقنع بأن تطلب الدنيا فقط وهي أخس هذه الخيارات، فهذا هو المقصود من قوله عز وجل: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) يعني: فما له يطلب أخسهما، هلّا طلب أشرفهما أو طلبهما معاً؟! وذم الله عز وجل حرص اليهود على الحياة، ولو كانت ذليلة مهينة فقال عز وجل: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96]، وحمل القرآن الكريم على المشركين الذين يعبدون مع الله آلهة أخرى باعتبار أن الشرك أجلى وأوضح مظاهر خسة الهمة، فالإنسان الذي كرمه الله عز وجل، وآتاه العقل والفطرة، وأرسل له الأنبياء، وأنزل إليه الكتب، وأراه الآيات في الآفاق وفي نفسه، ومع ذلك يعمد إلى صنم نحته بيده مثلاً فيعبده، ويسجد له ويركع له، ويسأله ويتوسل إليه، أو تجد أنّ الله سبحانه وتعالى أرسل له عبداً ليهديه، ويأخذ بيده إلى الجنة، فبدلاً من أن يعبد الله المرسِل يعبد المرسَل كما فعل النصارى مع المسيح عليه السلام، فعبدوا النبي الرسول وأعرضوا عن عبادة الخالق سبحانه وتعالى الذي خلقهم وخلق ذلك الرسول؛ فهذا بلا شك من أجل مظاهر خسة الهمة، والذي يثلث الآلهة ويقول: إن الله ثلاثة خسيس الهمة دنيئُها، وكذلك يقول تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]، وقال عز وجل في عابدي المسيح مبيناً خسة همتهم: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة:75]، فقوله: ( كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ) يعني: كانا محتاجين إلى الطعام، فهل الإله يحتاج إلى الطعام؟ وماذا يلزم من الطعام؟ يلزم من الطعام الإخراج فهل الإله يخرج والعياذ بالله؟! فكيف يعبدونهم إذن فلو كانت نفوسهم شريفه، ولو كانت عندهم همة لارتقوا عن هذه العقيدة الخسيسة الدنيئة.
علو همة الأنبياء والمرسلين
أثنى القرآن على أصحاب الهمم العالية، وفي مقدمتهم الأنبياء والمرسلون، لا سيما أولوا العزم من الرسل، وعلى رأسهم سيدهم وأشرفهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال سبحانه وتعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم وجهدهم ودعوتهم إلى الله عز وجل، كما أوضحه الله سبحانه وتعالى في قصص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
علو همة أتباع الأنبياء والمرسلين
ومن أساليب القرآن أنه قص مواقف أصحاب الهمة العالية من المؤمنين أتباع الأنبياء والمرسلين، كما في قوله تعالى: قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ [المائدة:23]، وكما في قصة مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، وثم لما سنحت الفرصة ما كتم إيمانه، بل تحداهم أجمعين، وصدع بالحق، وكما في قصة حبيب النجار في سورة يس، وكما في قصة داود وجالوت : قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ [البقرة:249] أي: يوقنون، أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249] إلى قوله تعالى: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:251].
علو همة أولياء الله الصالحين
من أساليب القرآن أيضاً في مدح علو الهمة أنه عبر عن أولياء الله عز وجل الذين كبرت همتهم بوصف الرجال، وذلك في مواطن البأس والجد والعزيمة والثبات على الطاعة، والقوة في دين الله، وتأتي كلمة الرجال كثيراً في مقام التفخيم والتعظيم، فهناك فرق بين الرجولة وبين الذكورة، فكل رجل ذكر، وليس كل ذكر رجلاً، والذكورة هذه صفة تشريحية توجد في اليهودي والنصراني والمجوسي وعابد النار وعابد الوثن كما توجد في المسلم، فهي صفة تشريحية، وأما الرجولة فليست لكل الناس، فقد يكون ذكراً ولا يكون رجلاً، ولا يستحق أن يتشرف بوصف الرجولة، يقول تبارك وتعالى: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، فانظروا كيف وصف أنهم رجال.
وقال سبحانه وتعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [النور:36] * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37] وهذا من علو همتهم، وقال أيضاً: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].
أمر المؤمنين بالهمة العالية والتنافس في الخيرات
أمر الله المؤمنين في القرآن الكريم بالهمة العالية، والتنافس في الخيرات فقال عز وجل: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21]، فهذا أمر بالمسابقة، وقال أيضاً: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وقال سبحانه: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[ البقرة:148] ، وقال أيضاً: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50] وقال: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]، وقال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، فهذا التنافس محمود كما ذكرنا، وأما التنافس في الدنيا فهو مذموم ومنهي عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تنافسوا) وامتدح الله أولياءه بأنهم: كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90] وبأنهم: يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61]، وقال تعالى: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:95]، فمن المعلوم والبدهي أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان، ولكن الله سبحانه وتعالى نبه بنفي الاستواء فقال: ( لا يَسْتَوِي )؛ ليذكر المؤمنين بما بينهما من التفاوت العظيم، فيأنف القاعد، ويترفع بنفسه عن الانحطاط من منزلته، فكيف يرضى بالدون؟! وكيف يرضى بالمنزلة السفلى؟! فيهتز للجهاد، ويرغب فيه، ويسعى في ارتفاع منزلته، وهذا شبيه بقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] ومعلوم أن العالم لا يستوي مع الجاهل، ولكن المقصود من الآية أن تتحرك همة الذي لا يعلم حينما يسمع هذه الآية، ويسمع أن الله سبحانه وتعالى قال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، فهذا تحفيز للهمم كي تصعد إلى الدرجات العليا.
حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على علو الهمة
حث النبي صلى الله عليه وسلم صحابته وأمته على علو الهمة
في السنة الشريفة نصوص كثيرة عن علو همة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن تسابقهم إلى المعالي، كيف لا؟ وقد أوصاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: {احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز} وتجد كثيراً من الناس من أعراض هبوط الثقة بالنفس، وهبوط الهمة عندهم، أنك بمجرد أن تبدأ تناقشه، أو تكلفه بشيء يقول لك: لا استطيع، ولا أقدر، فيعتذر ويهرب دائماً من أن يتحمل أي شيء من المسئولية حتى ولو كانت صغيرة، وهذه علامة سيئة، وملمح قبيح من ملامح الشخصية، فهو ضعف في الثقة بالنفس، وقلة في التقدير لها، وضعف في الهمة، بينما نجد الرسول صلى الله عليه وسلم هنا يقول: {احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز ) فهذا حث للإنسان على الحرص حتى تصعد همته إلى تحقيق ما يصبو إليه، أو يكلَّف به. وقال صلى الله عليه وسلم: { إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة -النخلة الصغيرة-فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها
وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان من دعائه: {وأسألك العزيمة على الرشد}، يعني: أن تتحرك همته دوماً نحو الرشاد والأعمال الصالحة، وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ بالله من العجز والكسل، وقال لأصحابه: {إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها}، ومعالي الأمور هي الأخلاق الشرعية، والخصال الدينية، وليست الأمور الدنيوية؛ لأن العلو فيها نزول. وقد طمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الهمة العالية بأن الله عز وجل يمدهم بالمعونة على قدر سمو هممهم، يقول صلى الله عليه وسلم: {إن المعونة تأتي من الله للعبد على قدر المئونة} أي: على قدر ما يكلفك الله سبحانه وتعالى تأتيك المعونة، فنحن نلاحظ الطالب مثلاً طوال السنة قد يعجز عن أن يذاكر كتاباً معيناً بينما نجده في أيام الاختبارات حينما يركز همته ويعليها، وتكون القضية قضية مصير، فإنه في ليلة واحدة يمكن أن يقرأ مجلداً كاملاً، وينتهي منه، ويحفظه، ويستطيع أن يدخل الامتحان ويتفوق فيه؛ لأنه استحث همته، وعلى قدر الهمة تأتيك المعونة من الله سبحانه وتعالى، فإذا أردت أن تنجز هذا مثلاً في يوم أو يومين، وشرعت في ذلك وحرصت عليه، فإن الله يمدك بالعون على قدر نيتك وهمتك، وهذا مجرب.
وقد بيَّن صلى الله عليه آله وسلم أن أكمل حالات المؤمن ألّا يكون له هم إلا الاستعداد للآخرة، فقال عليه الصلاة والسلام: {من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له}، وامتدح صلى الله عليه وسلم قوماً بعلو همتهم فقال: {لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من فارس}، فانظر إلى هذا التعبير عن علو الهمة.
إن عامة نصوص الترغيب والترهيب في الوحيين الشريفين فيها تحريك للهمة؛ لأن الهمة هي قوة الإرادة، فهذه النصوص ترمي إلى توليد قوة دافعة تحرك قلب المؤمن، وتوجهه إلى إقامة الطاعات، وتجنب المعاصي والمخالفات، وإلى بعث الهمة وتحريكها واستحثاثها للتنافس في الخيرات، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر، فمثلاً: يقول عليه الصلاة والسلام: {لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه -أي: يقترعوا عليه- لاستهموا، -يعني: لشدة التنافس- ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً}.
ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها}، وهذا الحديث كقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] ليس خبراً فحسب، بل المقصود منه الحث على الارتقاء، حتى تقارن بين هؤلاء وهؤلاء، وهو مثل قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ .. [النساء:95] إلى آخر الآيات، كذلك هنا: ( يقال لصاحب القرآن ) فالمفروض على المؤمن الذي عنده همة أنه إذا سمع هذا الحديث أن تعلو همته إلى الترقي في الآخرة، فيحفظ القرآن الكريم، ويجتهد في ذلك؛ حتى يتمه، ففي استطاعتك أن تحدد منزلتك من الجنة بهذا الحديث، فكلما اجتهدت في حفظ القرآن كلما ارتقيت منزلة أعلى عند الله سبحانه وتعالى، فهذا لحديث يبشر حفظة القرآن وحملته القائمين بحقه بأعلى المنازل في الآخرة، فسوف ترتفع درجتك في الآخرة بعدد آيات القرآن التي تحفظها.
أثنى القرآن على أصحاب الهمم العالية، وفي مقدمتهم الأنبياء والمرسلون، لا سيما أولوا العزم من الرسل، وعلى رأسهم سيدهم وأشرفهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال سبحانه وتعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم وجهدهم ودعوتهم إلى الله عز وجل، كما أوضحه الله سبحانه وتعالى في قصص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
ومن أساليب القرآن أنه قص مواقف أصحاب الهمة العالية من المؤمنين أتباع الأنبياء والمرسلين، كما في قوله تعالى: قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ [المائدة:23]، وكما في قصة مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، وثم لما سنحت الفرصة ما كتم إيمانه، بل تحداهم أجمعين، وصدع بالحق، وكما في قصة حبيب النجار في سورة يس، وكما في قصة داود وجالوت : قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ [البقرة:249] أي: يوقنون، أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249] إلى قوله تعالى: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:251].
من أساليب القرآن أيضاً في مدح علو الهمة أنه عبر عن أولياء الله عز وجل الذين كبرت همتهم بوصف الرجال، وذلك في مواطن البأس والجد والعزيمة والثبات على الطاعة، والقوة في دين الله، وتأتي كلمة الرجال كثيراً في مقام التفخيم والتعظيم، فهناك فرق بين الرجولة وبين الذكورة، فكل رجل ذكر، وليس كل ذكر رجلاً، والذكورة هذه صفة تشريحية توجد في اليهودي والنصراني والمجوسي وعابد النار وعابد الوثن كما توجد في المسلم، فهي صفة تشريحية، وأما الرجولة فليست لكل الناس، فقد يكون ذكراً ولا يكون رجلاً، ولا يستحق أن يتشرف بوصف الرجولة، يقول تبارك وتعالى: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، فانظروا كيف وصف أنهم رجال.
وقال سبحانه وتعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [النور:36] * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37] وهذا من علو همتهم، وقال أيضاً: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].